music

الخميس، 18 يونيو 2015

وفاء إيزيس .. وعودة هاميس ( الجزء التاسع )



لازالت أصداء المفاجأة تزلزل كل كيانى ، بأفكار كثيرة مشوشة تخاطبنى وتلح فى ذهنى ، وتهزنى بعنف ، جعلتنى فى حالة من الذهول لاتختلف كثيرا عن حالة الجنون ، إننى لم استوعب بعد فقدانها إلى الأبد .. لم استوعب ضياع الحب بعد أن احكمت عليه بقبضتى ، كيف يتسرب الأن كالماء من بين أصابع يدى .. كيف يفنى كل مااكتسبناه بنار الوجد ويضيع هباء فى لحظة .. كيف يذهب كل ماخططنا له بعد سهد الليالى والدموع ، والجلوس طويلا على شاطئ الحرمان ، شهدت فيه علينا جوارحنا المتوارية بين الضلوع ، إننى أحس الأن بالضياع كأوراق فى مهب الريح ، مهما أبقاها الزمن ستختفى وتتطاير لبعيد .
ترددت فى فتح الرسالة ولكن تمالكت نفسى وفتحتها ، فإذا بكلماتها تطل من بين السطور على الحقيقة المؤلمة :
  " حبيبى عندما تكون كلماتى بين يديك ، أكون قد غادرت دنياك إلى العالم الأخر بلاعودة . وقفت كثيرا أمام قصة حبنا ، وسألت نفسى سؤالا ، لم يخطر لى ببال من ذى قبل ، كيف صدقت يوما فتنة عمرى بأنك لى ؟!  ورحت استرجع كيف بدأت معك مستحيلا ،  وافترضت زمنا جميلا ، وشارفت فيك عمرى ، وعشت معك أحلامى .. أجمل أيام حياتى ، تمنيت أن تطول ، وتوهمت فى مدارك الوصول .. إلى المنتهى ، كانت نشوتى تحفزنى أن أطيل ، فإذا بومض كالسراب نحوى يميل ،  يطمرنى شعاعه .. وفى المساء يسيل ، يكشف عن وجه شُح .. بالمشاعر بخيل  ، طوى مسافة عمر ، وخطفة فراق .. وذكرنى بزمن الغياب فيه طويل  . بوجع الكلمات أراد أن يحتوينى ، بإعصار من حولى .. جاثم على صدرى ثقيل ، يراوغنى ..  يبعدنى عنك وللعذاب يدنينى ، هذا الهادم الدخيل ، استنفذت معه كل طاقاتى ، وحاولت مرارا أن ينصاع لرغباتى ، ولاتصبح أنت كالطفل اليتيم ، يخترق سكون الظلمة ، فى ليل بهيم ، بحثا عن جلاء وحشة ، فى هشيم وهم عليل . وفى استرحام رجوته ألا يتقلص معك ظلى ، ولاأنت عنى تتوارى ، كى تبقى لى فى الدجى دليل ، فلايضيع حبنا هباء ، ولاتحبسه الأهات فى الركن ذليل ، رجوته مستعطفة ألا يتمارى، ولا يدعنا فى العراء حيارى ، لكنه كشف عن وجه قبيح ، لم يستجب لدموعى.. ولم ينصع لنداءاتى ، ولم استطع أن أقنعه بأن يتركنى لأبقى لقلبك أسير ، قلبا هو لك .. مطوقا عطوفا . وفى استنفار ارتطمت اللحظات الفصال ، لتعلن عند منتصف الطريق ، توقف العطاء عن المسير ، لأسكب حكاياتى معك ، لرمال البيد شظايا ، الحب فيه خطايا ، والمشاعر عرايا .. والعمر يجابه جدب وبقايا  ، ليبق القلب فى حسرته ملول ، بالخصب شحيح .. ضخ دقاته طبول ، إننى راحلة ومن ورائى دجى وسهود . فلا تحرمنى بأن أظل بقلبك بقايا وصال ، وأشلاء أحلام وراء باب موصود ، ولا تنسانى متى امتد بك العمر الكؤود ، ولتعلم أن مغادرة أيامك ولياليك ، كان قدرا موعود ، فهون على نفسك ، إن كان زهو الحب غادر ولايعود ، فالأمر ليس بيدى ولا املك الوفاء بالوعود ، ولكن ثق أنه سيبقى منقوشا على جدرانى مُذ رع وآتون إلى أبد الخلود . حبيبى : لم آب لمن عاب ولام ، نشرْ رسالة المحبة والسلام ، لأننى لم أفشل ، رغم كثرة الملام  ، والإرجاف فى الكلام ، بل يكفينى فخرا ، أننى حققته فى قلبك أنت، نشرته على مملكتك الصغيرة التى كنت أراها كبيرة ، عانقت فيها بترحاب سماءك ، والتحفت مشاعرك الرقيقة رداءك ، لقد عشقتك فى الخيال من قبل .. كنا أو نكون .. ومن قبل أن تصبو لك العيون .. كنت أراك فى قطرات الندى على الزهور.. فى زقزقة العصافير على الفروع ، لاهية تمرح فى أسراب تمور ، كل مشاعر الود والسرور .. كنت أراك فى رائحة الجو فى الربيع .. وعندما عشت معك شكّلتنى على صورة منك ، فصرت قريبا من نفسى ، وأصبحت أنا منك ، وصرت صوتا لصوتى ، وملمحا من ملامحى ، حتى كنت لاأرى غيرك .. وعندما أنظر لنفسى فى المرآة أرى وجهك أنت .. مثلما كنت أراك فى وجوه الناس عندما أدقق فى كل وجه يمرأمامى ، فألمح وجهك فيهم ، كأنك صرت منهم ، وصرت أنا فيهم ، وأصبحت عندى كل البشر .. كنت أراك جوارى وحولى وأمامى وخلفى، وكنت احتضنك تحت اجفانى وفوق رأسى وتحت مسامات جلدى ، حتى جريت منى مجرى الدم ، فكنت أنا .. وأنا أنت ، حتى ظننت أن رسالة حبى لك وحدك ، هى المقصد والوِفاد . فلاتحزن ياملكا على عرش الفؤاد ، منذ زمن الأمان ، لاتحزن ياظلى الضائع فى ليالى ظلماء .. لاتحزن ياعمرى المنسرب من عمر الزمان ، صورتك التى رسمتها مدامع الحرمان ، ستطل علىّ من أفق الدموع ، إن ضاع أمسى فى انتظارك ، فغدا على السحاب طيفى لك يعود .. ليبقى منى لك ، يانجمى السعيد .. فأنا منك وأنت منى، وعهدى بك سأظل عالقة فيك كقلق العطور .. تطل من نوافذ الثياب مهما طالتها المدود ، تظل من العتق مشوبة ، رائحتها تفوق الأزمان والحدود .. لاتزكمها أنوف ،  إننى سأطل عليك برائحتى كما كنت تهوى ، وسأظل هكذا على العهد رابضة ولن أنسى ، سأبقى فى قلبك حد الفناء ولا أفنى ، أرقب رغائبك بكل أناقة وصمود ، ودعنى فى أخرعهدى بك ، إن كنت تذكر لى الميثاق والعهود ، ولم تنس .. أن رقراق النيل وبدرالسماء وشمس المغيب عليك شهود ، رجاء ألاتبكى غما .. ولايحكمك هما .. ولايكبلك الحزن بقيود ، وأطلق سراح حبنا امتدادا .. من عهدك إلى أخر الدهور .. يوغل مخترقا الزمن .. طليقا لاتحده موانع ولاسدود ، لايعترى معالمه عوارض ولا دخول .. ولاعسرة داهمة يعقبها ذبول ، غضُ غرير القلب كالعذراء البتول ، ليبق للتاريخ مثار إعجاب وفضول ، فى مُولف علت فيه المقامات ، وانحنت له الهامات والعقول ، لحب احتواه كتاب فى حكاية بلا أبواب ولافصول .





وختاما .. لك منى ألف سلام .. وكف دمعك عن الكلام ، وإن كنت عنك سأغيب ، فإننى سأشرق من جديد ، فى ضحكة العطاء ،  نابعة من قلب وليد ، سأعود حين يطل الربيع بإطلالة وجهه البهيج ،  سترانى فى السماء كلما تألق القمر نورا ، وبدا بهاؤه المضيئ ، وستشعر بوجودى عندما تتفتح البراعيم والزهور ، وتزدهر أغصانها المترنحة بدعبات النسيم ، سأظل على العهد مهما طالت بك الأيام والسنين ، حتى ولو هدأ الحب فى قلبك ، وصرتُ أطلالا فى الأفق البعيد ، وانتهى الأمر وأسدل الستار ، سأترك لك ذكرى على الجدار ، وسأذكرك وحدى وأتوهم ، أنك تحلق فى المدار ، الوداع حيث أنت ياحبيب العمر ، يامكنون توْق حوار ، يامن كنت لى أخر قرار ،  ورفيق حب آخر مشوار ، ياراكب صهوى على متْن نّوار، تحملنا فيه ملء عين ، وتسكبه فى أرض عطشى ، سينبت فيها حبنا ..  بسق نخيل ، رغم كثرة الشقوق وشسع البوار .




حبيبى اسمح لى أن يكون أخر عهدى بك أن أنشد لك بصوت حليم الذى كنا نستمتع معا بسماع صوته الجميل فى كل لحظات سعادتنا ، لكن اعذرنى هذه المرة سأغنى لك من أغانيه غنوة كنت تبتأس منها وتقول لى كلما ترامت إلى اسماعنا ، دعك من هذه الغنوة ، اسمح لى أن اغنيها لك وأنا استشرف وداعك ، يملؤنى الحزن والأسف والدموع ، فالحزن عنوانها ، وأنا أصبحت عنوانا للحزن : " كنت أتمنى يطول العمر .. واعيش حواليك ولاأشوف عمرى دمعة حزينة تملأ عينيك ، كنت اتمنى ، بس العمر شوية عليك ، لو كان بأيدى كنت أفضل جنبك .. وأجيب لعمرى ألف عمر وأحبك ، يا فرحة كانت ماليه عينيه ، واستكترتها الدنيا عليه ، يا حبيبى راح اللى راح .. وفرقتنا الليالى ، ومهما أدارى الجراح حتعرف اللى جرالى ، فى يوم فى شهر فى سنة.. تهدى الجراح وتنام وعمر جرحى أنا أطول من الأيام " . حبيبى ستهدأ جراحى ، لو تذكرت ولم تنس بأننى كنت يوما حبيبتك ، الوداع ،،،، حبيبتك إلى الأبد هاميس".

 هنا ايقنت أن كل شيئ ذهب وضاع ، وأنها ذهبت ولم تعد . تسمرت قدماى ولم تغادرنى علامات الذهول بعد ، ماذا افعل ؟ هل سأبحث عنها ؟ وهل سيكون ذلك مجديا ؟ لاأعرف ، ولكن الذى أعرفه أننى سأبحث عنها ، وسأواصل رحلة البحث حتى ولو قدر لى أن أعيش على البقايا .

تحولت حياتى فى كل شيئ إلى بقايا .. إلى أشياء بلا معنى ، غير أن خيالاتى ظلت عالقة بها طوال الأيام التاليات تؤرقنى .. تملأ قلبى بالحنين والشجن ، صورتها لاتغادر ذهنى .. لاتفارقنى .. نظراتها تلاحقنى مهما ابتعدت ، تنظر لى مليا أينما اتجهت ، تأتى صورة وجهها فأناجيها وأفضى لها اشجانى ووحدتى ، أطبق عينى على أحلام تغتال أحلام ، أجتر معها كل لحظات السعادة التى تحولت لآلام وأحزان ، وكلما حاولت الهروب من نفسى .. تلتصق بى ، حتى نومى لم أعد أرتاح فيه ، ولو ألح علىّ النوم .. أستجديه ولايأتى ، لاأتذكر منذ متى كانت أخر مرة نمت فيها مستغرقا .. أصبحت لاأعرف طعما للنوم ، ولاكيف كنت أنام .. وبما كنت أحلم .. وحتى لو نمت ، لاأنام إلا قليلا أتذوق فيها معنى مرارة السفر للداخل ، وأرى عتمة الألوان التى تحترق وتمتزج فى لون واحد قاتم يلقى بظلاله فى صحوى، إننى لم أعد مرتاحا فى أى شيئ ، سوى المكوث أمام نافذة مكتبى المفتوحة أتخيل طيفها فأرى السماء وكأنها تعطفت لحالى فيتبدل حالها من سماء صافية إلى سماء تتحرك عليها قوافل السحب الذاهبة إلى البعيد الذى لاأعرفه ، كنت أتابعها بنظراتى اليائسة حتى تختفى فى الفضاء السحيق أمامى ، ثم أراها تعود لتستقر على رءوس الأشجار فى حديقة المبنى المواجه .

