music

الأربعاء، 24 أبريل 2024

حكاية الأستاذ جميل

 

من المضايقات التى كانت تثقل حياتى وتسبب لى إحساسا بالكآبة والمتاعب الكثيرة ، الثقة المفرطة فى الناس وخاصة إذا ماوثقت فى أحد لم يكن مؤهلا لهذه الثقة ، ولكن تعزيتى فى ذلك هى أننى لا أحمل إلا وجها واحدا ، ولاأملك سوى المشاعر الطيبة فحسب ، وأصدق كل مايقال لى ، وإن كانت هذه الصفات هى صفات حميدة فى ذاتها إلا أنها لم نجد لها صدى فى عالمنا اليوم ، فليست كل المشاعر طيبة ، وليس كل مايقال نصدقه ، وإنه يتعين علينا إن كنا نريد أن نكسب ماحولنا فعلينا أن نحمل عدة وجوه ونتلون بلون كل شخصية من الشخصيات التى تصادف حياتنا ونقابلها كى نستطيع أن نتعامل مع الناس بإرياحية ، والذى يغيظ فى ذلك هو أن هذا الأسلوب هو السائد والمستحب لمعظم الناس بكل أسف ، وأن طيبة القلب أصبحت تتصف بالبلاهة والعبط ، والذى يغيظك أكثر أنك لاتستطيع أن تعرف بسهولة الشخوص الخبيثة من بين هؤلاء .. فهى أصبحت من الدهاء والمكر مايجعلك تثق فيهم ثقة عمياء ، ثم تجد بمرور الوقت والعشرة مايحيرك فى تصرفاتهم أو من فلتات السنتهم ما تحمله من أكاذيب وافتراءات تجعلك تتنبه أن هناك ثمة شيئ لاتتبينه وتقف أمامه كثيرا حائراغير مصدق وقد تجرك  هذه الشكوكك لفترات طويلة حتى تكتشف أنك كنت مخطئا فى تقديرك لهم ، وأنك كنت ساذجا فى مشاعرك إلى حد البلاهة والحماقة، وأن إحساسك مازال يغض فى ثباته العميق أو فى غيبوبة تصديقهم ، حتى يأتى اليوم لتجدنفسك فيه أنه تم التلاعب بك  بألاعيب ممنهجة. وهناك مقولة جميلة جدا أعجبتنى تقول " اختر  من تزرعهم فى قلبك بدقة  لأن اختيار البذور أسهل بكثير من اقتلاع الجذور " إننى لست حزينا ولا آسفا على اقتلاع هؤلاء من حياتى .. بالعكس .. إننى أحس براحة غريبة وأعصاب هادئة ، فبالرغم أنه ليس هناك أبغض على الإنسان من معرفة حقيقة لايرغب فى  تصدقها لتفادى مرارة صدمتها ، ولكن ليس أهون  من العيش على التعللات بالباطل والتعلق بالترهات . لأن الحقيقة إذا ظهرت على الأقل لن نجدها تحمل تمويها ولازيفا ، لتجلو صورة أى شخص خُدعنا فيه حتى نراه على حقيقته العارية محتالا ومنافقا.. وأن  هيئته ماهى إلامجرد دسيسة كبيرة لمشاعرباطلة استطاعت الأيام فى النهاية أن تكشفها رغم إجادة صاحبها فى التخفى ، لنعود ونلوم أنفسنا أننا عشنا فى رحاها  سنوات نحيا تضليله لنا ، ولكن رغم ذلك نشعر بسكينة وراحة أن الله منَّ علينا باكتشافه ، لأنه ليس فى بقية أعمارنا أوقات مؤجلة لكى نفهم  أكثر ونعى أكثر مما فهمناه  وواعيناه.                                                                                                                                  

                                                                       

وكنت قد كتبت قبل ذلك أن  فكرة الكتابة عندى تنبع من فكرة لامن شخوص ، وكتبت كثيرا عن أفكار مختلفة  كنت أرى إنها تستحق الكتابة ، ولكن عندما كنت أكتب عن شخوص  كنت قاصدا إياها وماكنت ألجأ إليها  إلا قليلا  لأسباب فى الغالب كانت ملحة وتستوجب ذلك  ، ربما كان أساسها هو ماتربيت عليه من ترسيخ مبدأ الأخلاقيات الذى تربيت عليه  كمنهج  ودستورحياة ، وهو ماشكل فى النهاية الأسلوب الذى انبنت عليه تركيبة شخصيتى ، والتى من قواعدها الأساسية أنها تحترم الصغير وتوقر الكبير ولاتقف عند صغائر الناس ، لذلك لم تكن الكتابة عن شخوص عندى  إلا لشيئين أثنين فقط : أولهما للذين لهم منى كل التقدير والاحترام الذى يليق بدورهم فى حياتى بما انعكس عليها من جوانب إيجابية ساهمت إلى حد كبيرفى اتزان  ونزاهة شخصيتى أنها حظيت بكل تقدير واحترام الأخرين ، وثانيهما : للذين كانوا مبعث شقائى وسببوا لى قدرا كبيرا  من التعاسة وماترتب عليها من خسائر نفسية ومادية . والكتابة عن هؤلاء لم تكن تشفيا فيهم فطبيعتى ترفض فكرة الإنتقام من أحد أيا كانت صورته  حتى ولو بالكتابة عنهم  . ولكن عندما تصادفك شخصية سفيهة مثل شخصية الأستاذ جميل ذات دلالات واضحة على وجود تركيبة نفسية معقدة وسيكوباتية .. مغايرة تماما لكل أنواع التعامل الإنسانى المتزن  فى الشكل والمضمون ، تجد أن الأمر حتما يستحق الدراسة ويستوجب الكتابة عنه. فكلامه لايدل على مايضمره داخله .. مخلوق ينطوى على سره الذى لايعرفه غيره ..لديه ذكاء خارق فى كيفية التخفى وراء أستار طيبة النفس .. يظهر للناس على كل مايتصف به الجود والكرم .. طبيعته أملودية ناعمة .. لينة التطويع فيعرف كيف يجارى الناس .. وكيف يستخلص المواقف منهم حتى يتمكن من الوصول إلى مبتغاه الذى يريده..إنه كان يخفى وراء شكله المريئ المستحب وجها آخر قبيحا  لايعرف سوى  الكذب  والخداع والتدليس .. يغلظ أيمانات الله أنه على حق وهى أيمانات فاجرة ، لأن الله يعلم أنه لكاذب .. أعجزه شيطانه أن يبدى ندما  أويشعر بوخز من ضميرعند تسببه فى إضرار الأخرين مثلما فعل معى على غير المتوقع وعلى غير  الذى كنت أراه من قبل . ومن عجيب الأمر أننى فكرت كثيرا قبل ذلك  فى الكتابة عنه ليس بمنظور اليوم ولكن بفكر البارحة عندما كنت أراه شخصية من الشخصيات المحورية  المحترمة التى أثرت حياتى إذ أنهاكانت تمثل لى حينذاك  إضافة كبيرة مثل الذى كتبته عن أمى وأبى ، ولكن كلما كنت أشرع فى الكتابة  تتوه منى الكلمات بل وتبدو وكأنها تنمحى من ذهنى تماما ويستوقفنى هاجس لم أتبينه  فى حينه  ولم أعرف له سببا ولا من أين جاء مصدره  ، ليأتى اليوم الذى أكتب فيه عنه عكس ماكنت أريده  قبل ذلك .. سبحانه مغير الأحوال ..وأكتشف سر هذا الهاجس ، وأعرف بعد كل هذا العمر الذى تجاوز عقوده الخمسة ، وبعد مرور زمن ليس بالقليل من  صداقتى له  أن شخصيته معقدة الدواخل يشوبها الكثير على المستويين الأخلاقى والإنسانى ، أخذتها أطماع الدنيا ونسيت أن الرزق بيد الله وحده .. يعطيه لمن يشاء ويمنعه عمن يشاء.                                                             

    

لنعد لمستخلصات القصة ذاتها ، كان الاستاذ جميل بالأمس يواجه  تحديات الجوع والصعلكة واليوم وضع نفسه أمام تحديات الثراء الواهم الذى خلق منه  أسطورة لايكاد يراها إلا داخل نفسه .. سطت عليه حتى تملكته ولايكاد يصدق غيرها .. أنه اختط شكلا جديدا لحياته ليبعث فى نفسه ثقة من اختلاقه حتى يقنع نفسه أنه ليس أقل من زوجته التى كانت أفضل منه بكثير ثقافة وعلما ووظيفة مرموقة ، فهولم يستطع مسايرتها فى شيئ .. راتبه من وظيفته كمدرس لم يكمل تعليمه العالى لايتجاوز ربع ماكانت تتقاضاه ، فاتجه إلى ماارتضاه لنفسه حتى يعوض هذا العارض الفج ، فكانت هذه الشخصية المهلهلة ، وهو الأن فى السبعين من عمره ، لم يحاول أن يصحح نفسه احتراما وتقديرا لسنه ومكانته الزائفة التى كان يريد أن يصورها للناس .. لأن صورته الحقيقية تكاد تهتز بعنف حيث تكالب عليها الزمن وهو على ماهو عليه من تخبط وأذى .. إنه يحب ألا يراها، ولكنه كان يتفنن فى وضع الرتوش لها لتراها الناس على غير الحقيقة  تماما مثلما كنت أراها وكما يراها الناس . أعطيته مكافأة نهاية خدمتى بلا تفكير ودون وعى وهوكل ماأملك من مال ولم أفكر حتى فى استشارة أحد .. إنه سلبنى حق التصرف فى مالى.. والكل حذرنى حذار من جنون تصديقى له . فى الوقت التى كانت فيه ظروف البلد تبدو عليها علامات استفهام مختنقة ومهرولة .. وبعد سنوات خمس كاملة مضت .. الأموال متوقفة تماما بل كانت تفقد قيمتها كل يوم .. والدنيا تدور بقوة من تحت أقدامنا  ..كل شيئ يتبدل بسرعة مخيفة ، كيف يمكننى اللحاق بمستوى أفضل لى ولأولادى وأنا فى وضع الثبات منكبا على وجهى وكأن الدنيا غشيتنى ، فالواضح أمامى أن الإيقاع يتضاعف والجنون لازال يتفشى فى كل شيئ . لقد أختلت الأمور  ولم استطع رؤية واضحة أمامى ولا حولى وكنت أعنف نفسى  بشدة عندما كنت أعود وأتذكر ثقتى المفرطة فى تعاملاتى معه إذ أننى لم أكن على دراية بمدى سذاجتى ، ولم أتنبه لكيفية استغلاله لها فى عمليات نصب واحتيال ..أتذكر كم التحذيرات التى قيلت فى أقوال الأشخاص حولى من أهل بيتى وأصدقائى على خلفية هذا ولم أع ذلك .. ولم أدركه  فى حينه .. كأن أحاطنى سياج غريب احتوانى وفصلنى عن عالم تحيطه المخاطر من كل جانب واتجاه .. كيف عاد إلى ذهنى كل خواطر الباطن دفعة واحدة وتجسدت فى رأسى الذى أصابه الخرس ، مددت يدى عليه مسحا ، إنه لم يعد هناك أى مجال  للتفكير ، وجعلت أتأمل الهرب منه فكنت أقع فيه أكثر .. الأيام تمر وأنا لازلت أتفرس الوجوه من حولى أنظر إليهم  متسائلا بدهشة وإنكار : أين أيام زمان  و أخلاق زمان عندما كنا نتعامل بسجايانا الكل فيه يعلم مايدور فى خلد الأخر .  ياله من زمن عجيب أشعر وكأننى كنت فى غيبوبة ، ثم بعد إفاقتى وعيت وتفصحت تماما مكنون هذه التركيبة البشرية العجيبة وقدانجلت عنها صورتها المزورة  وإن شئت قل "بعد خراب مالطة". إننى أبدو وكأننى لم أكن  أعى شيئا عن هذه الهيئةالمنخدعة التى تبدو  مهندمة ، ثم وعيت وعرفت تفصيلات أظهرتها شواهد كثيرة .. وعلمت كيف كانت تحكمها عقلية تستطيع الإحتواء وتعرف كيف تستدرج مشاعر الأخرين وتجعلها فى حوزتها ، بل وتقدم لك خدماتها الجليلة على أنها بلا مقابل ، وإنما محبة فى الله و للصداقة والأخوة التى لاوجود لها من الأصل . ولم يكن فى مقدور  أحد أن يظن فيه مجرد الظن وأنت تنظر إليه وتجلس معه وتتأمل وجهه المتغضن وهو مسترسل فى أحاديثه العذبةالتى كان يرسلها بأعذب الحكم وأنت تستمع له منصتا عن حكاياته التى كان لايكل ولايمل من حكيها مرات ومرات بنفس الألفاظ وكأن حياته مختزلة فى مخطوطة نادرة لاتقبل التبديل أوالتعديل عن قصة كفاح مناضل واجه ظروف شقائه العاتية فى الحياة ومالاقاه فيها من متاعب وأهوال عانى فيها من أشد أنواع الفقر الحرمان .. وكيف تعلم منها ؟ وكيف خرج  بها من مكاسب بعد طول صبر ومعاناة ، ليحكى لنا والبراءة فى عينيه كيف كافأه الله ومنحه مالم يُمنح لغيره نتيجة هذا الصبر على هذا الجزع المفرط  وهذه اللوعة التى عانى من ويلاتها دروبا، بأن أعطاه ماجناه من آلاء ونعم حتى أصبح فى وضعيته التى هو عليها الأن  كصورة ناصعة البياض يقطر منها النور فتنسحب عليها صفاء وطهرا ، ولإجادته التمثيل الرائع تجد نفسك أنك لست فى مجال شك فيما يروى من أحاديث كثيرة ملت أسماعنا منها سواء بالصدق أو الكذب ، لأنه يعلم أنك لن تتبينه ، فالعلم عند الله ، تماما كما كان  ينسحب لأصدقائى وناسى وأحبائى المقربين بعد أن يدرس نفسيتهم ويعرف مداخل شخصيتهم ليبدأ فى التقرب منهم ليفصح عن أسلوبه فى التعرف على الناس بنفس الصورة و النهج الذى اتبعه معى فى بداية صداقته لى، فهو يملك ملكة سرعة التعرف على الناس لدرجة أننى كنت أصدقه تماما  كلما نظرت فى عيون أطياف كثيرة من البشر من الذين يعرفهم وممن يعيشون حوله وخاصة أسرته وذويه  حيث يشكل لهم الصدر الحنون ، وأنهم يرونه نبراثا لحياتهم لما يقدمه لهم  من تضحيات .. وقته وجهده ليضعها فى خدمتهم ، ولكن لم يعرفوا بعد أنه من مال الأخرين التى كان يتفنن فى الحصول عليها بدافع توظيفها لهم ، وللأسف كانت فرائسه كثيرة لتعرف مدى استخدامه لذكائه الفطرى فى تنوع الآعيبه الإحتيالية  ومدى قدرته على الوصول إلى من يرى مصلحته عنده بمنتهى الحرفية والدهاء ، وكنت أتعجب كيف لهذا الشخص سريع التعرف على الناس  وليس له أصدقاء  البتة، وعندما كنت أسأله عن ذلك لم يعطنى إجابة مقنعة حتى أشفقت عليه وقدمته لأصدقائى ليصبح صديقا لهم ، والأعجب من كل ذلك أن معظم أصدقائى قراؤه جيدا قبل أن أتنبه لحقيقته المرة . لأقف بعد ذلك كثيرا أمام نفسى حزينا .. مبهوتا لعدم درايتى بالناس بعد هذا العمر ،  ومذهولا  أمام  تصرفاته لديهم فى الأمور  التى كانت تستهويه  فكنت أراه بعين الأخر كيف كان يحشر نفسه فيها ، وبين زواياها الضيقة التى كان يعلم  بأمور ها وأحيانا كثيرة لايعلمها ولكن لديه الإصرارعلى أن يعلمها وكثيرا ماكان يلجأ لى لمعرفتها منى ، وكنت أضلله فى أحايين كثيرة  وأرقب تصرفاته فأجده يسلك حلولا أخرى ، فمازال لديه الكثير منها حتى يستطيع أن يُدخل نفسه  فيها عنوة  لمعرفة أدق تفاصيلها ليبدأ بعد ذلك فى استخدامها الاستخدام الأمثل فى الإفتئات والغش والتضليل .. كنت لاأتصور أنها فى النهاية  هى مجرد وسائل لتحقيق غاية مرسومة بمنتهى الدقة للوصول إلى مآربه . إننى لازلت أتعجب لرؤيتى العمياء له قبل ذلك وكيف كنت أمضى وراءه وكأننى معصوب العينين منشرحا لأسمه الذى كان يتردد بين الأفواه بالحب والفخار ، وكم كنت معجبا باعتزاز الناس به عندما يلجأون اليه فى كثير من أمورهم وخاصة حينما كانت تضيق بهم دنياهم ، ويسمعون منه كلاما منطقيا مقنعا تنشرح له صدورهم ، فلطالما كان يردد أقوالا ألفوها منه كانت تمثل لهم قمة الطهر والعفة و التعقل لم تشأ الظروف أن يعرفوا أن فى  باطنها العذاب حيث كانت تحمل الوجه الأخر الذى يريحهم ثم يعودون إلى أحاديث النفس أو هواجس خبرتهم  فيشعرون بتضليله لهم بعد إحساسهم  بمرور الكثير من  الوقت فيجدوها  تكذب وهمهم ، لقد ألفوا كلامه المعسول أطوارا لم يكتشفوافيها كذبه فهو كان كثير الكذب ، وأسفاه لقدكنت أنا أولهم . كان يحكى الشيئ وينسى ثم يحكى نقيضه فى موضع أخر ولحسن حظه أن أحدا لم يلتف لأحاديثه الملفقة إلابعد فوات الأوان مثلى.                                                                                                                                                                               

