music

السبت، 24 يناير 2015

وفاء إيزيس وعودة هاميس ( الجزء السادس )



كانت ليالى هاميس معى كلها ساحرة .. تبدو فيها مستسلمة لأحلامها الوثيرة ، وكان يومها تائها من الزمن .. تبحث فيه عن سعادة لم تبلغها بعد ، ولكنها جاهدة تحاول أن تبثها فى كوامن نفسها البائسة ، كانت تلجأ إلى محاكاتها حين يهيج بداخلها أريج شجون الماضى التليد وزخم الحاضر المعلقة عليه كل آمالها ، فتزدحم صور الماضى بالحاضر ، وتضطرب نفسها من الهوة الفسيحة لتعاقب الأجيال بطفراتها العديدة التى جرت على الحياة بحلوها ومرها والتى لم تستوعبه بعد ، فيسلبها قدرتها على التحمل وطاقتها على فراق دنيتها الجديدة الساحرة التى طالما تمنتها وتاقت عيونها إليها . آه لو كنت أعرف لغة الطير مثل سليمان الملك .. لجعلت كل الطيور تصطف صفين لتمضى بينهما مصغية لتغريدها أعذب الألحان .. أه لو كنت أملك سحر إيزيس أسطورة الحب الخالد ، لغدوت بأجمل زهور الدنيا ونثرتها على مملكتها الممتدة فوق سطوح السحاب .. وعلى عروش الماء .. وفوق بساط الأرض ، أه لو كان الأمر بيدى ، لكنت ملكت الدنيا وأشعت فيها الأمن والأمان ، ولجعلت الحب والحنان والدفء والوصال عنوانها وأودعتها قلبها .. ولملأت إحساسها بالنشوة والسعادة غمرا واستحوذتها ، ولأوجدت معانى جديدة منتشية بنسمات الربيع ، تنساب برقة عبيرالزهور النابتة على حوافى جداول ماء الغدير برائحتها الذكية العاطرة ، جوا تتغنى له طيور الحب وكل البشر التى تملك حواسا مرهفة .. من المؤكد أنها ستحبه أكثر مما كانت تحلم به وأكبر من معاناتها . ياله من خيال ربما أسرفت فيه ، ولكنه فى الحب أؤمن بقوته وجبروته وسلطانه ، بل وسطوته وقدرته على خلق المستحيل ، لأنه فى لحظة يحيلنا إلى دنيا تملؤها السعادة والغبطة السرور ، فإن لم يكن هذا هو الحب ؟ فمن أين ستأتى هذه السعادة ، وأى فرح نجده فيما سواه .                                                                      




وقت الأصيل هو الوقت الذى كانت هاميس تفضله وتحبه .. عندما يبدأ اللون الأزرق فى الإنحسار والغيوم الناعمة إلى الزوال ، تتخذ الشمس بوداعة منسربها الغارب إلى مخدعها فى النصف الأخر من العالم ، ململمة أطراف أشعتها النحاسية برفق، تاركة حواشيها الحُمر تنحدر برقة نحو المغيب رويدا رويدا لتطفئ حرارتها فى الماء المنساب فى مجرى النيل ، كأنها تستحى من تدفق نسمات الليل التى حان وقت هبوبها . تظل هاميس ساهمة وهى تنظر بشغف هذا المشهد الرائع من الفراغ الشفقى مترامى الأطراف لتسرح مع أطيافه الصامتة وهى تميل نحو الغروب ، لاهثة فى ملاحقة بصماته المودعة على الأشجار والأبنية الرابضة فى أرجاء المكان ، متمتعة