music

الاثنين، 8 يونيو 2015

وفاء إيزيس .. وعودة هاميس ( الجزء الثامن )



لكل شيئ إذا ماتم واكتمل .. نقصان ، ولكل شعور بوقت السعادة قليل .. مهما طال ، ووهج الحب لن يستغرق عمرا ،  حتى ولو امتد به زمن الوصال ، هكذا حال الدنيا ، نلتقى لنفترق .. تقربنا الأيام وتباعدنا .. نعيش من العمر لحظات جميلة ثم تجرى على مسارها أيام الشقاء والتعاسة ، ياله من زمن ، نعيش فيه ليس وفق أهوائنا وأحلامنا ولكن وفق مايأتى به القدر وتصرفات الأخرين . ومن قمة النشوى وأوج السعادة إلى النهاية الحتمية المؤلمة التى جاءت سريعة ومبكرة ومعها انطفأت الأحلام .. كل الأحلام .


نسج الفجر أول خيوطه الخافتة على النافذة بعد ليلة حزينة شهدتها هاميس وحدها، أخذت تعد فيها عدتها للترحال الطويل البعيد ، كانت صورتها تبدو فى أوج جمالها بقوامها الممشوق وعينيها الواسعتين .. ارتدت ملابسها الفرعونية التى جاءت بها أول مرة ، ملامحها كانت تتسم بالجمود والعبث ، كانت تعى كم سيؤلمنى مغادرتها المفاجئة التى ستأكل طعم الراحة فى حياتى .. كانت متوجسة .. ترقب عقارب الساعة فى صراع الدقائق والثوانى ، أصبح الوقت عندها مكبلا باللحظات الفارقة ، فالوقت لم ولن يمهلها كثيرا حتى تفكر كيفية الخلاص بل ستمضى مرغمة ، لاحيلة لها فى الاختيار ، فهى كانت تريد أن تعيش وتحب ، وهم أرادوا لها ماكانت تخشاه وتتوجس منه كثيرا حينما تركتهم وهربت إلى عالم لم تألفه بعد ، ولكنها أحبته من أجلى .. من أجل الحب وسطوته ، فقرروا لها شيئا أخر ، وأد الحب ودفنه ليس بمراسم ملكية كهنوتية فى المعبد الكبير كالجنائز الزاخرة بالمحافل المهيبة ، ولكن بنثر رفاته فى الفضاء الفسيح ، كفقاعات هلامية لاترى ولايشعر بها أحد ، كأن شيئا لم يكن .. حلم ومضى . بكت طويلا واضطربت اضطرابا شديدا حتى بلغت باب غرفتى ، مدت أناملها وفتحت الباب فى حذر ، ثم انسرقت كالنسيم متسللة للداخل ، كانت تسير على أطراف أصابعها حتى لاتحدث أية جلبة أو ضجيجا .. حتى اقتربت منى وراحت تنظر لى بلهفة وأنا مستلقى على سريرى أسبح فى نومى العميق ، وكأنها ترانى لأول مرة ، تقدمت منى خطوة وهى فى حالة ارتباك شديد ، ثم تجاوزتنى بخطوات نحو المرآة ، وقفت تنظر إلى نفسها وأرسلت نفسا مزموما كأنه زفرة الموت ، ثم التفتت وجاثت بنظراتها أرجاء المكان الذى شهد أجمل أيام حياتنا ، أخذته مسحا ، ثم عادت وحطت كالعصفورة بجانبى على حافة السرير ، وعاودت النظر لى مرة أخرى ، بنظرة الوداع ، حدقت فى وجهى الذاهب فى سباته العميق وراحت تلمس براحة يدها على شعرى ثم انحنت وعانقتنى .. قبتلنى ، قبلة حب طويلة ، ثم سخت عيونها بدموع هاطلة  طالت بها خدودى. 