                                                                                                   

انتهت علاقتى به وإلى الأبد فعند مفترق الطرق تحتدم العواطف ، وتنبعث الذكريات التى كانت وكيف أصبحت ، إنها أصبحت فى أسوأ حال ، وليس أمامى الأن إلا تحد واحد كيف أحصل على حقوقى منه ، مسألة مضنية للغاية .. ماأشد اضطرابى ، يلزمنى قدرة خارقة للسيطرة على مشاعرى بعد أن فقدث الثقة فى كل شيئ  . لم أجد أمامى بعد الإفاقة سوى الإستعانة بأصدقائى  المحترمين سرعة التدخل .. ربما أضطررت إلى ذلك فيقينا انقلب الملاك عندى شيطانا .. والأستاذ جميل لم يعد جميلا بل أصبح قبيحا دميما..يالها من ضربة قاضية مفعمة بالحنق والغيظ والكراهية ،  ربما اندفعت بقوة طائشة كى استرد مالى المنهوب  ونسيان تام لكل الأحداث السابقة التى لاوقت لإحصائها، لننظر للعواقب اللاحقة وماذا سيترتب عليها من خسائر محتملة بعدمرور سنوات خمس كاملة ضاعت فيها الحقوق سدى على يديه واضطربت وتداخلت فى حقوق الأخرين. لقد كان لجهد الأصدقاء الأثر الكبير فيماقدموه لى حيث ضاعفوا فيها كل السبل لاسترداد حقوقى التائهة والمنهوبة التى أضحت بلاسند قانونى يحميها .. فالشيكات كانت كلهامزورة ومضروبة وفاسدة عن عمد والمحاكم لاتحمى المتغافلين ولاتحمى أصحاب النوايا الطيبة ولامن يحسنون الظن بالناس . لذلك كان لجوئى مضطرا لمستشار  وفقيه قانونى محنك فى إيجاد حلول غير تقليدية فى مثل هذه القضايا المعقدة غاية التعقيد ،  فإذا به يتصل عليه حتى يُسمعنى مالم كنت أصدقه .. كانت هذه المهاتفة تحمل مفاجأة كبيرة لى أفقدت كل ماكان متبقيا من أثر العلاقة التى استمرت لسنوات .. جاء صوته فى أذنى كنعيق الغراب ماأشدعلى النفس أن تتيقن مالحق بالنفوس من فساد دينى و أخلاقى واجتماعى أخذ يتمدد ليستشرى فى كل شيئ حولك ، وأن الحب تم اقتلاعه عنوة فى عملية تصفية جامحة من القلوب حتى تحجرت.حقا كان عالما غريبا لأول مرة أحس أن كل عقبة يمكن أن تحل إلاهذه العقبة .. مرت أيام ثقيلة بين شد وجذب حمّلت فيها على صديقى الصدوق الذى آل على نفسه أعباء التفاوض معه وحوارات  طويلةامتدت شهورا  انقضى معظمها لايرجى منهاطائل حيث كان ينكص فى كلامه وينقض فى عهوده ويرتد عن اتفاقاته مثل الحيات التى تتلوى لتغير جلدها فلا تستطيع أن تأمن لها جانب .. يكذب وينسى وينكر ماسبق واتفق عليه .. كنت لاأنام ،  أغمض عينى فلا تنطبق الأجفان، وفى الصحو لأجد ماأريده .. أغفو وأصحو متمنيا أن كل شيئ قد تم  .. تتصاعد من صدرى أبخرة تطمس كل الأشياء حولى لتطفئ غمرات حنين الماضى المضل  ، حتى أفاء الله لنا بالوصول إلى حل لتنقضى حكاية الأستاذ جميل .. الثعبان المتلوى الذى مالبث أن آثر الإختفاء ليلوذ إلى جحره منتظرا فريسة أخرى. وهكذا انتهى كل شيئ واكتشفت أخيرا معنى أن تمدد قدميك وتترك عينيك تتحركان بحرية فى كل اتجاه  ..وتمد يدك إلى كل ماحولك لتسرح فى أطياف من نور  واللحظة تمتد وتكبر.. وتقول وقد طبت نفسا هكذا كنت .. وهكذا أصبحت. إننى أتوق أن أبقى أبدا بلاعودة إلى الوراء.                                                                  

                                                                                                

 القاهرة فى إبريل 2024   

مع تحيات : محمد عصام  

 

 

 

الثلاثاء، 19 ديسمبر 2023

هاجس فى صدرى

 

النفس البشرية لها أغوار ، وعالم النفوس .. عالم كبير لانعلم عنه شيئا .. ولانستطيع معرفةحتى مجرد القشور منه ، لتبق للنفس أسرارها لايعلمها ولايدركها سوى الذى خلقها .. الله سبحانه وتعالى .. هو وحده الذى يعلم مستقرها ومستودعهاومثواها . لكن التجارب الحياتيةعلمتنا أن النفوس لها تصنيفات  كثيرة ، ربما قابلنا القليل منها  أو معظمها ، فهناك نفوس طيبة من طبيعتها أن تتجاذب  ، ونفوس شريرة حاقدة من طبيعتها التنافر والتناحر، وهناك نفوس الأنا عندها عالية، وهناك نفوس لاتعرف إلا الدنو والحقارة ، وطبيعة النفوس إما نارية أوترابية أوهوائية أومائية لها من طبيعة الأرض والهواء  و الماء .. أى إنهاتعيش بطبائعها هذه ..  تعرف ،  وتعاني، وتتذكر  ولديها رغبات  .. تحكمها مكتسبات كثيرة  من الحياة ،  أهمها التربية الناشئة والأسرة الحاضنة ،  إنه عالم يموج فى بعضه البعض .. ولكنه لم يكن فوضاويا بل تحكمه قبضة الله وإرادته وقدرته فى توجيه هذه  النفوس إما شقية أو سعيدة . إننى لازلت حتى اليوم أقع فى أخطاء فى تقدير نفوس الناس رغم ماعشته ووعيته من الحياة ، ربما يرجع ذلك أن هناك عوامل تحكمت فى تربيتى ونشأتى فى منـزل كان الأب والأم فيه شديدى الخوف علي فأصبحت بالنسبة لمن حولى كأنى أعيش فى سياج يفصلنى عن عالمهم . إننى لم أعرف فى حياتى كنهة المرأة إلاامرأة واحدة هى أمى ولا شكيمة الرجل إلا رجل واحد فقط هو أبى .. أمى لا تعرف ماأفكر فيه فى هذه السن ، ولايهمها أننى فى سن بدأ ت فيه مظاهر التبدل والتغيير ، وأننى مع الوقت سوف أنشغل بمن حولى ،  إنها لم تع  أننى أصبحت جزء اممن ماحولى  وسيكون لى  زملاء دراسة  و أصدقاء من أولاد الجيران وفى الشارع وبعد ذلك فى العمل ، وأنه من المؤكد ستتكون لى رؤيةللدنيا والناس تناسب عمر كل مرحلة أحياها ، لم تعرف أمى كل ذلك ، فقط كانت ترانى الصغير الذى سيبقى عندها صغيرا حملته فى بطنها ، ثم ولدته ليأكل ويشرب وينام ويلبس فقط . وأن خوفها الدائم على حياتى كانت تراها فى تلك الحماية التى يجب أن توفرها لى كى تقينى من شرور الدنيا وشرور الناس .  أما أبى دأب كلما كبرت  أن يبث فى أذنى عبارات دامغة يجب ألا أنساها ولايسمح لى أن اتجاوزها  " خلى بالك من نفسك " "وأوعى لنفسك " و" عيب إنك تتكلم مع البنات " كانت عباراته حاذقة بثت فى نفسى الخوف  الذى ارتبط بكل شيئ بعد ذلك في حياتى ، لذلك عشت فى وجود حدود لكل شيئ ، وكلما كبرت كبرت معى مشاكلى ومنها رهبة التحدث إلى الناس وخاصة الفتيات ، فكنت لاأعرف حدودى ولاحدود الأخرين ، إن الخوف العام جعلنى أتوارى من كل الذى أحبه ولاأعرفه ، فنشأت على فكرة الخوف وعندما بدأت أكبر وجدت صعوبة بالغة فى تجاوز هذا السياج الذى تحول مع الأيام إلى جدار  أخذ فى العلو كلما تجاوز ت مرحلة من مراحل حياتى  . أتذكر عندما كنت مراهقا وأصبح لى أصدقاء لم يكن من بينهم فتاة ،  إننى لم أفكر يوما أن أتكلم مع أى فتاة فى حين أن أصدقائى كانت أحاديثهم كلها عن حب الفتيات وكنت الوحيد الذى لايتكلم ولايستطيع أن يتكلم ، مازلت أتذكر كيف كانوا يتبارون فى حب فتاة واحدة .. بنت الجيران التى كانت تسكن فى منـزل مقابل لمنـزلنا بحى الظاهر  كانت على قدر كبير من الجمال ولكنها لم تعر لأى منهم  أى اهتمام وشغلت نفسها بى ،  وعرفت ذلك من المحاولات التى أرادت  بها أن تلفت نظرى فى رغبتها أن تتكلم معى كلما كانت الظروف تسمح ويتصادف مرورنا فى الشارع  وجاء وجهى فى وجهها ، كنت ألاحظ  ذلك  وكنت فى كل مرة أبر ر لنفسى أنه ليس من المعقول أن تترك هؤلاء  الذين يحبونها وتنظر لشخص مثلى لايعرف كيف يتعامل مع الجنس الأخر ، حتى حانت الفرصة وتحديدا لاأتذكر كيف جاءت ، ولكنها جاءت وتواعدنا وعند المقابلة لاحظت توترى الشديد ولم أعرف مجاراتها فى الفكر أو الكلام .. كانت لبقة .. شديدة الفطنة والذكاء  ، لم تبذل مجهودا كبيرا فى أن تعرف أننى لست الشخص التى كانت ترغب فيه ، بل وجدتنى  شخصا أخر يفقد الكثير من جاذبية الشخصية التى كانت تفكر فيها و تمنى نفسها أن تجدها فى شخصى ، إنها لم تجد غيرالهيئة التى كانت تراها وأعجبت بها فقط  طول القامة و الوجه المنبسط بقسماته التى كانت تنطق بكل مايريح أى شخص ، فضلا عن ماعُرف عنى من أدب جم ودماثة خلق ، وهى أشياء كانت تعرفها قبل أن نتقابل ، لذلك لم تهتم بكل هذه التفاصيل ، أنه  لم يعجبها خجلى  ولاتوترى الذى جاء بلا مبرر ، ولا بوضع الصمت الذى كنت عليه حيث لم أنطق بحرف واحد ، رغم أننى حاولت جاهدا أن أنتزع الكلمات من بين شفتى ولكنى لم أوفق ،  وحاولت أن أرفع رأسى المنتكسة فى الأرض من الخجل وأن التفت يمنة أو يسرة  ولكنى لم أعرف ، حاولت أن أتابع كلامها الذى يحرك أى ساكن ولكن لم يحدث ، وحاولت أن انظر فى عينيها الجميلتين  الموجهتين تجاه وجهى كالسهم وهى تتحدث بمنتهى الطلاقة ولكن لم أستطع . إنها وجدتنى لاأعرف شيئا فى زمن كل شيئ فيه معروف وواضح ، زمن الكل فيه يفكر .. الكل فيه يعى ماحوله ، الكل فيه يريد أن يعرف . فالذى يعرف هو الذى يبحث ، والذى يعرف هو الذى يقدر قيمة المشاعر والاحاسيس ، والذى يعرف هو الذى يتأمل ويشتاق ويحن ويحب ويكره ، أما بالنسبة لى فكل هذه الكلمات لامعنى لها عندى لأنى لاأملك معرفتها ، ولاأملك كل ماكنت أحبه وأريده .. فرغباتى معطلة ولست فى حاجة إلى أن أقول أو أفعل..فكيف أجد الحب وكيف أعرف الكراهية حتى أفرق بينهما . إن الكلمات التى لها معنى عندى هى التى تربيت عليها  من توجهات  أبى وتعليمات أمى .. هى التى كنت أعيها فقط وأوجه لها كل اهتماماتى دون تفكير ودون معرفة مخزاها وهكذا تعلمت وتربيت 