هكذا صرت ممزقا بين أنصاف الأشياء اللاهثة وراء مجهول لاأعرفه ، إحساس مزدوج بين الرغبة وخيبة الأمل  ، بين لهفة التمنى والمستحيل .. بين رغبة الاشتياق ولوعة الحرمان ، إحساس فارق كالليالى القاسية التى تجر أوقاته جحافل اليأس الزاحفة وتمضى به بطيئة مكفهرة ، فتصبه كآبة وحزنا فى كل خلجة من خلجات نفسى ، هكذا تحولت حياتى إلى ضباب كثيف مالبث أن انتشر الى كل شيئ حولى ، اعتمت عينى وأوصدت سمعى وجثمت على صدرىى ، وكأن النفس تريد أن تأوى للظلام وتختفى فى دهاليز الليل .. فالليل دوما واحة للمعذبين .. وراحة لمن أضنتهم الأيام والسنين .. فكل من ذهب حبيبه وقتلته وحدته ووهى إحساسه وفترت مشاعره ، له مكان فى براثن الليل ، إنه إحساسى المتكرر كل مساء حيث تنجلى السحب على استحياء ، تاركة للقمر تسلله بضوئه الحزين الهادئ على الكون وربما يأتى بدعوة خالصة للمطر كى يغسل النفس كما يغسل كل شيئ .. أرى الشوارع كما يصورها خيالى .. هادئة ساكنة .. تلاشت عنها كل مظاهر الصخب والضجة والزحام وزخم الأضواء إلا الشاحب منها وأشخاص قليلون يسرعون الخطى إلى حيث مقصدهم ، ثم تنزوى الأضواء شيئا فشيئ حتى تشحب معه مصابيح الطرقات ، إحساس يغمرنى وينذرنى بأن الفرح يودع أيامى ، بل يودع كل حياتى ، إحساس يلقى بظلاله على وقع الحب فى نفسى .. وفى رؤيتى له .. وفلسفتى فيه وفى الناس ، حتى أصبحت نظرتى للحياة مختزلة فى لحظة .. كاللحظة الفارقة فى حياة المسافرين والعائدين .. إننى أعيش نفس إحساسهم .. دموع تتلألأ كقطع من الماس .. تتألق من عيون وابتسامات .. من قلوب وشفاه ، من وجوه تبتسم ويعتصرها الألم .. إننى سأغنى من الألم الذى احتوانى ، سأغنى لك مثلك بنداء حليم الحزين : حبيبى شايفك وأنت بعيد .. وأنا فى طريق السهد وحيد ، وكل خطوة فى بعدك ليل .. وشوق وذكرى وجرح جديد ، حبيبى شايفك.. بقلبى شايفك .. بروحى شايفك .. بحبى شايفك .. شايف سلامك .. شايف كلامك .. ضحكة شفايفك .. شايفك وليل الفراق ..ع البعد فارد جناحه ، على جريح مشتاق .. يعرف نهاية جراحه ، فى يوم فى شهر فى سنة .



 أهكذا هى الحياة .. يوم .. شهر .. سنة ، وستنتهى حتما مظاهرها ، ويتفرق شتات الناس ، وينفض الجمع من مرفأها ،  فلسفة القدر التى لاتخضع لمنطق الأشياء .. رحلة الإمتداد غامضة الأصداء .. الرياح فيها تهز الشجر بعنف ، لتسقط كل يوم وريقات من أوراقها على مهبط الطريق ، ليت قصص الأشجارعندى تنتهى إلى غير عودة لتنطفئ النار فى صدرى ويصبح رمادا ، ويتنهى معها الطريق .
 وإلى اللقاء مع الجزء العاشر                    
                                                                   مع تحيات : عصام
             القاهرة فى يونيه 2015






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق