music

الأربعاء، 18 يوليو 2012

وجدانيات رمضانية



رمضان .. أيام معدودات ، ولكن نفحاته بالدهر كله ، علامة فارقة على امتداد أيام العمر ، مرتبطة ارتباطا وثيقا بمباهج معينة عند قدومه ، وأشجان فارطة عند  فراقه ، شهر له قدرة تأثيرية لاتتغير مع تبدل الأيام والأعوام ، فرمضان منذ طفولتى  وحتى الأن عبارة عن رحلة من تصورات وجدانية مختزلة بمخيلتى ، لازالت تنبض بقدرة العطاء النفسى والصفاء الذهنى فى استجلاب كل ماكان متعلقا بأيام زمان ، يصطحب معه كل  جميل ، فتتغير شكل الأيام فى وجوده ، وتتبدل الأحوال بعد مرور أيامه ولياليه ، وأول شيئ  يقفز إلى النفس هو الشعور العميق بالإطمئنان بأن العفاريت ستصفد مع أول ليلة  منه ، فأكون حرا فى السهر واللعب فى الشارع ، كنت أتحرر من خوفى الدائم ، ولاغرابة فقد كنا نقطن فى شارع الشيخ القويسنى ، وهو عبارة عن شارع ضيق عتيق من شوارع منطقة الظاهر بالقاهرة القديمة ، يعتبر امتدادا لشارع الحسينية ، يفصله عنه شارع الجيش ، فى منزل طالته السنوات الطوال ، وله تاريخ نال من الزمن الكثير حتى هرِم . قيل أن مالكه الحقيقى هو المنشد والقارئ المعروف الشيخ على محمود طه قبل أن تنتقل ملكيته لعم سعيد ، سمعنا عنه روايات كثيرة وحكايات مثيرة ، كلها تستدعى الخوف المريع ، لهذا كانت أمى دائما تطلب منى العودة إلى المنزل قبل حلول المغرب بوقت كاف أى قبل رواح الشمس وغروبها حتى تجنبنى مصادفة العفاريت التى كانت تظهر وتنشط فى هذه الأوقات بين الحين والأخر ، وخاصة عند بئر السلم الذى قيل عنه أنه شهد موت إحدى ساكيناته حرقا ، ولأن العفاريت تفقد حريتها فى رمضان ، فهذا يعنى الإنطلاق والمرح ، وتبدأ الحياة فى التغيير.. وشكل الشارع كله إلى التبديل ، لتظهر معانى جديدة تبدأ بليلة رؤية هلال رمضان .. 

تواشيح الشيخ على محمود وطه الفشنى من وقت السحر حتى قبيل الفجر .. حديث الصيام .. مدفع الإفطار وصوت الشيخ محمد رفعت ودعاء الشيخ سيد النقشبندى .. اللمة على السفرة .. الفول المدمس .. الزبادى .. المخلل .. الكنافة والقطائف .. الفانوس .. الزينات والأضواء المبهرة التى تحيل الليل إلى نهار .. الإذاعة المصرية والبرنامج العام .. مسلسل ألف ليلة وليلة ومسلسل أحسن القصص .. فوازير آمال فهمى .. صلاة القيام والتسابيح والتهجد فى جامع الظاهر بيبرس .. المسحراتى الحقيقى والشيخ سيد مكاوى مسحراتى الإذاعة .. السهر فى الحسين وقهوة الفيشاوى .. السير فى شارع المعز لدين الله الفاطمى والقلعة والجمالية وباب الشعرية والظاهر . كنا نسكن ثلاث أسر فى شقة واحدة ، نحن وخالتى وجدى عن أمى ، لانجتمع جميعا إلا فى رمضان ، كان شهرا رائعا فى الحركة والثبات ، فقبل المغرب تبدو الحركة أكثر وجوبا فى إعداد موائد الإفطار التى كانت تذخر بألذ وأطيب المأكولات والمشروبات ، وعند إطلاق مدفع الإفطار يبدو الثبات .. لاصوت فيه يعلو على ارتطام الملاعق بالصحون .. وهمهمات نهم الطعام ، نوع من التغيير النوعى والكمى لشكل الحياة . عم أحمد بائع الزبادى كان يحضر يوميا لمنزلنا فى رمضان إنه من لوازم السحور ، كان يحمل على يديه دولابا صغيرا به عدد من الأرفف وعلى واجهته ضلفتان من الزجاج ، بداخله يرص الزبادى فى أحجام وكل بثمنه ، كان الزبادى وقتئذ يباع فى أوان فخارية ، اسم الآنية " سلطانية " لازلت أذكر طعم سلاطين الزبادى الأقرب إلى الطبيعى عن الذى يباع الأن ، أما باعة الفول المدمس الذين لايظهرون إلا مع شروق الشمس بقدر الفول المكمورة فى المستودعات التى تعلو الحمامات البلدية ، يظهرون فى رمضان ولكن بعد صلاة العصر ، لازلت أتذكر عم محمد وأولاده وموقعهم المميز عند تقاطع شارعى طورسيناء والشيخ قمر ، الفول المدمس عندهم كان مميزا للغاية ، لذلك كان تهافت الناس وتسابقها على الشراء منهم ، وكنا أحيانا لانتمكن من اللحاق بهم ، فيكون البديل وبلا تردد الذهاب إلى عم مصطفى ، والذهاب لعم مصطفى يتطلب السير لأخر شارع الشيخ قمر، حتى تقاطع ميدان الجيش ، ومنه لشارع الحسينية ، حيث يقع دكانه فى أوله ، كان عم مصطفى رجلا عجوزا .. طيب الملامح يرتدى جلبابا عليه سترة محكومة بحزام فى وسطه لها جيب كبير يضع فيه العملات المعدنية ، على رأسه عمامة كبيرة ، كان يفكرنى بالشخوص المملوكية التى رأيناها وعرفناه من خلال رسومات الحملة الفرنسية . لاأظن أن عم مصطفى يعرف مكانا آخر غير حدود هذا الدكان العتيق الذى بدا كالأطلال ، يقف بداخله وحده والناس خارجه ، لاشيئ يهم عنده سوى قدرة الفول ، أظن أنه كان يضع فيها همه ويفنى فيها عمره ، لذلك كان يتفنن فى تقديم  أجمل طبق من الفول المدمس بالزيت الحار وبمشهياته مع نصف ليمونه كان حريصاعلى وضعها فى وسط هذه الدقة المميزة .