إننى عرفت فيما بعد أن الحب هو أن تنشغل بشخص يعجبك ، وأن الكراهية ألا تنشغل بشخص لايعجبك ، وأن الحب والكراهية متشابهان ، فكلاهما انشغال بأن تفكر فى شخص أخر غيرك وغير أمك وأبيك وغير الذين يعيشون فى محيط حياتك ، وبعد ذلك المعنى هو الذى يختار الشكل المناسب  من مشاعر وأحاسيس تجاهه بأى منهما ، هذا الشكل  وقتها  كنت أجهله ولم أجد له مايناسبه بداخلى من معنى . لذلك جاءت خسارة  أول علاقة بسبب الوحدة والعزلة و الانقطاع عن العالم من حولى حتى أصبح الخوف يطاردنى فى حياتى و ملازما لى ، ومن ثم حرمت نفسى من تكرار التجربة لفترة  ، كان لابد فيها  أن أهرب .. لابد أن أنسى هذا الماضى الذى فرض على فرضا .. لابد أن أهرب من هذا الفراغ المخيف  الذى ألمسه فى المنـزل وفى الشارع وفى نفسى وفى حواسى وعواطفى  . ولما كبرت فى مرحلة أخرى من مراحل حياتى وأصبحت شابا يافعا كنا قد انتقلنا لحى مدينة نصر ، وكان الحى الجديد مازال بكرا يختلف كثيرا عن حى الظاهر الذى شاهد طفولتى ، فكان علي أن انتهج نهجا جديدا فى حياتى ،  وأن أنسى الخوف وأحارب الخجل بكل قوة ، لذلك وجدت  فى نفسى مايلح علي أن أعاود فكرة مجانسة الفتيات والحديث معهن وأكسر ذلك الحاجز الذى حجبنى عنهن زمنا، ووجدت تشجيعا من أصدقائى الجدد عندما صارحتهم بإعجابى بفتاة جميلة بعد أن لاحظت أنها تبادلنى بعض النظرات المشجعة وابتسامات خفيفة ظننت أن وراءها مقصد فخفق لها قلبى أو هكذا كنت أرى ، فى بادئ الأمر لم يصدقوا ماسمعوا ولتشجيعى أشاروا على أن أتجرأ وأكلمها ، وبالفعل فى اليوم التالى تتبعت خطواتها التى جاءت على مهل ، وحاولت جاهدا أن استلقط بعض الكلمات الإعجاب لأغازلها بها، رغم أنى وجدت صعوبة بالغة من فرط حيائى ولعدم معرفتى بعبارات الغزل من الأساس ولكنى مع إصرارى فى المحاولة لانت بعض كلمات الغزل على شفتى وهممت أن أفعل حتى فوجئت بها تلتف وراءها بوجه عابث مكفهر موجهة لى كلمات احبطتنى تماما : أنت عاوز منى إيه وليه ماشى ورائى ، من فضلك لاتحاول أن تكلمنى مرة أخرى . تسمرت قدماى وتمنيت أن تنشق الأرض وتبلعنى ولا أعيش هذه اللحظة القاسية . كانت الصدمة قوية جعلتنى ألزم المنـزل أياما تركت فيه أصدقائى الذين بدأوا يبحثون عنى وعن أسباب غيابى رغم توقعهم للذى حدث ، وعندما حكيت لهم وعلموا به انتابتهم نوبات من الضحك الذى أثارت تحفظى ، وقالوا لى ماهى لازم تعمل كده فى الأول ألم تسمع عن شيئ اسمه دلال  البنات ، كان لازم تدلل عليك شوية علشان تشوف مدى إصرارك على مغازلتها والحديث معها لتتأكد من معزتها عندك ، فالفتيات يحببن الشاب الجرئ ولايملن للشاب الخجول ، ولو كنت حاولت مرة أخرى لوجدت الأمر مختلفا وكانت ستتكلم معك ، وبالمناسبة لاحظنا فى الأيام التى غبت فيها أنها كانت دائمة التواجد فى المكان الذى كانت تراك فيه ، رأيناها تتلفت حولها وكأن عينيها تبحثان عنك . كلامهم لم يجد له صدى فى نفسى ولم أقف عنده طويلا إذ قررت أن أنصرف عنها وفعلت ، بل وانصرفت أيضا عن فكرة العلاقة مع الفتيات  نهائيا وعن أى محاولة فى الحديث عنهن  مع أصدقائى للدرجة التى جعلتهم يرون أنها أصبحت تمثل عقدة كبيرة عندى . فكروا فى طريقة يعيدوا بها اتزانى النفسى وأن يبثوا فى نفسى الجرأة والشجاعة فى التحدث مع الفتيات حتى دبروا لى أمرا لم أكن أعلم بحقيقته إلا فيما بعد ، حيث رتبوا لى موعدا بالإتفاق مع من هو أكثرهم خبرة فى معرفة دروب الفتيات وخير مايستعينون به فى هذه الأمور .. صديق اشتهر بوسامته وكثرة صديقاته ، ولاتكاد تخلو محادثاته من عشرات الفتيات الساحرات .اتفقوا معه أن يقنع إحداهن بلقائى على أن تكون بارعة الحسن وخبيرة بالنفوس .. داهية ماكرة ، تستطيع أن تعيد الثقة فى نفسى . حددوا يوما قابلته فيه لنذهب معا كعادتنا إلى مصر الجديدة بسيارته ، فمصر الجديدة وقتئذ كانت قبلتنا الدائمة ، و فى أثناء الطريق توقف فجأة عند كلية بنات عين شمس ، وشاور لفتاتين فى قمة الأناقة والجمال ، واستغربت أنهما استجابا له وتحركا فى اتجاه السيارة بهذه السهولة والسرعة ، ثم أشار لهما بالركوب فركبا بالكرسى الخلفى دون التلفظ بأى كلام ، وما أن تجاوز بعض الخطوات حتى توقف بالسيارة مرة أخرى وقال لى أنـزل واركب فى الكرسى الخلفى  ، وفهمت أن واحدة منهما ستجلس مكانى وأنا سأجلس مع الأخرى  فى المقعد الخلفى ، وفعلت وأنا فى حالة من الذهول فهذه أول مرة أتعرض لمثل هذا الموقف الغريب وتعجبت كيف وقع أختيار ه على واحدة منهما دون الأخرى وكيف استجابت هى لهذا الاختيار القصرى التى لاحيلة لها فيه . بدأ يتحرك بالسيارة فى اتجاه شارع الحجاز ، وتعجبت أكثر لطريقة حديثه مع الفتاة إنه يبدو وكأنه يعرفها فى معرفة سابقة ،  وشغلنى حواره معها الذى جاء سلسا ميسرا  يحمل عبارات الإعجاب التى بها رقة وطلاوة وصوته ذا رنة غريبة مما جعلنى أسرح معهما متابعا  ، وبينما أنا فى أثناء انشغالى تعجبت الفتاة الأخرى التى تجلس بجوارى  على سكوتى وأنى لم انبس ببنت شفة حتى ولو بكلمة من كلمات المجاملة التى تقال فى مثل هذه المواقف المحرجة وزادها عجبا أن ترى وتسمع صاحبنا يمطر الفتاة الأخرى بكلمات من الغزل الصريح  مما زاد الطين بلة ، وأصبح الموقف أكثر تعقيدا وحرجا لى  وهى ترانى وكأن لسانى أنعقد ، وعندما أحست بأنه لاأمل فى أننى أتكلم بدأت هى بالكلام وسألتنى : أنت طالب .

قلت لها : نعم .

قالت : أقصد أنت طالب فى الجامعة .

قلت لها : نعم أنت شايفه حاجة غير كده .

قالت : لا أبدا أصل شكلك بيديك أصغر من سنك ، وياترى بقى أنت من أى جامعة.

قلت : جامعة القاهرة . 

قالت : فى كلية إيه  .

قلت لها : كلية دار العلوم . 

قالت لى : وشاطر بقى على كده .

قلت لها : بيقولوا كده .

قالت : وياترى لك أصدقاء بنات ، يعنى بتعرف تكلم بنات .   

قلت لها : يعنى . 

قالت لى بحده وكأنها سئمت من ردودى المقتضبة : يعنى إيه . 

قلت لها : يعنى لى مجموعة من الأصدقاء وأكيد من بينهم بنات . 

قالت : طيب بتقول يعنى ليه ؟ ! ماأنت بتعرف تتكلم أهه  

قلت لها : ولاحاجة أنا حاسس إنى بتكلم أى كلام .

قالت : يبدو ذلك  . وبدأت تضع يدها على يدى وأنا اسحبها من تحتها ، فنظرت لى نظرة غريبة.. نظرة جائعة نهمة وقالت : هو أنت ماسمعتش عن حاجة اسمها الحب  .

اصابنى الوجوم ولم أنبس بكلمة ، وبعد لحظة شاردة قلت لها : لا ماعرفش ..لسه ماقبلتوش . 

بدت عليها علامات التعجب وقالت شاهقة : ياخبر  أزاى وأنت شاب  أهه وبقيت فى الجامعة ومتعرفش تحب . 

قلت لها : قدرى كده  ، ومش بالضرورة كل اللى بيدخل الجامعة لازم يحب .

ثم بدأت تقرب وجهها من وجهى  وقالت بما يشبه الهمس : يعنى متعرفش أيه بوسة .

قلت لها : لا الحقيقة مجربتهاش لسه . 

قالت لى : طيب قرب وجهك منى وأنا أعرفها لك  بس متخدش علي كده .

قلت لها : أزاى يعنى ، دا أنا يادوب عارفك من خمس دقائق بس ،  واللى أعرفه إن القبلة لاتكون إلا للمحبين فقط  اللى ارتبطوا ببعض وتآلفوا مع بعض  ومر عليهم وقت عرفوا فيه  ايه هو الاحساس اللى بينهم .

قالت لى : طيب منا بحبك أهه  .

قلت لها : أزاى  . 

قالت : هو مافيش حاجة اسمها حب من أول نظرة . 

قلت لها : نعم قرأت  عنه فى رواية الوسادة الخالية لإحسان عبد القدوس  بس فى نهاية القصة قال إن ده مجرد وهم كبير  ومافيش حاجة اسمها حب من أول نظرة . 

قالت لى : إحسان عبد القدوس غلطان  ، أنا بس اللى أقول لك إن فيه حب من أول نظرة ولا لا ، وهخليك تعرفه دلوقتى حالا .

ثم تورد وجهها وافترت شفتاها عن ابتسامة فيها تلميحات جامحة ومدت ذراعها تريد أن تجذبنى إلى جانبها فتخلصت منها بلطف وظللت جالسا فى مكانى  وقلت لها : بس أنا مش عاوز  .

امتقع وجهها فجأة وتغيرت ملامح الغنج التى كان عليه وتحول لحنق وامتعاض وبدت ثائرة  وقالت لى كلاما لازلت أذكره جيدا حتى الأن كعلامة سيئة لموقف غريب : أنت واضح عليك إن أمك بتخاف عليك وأخرك إنها بتشربك اللبن وتنيمك. هنا شعرت بإهانة .. إهانة من هذه الساقطة كيف سمحت لنفسها أن تتكلم معى بهذه الطريقة وأن تتفوه بكلمة أمى ، شعرت وقتها بأن كلامها كان كالسهم المارق الذى انطلق من فاها ليحدث انفجارا دوى فى أذنى  ، انتفضت ورفعت رأسى أنظر إلى صديقى فإذا بالفتاة الأخرى مندسة فى أحضانه ، ناديت عليه فنظر لى مبتسما وكأنه ينظر لأطياف لايراها.. شارد النظرات  تائه الفكر ، يبدو أنه قد ثمل تماما من نشوة القبلات التى انغمس فى حلاوتها ونسى معها الدنيا وما فيها ، عاودت النداء عليه بصوت  محتدكريب : من فضلك يامجدى توقف ونزلنى هنا حالا . تملكته الدهشة وهو يحاول أن يخرج نفسه من جو الهيام الذى يعيشه وبصعوبة كان ينطق : طيب ماتستنى شوية . ولكن لما أحس بأن  ردى أسرع من طلقات الرصاص على مسمعه وأنا أقول له : من فضلك لازم أنزل حالا  . بدأ يستعيد اتزانه فوجد وجهى متجهما عابثا ووجد فى ردى الإصرار على النـزول من السيارة : أرجوك توقف فورا ونزلنى هنا . تغيرت ملامح وجه صديقى وفوجئت به يوقف السيارة فجأة وقال للفتاة التى كانت فى أحضانه منذ برهة : اتفضلى أنـزلى أنت وصديقتك ياأولاد .......  . أصابتنى الدهشة كيف تحول صديقى فى لحظات من العاشق الماجن إلى هذا الوجه العابس وينهرها، وسألته هذا السؤال الذى بالفعل أعيانى عندما سألته لنفسى ، قال لى : لأنك أنت صديقى لايمكن أن أعوضك إنما هن فتيات ساقطات أصطاد منهن كل يوم من الطريق مثلما أريد ، أصابنى الوجوم وشردت للحظات كنت فيها صامتا وناقما من نفسى ومن صديقى ومن كل الدنيا ، كيف يأتى ذكر أمى التى كانت مثالا للفضيلة والحب والتضحية فى هذا المقام  الوضيع ومع من ! مع ساقطة ليتنى صفعت وجهها حتى أستريح 



كان هذا اليوم فاصلا .. يوم تحول بالنسبة لى أخذت فيه على نفسى عهدا بأن أحاول كسر هذا الحاجز الذى أقاماه أمى وأبى ،  وأفعل كل مايطرينى أن أفعله ويلذ لى أن أراه ، ويجعل عقلى الذى تبلد أن يفك قيوده بعد أن ران عليه البؤس كما يفعل الصدأ بالحديد يطمس معالمه ويشل تفكيره ، سأرجع وأفكر من جديد .. تفكيرا حلوا جميلا مستقيما متزنا فيه مايطمئن النفس ويبهجها ويصور له الأمال العذاب فى صورة جميلة يحيطها أطار مزخرف  من الأمانى التى كنت لاأعرفها وأصبحت أعرفها ، سأفعل ذلك فى الحدود التى تربيت عليها من قيم وشيم وأخلاق ،  وبالفعل بدأت أتقرب من الفتيات ومن السيدات  شيئا فشيئ ،  ووجدت أنه أمرا كان لايستحق كل هذا العناء  ، ووصلت إلى درجة كنت أتخير فيها من النساء مايروق لى منهن ، فكانت كل النساء اللاتى عرفتهن فى حياتى ، أجملهن  شكلا وروحا ، وأرقهن قولا ، وأسبقهن فى محاولة الوصول إلى قلبى ، وأحرصهن على إسعادى ، وتعجبت بعد ذلك من حالى إننى حتى الأن ومع كل هذه العلاقات  لم أشعر بالحب ، أننى كنت اكتشف مع كل علاقة جديدة  أنها كانت مجرد محاولة فى البحث عنه وفى النهاية لاألقاه ، فالعلاقة التى تفتر بعد صخب لم تكن حبا بل يمكن أن نسميها مودة أواحترام فقط ، إلا أننى عشت فترات طويلة أنعم بهذا الشعور الجميل رغم غرابته بالنسبة للرفيقات اللاتى كن يتساقطن من حولى كما تتساقط أوراق الشجر ، وكنت أسأل نفسى فى كل مرة قلبى يطرد فيها ساكنته إن لم يكن هذا حبا فما هو الحب ؟! أننى كنت أحلم فى أن أقابله يوما وأمنى نفسى أن أعيش فيه ، ولكن يبدو أن حظوظى معه ألا أعرفه بعد ، لذلك جاءت كل علاقاتى التى نشأت بينى وبينهن هى علاقة مودة وصداقة حقيقية . حتى عرفت مع مرور الأيام أنه لم يكن بوسعى أن أفعل أكثر من  تحويل الخوف الذى كان بداخلى إلى احترام ، لذلك توقف شكل علاقتى معهن ومع كل الناس عند حدود الإحترام والتقدير ، ولكن أصبح لدي ملكات وعرفت مع نفسى مقدار نفسى وعرفت أيضا مقدارى عند الأخرين ،  ومع من استطيع أن أتعامل وأصادق و أتكلم.. ومع من لاأستطيع . وعرفت أخيرا معنى خوف أمى وحرص أبى ، بأنه  كان شيئا مهما وعظيما ، وأن السياج الذي أحاطانى به كان ضروريا ، عرفت قيمته الأن بعد أن كبرت وتعلمت من الحياة الكثير ، تعلمت أن النفوس على اختلافها سر من أسرار الخلق  تدور فى فلك الدنيا : أسوياء ومرضى .. أنقياء و حقدة . وفى علم الفلك ربط النفس بطبيعة الأرض ووقت الميلاد وتوافقها مع المجرات والنجوم التى تحدد وإلى حد بعيد الأشياء التى تسعدنا والأشياء التى لاتبعث فى نفوسنا الراحة ، إنها أصعب رحلة للإنسان أن يقوم بها .. رحلة البحث عن الذات .. موقعك مع كل مايمكن أن يصادف حياتك من ناس ومواقف .لقد جاء اليوم الذى استطعت فيه التحكم فى شكل العلاقة مع الناس ولكنى مازلت أتخوف من نفوسها.

القاهرة فى ديسمبر 2023     

مع تحيات : محمد عصام



الخميس، 26 أكتوبر 2023

موعد مع الحقيقة

كنت على موعد مؤجل أكثر من مرة .. المكان شارع رمسيس والموعد الساعة العاشرة  مساء بعد انتهاء حفل الموسيقى العربية ، المكان كله يلفه الليل  تحمل نسماته بعضا من الهواء الخفيف الذى لايفقدك الإحساس برطوبة الجو الخانق الذى لازال مسيطرا على أجواء القاهرة كلها فنحن فى شهر يونيو . جئت قبل الموعد بكثير وانتظرت متخيلا كل سيناريوهات اللقاء ، وطريقة استقبال كل منا للأخر ، وماذا سنقول، وفى أى موضوعات سنتحدث ، زخم من تخيلات كثيرة صورها عقلى جعلتنى مضطرب الخاطر ، فهذه أول مرة أقابلها فيها ، ولاأعرف عنها إلا القليل . وكلما مر الوقت كنت أزداد اضطرابا فحاولت أن أشغل نفسى بمتابعة المارة بأشكالهم وأنماطهم وخاصة النازحين من مكان الحفلة حيث كانت وقفتى بجانب السيارة خلف السور المواجهة لبوابة المعهد .هاتفتنى لتحديد مكان انتظارى، فوصفت لها المكان الذى أقف فيه واطمأننت على احترامها للميعاد وإثبات جديتها للحضور . انصرف الناس ومن بعدهم جوقة الموسيقيين والفنانين ولم ألمحها بينهم ، وكان من المفترض خروجها معهم . مضى بعض من الوقت وأنا على حالى  منتظرا حتى طالت مدة الانتظار ولكنها لم تأت . فنظرت إلى الساعة فى يدى فإذا بالوقت قد سرقنى وتجاوز الميعاد المحدد للمقابلة بكثير ولولا مهاتفتها ماكنت انتظر كل هذا الوقت ولمضيت لحالى ، عدت وجلست فى السيارة ساهما واجما وحاولت مهاتفتها عدة مرات من الرقم التى هاتفتنى منه ولكنها لم ترد ورحت ألوم نفسى وأحدثها فى ضييق .. لابد وأنها جاءت وانصرفت مغيظة حانقة ، فلقد مضى على الموعد مايقرب من نصف الساعة ، تركت السيارة مرة أخرى وترجلت بين المارة أجوس بينهم وقد تفصد وجهى بالعرق الكثير فالجو ازداد اختناقا  وضيقا، اتلفت هنا وهناك ، حتى خف المكان من الحركة وبدا يخلو من المارة ، وحاولت أن أعلل لنفسى بأنها لم تأت بعد ، فقد يكون ثمة عائق أخرها عن الموعد وقد تأتى بين آونة وأخرى ، عدت إلى السيارة حائرا أتابع كل الطرق من حولى التى من المحتمل أن تأتى من إحداها ولكن دون جدوى ، وبدأ اليأس يتسرب إلى نفسى يملؤنى الاحساس بالندم والخجل والضيق والحزن ، إننى لم أكن أبصرها قط قبل ذلك ، وهذه كانت الفرصة الحقيقة للتعرف عليها عن قرب ، وبدأت أشعر بالملل فقد خلا المكان وأقفر إلا من بعض الوجوة الآوبة لبيوتها وشعرت بالضيق من الناس والرغبة فى العودة خائب الأمل . 

أدرت محرك السيارة  وعند التحرك لمحت وجها قد أقبل بين هذه الوجوه التى كنت أرها عابثة جعلنى أتسمر فى مكانى ، وجه كأنها هى .. اقتربت صاحبة الوجه الذى بدت ملامحه تطفو إلى سطح عقلى فهذه الملامح مازالت حاضرة الذهن أعرف تفاصيله جيدا ، فمنذ قريب انتهيت من رسمه  على اللوحة التى أحملها معى وجئت لأقابلها كى أعطيها إياها .. اقتربت رويدا رويدا وتأنت فى مشتيها ثم تريثت ريثما أخطأت التقدير فى الشخص الذى ستقابله ، حتى توقفت واستدارت ببطء ، واتجهت إلى السور الحديدى الحائل بين الرصيف والشارع الذى تقف فيه سيارتى من خلفه واتكأت عليه مولية وجهها ناحيتى ، وسألتى : الأستاذ عصام . قلت لها : نعم . اطمأنت بأننى ذاك الشخص التى جاءت لتقابله ، ثم راحت لأخر السور حتى تأتى إلى الجهة التى أقف فيها ، كنت أثناء ذلك شارد الذهن ابحث فى سرعة عن أنسب الكلمات التى أبدأ بها حديثى معها ، وأخذت أستعيد لنفسى كل الكلمات التى يمكن أن تقال فى افتتاحية مثل هذه المواقف ، ومضت الفترة الوجيزة دون الاهتداء إلى كلمات . أسرعت فى استقبالها وترجلت خطوات قبالها حتى  دنونا من بعضنا البعض فأقبلت هاشة باشة كأن بيننا قديم صحبة وأحسست أن روحينا قد التقيتا قبل ذلك مئات المرات ، ولكن  تملكنى من رؤيتها الشعور بالدهشة والاعجاب ، فقد كانت حقيقتها أكثر روعة مما تبدو عليه فى الصور ،  إنها سيدة بارعة الحسن ، رائعة الجمال أقبلت على كما يقبل الشذى المعطر متضوعا من بعيد .. وجهها المشرق جعلنى أشعر ببعض الطمأنينة لأننى توقعت أن تمر بى مر الكرام فلا شك أنها لاتعرف عنى سوى اسمى وكل منا كان لايرى الأخر إلا من خلال الصور فقط ، والصور لاتعطيك احساسا طبيعيا وصادقا كما ترى العين وتحلو لها ، إن تخيل الشخوص ورسمها فى ذهنك  لايعادلها متعة الرؤية الحسية بل تفقدك الكثير من الإحساس الطبيعى الذى تحب أن تراه فى وجوه من يروقون لك  . والحق كنت خائفا وحذرا من أن يكون هناك اتساع كبير فى الفارق بين رؤية العين والصور ، فالصورة  قد تحمل تفاصيل كثيرة لم ترها العين، وربما يكون فيها تكامل وانسجام نتيجة إضافة تحسينات وتنقية وإضافة رتوش وأشياء كثيرة لاتستطيع أن تحس بها عينيك ، ولكن أيضا الرؤية الحقيقية المجردة تتعرض هى الأخرى لمؤثرات ولكنها مختلفة أهمها أنها تتعرض للعاطفة فلو رأيت بعين عواطفك التى لاتملكها قد تتأثر بالحقيقة فترى الشخص الذى تكرهه دميما وترى الشخص الذى تحبه جميلا ، فكما أن الصورة لاتكون دقيقة فالعين أيضا لايمكن أن تكون صادقة لأنها عين غير منـزهة ولا محايدة ،  إنما هى عين أسيرة بين قلب الإنسان وعقله أى  أسيرة الأهواء  . 