كانت قبلتها هى الأخيرة .. قبلة الوداع ، وقالت فى صوت مسموع : أجل سأشتاق إليك كثيرا كلهفتى على وضع رأسى على وسادتك الأن ، اتدفأ على أنفاسك ، وأبكى على صدرك مصيرى المحتوم ، إننى أريد أن أبكى حتى بزوغ الشمس لتملأ مدامعى حدائق قلبك كى ترتوى وتعيش وأترك لك فيها ذكرى .. زهور الحزن ، ولكن حتى هذا لاأملكه لك الأن ياحبيب العمر .. أصبحت لاأملك شيئا ، أزف الوقت ونفد رصيد العمر ، وسأتركك وحيدا ، إننى مرغمة ومكرهة وأعلم كم ستعانى من بعدى ؟ ، أعلم إنك ستجمع الجراح على الجراح ، وستسدل ستارة الأحزان حكايتنا ، ليتك تعلم أن الأمر ليس بيدى ، وإلا ماكنت تركتك طرفة عين أبدا . ياترى هل ستظل صورة حبيبتك هاميس فى قلبك مثلما كانت أمس واليوم ، هل ستلاحق طيفى أم صورتى ستفارق خيالك وتنسانى ويغادر حبنا قلبك وعقلك ، إننى أريد أن ألقى نفسى فى حضنك الأن وأنت نائم أمامى وديعا .. جميلا ، ثم أغمض عينى عليك وأذوب فيك شيئا فشيئ ، حتى أتلاشى فيك.. أسكن خلاياك.. أكمن فى شرايينك .. أجرى فى دمك لتظل تعيش بأنفاسى وفى قلبك نبضاتى ولاترى عيونك من نساء الدنيا إلا جمالى .  واصلت هاميس فى تتابع نظراتها الساهمة بصمت ترقب أنفاسى هبوطا وصعودا ، مشغولة البال تستعرض كل مشاهد حبنا الكبير الذى بدأ يتسرب من أمامها ، كمن يرقب خفوت شمس عائدة بلا حيلة .. غاطسة في الماء بلا مقاومة .. تتمزق على لجته فيغسلها حد التلاشى . فغدا سيحل جدار الأسى حائلا لبقايا قلوب عاشت وأحبت وأخلصت ولم تترك لها الذكرى سوى بقايا بقع لاتُرى إلا فى الأشياء القديمة التى انمحى آثارها من تقلب الزمان ، وتعرية المكان ، ثم واصلت جهشها فى بكاء مرير .




اهتزت هاميس وبدت متيقنة بإحساس قرب النهاية ، إحساس بمرارة غبار ماضى تليد وحاضر مشحون ومستقبل يلفظ أنفاسه الأخيرة أمامها ، إحساس قطع كل وشائج الفكر وهى تدلف إلى حجرة مكتبى لتضع رسالتها الأخيرة بخط يدها وعليها دبلة الخطوبة التى لم تلبث فى يديها سوى سويعات قليلة . لقد شاء القدر أن تواجهه وحدها ، بعد أن حاولت محاولات عديدة أن تبقى وتعيش للحب ، حيث استنفدت كل طاقتها المغلفة بشريحة القلق الأنثوى فائق الحساسية فى استعطاف الموفود من قبل كبير الكهنة ، الذى تفاجأت به يقف أمامها بكامل هيئته الفرعونية على إثر مباغته لها وسط أهازيج الفرحة ونشوة الحب التى بدأت بشائره تتدفق ، واجهته بحالة من الهلع والخوف الشديدين يكتنفاها ويخنقان أحاسيسها بعنف ، نظرت إليه ممتدة الذراعين جاهدة ترجوه فى إشفاق بالغ وأسف مرير بتمتمة مزمومة استنهاضه بأن يدعها تعيش مع من تحب، لكن لاجدوى ، ومع ذلك لم تستسلم لعلامات اليأس التى بدت عليها مذعنة لما سيئول إليه واقعها بعد كل محاولاتها المتكررة والتى باءت كلها بالفشل ، ورغم تأكدها من ضعف فرص البقاء من واقع إصراره البالغ فى نظرة عينيه القاسيتين اللتين تشبهان عين الصقر . إلا أنها احتفظت برباطة جأشها بكل كياسة ، ولم تفقد الأمل حتى أخر لحظة أن تعيد المحاولة بكل بسالة مرة تلو الأخرى فى استمالته ماأعطيت من قوة كى تثنيه وترجوه : بحق رحمتك دعنى ، فأنا أحب . إلا أن فظاظة قلبه وغلظته سادت فى إسداء توجيهاته الصارمة : عودى ياهاميس ، ثم راحت فى دعة وخضوع ترجوه باستماتة : سيدى امنحنى فرصة أخيرة ، فأنا أحب . رد عليها بحدة : عودى عند شروق الشمس ، قالت له فى المرة الأخيرة والدموع تتساقط من عينيها فى بكاء منهمر : أنا أحب .. أحب .. أحب ، قال لها وقد احتدت نبرته واشتدت لهجته واحمرت أوداجه فى غضب بالغ : ليس لك أنت تحبى .. عودى ياهاميس .. عودى إلى أهلك .. إلى ماضيك ، فالحاضر ليس ملكا لك ، ولن يكون لك أمل فيه ، إن موعدنا شروق الشمس .. شروق الشمس .. شروق الشمس . ثم تلاشى من أمامها ، وهطلت دموعها بمزيد من الدموع .