ومادمنا وصلنا إلى هنا فلابأس من اقتناء سلطانية من المخلل بالجرجير والمياه المشطشطة .. والمخلل وشهر رمضان يستدعيان إلى ذاكرتى شخصية معروفة فى هذا المكان من شارع الحسينية هو عم عبد الباسط ، وعبد الباسط هذا كان رجلا فارع الطول .. نحيلا ، يضع عمامة بسيطة على رأسه ، يشمر عن ساعديه ، يقف نظيفا بين براميل خشبية كبيرة وأخرى زجاجية صغيرة ، كنت أحب أن أتأمله وأنا تعامل معه .. كان يتطلع إلى زبائنه بنظراته المحدقة التى يملؤها الحنين ، ذلك ماكان يعرف عنه وعن طيبة قلبه فكانت علاقته بزبائنه علاقة تبادلية يسودها الود والإحترام،كان بمجرد أن يرانى سرعان ماكان يأخذ منى الصحن الفارغ الذى جئت به ويبدأ فى تلبية طلبى بوضع الجرجير فى قاعه ، ثم يبدأ بسحب كل صنف من القدور الفخارية والأوعية الزجاجية الزاخرة أمامه بكل مالذ وطاب من الليمون والزيتون الأخضر والبصل الصغير واللفت والفلفل والخيار والجزر بقفازين حتى لاتلمس يداه الثمار المخللة ، ومتى فرغ من إعداده يطلب منى تحديد نوعية المياه الذى أريدها : حريفة أم عادية ، وكنت دائما أطلبها حريفة مشطشطة المزودة بالكمون والبهارات والملح والخل ، وكان فى كل مرة لايسأم من التأكيد على أنه أفضل طرشجى فى مصر وأنه لايوجد أحد يستطيع صنع ماء الطرشى مثله ، لأنها معمولة بنسب معينة ورثها عن أجداده .

ومع رمضان ينفرط الحنين إلى بقية شخوصه المميزة المستقرة فى ذهنى ، وطبيعى أن تكون الإنفراجة التالية من نصيب عم على المسحراتى ، صاحب الصوت المميز ، الذى لازالت كلماته تجد لها صدى فى جنبات فكرى " ياعباد الله وحدوا الله ، اصحى يانايم قوم ووحد الدايم ، قوم يافلان واصحى ياعلان اتسحروا وصلوا على النبى " نداء منغم ومفعم ، ينضوى على كل مايحتويه القلب من تطلع إلى اكتشاف شخصية هذا الرجل بهيئته المهيبة والتى تفصح عن رجل قوى البنية .. يبدو عملاقا، طويلا .. عريض المنكبين ، كان من معالم المكان .. يقطن فى عشة ملتصقة بسور مدرسة طورسيناء ، صنعها بنفسه من شرائح صفائح الجبن الكبيرة وبقايا خشب الورش المجاورة ومحاط بإطارات السيارات القديمة ، كان عم على لايلفت النظر إليه طوال العام ، ولكن الناس تتذكره فجأة فى رمضان وتغدق عليه بالأموال والأطعمة،كنت أراه يشد طبلته على نار هادئة ، يوقدها من بقايا الخشب قبل الخروج لمهمة التسحير، كنت أرقب مجيئه وأخمن ميعاده ، حيث كان لا يصل لمنزلنا قبل ساعة من بدء مروره ، لازلت انتظره حتى تحمل نسائم الليل صوته قادما عن بعد ، متنقلا من منزل لأخر ، ومع قربه لمنزلنا يقوى صوته شيئا فشيئ حتى يبلغ مدخل منزلنا الواسع، ويبدأ فى سرد اسماء الذكور مناديا ، حتى إذا ما سمعت اسمى واسم والدى وجدى وأخوالى ينتابنى السرور ، وأنصرف لتناول السحور ، ورغم أن دوره لم يعد أساسيا إلا أنه من مباهج رمضان وتجلياته .





وفى رمضان يحلو السهر ، لم يعد هناك نوم ولذلك تعد الفترة الفاصلة من المغرب حتى السحور هى الفترة الحافلة بالذكريات ، اتصلت بفضل الإذاعة والتليفزيون ، ولكن يبقى رائدها بالنسبة لى الإذاعة المصرية وتحديدا البرنامج العام ، كنت ولازلت من عشاق الإذاعة ، رغم أن الكثيرين يفضلون البرامج والمسلسلات التليفزيونية ، إلا أن سحر الإذاعة وإضفائها لجو يخلق معه آفاق رحبة ينسج الخيال فيها ما يمنحه عقل الإنسان وقدرته على التخيل واستلهام روح المكان ورسم ديكوراته وخاصة إذا ماكانت الأعمال الدرامية تاريخية أو دينية أو اسطورية ، لذلك حملت ذاكرتى ولازالت أعمالا درامية لايوجد أجمل ولاأروع منها : كمسلسل ألف ليلة وليلة لطاهر أبو فاشا وإخراج رائد الإذاعة محمد محمود شعبان ، ومسلسل أحسن القصص من إعداد محمد على ماهر وإخراج يوسف الحطاب ، وفوازير آمال فهمى ، والمسلسل الكوميدى السنوى لفؤاد المهندس وشويكار الذى نسمعه بعد الإفطار مباشرة ، كنا ننتظره من العام للعام .
ومادام الشيئ بالشيئ يذكر ، وحديثنا لازال عن روائع الإذاعة الرمضانية ، فلا ننسى القارئ المبدع الذى تحول إلى دليل وعلامة لشهر الصوم ، من منا لايشجيه تلاوته للقرآن ، الصوت الرائع .. الحساس .. النغم القادم من السماء .. الشيخ محمد رفعت ، الصوت الذى جمع بين جمالية الصوت وحلاوته وجمال الروح وبساطتها ، إنه حالة رمضانية مستمرة طوال العام ، فمتى استمعت إلى صوته بقية العام أشعر على الفور أننى فى رمضان .
الله ياالله .. أفضل ابتهال سمعته فى حياتى منذ أن تفتحت عينى على الدنيا ، ورمضان مقرون عندى أيضا بصوت هذا الرجل ، فهوأحد أهم علامات وملامح شهر رمضان البارزة بالإذاعة حتى الأن رغم وفاته منذ زمن بعيد ، الشيخ سيد النقشبندى ذو الصوت الأخاذ القوى والمميزالذى تهتز له المشاعر والوجدان ، وتسمو معه روح الملايين خلال فترة الإفطار عندما تشنف آذاننا وترتجف قلوبنا بأحلى تجلياته الرمضانية بإبتهاله الشهير " الله يا الله " التى كانت تنبع من خلجات قلب هذا الرجل قبل صوته .
أما أغانى رمضان فهى ماضى لازال ينبض بالحياة ، ويتنفس روح العطاء الدائم الذى لاينضب أبدا ، فبمجرد إعلان ثبوت هلال رمضان ، تقفز على موجات الإذاعات المختلفة وقنوات التلفزيون أغنية " رمضان جانا " لمحمد عبد المطلب وأغنية " وحوى ياوحوى " لأحمد عبد القادر ، ومرحب شهر الصوم لعبد العزيز محمود وهاتوا الفوانيس ياأولاد لمحمد فوزى وأغانى الثلاثى " افرحوا يابنات وسبحة رمضان وأهو جه ياأولاد " وغيرها كثير ، إنها أغانى تراثية لازالت وستبقى راسخة فى ذهنى .. لاتعوض وكأن رمضان لايكتمل بهاؤه إلا معها ، ولكن لاأدرى لماذا تهفو نفسى ويهتز قلبى فرحا بعبق وصفاء ودفء زمن فات كلما شدا عبد المطلب أغنيته الشهيرة " رمضان جانا " تمتلئ مساحات الإستماع عندى وتتلاقى مع الإستمتاع فى واحدة من أجمل جمل التوحد مع المشاعر ونبرات الشجن ، لأكون فى أفضل حالة من حالات تلقى الفنون السمعية ، إنها حالة حب خاصة جدا .

أما مسحراتى الإذاعة سيد مكاوى فقد صار هو الآخر تراثا موسيقيا رائعا ارتبط بشهر رمضان ، وجعل من التسحير الإذاعى برنامجا خاصا أدمج فيه الفطرة بالأصالة الشعبية النابضة بالإيقاعات الحية من خلال الدقات الصادرة من الطبلة والمطرقة الجلدية ، والممزوجة بخفة الدم المصرى فأثرى وجداننا بالكلمة واللحن والأداء .



أما السهر خارج المنزل ، فأحب أن أقضيه فى شوارع القاهرة القديمة وتحديدا فى إحدى مقاهيها ، وياحبذا لو وجدت لى مكانا فى قهوة الفيشاوى ، فالجلوس على مقهى الفيشاوى يعطى إحساسا أخر .. وطعما أخر يجعلنى أردد بداخلى : ماأجمل لياليك يارمضان فى المحروسة . ومادمنا وصلنا لليل رمضان ، فلابد وأن تأخذنا أضواؤه عبر فانوس رمضان ، وفانوس رمضان ظاهرة قاهرية قديمة وفريدة يعود أصله إلى العهد الفاطمى ، وقد حملت الفانوس كثيرا ونزلت به إلى الشارع وداخل الغرف وعلى السلالم ، كان فريدا برشاقته وتناسقه مع اختلاف أشكاله وأحجامه ، كان الشمع يوقظ الحياة فيه ، ويجعله متألقا ، إنه يحاكى طفولتى .. وأجمل أيام العمر ، كان عمره لايتجاوز أيام رمضان الأولى بعدها يتعرض للكسر ، رغم حرصى الشديد فى الحفاظ عليه ، وتعلقى به . لازلت أتعلق به تماما كما كنت صغيرا ، ولكنه تعلق ذهنى فقط .. تعلق يحتوى على عاطفة الإرتباطات الفطرية بالأشياء التى من خلالها أكتشف الدنيا ، فالفانوس الأن أصبح معلقا على جدران شقتى ، وبداخله لمبة كهربائية ، ولكنه لازال يحاكى فانوسى القديم من خلال أضوائه الملونة المنبعثة من الخاطر، فيستلهم منه ضوء تلك الشمعة الصغيرة التى كانت تحترق بداخله فتحيل ألوانه إلى استعداد بكر فى تلقى مباهج أيام وليالى رمضان ، وربما كان فانوس رمضان هو السبب فى عشقى للزجاج المعشق الملون ومعرفة أسراره وطرق صنعه.
  

وتتولد الأيام من ليالى رمضان ، ويتواصل ليله بنهاره ، ويمضى سريعا بين لمساته المثيرة للبهجة وروحانياته من عبادات وابتهالات . ومع الصوم والصلاة ..  والمودة والتراحم ، يبدأ الضيف الكريم الاستعداد للرحيل ، وندخل على الثلث الأخير منه ، لتبدأ حالة الطوارئ فى بيتنا لتجهيز كعك العيد ، ولكعك العيد بهجة كبيرة وفرحة عارمة تبدأ منذ شراء مستلزماته : الدقيق والسمن ، ورائحة الكعك والشمر والسمسم وغيرها ، وكذلك عند إعداده من تجهيز وعجن ولت وتخمير وتقطيع ونقش ورص فى " الصاجات " الإشراف الكامل كان لجدتى ، تعطى تعليماتها بالمقادير وكان لايفوتها كبيرة ولاصغيرة ، وكانت أمى وخالاتى يقمن بتنفيذ أوامرها بحذافيرها ، أما نحن كنا نلهو ونلعب ونشارك أحيانا فى نقش الكعك ، كانت تجذبنا جلسة تحضير عمل الكعك قبل تسويته ورائحته التى كانت تملأ جنبات شقتنا الكبيرة بل كانت تتعدى الطرقات والسلالم أيضا ، وإن كان الكعك يحظى بكل هذا الاهتمام ، إلا أنه ليس  وحده ما كان يتفتق عنه ذهن جدتى بخبرتها الواسعة ، بل تعدت لتشمل أصناف  أخرى ، منها الفطيرالمحشو بالعجوة والبسكويت والغريبة والبيتى فور ، كانت سعادتنا لاتوصف ونحن نستعد لحمل هذه الصاجات على رؤسنا والذهاب بها إلى الفرن ، ماأجمل الرحلة إلى الفرن رغم قرب المسافة إلا أنها ممتدة عبر خيالى الواسع الرحب ، وماأجمل انتظارنا أمامه بعد دشن هذه الصاجات داخل الفرن وعليها اسم أحدنا ، كى لاتختلط بكعك الغير، فالفرن مزدحم بالناس ، الفرحة تملأ قلوبهم ، فى أجمل مظهر من مظاهر الشهر الكريم الذى يتجلى فيه نسيج الود وتقوى فيه العلاقات بين الناس فى مصر، وربما كان الوقوف أمامه سببا فى نشوء نوع من العلاقات الاجتماعية التضامنية العابرة التى تجتمع على هدف واحد تخلقها الظروف والصدفة البحتة ، كنت ارتبط  بأصحاب جدد من تلك الوقفة ، كانت تهزنى هذه المشاعر ، الارتباط بالمكان والزمان وبأشخاص لاأعرفهم ، ويستسلم فكرى لهذا الارتباط النفسى بحب وغبطة تجاهه، استقرت فى ذهنى إلى الأن مرتبطة برائحة الفرن نفسها التى إذا شممتها من بعد يسبق الحنين خطواتى كلما ذهبت إلى هناك ، فأستدر الذكريات من باطن عقلى وتهفو على خاطرى لمة العيلة لعمل الكعك التى أصبحت الأن مجرد ذكرى ورمزا للارتباط ، ومظهرا من مظاهر رمضان الخير والعطاء وتقوية الصلات وإحياء لياليه .




ويبقى الأمل الغامض مع نهايته فى أن أدرك ليلة القدر ، كنت أتصور أنها ستتفتح من الطاقة السماوية ، طبق من نور ، أو هالة من أطياف مضيئة مبهرة ليظل الأمل يراودنى أن يمنحنى القدرة على رؤيتها برجاء رحمته ومغفرته التى يطهر بها القلوب ، فأكون من الفائزين بها وأطلب منه ماأتمناه بحب وإلحاح حتى يلبى نداءاتى بقدرته التى تتجلى على الكون فأصير من الموعودين . ماأروع أيامك ولياليك يارمضان التى قاربت على الرحيل ، وياله من شعور بغيض كلما ترامت على اسماعى أغانى التوحيش وتواشيح الوداع ، أشعر بتأجج الحنين المشوب بالشجن الذى يولد معه حزنا دفينا يحمل معه كل أسى ، والذى يتعمق كلما أذيعت أغنية شريفة فاضل " والله لسه بدرى .. والله ياشهر الصيام " ويمضى رمضان فى جمع أشيائه ، ويرحل فى ليلة العيد.



وليلة العيد رغم جمالها وبهائها إلا أنها تدفعنا دفعا وبقوة هائلة للأيام العادية .. هوة سحيقة يقطعها الوجدان فى ليلة ، أو ساعات ، أو ربما فى لحظات ، لانفيق منها إلا بعد انقضاء صلاة العيد ، وليلة العيد لها رونق خاص وشكل أخر ، لها بهجة اكثر وفرحة أغمر إذ تمثل آخر مباهج رمضان ، كنت استعد لها كامل الاستعداد وخصوصا الحرص الشديد على جلب الملابس الجديدة وانتظارالعيدية والتشوق لألعاب المراجيح والمشاوير وزيارة الأهل والأقارب ، كان أهم معالمها عم إبراهيم الفحام ، رجل لايلفت النظر إليه سوى هذه الليلة فقط ، حيث يبدو على هيئة مغايرة عن كل أيام العام كله ، كان رجلا طويلا وبدينا .. بشرته تميل بشدة إلى السمرة ، وكنت لاأدرى هل هذا لون بشرته فعلا أم اكتسبه من لون الفحم الذى كان يبيعه ، فقد كان يملك مخزنا كبيرا مملوءا بالفحم ، كان من أكبر تجار الجملة فى بيعه ، لهذا اكتسب هذه الكنية التى ارتبطت بإسمه ، تماما كما ارتبط هو بعادة إقامة وإحياء هذه الليلة ، التى تبدأ بحرصه الشديد على افتراش الشارع كله بالرمال الصفراء ، وتعليق الزينات فى المكان الذى يجهزه خصيصا لإقامة السهرة الكبرى ، رغم ضيقه ، فهو عبارة عن جزء يسير من الرصيف المجاور للمقهى الصغير قبالة ورشة سمكرة ودهان السيارات التى يملكها على القط وعبدة ميخا ، ورغم شهرتهما فى الشارع إلا أن حق تجهيز ودعوة أصحاب المحلات والورش الموجودة بشارعنا يبقى لعم إبراهيم الفحام وحده، كان أهم مايميز هذه الجلسة وجود راديو خشبى كبير ومبخرة وعدد من الشيش أو النراجيل وكمية لابأس بها من الحلوى وبالطبع قطعة من الحشيش لزوم الجلسة ، وتبدأ السهرة مع أغنية " ياليلة العيد أنستينا " لأم كلثوم ، وتأخذ الليلة فى تصاعد تدريجى شكل السمر وعلى أنغام الراديو شكل الطرب بعد حضورهم وجلوسهم واحدا تلو الأخر فى ملابس نظيفة على الأقل إن لم تكن جديدة ولكنها فى مجملها تفتقر بشدة للأناقة . وعندما تكتمل شلة الأنس تبدأ صيحات الضحكات فى ملأ أجواء المكان .. وتكون الفرفشة سمة الجلسة تتصاعد حدتها مع دخان الشيش ورص الحجارة بالدخان الممزوج بالمخدرات ، ومع مرور الوقت يقوم بعضهم بالتمايل وفقدان السيطرة على وقارهم ، كان هذا الجمع لاينفض إلا بعد صلاة العيد ، وكانوا بالطبع لايصلون ، وهذا كان كافيا كى يأخذوا نصيبهم من سخرية المارة وخاصة جدى ووالدى عند مرورنا عليهم ونحن ذاهبون لصلاة العيد . ورغم أنها صورة سيئة وعادة مقيتة لتصور عم إبراهيم ورفاقه فى إحياء ليلة العيد بهذا الأسلوب المقزز ، إلا أن هذه الجلسة ارتبطت فى ذهنى بشكل معين .. ووجدت لها مكانا فى وجدانى لأننى كنت أرى بدايتها فى المساء وأرى أيضا نهايتها ونحن ذاهبون لصلاة العيد ، فكان كل مايحمله ذهنى هو جماليات ومظاهر هذه الإحتفالية بليلة العيد فقط ، أما فيما عدا ذلك فكنت لاأعيه ولا أعرفه .
أما صبيحة عيد الفطر كانت تبدأ بأن نصحو من نومنا مبكرين ، كنت أنام  محتضنا حذائى الجديد الذى كان يحضره جدى معه ضمن مجموعة من الأحذية لى ولإخوتى وأخوالى من صنع يده فقد كان يمتلك ورشة كبيرة للأحذية فى باب الشعرية ، كما كنت حريصا على وضع ملابسى الجديدة على وسادتى ، كان المنزل كله فى حالة تأهب وحركة لاتهدأ ، حتى نغادره قاصدين جامع الظاهر بيبرس حيث المشهد المهيب ، عيوننا ترصد آلاف المصلين الذين يذخر بهم المكان ، ولاشيئ يعلو فوق تكبيرات العيد فى ميدان الظاهر كهدير متدفق ومتوالى يملأ كل مساحات النسمة الصباحية الندية تسمعها قلوب وأذان الدنيا كلها وترجها رجا .. الجامع وسادة بيضاء من الجلابيب المضيئة والنفوس المطمئنة  الصافية المستقبلة لهدية الله على أرضه ، متعة أخرى وأخيرة لموسم العبادة والطهر والنقاء ، فصلاة العيد هى الخاتمة الطيبة لشهر رمضان . نعود من صلاتنا يدى فى يد جدى وأبى يملأنا السرور .. آخذ منهما العيدية ، وألبس ملابس العيد الجديدة مع إخوتى وأخوالى الصغار ، وأرش السكر على الكعك مع أمى ، وأشترى البالونات من عم عبدة صاحب محل الخردوات أمام منزلنا مباشرة ، ثم نلهو ونلعب بالبمب والصواريخ ، وإن اكتفيت أجلس فى البلكونة أشاهد بقية الأطفال وهى تلعب أنادى عليهم وينادون على ، ونقول لبعضنا كل سنة والكل بخير جاء العيد ومعاه فرحته . ولكن كلما جن الليل أجد الفرحة تخبو والأضواء تنطفئ فأبكى رمضان ، وغربة الأيام فى غيابه ، حتى تأخذنا الدنيا مرة أخرى فى دوامتها ، وننسى .. إنه النسيان عندما  يكون نعمة كى نعود من جديد ننتظر رمضان .. أحد عشر شهرا بكل حنين الماضى وبكل شوق ولهفة الحاضر، نرفع أكف الضراعة وندعو الله : اللهم بلغنا رمضان ..
                          كـل عــام وأنتـم بخيـــر
 مع تحيـات : عصــام                             

القاهرة فى يوليـو 2012








h

الجمعة، 20 أبريل 2012

العندليب لازال يغرد بعيدا



العندليب لازال يغرد بعيدا
الجمعة : 30 مارس 2012

مقدمة الطبعة الرابعة
" وعمر جرحى أنا أطول من الأيام "
ومازال الحديث عن حليم يتواصل ولو بعد ألف عام .. صوته الذهبى مازال يخترق الأيام والسنين ويصل لآذان الملايين كى يطيّب الهواء من حولهم وينقيه من غبار علق بالغناء المصرى الذى كان يوما ما يدهش ليس العالم العربى فحسب ، بل العالم كله ، فكلما غنى حليم تنتشى له القلوب العاشقة للجمال وتثنيه ، وتنقطع أنفاسها لهثا من مرورآلاف الأميال فى أعماق الزمن البعيد لتستعيد حكاية حب .. لصوت دافئ له طلاوة وله حكاياته مع الفن ومشواره فيه مابين سعادة وألم .. نجاح وفشل .. صحة ومرض ، إنها حكاية الطائر الباكى ورحلته الشاقة من الطفولة المعذبة لبدايات الغناء الأولى المضطربة ، لمعايشته ثورة أمة والتحدث باسمها غنائيا ، عاش أمالها وانكسر مع الهزيمة ، ومن قمة الشهرة للنهاية المبكرة لمطرب عظيم ، إنه سيظل دائما رمز الشباب الأول ، ورمزا لمطرب عاش الآلام واعتصرته المعاناة ليتوج كل هذا فرحاً وحباً لجيل كامل كان ضائعا ومنهكا ومخذولا.

ولو عدنا للتاريخ لوجدنا مثلا أن محمد عبد الوهاب اكتفى بالتلحين تاركاً له الغناء، بعد وقت قليل من بداياته ، وأيضا أم كلثوم التى كانت تجسّد تاريخ الغناء العربي كله والمقدر لها السبق والأولوية دائما ، أيضاً تأثرت مبيعات أشرطتها عن أشرطة عبد الحليم حتى فى السنوات الخمس الأخيرة بنسبة الثلث تقريبا ، وهذا يعنى إنه مازال يجذب كل يوم مستمعين جدد من بين أجيال الشباب الذين لم يعاصروه ، ولكنهم عرفوه وتعايشوا معه ، وكأنهم ــ كما يبدو ــ لم يعجبهم من التاريخ الذى سبق وجودهم إلا عبدالحليم حافظ . إنه ظاهرة غنائية جمعت مابين الموهبة والحس والقدرة على اجتذاب لب الأخرين فى ظاهرة عرفت بـ " الكريزما " كل ذلك أضفى المزيد والمزيد إلى أوج نجاحاته التى تعدت حدود الزمان والمكان واسهمت اسهامات عالية فى الهوية الثقافية الغنائية المصرية الأصيلة.

إنه الصوت الذى كان دائما يتلاعب بأوتار الأحاسيس ويداعبها يوم أن كانت تلهب الأنفاس وتنزع الآهات وخاصة يوم أن تلوذ بليلة ربيعية تتفتح له الزهور وتزهو به الأشجار ، عالم من سحر خالص ، يمتلكه وحده ، تتوقف عنده الدنيا لتلتقط أنفاسها عندما يبدأ فى الشدو ، إنه الصوت الشجى .. مفرط الإحساس الذى أزاح ماعداه من هوس القديم والجديد فى عالم الغناء العربى وتربع فوق قمته وسيظل لأن نبراته لازالت هى الاقوى حسا وعمقا وتأثيرا وصدقا ، إنه حليم الذى صار نغما تتوارثه الأجيال .. علامة فارقة فى الزمن النامى .. وجبلا شامخا فى المكان السامى ، صار بعبق رومانسية الحب والوطن ، يجنى الفرحة الحائرة بين همسة تزحف على اطراف المشاعر المهاجرة ، ولمسة مولعة بشغف الأحاسيس الهادرة لمأوى موطن ليس له عنوان .. وحنين ضاع فى زمن الامبالاة السائد من فن ردئ ، ومازالت سفينة أنغامه تبحر رغم شدة التيار وقوة جرف الرياح .. تبحر على الوسادة الخالية الفيروزية الغائرة شديدة النقاء ، فهى لازالت شديدة النقاء ولازالت الوسادة الخالية بصوته فيروزية .

مع خالص تحياتى .. عصام
القاهرة فى مارس 2012


العندليب لازال يغرد بعيدا

السبت : 28 مـارس 2009

مقدمة الطبعة الثالثة

"ويمكن ننسى كل الناس ولاننسى حبايبنا .. أعز الناس"

الحديث عن حليم إنما هو حديث النفس عن أعز الناس .. الحديث الذى قد تجد نفسك تستعذبه وتريد أن تحدثك فيه كثيرا ، أى تجدده بداخلك فيحدث انتعاشا فكريا رومانسيا حالما ، يجدد فيك كل إحساس جميل بقوة ، ورغم هذا التدفق فى اللاشعور فإنه لايتسع لقدرة وعطاء هذا الفنان المبدع .. لأن فن حليم أكبر بكثير من إحساسنا بالحب وجمالياته ، لذلك نجد من السهل جدا أن ننساق وراءه طواعية كى يوقظ فينا كل إحساس مرهف .. كل احساس يداعب مشاعرنا ووجداننا ، لقد عاش حليم رفيقا لنا .. بداخل كل واحد منا .. وبداخل كل من عرف الحب قلبه ، فكان هو من حمل الرسالة الكامنة فى الأعماق وراح يبلغها للمحبوب نغما ينساب من الخاطر تأنس له القلوب وتأسرها ، إنه فيثارة الحب الذى عشقناه حلما جميلا .. وإنسانا صادقا ، يملك حسا رائعا وقلبا كبيرا ، استطاع أن يعتصر آلامه فى صوته و بتعبيرات وجهه امتلك كل مفاتيح السعادة وراح يبثها لنا عبر أريج أشجانه الذى فقد هو معناها حيال إقدام جسده النحيل الذى كان يحاول بجسارة أن يتحامل عليه حتى أفقدت قدرته على تحمل الألم ، فبدا هذا الجسد المهترئ كالستارة تخفى وراءها صرخة جريح وزفرة ألم ودمعة حزن ، إنه حليم .. العندليب الأسمر .. عصفور الشرق الحزين .. الفتى اليتيم .. الشاب المصرى الموهوب .. أسطورة الحنجرة الذهبية .. الجسد المعذب .. حامل الألم .. الطائر الشاكى المنكسر ، وأى شيئ يقال ، وأى شيئ يبقى على الأيام ، حيث جاءت النهاية مبكرة ، وعنده قد تستوى الأشياء الذين أحبوه والذين كرهوه ، والذين كانوا يغارون منه ، والذين ظلموه ، فقد ذهب الإبداع وصاحبه ، وماذا يبقى بعد ذلك ؟ وكان رد الزمان : بقى الحب والذين يتغنون بالحب والذين يحبون الحب والذين يعشقون الفن الراقى المحترم الجميل .. وعبد الحليم حافظ .


مع خالص تحياتى .. عصام


 القاهرة فى مارس 2009

حليم .. طائر الشوك الحزين

عزيزى الموعود بالعذاب .. ما أن لفظتك أمك للحياة حتى غادرتها ، وتركتك لوالدك الذى مالبث أن غادرها هو الآخر ليتولى تربيتك الخال وأخوتك الصغار ، وابتدى المشوار فكانت بدايتك ياحليم مع الحياة والأضواء .. وقصة كفاحك الكبيرة والمريرة مع الحب والألم والفن والسياسة والمرض والليل الطويل.


حليم

كنت إنسانا من نبت أرض مصر الطيبة ، وهبتك خصوبتها ووضعت الطبيعة فيك جمالها ورقتها .. ووهبك الله صوتا عذبا رقيقا وإحساسا مرهفا وشعورا صادقا ، توليفة من الخلاق العظيم تجلت كى تصبح أمل جيل .. وأمل أمة ونبضها الصادق ، ولتصبح نغما ينساب بين المحبين والعاشقين، جئت كما لو أنك جئت للحب .. للحب وحده تتغنى به ، فتسحر قلوب الناس بفنك .. بعطائك .. بصوتك .. بآدائك التمثيلى لشخصيتك الدرامية التى عرفت معنى الألم وأدركت الحرمان وعانت من الوحدة وأنت جالس على قمة النجاح وعرش القلوب والغناء معا .

حليم

أنت بكل المقاييس ملحمة الحب والعذاب ، فلم يشأ القدر أن تكون إنسانا عاديا ، فخرجت كعامة الشعب فقيرا ، وكان جسدك نحيلا .. ضعيفا .. رقيقا ، ولكنك كنت تملك قلبا نقيا ، وروحا حانية ، وصاحب كل هذا مرض طويل ، وجرح غائر بعمق السنين ، وطول العمر.

حليم

إنك لم تكن مجرد فنان ولا مجرد مطرب ، ولكنك كنت صرخة حزينة أطلقتها تلك السنين .. صرخة ضد الفقر والمرض والتخلف ، فقد قضيت على الفقر بإصرارك العجيب على النجاح ، وقضيت على التخلف بإيمانك وحرصك على الثقافة والمعرفة والبحث عن كل جديد فى الفن ، ولكنك لم تستطع أن تقهر مرضك لأنه كان جزءا من شخصيتك ومن صوتك ومن هدوئك وحنانك ، لذلك أبى المرض أن يغادرك أو يتخلى عن جسدك النحيل الرقيق حتى آخر العمر.

حليم
لقد كان صوتك وصورتك معا أفضل تعبير عن كل مايختلج فى صدور الناس من عواطف سامية .. عاطفة الحب والاحساس الجميل به .. فأحببتنا وأحببناك ، وغنيت لنا وغنينا معاك .. من منا بلا قصة حب ، ومن منا لم يغن أول مرة تحب ياقلبى فى لحظة حب .. أو راح فى لحظة فراق .. أو فى يوم فى شهر فى سنة فى لحظة حزن أو جرح .
   يامن كنت تحلم لنا ، ونحن الحيارى التائهين ، والسهارى العاشقين ، والحزانى الصابرين .
    يامن كنت تغنى لنا .. حبــا .. وشوقــا .. وعشــقا .. ولأحلام الســنين.

    يامن كنت تتألم من أجلنا ، وتبكى لبكانا .. وتصرخ لأنيننا .. وتزرف دمع الحالمين.

حليم

مازالت ليالى القاهرة الساحرة تذكرك ، فأنت لازلت واقفا هناك فوق خشبة المسرح ومن خلفك فرقتك الموسيقية تعزف اللحن الأخير، الذى لايزال لم يكتمل بعد ، والذى طالما تمنيناه أن تشدو به عبر سنين طوال ، تماما كما كنت تفعل فى حياتك عندما تغنى تبكى ألما وتنزف دما وتموت كل يوم مائة مرة ، كأنك تبلغنا بمعاناتك وآلامك التى لم تهدأ ولم تبرحك لحظة.

حليم
ألست القائل : فى يوم .. فى شهر .. فى سنة .. تهدى الجراح وتنام وعمر جرحى أنا أطول من الأيام ؟
ألست القائل : آه من الأيام آه لم تعط من يهوى مناه ، مالى أحس أننى روح غريب فى الحياة؟
ألست القائل : رحماك من هذا العذاب قلبى من الاشواق داب ، ليلى ضنى .. صبحى أسى .. عيشى على الدنيا سراب؟
ألست القائل : لكن سماءك ممطرة وطريقك مسدود .. مسدود .. مسدود؟
ألست القائل : فى سكة زمان راجعين ، فى نفس المكان ضايعين ، لا جراحنا بتهدى ياقلبى ولاننسى اللى كان ياقلبى؟
ألست القائل : نجومى فى ليلى ضى حزين ، ورودى شايفهم دبلانين ، وضاعت كل أحلام السنين؟
ألست أنت القائل : لو أنى أعرف خاتمتى ما كنت بدأت؟

فأنت كل هذا ياحليم .. أنت الحزن الذى يحتويك .. وأنت ألالم الذى يملؤك .. وأنت رحلة عمر قصيرة ساقتها الأقدار.
حليم

الكلام عنك يطول ويطول ولن نوفيك حقك ، تعرف ياحليم أنت مثل من ؟ تماما كطائر الشوك الشاجن الحزين - كما تقول الأسطورة - الذى دفع حياته ثمنا لأروع أغانيه .. ماأفدحه ثمن .. فقد قيل أن طائر الشوك هذا كان يملأ المكان الذى يتواجد فيه شدوا وشجوا وللطبيعة عذوبة وسحرا ، حتى يجد قوة خفية تدفعه إلى أن يهجر عشه هائما .. ولايزال يتنقل من شجرة إلى شجرة ومن غابة إلى غابة .. باحثا عن شيئ لايعرفه .. ولكنه مدفوع إلى حيث لايدرى .. فما أن أدرك شجرة الشوك ، حتى يظل يتنقل بين أغصانها مغردا كما لو أنه لم يغن فى حياته .. واحساسه هذه المرة وهو يغرد كأنه يسمع نفسه لأول وآخر مرة ، ويشعر بأن هذا يقربه من الموت .. كأنه أحس أنه بلغ درجة الكمال .. تماما كالثمرة التى تسقط إذا نضجت .. وأخيرا تأتى النهاية عندما يجد أطول شوكة فيلقى بنفسه عليها ـ أى يغمس الشوكة فى قلبه ـ وينزف دما وهو يردد أحلى وأجمل وأروع وأرق أغانيه الحزينة ، ومع نزيف كل قطرة دم تنفلت الحياة منه ، ويخبو صوته رويدا رويدا ، حتى يتحول الصوت إلى صدى ، والجسم الرقيق إلى رفات .. ولكن لازال الكون كله يصغى إليه ، يصغى لرجع الصوت الجميل الحزين الذى ذهب صاحبه .. ليبقى عنوانا للعطاء والجمال والتضحية ، نعم نحن نعلم يا طائر الشوك الحزين ..أو طائر الفن الجميل .. أنك ضحيت بحياتك من أجل فنك واحترامك للناس ، واحترام الناس لك ، ونعلم أيضا أنك مثله تماما لاتسقط أبدا ، فالشوكة التى قتلتك لاتزال عالية شامخة ترفعك علما للجمال وللجلال معا .
وبعد ..
لقد هدأت جراحك ياحليم وارتاح جسدك الرقيق ، ووضع الموت حدا لعذابك ، أدخلك الله فسيح جناته ، ذهبت ليبقى فنك علما مرفوعا شامخا يـتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل ، ويظل صدى صوتك أبد الدهر يملأ الدنيا شجوا وعطرا ، لتبقى حتما ياحليم ما بقيت الأيام والسنين .
       مع خالص تحياتى .. عصام
القاهرة فى مارس 2006