وهكذا كنت أرى وجوه الناس  بعين إحساسى . رفعت بصرى تجاه وجهها فإذا به أراه وقد علت عليه ابتسامة ساحرة فى ليلة عجيبة ، تخيلت وكأنها ليلة من ليالى الجنة ، اسقطها الله على أهل الدنيا ، فانسربت فى لياليهم .. ليلة ليست فى شيئ من الليالى التى يغيب عنها القمر .. إنها ليلة أشبه بليالى ألف ليلة وليلة من جم سحرها وحسن بهائها .. ليلة لاينام فيها إلا الحمقى الذين لايقدرون جمال الليل وسحر نسماته ، فى هذه الليلة احسست وقد غمرنى النعيم وامتلأ قلبى بالنشوى . وأيقنت أنه لا أروع ولاأجمل من التعارف الحقيقى و الطبيعى مهما كان جمال الخيال وقيمته ومهما كان حلاوة الصور ودقتها ، وخاصة لو أن رؤيتهم صادفت بداخلك ارتياحا وبعث فى نفسك الطمأنية . إنه الاحساس .. الرؤية الحقيقية التى تجد فيها الشعور بالاحترام والعمق ، ليؤكد أن الاحساس نعمة . مدت لى يدها وشدت على يدى فى رفق وحنان بالغين وصافحتنى بحرارة وسارت بجانبى حتى وصلنا للسيارة التى كانت تبعد عنا بضع خطوات ، و سرعان مادلفنا بداخلها وجلسنا فيها وراحت تلتفت لى باسمة وقالت وهى تنظر إلى وجهى وتتأمله ، فكل منا كان يتأمل الأخر ، بدت  وكأنها تتفحص ملامحه وتقارنه بالذى كانت تراه فى الصور .. تحسسته بعينيها اللتان تضيقان ثم تتسعان حتى نطقت بالتحية : أزيك ياأستاذ عصام ، أنا آسفة على التأخير كانت هناك  بعض الأمور بالفرقة ابقتنى بعض الوقت داخل المسرح لم تكن فى الحسبان ، واستطردت : ولكم كنت أتمنى أن أجلس معك أكثر من هذا ولولا أن الوقت أصبح متأخرا لما تركتك ، ولكن وعد منى إن شاء الله سنتقابل عن قريب ونشرب  معا القهوة التى عزمتك عليها . ولكنها لم تهم بالنـزول من السيارة ، ودار بيننا حديث بعد أن استبقت نفسها جالسة فى مكانها تطلعنى على بعض أسرارها ، رأيت فاهها ينطلق فى الحديث ويروى كل ماوعته ذاكرتها وكانت أحيانا أثناء حديثها تصمت برهة تسرح فيما تسرح ثم تعود لتستكمل حديثها وعلى طرف لسانها سؤال لايمكن أن يعرف إجابته إلا هى ، ربما كانت تريد استطلاع رأيى فيما تروى ، فكانت تسكت لتفاجئنى به ثم تجيب عليه وكأنها تريد أن تسمع الأخر الذى يؤكد لها أنها كانت على حق . سؤالها البسيط إجابته توجع القلب ، عن مجمل حياتها والتحولات الفجة والغريبة التى طرأت عليها والظروف التى واتتها على غير ماكانت تتمنى ، وصدماتها فى الناس بل أقرب الناس إليها ، هذا الشتات النفسى والعقلى جعلها فى حالة اضطراب دائم ، انعكس على صحتها النفسية والبدنية التى أصبحت مخترقة تماما ، جسدها لم يعد فى استطاعته الصمود فى مواجهة كل هذه النوائب حيث أخذ نصيبه الوافر من أمراض كثيرة نتيجة للحالة النفسية السيئة التى أصبحت متلازمة وملاصقة لحياتها . نظرت لى وصمتت ولكن فى هذه المرة طالت فى صمتها جالت فى عينيها بعض الدموع ثم قالت : إننى لا أعرف سر عذابى بعد ، لم أعرف لماذا قضيت عمرى كله شاردة العقل موجوعة القلب ، أبدو أحيانا كأنى مجنونة ، وأحيانا أبدو كأنى عاقلة وكنت أسأل نفسى دائما فى فترات جنونى : لماذا أنا جننت وأسأل نفسى فى فترات تعقلى لماذا أنا عاقلة فلا أدرى سببا لجنونى ولاتعقلى وعندما تخطيت سن الثلاثين تزوجت وعشت حياة بدايتها هادئة ولكن سرعان مادب الخلاف بيننا وإن كان الخلاف كأى خلاف تعيشه البيوت وتستطيع السيطرة عليه إلا أن تدخل الأهل وخاصة أمه وأخوته فى أدق تفاصيل حياتنا جعلنا ننفصل ، فانفصلت عنه وعشت أواجه الحياة وحدى مع ابنتى الوحيدة التى رزقت بها وسط هذه الأجواء المتلاطمة وكانت وقتها مازالت طفلة صغيرة .. وحاولت أن أواجه حياتى بكل مافيها من عواصف وأنواء ومنغصات كانت كثيرة ، حاولت وأنا لاأملك  إلا القليل من الصبر، مرت أيام كثيرة عصيبة وفترات أخرى هادئة ، وأخيرا فى فترة هدوئى أكتشفت سر عذابى ، أتدرى ماهو السر ؟ ! . سألت ثم أجابت وأنا لازلت أنظر إليها مبهوتا حتى أشفقت عليها من وجهها الذى اكفهر وازدرد، أرقب حديثها الذى بدت عليه العصبية والانفعال الشديد، كنت أريد أن تكف عن الحديث الذى يؤلمها وخاصة أنها واصلت حديثها بصوت محتد تملكه الشجن : السر أنى طول حياتى لم أملك شيئا حتى الصبر، وكان يخيل لى إنى أملك كل شيئ عندما كان والدى موجودا على قيد الحياة يحنو علينا ويملأ دنيتنا الصغيرة وحياتنا الرغدة بالسعادة والحب ، ولكن عندما فقدناه أصبحت أرى الحقيقة عارية وعرفت أننى لم أعد أملك شيئا .. لاأملك أبى الذى مات وذهب وتركنا ، لا أملك أمى فهى ملك مزاجها وميولها ومعتقداتها وتصرفاتها .. لاتريد أن تسمع إلا صوتها ولاتريد أن تستشير أحدا غير عقلها وكفى .. فهى ملك نفسها وإخوتها الذين تنكروا منها عندما مرضت وهى التى كانت تغدق عليهم بكل غال ونفيث ، ولا أملك زوجى فهو ملك أمه وإخوته . البيوت التى عشت فيها ليس من بينها بيت أملكه ، عشت طوال حياتى حياة غريبة فى هذه البيوت .. كنت دائما أجد نفسى مجرد ضيفة ، والانسان لايتحمل الشعور بالضيافة طول عمره ، لذلك كنت أهرب من هذا الشعور القاسى بالإنزواء والبعد ، وكلما عدت إلى نفسى أبكي .. كنت كثيرة البكاء .. أبكى الإنسانة التى صنعت جزءا كبيرا منها بنفسى ، وعشت أسيرة ظروفى وكانت الأيام تتوالى وتنقضى ..أيام طويلة وأنا وحدى أفكر ولا أصل لشيئ ،  وعشت على ذاكرة خيالى الذى كانت تصنع لى ماكنت أحبه وأتمناه .. لذلك كنت دائمة الهروب .. الهروب حتى من مواجهة نفسى ، كنت أهرب باحثة عن شيئ أملكه ، وهنا يكمن سر عذابى ، ربما استرحت عندما اكتشفت سرى .. على الأقل عرفت طريقى فى الحياة ، عرفت أن لى ابنة تحتاج منى أن أوفر لها كل ماحرمت منه وستكون هى الدنيا التى أملكها . 


انهت كلامها وصمتت ، نظرت إليها بعين الحب وبعين الرحمة وجال بخاطرى  سؤال كيف وثقت بى لهذه الدرجة و ارتاحت لى فجأة  ؟! وكيف حكت لى ماحكته عن نفسها بهذه البساطة وهى ترانى لأول مرة ، وكأن بيننا معرفة قديمة، ولكن عدت لأتذكر كيف كان حكمى على الناس من أول نظرة ، وكيف كان انطباعى فيما مضى  والنظر باستخفاف على أساس إنه غالبا مايكون متعجلا ، وأن الغوص فى أعماق الآخرين ومعرفتهم أمر فى غاية الصعوبة ، ولكن لم أفطن بعد إلا فى سن متقدمة أن الله جعل فى قلوبنا شيئا قد لاندركه ، إنها الرؤية الشفافة التى ترى الآخر فتقبله أوترفضه ، تحبه أو تكرهه ، ترتاح إليه أو لاترتاح ، إنها ممارسة طبيعية تدرك بالغريزة صحتها حتى ولو كان هذا الآخر "شخصية باطنية" تتوارى وراء أقنعة ، فدائما تجد مظهره الخارجى فى النهاية يدل عليه ، مظهرك هو أنت ظاهريا وباطنيا ، محصلة لمعالم شخصيتك ، ثيابك .. صوتك .. نظرتك .. لغتك .. مشيتك .. دموعك .. ابتساماتك ، كل هذا يتجمع فى شيئ واحد يراه الآخر ويتخذ منك موقفه سواء بالقبول أو بالرفض ، وموقفه هذا محصلة نفسية اجتماعية بيئية فهو يراك بعيون أحلامه وخيالاته وعقده وأهوائه ، فهذا الإنطباع قلما يكون مخطئا ، من هنا عرفت وايقنت مع نفسى أن المرء يستطيع أن يكتشف وبكل بساطة نقاء القلوب الطيبة ويرى الهالات التى تدور بها وحولها حتى ولو حجبت وراء الأستار لأن الطبيعة الشفافة والقلوب النقية لايمكن أن تضلل وتكذب أبدا ولايعلق بها  شوائب الدنيا وحقارة النفس ، إذن ليس من الصعب أن تكتشف وبكل سهولة أن وراء هذا الارتياح روحا طيبة وقلبانقيا ووجها جميلا يحمل ملامحه بشاشة وحب . 



كنت أتابعها باهتمام  ورأيت فيما رأيت أن أسرارها كثيرة لم أكن أتصور أبدا أنها فى حوزتها ، نقلتنى فجأة إلى عوالم أخرى ورحت من خلال الكلام الضبابى الذى غشى عينى أتطلع إلى وجهها الذى أضنته الدنيا ونال منه الكثير رغم أنه لازال يحمل جمالا ساحرا ، ولازالت أنوثتها دافئة ، تعاطفت معها ومع مشاكلها حتى أظلمت الدنيا فى عينى وهرب سريعا ذلك الإنسان الذى بداخلى لايرى إلا الأمل ويشق ضباب الليالى ببصيص من النور ، وبقيت وحدى حائرا أسأل نفسى أسئلة كثيرة فلا أظفر بجواب واحد ، وضايقنى هذا جدا حتى شعرت هى بذلك فباغتتنى : فيم تفكر ، فقلت لها أفكر فيما أنت عليه ، كيف لنفس أن تشقى من الحقيقة وتحاول كرا وفرا أن تهرب منها و الناس لايشعرون بذلك ولايهمهم أن يعرفوا هذه الحقيقة ولايرون فيك غير الفنانةفقط .. المغنية التى تسعدهم وتنعش خيالهم وتصوروا أنك تعيشين فيه وتتمرغين فى لفائفه ، ولم يروا أن حياتك لم تكن على غير ماتبدو لهم ، فلا أحد يدرى أن حياتك التى تعيشنها  مأساوية إلى هذا الحد حتى أقرب الأقربين لك ، ورغم ذلك تتحاملين على نفسك لترسمى البسمة على وجوههم بينما قلبك يعتصر من الألم والأحزان ، انهم لايسمعون شيئا عن حياتك ولايرون الدموع التى تملأ عينيك ولايسمعون الآهات التى تئز صدرك . ثم نظرت لى بكل غبطة وحنان وقد اغرورقت عينيها بالدموع ، ظلت جاهدة أن تجففها وتخفيها ثم قالت لى فى محاولة لتغيير دفة الحديث : مش هتورينى صورتى بقى ولا إيه . ولم تمهلنى فرصة أن أحضرها لها ، مدت يدها للكرسى الخلفى وانتزعت الصورة من غلافها ، فإذا بنور يشع من عينيها من جديد بدد دموعها وهى ترى وجهها المرسوم يتألق بهاء وصفاء والذى انسدلت عليه غلائل الشعر الفاحم فكادت تغرقه فى بحر من الظلام الدامس لولا الشعاع المنبثق من نور العينين الذى اقتحم الظلام وكشف عن إشراقة ابتسامة رقيقة . نظرت لصورتها مشدوهة وهى ترى نفسها مرسومة ، ولما تأملتها طويلا ووقفت على خطوطها ومعالمها نظرت إلى ممتنة وشكرتنى بعد أن أولتنى ابتسامة رقيقة وأغدقت على ماتملك من حنان وعطف ، ثم تركتنى بعد أن ودعتنى وضغطت على يدى ،  كنت حريصا أن أنظر فى عينيها فبدت منهما نظرة غريبة فيها استسلام وانتظار  ، ورأيت أجفانها تنطبقان ببطء وكأنها ذاهبة إلى حلم أو غيبوبة  ،  ثم همت بالنـزول من السيارة حتى غابت وسط الناس بعدها اكتسى الظلام المكان ، وافترقنا بعد حديث ذى شجون ، ولكن الفرقة كانت إلى موعد أخر ولقاء سيحدد فيما بعد  .  أدرت مفتاح سيارتى وتحركت بها فى اتجاه العودة ودار فى ذهنى مادار وأخذتنى الأفكار وغادرت المكان ورحت أحلق بروحى التى سمت إلى عنان السماء أجوبها على جناحى طائر جريح يطير بلا اتجاه ، لقد أحسست والدم قد غاض من وجهى وتدهورت أنفاسى  كلما تذكرت حديثها المنكسر الحزين  . 

وعلى هذا قضيت ليلة طويلة مسهدة لم اتنبه إلى طولها ، ولاأعرف كيف قضيتها حيث رحت فى دوامة من الفكر ، كيف لهذه النفسية المعذبة المقهورة أن تجلى عن نفسها كل هذه الأحزان حينما تنقل مشاعرها للأخرين .. عندما تغنى .. وكيف للغناء أن يذهب عنها الروع والإحساس بالألم وهى تشدو  مرتسمة الابتسامات التى لم تكن حقيقية ، إنه قدر الفنان الصادق الذى يستمد فنه من معاناته ويتغلب عليه به . ولأن الفن الحقيقى هو فى تلك  القدرة عند نقل  المشاعر  إلى الأخرين ، فإن الفنان الحقيقى أيضا هو من يستطيع تجاوز أحزانه ويفصل احساسه عنها كلما واجه الجمهور .. إنها القدرة على الفصل و القدرة على المواجهة ، وهذا يؤكد أن ملكات الفنان لاتتوقف على موهبته فقط ، بل هناك ملكات أخرى حسية ومعنوية تحركها تلك الموهبة الصادقة والتى يتغلب بها على معاناته ، لذلك وجدت فى نظرة  عينيها وهى تودعنى .. نظرة حنونة مضيئة بضياء غريب رأيته وكأنما يشع من حولها نورا فيه غموض رغم وضوح رؤيته ، حتى بدا فى عينى كهالات  تومض ثم تتلاشى ، أدهشى وجعلنى أسرح بعيدا وبداخلى شعور أن احتويها بروحى .. أمنا وسلامة و حماية ، فما حكته كان كفيلا بأن يدمر حياة أى إنسان ، مواقفها الصعبة فى كل الأحداث  التى مرت بحياتها رغم قسوتها وجسارتها إلا أنهالم تعصف بها ، فأحسست بأننى أمام نوع من البشر فائق القدرة على التصدى ولديه قوة فى المواجهة ، مهما كانت عواكس الدهر الكثيرة التى ناءت بها وفرضت نفسها على حياتها بقوة منذ الصغر ، جعلت طبيعة شخصيتها فولاذية المعدن أنها لو اصطدمت بالصخر كل يوم لن يؤثر فيها ، كل ذلك أعطتها القدرة على أن تمسح جراحها بنفسها لتضمن البقاء والاستمرار  ليس من أجل ذاتها بل لفنها وللذين كتب الله لهم أن يكونوا فى حياتها ، فأنت أمام نموذج فريد لفنان يعانى .. معاناة ليست إبداعية فقط للإنشغال بطرح مفردات الإرتقاء بالفن الجيد والتحفيز على نزع الآهات التى تحمله نبرات صوتها الشاجى ، ولكن لمعاناتها من الحياة ومن الناس أيضا ، لذلك عرفت معنى الخوف .. الخوف من الليل ، ومن الناس ، ثم من أقرب الناس .. الخوف من الزمن .. ومن المرض .. وأخيرا من الوسوسة .

من خالص تحياتى : عصام                 

القاهرة في : أكتوبر عام 2023