فى تأمل هبوطها تباعا وراء الأفق ، أما أنا فكنت أنشغل برؤية انعكاس المتبقيات من شعاع الشمس المتوارية على جنبات وجهها وأطرب بلونه الشفقى الجميل الذى يحلو لى أن أراه منطبعا على استدارته وتورده ، حيث يتطاول الشفق وينظر بجرأة إليه فتتجاوب تفاصيله إلى حمرة خجل وإعجاب فتتبسم . ثم تعود فترد الطرف ضاحكة فى استغراب وحسرة من لهوث النهر وراء البقية المتبقية من الضوء الباهت المنفرط فى تسلل ووداعة من بين البنايات الشاهقة ، كأنه يستجديه ، فقد كان فى الأزل يفرض سطوته وسلطانه منفردا على هذا الضياء فيملكه ويستشرف أفاقه فيحكمه ، أما الأن أصبح وكأنه يتوارى ويستكين لقيود هذه البنايات قهرا ، فأضاعت عليه مهابته وحدت من انطلاقاته الفسيحة ، وجعلته يستتر خلفها خجلا واشتياقا للأيام الخوالى التى لم يبق له منها سوى انشغاله بأشرعة المراكب المارة فى مجراه ، مما كانت تعجب له هاميس وتبدو وكأنها تناجيه وتستنهض تاريخه الحافل حتى تفرغ فيه اشتياقها ، فيتلألأ  ويترقرق ماؤه ويصفو ، وكأنه يقرأ ماتريده فيستجيب ويطلق نسماته لأعلى حتى يمتد عبابه عنان السماء ليلامس إنطلاقات أسراب العصافير ، الحافلة بالفوضى المنظمة ، و المنكسة أجنحتها عازمة على الهجرة المؤقتة ، تاركة صدر السماء لليل كى يرخى عليه سدوله ، ويخيم على الكون وجوده . ومهما كان تباين احساس هاميس إلا أننى كنت أراها تضفى بظلالها سحرا مابعده سحر، على خلفية رؤية النيل وقت الزوال ، خلفية تناسب وجود ملكة النهر ومسراه ، رؤية تقصر الانظار أن تحتويه وتعجز الأستار أن تخفيه . لذلك كنت أسأل نفسى متعجبا ، هل هاميس ترى المكان مكفهرا وموحشا بالقدر الذى شعرت به أول مرة ؟ وهل كانت الوحشة التى اصدمتها فى النهر تسرح فى ممرات الليل المليئة بالصخب المتجاوز حدوده ، أم من صفحات الماء التى باتت تئن وبدا عليها الضعف والهوان ، أم من تلاحق الأجيال وغربة الأيام وتغير الزمان ؟ والحق أننى لم أمهل نفسى وقتا طويلا حيث أفضت إلى أن حبها للنيل كان كبيرا منذ الأزل وسيبقى ، وأن الذى يحب لايعرف معنى الكراهية ، ولامكان للوحشة فى وجدانه ، وأن صدمتها فيه إنما جاءت رثاء للحالة التى وصل إليها فى زمننا الذى حط من شأنه ونال منه الكثير ، دون أوج العظمة إبان عصرالحضارة المصرية القديمة ، عندما كانت أرض المعمورة من الوادى الفسيح تخضع لسلطانه وحده دون منازع ، فعندما كان يخرج بين ضفتيه للوجود ويطل على الدنيا يختال فخورا فى عزة وإباء بنمائه وعطاءاته الوفيرة فيفيض فيضانه استعلاء واستكبارا . ياله من زمن ، كان للنهر فيه سطوة وجبروت ، حتى ترك للتاريخ ميراثا ضخما من الحضارة والمدنية لم يعرف العالم مثلها حتى الأن .





 إن جمال وقت الأصيل كان يستهوى هاميس ويعوضها عن فقدان الحنين لحياة النماء والفخر والرخاء ، والظل الظليل من لفح الزمان وهجيره ، فكلما لاح لها معايشة وقته تجد فيه السلوى والسكينة ، وتصفو نفسها وتشعر بالرضا . كنا نذهب إلى حافة النيل معا كلما هزنا الشوق ، ونسعى إليه كلما سبقتنا قلوبنا للجلوس على شاطئه كى نتأمل هذا المشهد الرائع حتى تحتجب الشمس وتتوارى وراء الأفق ، وأحيانا كانت لاتكتفى بالجلوس ، بل كانت تهم من جلستها وتستنهضنى من ذراعى وتأبطه دون استئذان وتسير بجانبى منتشية تتهادى ، كنا نسير معا على شاطئ النيل بخطوات متأنية فى انتظار بزوغ القمر لأعلاه ، حتى يرسل نوره على النيل ، فيحيل صفحته إلى بساط من فضة يبرق لمعانه بشعاع نورانى يتماوج يمينا ويسارا على صدر فاتنة النيل ومحبوبته ، كان أكثرماكان يطربنى قبلات القمر الذى يطبعها بمهارة فائقة على أماكن البروز فى جسدها المياد الممشوق ، المشبوب بحرارة ، والوجه الضحوك ، البشوش بسماحة فيتناجيان ، فقلت لها : أه لو أن يد فنان نقل هذا الجمال ورسمه على لوحة ، لقدم للإنسانية أعظم أعماله للكون ، نظرت إلى بوجهها الفاتن وجمالها المتألق الذى كان يبهرنى واستلقت ضاحكة تخلص بأناملها خصلة شعر رفت على جبينها قائلة : هل يوجد أحد فى الدنيا يرسمنى غيرك ؟  وغمرتنى الفرحة من ثقتها فى قدراتى ، وقبولها أن أرسمها بيدى . يالها من سعادة تستروح قلبى وتنيره ، ويستشعرها فؤادى وتبعث فى كوامنه المعنى الحقيقى للجمال وفتنة الأنوثة وصخب الشباب ، كى تفيض على جوارحى حرارة الحب المتدفقة كل الوقت وطول العمر ، فيعم الهناء المقيم حياتى فلا أنساها ، إنها مخلوقة رقيقة يجب ألا يخلو الكون من وجودها ، حتى أحس بأفضل وأجمل وأرق وأعمق ما فيه . كانت يسرنى ويستهوينى أن أغافلها بين الحين والحين وأقطع عليها خلوتها النفسية التى تطوق به نفسها ، فألف ذراعى حول خصرها الدقيق ، قابضا على أناملها الرقيقة التى تتركها طواعية لأضمها ليدى ، ثم أضمها لأحضانى الدافئة متعانقين فتستسلم فى خضوع تام ، تسبقنا دقات قلوبنا لرحلة السعادة .. لدنيا الحب .. لأمسيات وليالى هادئة تغمرنا فيها المحبة ، وتأسرنا السعادة بكل لحظة تمرعلينا ، ننسى فيها الدنيا والناس .




كانت هاميس كل ليلة تتفنن فى ارتداء ملابسها العصرية التى اشتريتها لها ، كانت تجسد بها حلما يحمل أجمل ملامح أنثوية عرفتها فى حياتى ، فكانت تختال بها تيها ليس أمامى فحسب وإنما أمام كل من يصادفنا ، ولكنها تختال أكثر أمام صويحباتى كلهن ، قاصدة بأن تمتلئ أعينهن بالحسرة والغيرة . تنام قريرة العين بعد ان تتلقى أولى نسمات الفجر بإطلالته الزاهية الرائعة . تضع رأسها على وسادتها فى الغرفة المقابلة لغرفتى بعد أن تتأكد أننى نمت ورحت فى ثُبات عميق ، وما أن يلبث جفناها فى الالتقاء حتى تصحو فجأة مغادرة سريرها بكل حذر خشية أن توقظنى من نومى فتقلق راحتى ، وبعد أن تغتسل وتصلح ماأفسده النوم من زينتها تعد لى طعام الإفطار ، ثم تعود إلى غرفتى وعلى سريرى بكل رفق وحنان تلمس يدى وتنفخ فى وجهى كهبات النسيم وتطبع قبلة على جبينى .. قبلة الصباح الصامتة ثم تنادينى فى همس ملئ بالرقة والحنان : عصام قم أنا حبيبتك هاميس مالكة قلبك وحاضرك وماضيك .. قم ياأعز الناس وأجملهم وأرقهم .. قم يامن منحتنى السعادة والحب ، وتظل تردد أجمل احاسيسها التى تمنحها لى بسخاء ، حتى استيقظ من نومى لأجد مائدة الإفطار معدة على إحدى جانبى السرير ، ثم تبدأ فى إطعامى بيدها ويبدو وجهها بابتسامته الشفافة المشرقة لاتغادرها .. متطلعة إلى عينى ببشاشة وعمق لكى تسبر أغوارها وتترجم الكلمات الصامتة التى تنطق بها دوما .. فأجد كلمات أعرفها جيدا من نظرات الشوق الملح التى تكاد أن تلتهمنى بها ، نظرات تفيض بالحب والحنان والعطف تملؤها سعادة وغبطة عندما تحس بما لايدعو للشك إنها حقا تملأ كل فراغ فى قلبى وحياتى . كنت أذهب لعملى بعد أن تستودعنى بقبلاتها متمنية أن يمر الوقت سريعا حتى أعود إليها ، كانت تقضى وقت الضحى فى استرخاء على الكرسى الهزاز فى الشرفة تقرأ مايعن لها من الصحف والمجلات المتاحة ، وحينما يأتى وقت الظهيرة تبدأ فى إعداد طعام الغذاء ، كانت تتفنن فى صنع أطعمة لم أذقها من قبل .. أطعمة مصرية صميمة ، وكانت تجيد طهى الاسماك ، وكان للثوم مكانة فى أكلاتها والبصل التى قالت عنه أنه قاهر الموت والخس غذاء الملوك ، كنت أتقبل طعمها وخاصة الخبز والفطائرالذى كانت تصنع منها أربعين صنفاً من دقيق القمح والشعير ، مع إضافة العسل والسمن والزبد والفاكهة ، كانت فى كل مرة تصنع لى نوعا مختلفا عن سابقه من أنواع الخبز: وخاصة قرص القرابين الابيض ، أكلت كل ماصنعته يداها كأنه شهد . كانت حينما تفرغ من إعدادها لطعام الغذاء تبدل ملابسها بأخرى وتتزين منتظرة لحظة وصولى ، حتى إذا تأكدت من وصولى ، تفرج عن أساريرها بشاشة الفرحة التى تطل من وجنتيها متمنية أن أخطف زهرة من رياضها الزاهرة ، فالتقم قبلة أشعر منها بقشعريرة تسرى فى عروقى . أتسلق قلبها من خلالها برهة حتى أقتات كل اللحظات المختزلة الحنونة فى حياتها .. القريبة والبعيدة ، بعدها تفيق من غيبوبتها اللذيذة أجدها هائمة .. سارحة وقد تبعثرت أمانيها المتعطشة لدفء الحب فوق صدرى لتسألنى : حبيبى جئت منذ متى ؟ تسأل وكأنها لاتدرى ماتقول ، ولاتنتظر إجابة .. اسكرتها لهفة اللقاء وحنيته ، إنها تبحث عن كيانها المختبئ وسط حقول صدرى ، أطياف جميلة تتعانق .. هالات من عالم الأحلام تتمازج .. إنها ملحمة الحب والعذاب ، أنتبه لأرد على سؤالها الشارد : متى ذهبت حتى أعود ياهاميس ، إننى لم أغادرك .. لم ابرحك لحظة واحدة بعد ، لقد كنت معى فى كل خطواتى ، كنت أجدك كامنة فى وجوه الناس .. كل سيدات العالم عندى هو أنت . وسادت لحظة كان سهم النظرات فيها عميقا وصامتا ، تسللنا بعدها بهدوء ، أنا ذهبت لتبديل ملابسى وهى إلى غرفة المعيشة كى تجهز الطعام الذى حان وقته . وبعد تناولنا لطعام الغذاء كنا نتلاهى ببعض من الوقت فى أحاديث جميلة ونكات خفيفة ، لكننا أحيانا كنا نشرع فى الخروج ، وعند خروجنا كنا لا نقصد إلا مرفأنا على ضفاف النيل . كانت تريد حينما نخرج للشارع أن تنطلق كما كانت تنطلق فى الوادى الفسيح أو تغوص فى أغوار الماء ، ولكنها لم تجد متعتها فى تحقيق ماكانت تريده ، لانها لم تتعلم بعد كيفية العيش فى بقعة ضيقة من الأرض .. ولا كيفية المشى فى الطرقات والتنقل بين السيارات ومعنى الوقوف عند علامات المرور، كانت عندما تسير فى الشارع تراه ضيقا ، ويزداد ضيقا كلما توغلت فيه سيرا إلى الأمام . حياة لاتألفها ولاتعرفها ، كل ماتعرفه أنها أقامت مجدها كله فى ماء النيل .. على عرش وروده ونسماته ، فإذا خرجت منه .. تعثرت وأحست بالغربة ، لذا كانت دائما تشعر بغربة من نفسها ومن ماضيها البعيد وحاضرها التى لاترى فيه غيرى .  كانت تتعجب من الناس التى تراهم حولنا ، من عالمهم الغريب ، لذا كانت دائمة السؤال لماذا لايكون عالمكم مثل عالمنا .







ربما هذا الإحساس جعلها فى كثير من الأحيان تفضل عدم الخروج من المنزل حيث كانت تخلق لنا عالما رحبا من خيالها الخصب بعد أن تستأذننى للحظات تغيب فيها برهة ثم تعود وعلى رأسها تاج زاهى الألوان على هيئة زهرة اللوتس ، مرتدية ثيابا فرعونية مثيرة ، لم أر أحكم منه فى إبراز مفاتن جسدها والكشف عن كنوزه الغالية ، استطاعت به وبهيئتها أن تستلب عقلى وتلهو بعينى التى تتعلق بها كلما حاولت أن تقدم لى بسخاء بعض الحركات الراقصة والتموجات المثيرة التى كانت تملأ بها المكان عبيرا وعطرا كالشذى ، وأميس إعجابا كلما راح جسدها يلتف ويتلوى تحت ثياب تركت طرفه الأيمن مفتوحا من بعد خصرها لأسفل متعمدة ، كى ينحسر عن فخذ رقت بشرتها ، ملفوفة ناصعة البياض كشفت عن تبلورها واكتنازها كل مكنونات الفتنة ، صدرها العريض فخور بتكعب الثدى ، واله بتوأميه ، متشوق دائما للظهور، يعلو ويهبط  .. ينفر ويروح ، وكأنه يخرج على الوجود وقد أخذته العزة بالجمال ، فأطل على الدنيا بهاتين التفاحتين الجميلتين اللتان نضجتا فبرزتا بسحرهما وحان وقت قطافهما ، وذراعان يتموجان .. ينضمان وينفرجان بحركات مدروسة مع الرأس ، وظهر مياد يذهب ويجيئ بتموجات حتى تحس من تمام لياقته أنه يكاد يلامس الأرض ، وبطن مضمورة فى حالة ارتعاش دائم ، و خصردقيق يتبختر يكاد أن ينخلع شمالا ويمينا من شدة تمايله على الايقاعات الصاخبة ، ورشاقة قدميها المفضيين عن دقة حركات ساقيها فيغدوان ويروحان فى حيرة فلا تكاد تراهما حتى يختفيان ، وكأن شيئا ما يشبه النور يبرق فجأة ثم يخبو ليعطى إشارة لسحر أخر قادم ، فأرى ردفها وهو يترنح ببروز دقيق من تحت ثوبها المُحكم فى فتنة وإغراء ، وكأنه طير باسط جناحيه مترنحا جاء مستعرضا يناغى ألوانه المثيرة ويداعبه فى الخفاء . حتى إذا ثملت من الرقص تنهيه وتلقى بجسدها إلى جوارى مترنحة من النشوى ، كنت أتابعها شغوفا مشدوها لايختلج لى طرف ولايرف لى هدب ، حتى تُجهد نفسى وتتعب من كثرة السرور ، ومن إغداقها المثير الذى إن طال مداه  لم اتحمله. كنت أحس بأن الحنين يشدّها إلى الحفلات الملكية وترف القصور ومهابة المعابد ، حيث كانت عذوبة العيش ورغده . فإذا مااستردت أنفاسها واستراحت استشاطت بها الذاكرة وتجود فتتذكر أجمل ذكرياتها على خلفية جو المكان ، وتجوس فى حديثها بإفاضة عن ليلة زفافها للنيل وكيف رقصت فى هذه الليلة وماقدمته من قرابين على صوت الموسيقى المعبدية الصاخبة فى وصلات راقصة مثيرة ، وكيف كان هذا اليوم هو الأفضل والأشهر على مدى تاريخها الطويل ، حيث صالت وجالت وقدمت فيه أجمل ماعندها . ثم تعود وتنظر لى فى حيرة وشغف كأنها تذكرت شيئا مهما فجأة ، فتنهض من مكانها مسرعة وتعدل من هيئتها وتمد لى كلتا يديها متلقفة يدى بينهما قائلة لى : فلتأت معى الأن كى نرتد إلى الزمن الماضى حتى نعيش فيه معا ، قد تبدو فيه غريبا ولكنك ستشعر بى أكثر .. وستجد نفسك أفضل .. تعال لنغمض أعيننا عن عالمك هذا . ثم تغض الطرف  وتغمض عينيها اللامعتين الراقدتين تحت جفون أهدابها الطويلة فى دعة ، وتفتحهما لتتنقل بنظراتها مابين الطبيعة الحالمة وبينى ، فإذا ماالتقت بعينى فى نظرة عابرة مسترقة ، تجدنى أنظر إليها خلسة وتحس بأننى أتأملها فى صمت فتخجل ، ولكن سرعان ماتتلألأ عيناها من فرحة ممزوجة بدهشة الحنين فيهما نظرة ظمآى وإشراقة محمومة ، فتسحبانى للشفاتين المكتنزتين اللتان تسيلان بحمرة طاغية ، فتلتهم شفتاى وتجعلهما ملتسعتين دائما بلهيب غامض ، كأنهما واجها طوفانا هادرا يجتاح كل ما يصادفه ، أو صاعقة من السماء لمستهما فأحترقتا ، ثم تستجمع جسدها الذى يلهبه نار قلبها المتدفق وتبثه لأطرافها دما حارا وتلقيه فى جسدى ، وأتبادل معها حديثا دون كلام تطالعنى فيه كنوارة الزهرة عندما تغمرها أنفاس الربيع فتتفتح ، إنه عالم من السحر الخفى أحالنى معها  لعالم فيه كل مايبهجنى ، نسكت فيه عن الكلام ويلفنا رداء السكون الوردى الذى راح فيه الفضاء يدوى بترانيم المساء ، نتراقص على أنغامها كما يحلو لنا بين العروش الخضر القائمة وسط خميلة مضوعة مسكا ، ويرنو القمر إلينا من بعيد فى شغف مطلا عبرظلال الأغصان المتراقصة على أنغام النسمات الصيفية الرقيقة لشجرة الكافورالقائمة أمام الشرفة ، فتداعب أوراقها برقة وعذوبة متناهية ، حتى يغمرنا ضياؤه عبر بصيص الضوء المتسلل على أرض الحجرة . يالها من طبيعة هى وحدها التى تستطيع أن تستشعر قيمة الحب وتتفاعل معه كى يغمرنا نعيمه غمرا ، ويملأ المكان حولنا ، بل دنيانا كلها عشقا وأملا , إنه العالم الجديد الأخر الذى أخذتى إليه ، لم أكن اعرفه من قبل ، ولا أظن اننى سأعرفه من بعد ، عالم بالغ الجمال لايُرى إلا فى الأحلام فقط ، تتصل فيه أرواحنا بشفافية مطلقة ، وتُذاب فيه القلوب نورا ، وتهتز فيه الأفئدة شوقا ، وتقدم فيه الطبيعة أبهى ماعندها .

       وإلى اللقاء فى الجزء السابع

                                                                                              مع خالص تحياتى : عصـــام القاهرة فى يناير 2015