  
مرت اللحظات المتتاليات عصيبة أخذت تجتر فيها شريط الذكريات القابعة فى اعماقها نالت منها مانالت ودار فى خلدها مادار عن كل ماعاشته من أيام وليالى تاقت فيه للحب ، ثم تبدى أسفها وحسرتها من غدرالزمان وقسوة القدر ، لحظات تساوى عمرا أيقظت فيها ـــ رغم دقة الوقت وتسارعه ـــ كل مابداخلها من نور كان قد خبا لسنوات طويلة ، فإذا به يدب فى خلاياها الباردة ذلك الدفء الذى لم تعرفه قط قبل ذلك ، ولكن ماذا يفيد وهو يلفظ الأن زفراته الأخيرة وسينقلب حاله من إحساس بومضات النور ولحظات الحب والسعادة إلى لحظات تعتصرها الحيرة والضياع والألم . اضجعت بجانبى فى محاولة منها أن تنفلت ببعض الوقت وتنام بجوارى كى تقنع نفسها بأنه كان كابوسا مزعجا وذهب لحاله ، لكنها لم تنم ولا تستطيع ، بل كانت عيناها زائغتين تلم المكان كله فى لحظة ثم تستقران على وجهى ، وراحت تنظر إليه متابعة أنفاسى المنتظمة مرة أخرى وأنا اغض فى نومى العميق ، مدت أناملها فى حنان ورفق ومست جبينى ثم دستها فى شعرى وهى تبكى بحرقة شديدة من قوة صدمة لم يتحمل قلبها الرقيق شدتها ، ففزعت بها لكى تشرب كوبا من الماء البارد يُهدأ من روعها دون أن تقلقنى ، إنها رشفات الألم والحسرة المختلطة فى كيانها ، فما يزيدها إلا اضطرابا تتسارع معه ضربات قلبها بشدة ، نغص عليها ماتبقى لها من وقت ، حاولت جاهدة أن تفلت من قبضة هذا الشعورالذى يضيق صدرها ضيقا ، بأن تلقى نفسها فى صدرى ، بيد أن كل جزء من روحها ينطق ويتنهد ويفضح خلجاتها ، تتأوه بعذاب يعقبه دموع ثم انهمار. وكلما اقترب الوقت المتبقى للزمن المحدد فى الانحصار ، تزداد اضطرابا يوشك أن يصم أذنيها ، وخُيل لها أن الأشياء حولها  مسلطة عليها من كل جانب ترقب حركتها وتحصى سكناتها ولم تجرؤ أن تتلفت يمنة أو يسرة من شدة الخوف ، وأن شبحا مرعبا يطاردها ويكبلها ويحملها ليلقى بها إلى مصير هى تجهله ، كانت تريد أن تأوى إلىّ ، ولكنها لاتستطيع ، فالموعد اصبح وشيكا . تاهت أفكارها وتشتت ذهنها فى أحلام ضبابية تكتنفها الهواجس والكوابيس والفزع .



 كان فزعها لمشهد الفراق ولوعته مهوما فى غياهب الحزن ، يبعث حرائق من قلبها وعينها خشية رهبته وهوله ، حقا إنها صدمة عنيفة ، فبعد قليل سوف يضيع كل شيئ ويتلاشى ، شرايينها أصبحت مستنفرة واحاسيسها تائهة كأغصان شجرة مجنونة تتراقص بعنف فوق الجدران وقد تناثرت وريقاتها الندية بعد أن سقتها يد القدر طعم الحب وحلاوته ، فإذا بقوة الغيب الغريبة تدفعها إلى ضرب الأعماق لتصبح يابسة وتمتص بقية نفحات السعادة من جذورها اليائسة.



انتهت اللحظات سريعة ، وحان الموعد مع إشراقة الشمس الآتية من الأفق البعيد  ، وقفت هاميس تستشرف النافذة استعدادا لمغادرة المكان ، إلى رحلة اللاعودة ، لتسدل خيوط إبداعها التى كانت تغمرنى به غمرا ، وتسقط  بعدها حصونى المنيعة . تشابكت أفكارها وتشتت ، ثم استجمعت كل قواها قبل أن تُخار منها ، واندفعت إلى حيث لاتدرى ، إنها راحلة ، ذهبت بالحب ، ولكن الحب إلى أين سيذهب .. إلى أين سيأوى .. إلى أين سيلجأ . كانت تلك الصرخة التى استقبلتُ بها نهارى عندما صحوت ، وأنا أنادى على هاميس ظنا منى أنها تعد لى طعام الإفطار فى وقت مبكر كما اعتادت ، فقد عودتنى دائما أن أصحو على أنفاسها القريبة من وجهى ، تداعبنى بأناملها ، تطبع قبلتها الصباحية الصامتة ، حتى أفتح عينى فى هدوء ثم اعتدل فى جلستى لنتناول معا طعام الإفطار .  كانت حريصة كل الحرص أن تسبقنى لتستقبل بنظراتها الحانية مدى تجاوبى لها من أول نظرة ترسلها عينى لوجهها الصبوح عندما أصحو ، فترى أثر ذلك وأنا أغمض عينى من جديد راسما ابتسامة كبيرة على شفتى ، كأن داخلها يحس بانعكاس فرحتى بوجودها فى حياتى ، فتطلق ابتسامتها الحلوة التى تتلقفها عيناى من جديد عندما أفيق واستوعب وجودها جانبى ، فأنا الذى أفتح فمى وهى التى تبتسم .. وأنا الذى أشتاق إليها وهى التى تخبرنى به دون أن أتكلم ، وكنت أعرفه منها دون أن تقول لى أنها تشعر به . انسابت الخواطر بيننا وتواردت كل أحاسيسنا وأصبحت كلها مباحة ، الصمت فيه هو الأبلغ تعبيرا فى فضح كل شيئ  ، كانت ترد لى كل مايراقص خلجاتها من معانى العطاء وترسلها بإغداق لكل كوامن الحياة الحلوة ومبعثها .



 توالت نداءاتى فى ملمح لتأكيد وجودها ، ولكنها لم ترد وقلت لنفسى : مؤكد أنها تأخرت اليوم فى نومها ، بسبب إدمانها للسهر ، فهى تحب ألا تنام ، بل كانت تكره النوم وتقول عنه أنه يسرق الوقت منها ، كما تحب ألا تضيع وقتا لاترانى فيه حتى ولو كان على حساب نومها وراحتها . قمت وبحثت عنها فى كل مكان أتوقع أن أراها فيه ، لكن لاجدوى إنها تبدو غير موجودة بالمكان ، كنت أمنى نفسى بأن تكون فى أى مكان آخر فى المنزل وألا تكون غادرته ، ولكن لم أجدها ، حتى دخلت حجرة المكتب ، وفجأة لمحت دبلتها وتحتها الرسالة ، انقبض قلبى وزممت شفتاى فى اضطراب بالغ، وخشيت من احساس تملكنى بالهول والرهبة على مصير وقدر هاميس ، لست أدرى كيف نفذ إلىّ هذا الإحساس، وهذا الهاجس الذى تملكنى وقارب إلى اليقين بأنه الترحال الطويل الذى بلا عودة ، وبالفعل صادف ظنى الواقع المؤلم والحقيقة المرة التى ستأخذ معها كل شيئ ، تأخذ أغلى شيئ فى حياتى .. حلم العمر .. الأمل الذى انتظرته طويلا وتغيرت معه هندسة حياتى كلها ؟! إنه الأن يتبدل .. مثلما يتبدل وجه القمر الذى أقبل مبهرا بضيائه ، فإذا بالغمام يكتنفه ويغرقه فى لجة من السواد .. مثلما تتغيرالوردة اليانعة الباسمة الرقيقة التى كانت تطل بكل عنفوانها لقطرات الندى وطلعة الفجر وإشراقة نورالصباح ، فإذا بها تجف وتصفر وبدت معتمة ، تبعث الوحشة وترسل الظلام ، إنه الضياع ، وأى ضياع تقبله النفس وترضى به أكثر من هذا .
  وإلى اللقاء مع الجزء التاسع
مع تحيات : عصام

             القاهرة فى يوليو 2015











ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق