music

الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

وفاء إيزيس وعودة هاميس ( الجزء العاشر والأخير )


هكذا أصبحت حياتى أشبه بحياة المسافر لايعرف للإستقرار معنى ، إلا أننى أعرف لذكرياتى ألف معنى ومعنى ، لأننى أعى جيدا أنه كلما قطعت شوطا من حياتى تركت على الطريق جزءا عزيزا من نفسى ، ودائما مايلح الماضى علىّ وينادينى ، و كلما نظرت للوراء أتعجب كثرة البعثرة التى كنت عليها ، أشلاء شتى متناثرة من الذكريات : حكايات ومواقف وأناس يدخلون وأخرون يغادرون . نداء الماضى لاينادينى كى أعود إليه ، فلاأحد يستطيع أن يرتد للوراء ، ولكن لآخذ كل ذكرياتى معى .. وخاصة التى تمثل لى وقفات ، أقف عندها طويلا وأحملها بين طياتى .. كل الذى عشته وأحببته .. وكل الذى عشته وكرهته ، وكل الذى عرفته من زخم الدنيا بحلوها ومرها ، فهى تريد دوما أن تصاحبنى فى بقية المشوار .. لا نفترقا ولانتباعدا ، وكثيرا مااستحسن ذلك ، بل وأثنى عليه ، آملا أن أجد فيها الشجن والسلوى أوالفرح الممكن  ، فمازال بينى وبينها أسرار .. أعمق من طبقات الأرض ، أُوصد عليها الباب ، واجتر منها  ماشئت بكل ارتياح . لن أنسى لحظات السعادة التى قبضت عليها يوما ولم يمهلنى القدر أن استكمل شذاها وتسربت كالماء من بين أصابعى ، يومها تبدلت الأحوال ، من سعادة إلى شقاء ، ومن حب ووفاء ، إلى فراق وحسرات وبعده الألم . كم من أيام وليالى مضت وأنا على هذا الحال ، لم يبق لى أنيسا وصاحبا ونديما سوى انين الذكريات  ، ذكرياتى الملحة فكرتنى بالحلو والمر .. أحدهما أو كلاهما ، ومتى وُجدت فى الخاطر يخترقنى الشوق إليها .. نعم إليها وحدها ، فهى التى ملكت الفؤاد يوما ، إننى لازلت فى ذهول أفكر واسترجع كيف كانت تحاول القفز من فوق سياج الأمل المفقود لتقتنص فرحة عابرة شفافة وتبثها عبر الجميل فى حياتى ، فيسكرنى أريج أنفاسها ، وتزدحم فى قلبى معان كثيرة لم أقدر قيمتها وقتها ، حتى أعرف بعد ذلك قيمة الشعور باللهفة والإحساس بالتمنى ، ومعنى توارد لحظات الحنين لهثا فى تتابع وراء حب تلاشت معالمه ، ثم أجد نفسى من فرط الحنين ألثم فاهها فى اللاشعور ، وأشعر بالغبطة والسرور هنيهة ، ثم أعود فلا أجدها ، يصدمنى الواقع المر ، ويتبدل الحال داخلى وتملأنى كل سحب الأحزان فأبكى كالغيث . وعندما شعرت أن البكاء لايحقق لى شيئا ، ضحكتُ ببلاهة ، فوجدته أيضا لايملك لى شيئا ، وركضت إلى الأحرف لعلها تقربنى إليها أكثر، وتجعل المسافة بينى وبينها أدنى ، فقررت أن أكتب وأكتب وأفُضى لنفسى على الأوراق كى استريح ، إننى عزمت أن أكتب من أجلها فقط ، فهى غائبة ولن تعود ، ولكن تركت لى لفيفا شتى من زخم الذكريات ، سأترك لدموعها أن تنهمر من عينى ، وصرختها الكتومة أن تشرق من وراء سطورى ، وستنتهى حكاياتى معها من ألم ودموع وابتسامات ، هنا على حد قلمى .. منقوشة على أوراق من البردى .. منحوتة على جدران قلبى ، لألملم الجراح على الجراح والشوق على الشوك وتحملها مواثيق الحب الخالدة التى تعيش دوما دون أن تثقل كاهل صاحبها ، وتبقى كومضات ببارقة تكسو بقية العمر وأينما أسير.






ومضت الأيام فى تواتر حزين ، لاأعرف عنها شيئا ، لقد تقطعت الأسباب وانهارت ، حتى وقعت عينى على خبر نشر بالصحف عن اكتشاف مومياء مصرية جديدة بإحدى قرى محافظة الجيزة ، وكانت المفاجأة أنها خبيئة مومياء هاميس آخر عروس للنيل حيث وجدوا مقبرتها محتفظة بمعماريتها وكنوزها بالكامل قريبة من سطح الأرض بالبر الغربى لشاطئ النيل  دون أى تلف أو تعديات أو سطو أو تخريب ، بل وجُدت  النقوش والرسومات والكتابات بحالة ممتازة وبألوانها الطبيعية ، فى اكتشاف جديد لأجمل مقبرة عرفتها الإنسانية قاطبة بتاريخها الممتد والحافل عبر بوابة حضاراتنا  الفرعونية المصرية القديمة بآثارها الزاخرة . أنطلقت إليها دون إرادة ،  ووجدت نفسى أبلغ مأمنها فى أقل من الوقت المتوقع ، ذهبت إليها وكأننى طرت عبر السماء على بساط  من الريح حتى وقعت عينى عليها ، إنها هى .. هاميس .. ولكنها جسد راقد فى تابوتها الملكى المصنوع من الذهب الخالص بمقبرتها ، مرتدية ملابسها الرسمية فائقة الفخامة على لفائف من الكتان تفيح منها العطور، بدت وكأنها مسترخية نائمة فى ثُبات عميق ، ملامح وجهها الجميل يبدو مستريحا ولكنه ثابت مشحوب ، تنفرج عنه ابتسامة فاترة شاردة كأنها تريد الخلاص من القيود ، كأقحوانة شاء لها القدر أن تنفذ من أكمام تتفتح أفوافها فى أرض بور، عيناها شاخصتان ثابتتان ولكن تشع منهما وداعة فطرية  ، وعذوبة متناهية ، ورقة بلاحدود ، حتى بدت وكأنها تنظر لى ببشاشة وحب وأنا أرمق ملامحها تواقا أحمل الماضى وألف حولها وأدور ، وبداخلى فوران وبركان يثور ، يريد أن يثبو فوق الكبوات ، ويستنهض فيها الحياة كى تعود . ولكنها استسلمت لقدرها المحتوم ، وآسفاه لقد أصبحت هاميس جثة موضوعة الأن على لفائف يضمها تابوت ، تحيطه جدران مزدانة بصور منحوتة تمجد تاريخها الحافل بالحب والخلود ، بعد أن ملأت الدنيا حيوية وانطلاقا فى زمانها ، ثم تاهت فى الحياة ولعبت بها الدنيا دروب ، حتى جاءت لعالمنا الغريب برسالة من العالم الأخر"الحب والسلام" يوم أن أوفدت لنا منفردة بلا شهود ، وراحت ممزقة بين الرغبة فى إنجاز مهمتها ، وخيبة الأمل فى تحقيقها لوجود حواجز وحدود . ولم تستخدم إصرارا فى كسر الحواجز النفسية غير مشروط  ، لطبيعتها التواقة لحدود المكان وبُعد الزمان دهور ، ولكنها أحبت ، ياله من سلطان ، أفقدها توازنها وأخل بإحكام رباطة جأشها ، وصارت تغالب  بكل قوة الظروف، وتواجه المحن بكل صرامة ، لدرجة أن المحيطين بها من أصحاب القصر والنفوذ ، وكهنة المعبد وأهلها والمرجفون ، فقدوا صبرهم معها لتمسكها بالحب وهجرها لهم وفاء للإلتزام به معى واحتراما للعهود ، وهم الأكثر سطوة والأقوى جبروت .  ورغم ضعفها وقلة حيلتها ظلت حالمة منتظرة ، تعطى لنفسها الفرصة فى ترقب حتى تهدأ الأمور ، وتستطيع أن توفق بين التقاليد الملكية للحب فى زمن الحضارة ، والحب فى زمن التردى والتعثر والقصور .. زماننا ، كى تستطيع أن تتعامل مع الجميع بتفهم وصبر أكثر ، ولكنها عانت وقاست بين التزامها بالقيم وماواجهته من أحقاد ونفور .











تفقدت مقبرتها بإصرار بالغ ، حيث كان الوصول إليها شاقا ومضنيا ، بدءا بالنزول عبر سلم حجرى ضيق للغاية وممتدا بانحدار لأسفل ، كى أصل لباب المقبرة ، ثم تجاوزت سلما آخر تلاه .. أضيق من سابقه يصل إلى قاعة متوسطة الحجم . دخلتها بمنتهى الحذر وتهت بين جدرانها المتداخلة ، حيث كان علىّ أن أتجاوز أخر القاعة كى أرى بابا أخر فى أقصى اليمين أقل ارتفاعا ، لم يكن بمقدورى أن أراه إلا إذا تجاوزت تلك المنحنيات والتداخلات الموجودة بالقاعة والمبنية بإحكام ، هذا الباب يوصل إلى حجرة جانبية ، هى حجرة الدفن .. مرقد هاميس الأخير حيث وجُدت جثتها سليمة ، والحجرة على ماتبدو لم تطئها أية أقدام منذ رحيلها ، جدرانها زُينت أيضا بالنقوش الجميلة زاهية الألوان، والمناظر الرمزية الجذابة ، السخية ، والمنحوتة  بخطوط بسيطة واضحة وصريحة ، ولكنها بالغة الدقة ، تمثل بعض المشاهد لهاميس وهى تأخذ العهد من بعض الآلهة ، فى وجود الكهنة على هيئة جسد رجل ووجه ثور ، وصور أخرى لبقرات يرمزن لأمهات هذه الآلهة وهن واقفات يباركن مواثيق العهود ، وباقى أجزاء المقبرة من المرمم ممتدة للداخل على شكل حجرة مستطيلة  حتى أخرها حيث يوجد التابوت بجانب حائط صخرى وكأن المقبرة منحوتة فى صخور الجبل المجاور لشاطئ النيل . المقبرة جميلة ورائعة للغاية وتُمثل سجلا وافيا لحياتها، وكأنه فيلم سينمائى صامت ، يروى أدق تفاصيل حياتها القصيرة ، وحبها للنيل وللحياة ، بانوراما لقصة عشق وحب وتضحية وفداء ازدانت بها تلك الجدر زخما لترويها كاملة . قرأتها كلها كما علمتنى بتفهم أعمق لفكرهم المتحضر الراقى والذى يكمن وراءه معانى جمة كثيرة وعميقة ، ولكننى كنت أقف طويلا أمام كل ماكان يمس قصص الحب وحياتها وقلبها  :
ها هى صورها  
قد أغرتنى فيها فتنتها  
وملكتنى هيبتها
وهى على المسبح 
تغتسل بضوء النهار  
وتجفف بشرتها للمساء 
وتدهن بالطيب كل ارتباطاتها 
وتحلم بالفارس المغوار 
ثم تقف بين العُصبة للاختيار 
واثقة من نفسها 
فهى جميلة الجميلات 
تحلم الفوز بالقُربات  
لتقدم العطاءات 
وتؤثرالفداء 
وتنعقد على شرفها الأفراح  
على الشاطئ الزاهى الوتين 
لتدرك اللحظة الأزفة 
ثم تتجه نحو النهر وقت المغيب 
فى ثبات مهيب 
أعضاؤها ترتعد 
ويدرك النهر أنها الملاذ  
يحدد تضاريسها   
وفى لحظة إنغماس
يحتضن مفاتنها
وبغير التباس
تتلاشى معالمها
لترتشف من النهر العسل .
وراحت تنشد نصا فرعونيا جميلا  مكتوبا بالهيروغليفية : " يامعبودى .. يازهرة اللوتس ، حلو أن نذهب معا حتى نصل ، إلى النسيم والبراعم ".
ثم واصلتُ قراءة ماكُتب على جدار الجانب الأخر بكل تأن : 
هاهنا يقف عاشقوها 
مصطفين
حتى أقصى البعاد 
متراصين
على شكل فجوات 
حاشدين
يُعِدون أنفسهم للوشايات
ويجترون معالم الأسى
حاقدين
ولعشقها للنهر
خائفين
من تقلبه المريع
ويرجفون أن الجميلة خانت
وللنهر تركت وسابت
ووقفت على الشط  حائرة
وخرجت من طوع النهر عارية
تبحث عن ورقة توت
تستتر من الشمس الكسوف  
ومن القمر الخسوف
لاعنة لمن يهمسون لها وينظرون
متحدية أنها للحب أعطت قرون
وتمنت أن يتبدل الزمن بزمان
وتخرج من عباءة النسيان
وبفيض النسيم
قصة حب فى نيسان
يوم أن يعبق بالربيع
ويضج بالأريج
فيض واشتهاءات .












وهنا انتهت قراءتى للرسومات التى امتدت إلى نهاية الجدران ، على حلمها بقصة حب تعوضها عن زمن الحرمان ، حب يأتيها تجاه إنسان يختاره قلبها . سرنى مارأيت ، وتمنيت أن تضم هذه الجُدر حكايتنا  ، لتضاف فى تتابع قصص الحب وحكايات الغزل والشعر والليل وجمال العشق وقيم الحب وشيم الأخلاق فى الطبائع التى لم تعرف للحب سوى الوفاء به والتضحية من أجله . يالها من صور معبرة عن دقة متناهية .. روعة النحوت والرسومات ، والكلمات المنقولة عن الكتابة الهيروغليفية والمنتقاه بعناية فائقة ، التى يحمل أسلوبها وصياغتها طابع فن الكتابة الراقى ، الذى يتسم بالتلقائية والروعة والنزعة الإنسانية العالية ، وتؤكد أن الحداثة الشعرية ماهى إلا قيمة أدبية لها جذور من صنع التاريخ المصرى القديم ، ويكشف بجلاء عن رقى القول الشعرى عندها بكل مكوناته : المضمون والأفكار وجمالية التعبير ، ثم محاكاة الصور للكلمات بكل هذه الدقة والروعة . ملأنى كل هذا الشعور بالفخر أن الزمان أنصفنى ، حينما صادفت إمرأة بهذه الكيفية .. إمرأة فى كامل صحوتها ، وتملك مكامن صبوتها ، إمرأة من زمن الحب الجميل ، وأنها لم تكن إمرأة عادية بل مرشدة ودليلة لقيم الحب والعطاء ، ومرافقة لعالم جديد من الحب ، يسحرالقلوب ويجذب الأحاسيس التى تنصهر فيها المشاعر ، لدرجة الوفاء . وهذا ماجعلها فى نظرى دائما مثار إعجاب وأوقعنى فى غرامها . ورحت أتذكر كيف رأيت في عينيها هيامها بى ، وكيف راقبت أحساسها وهو يزداد ويرتقى يوما بعد يوم ، ومدى لهفتها كلما عرضت عليها أن أرافقها الجلوس على شاطئ النيل ، والحالة التى كانت عليها جلستنا فى مكان انحنت خلفه شجيرات تعودن أن تسمعن حكاياتنا ، ونحن نلقنها للشمس قبل غرقها فى المغيب ، ونسترجعها مع القمر قبل أن يصدح بالنشيج ، وتذكرت أيضا عندما تغير حالها عند رؤيتها له أول مرة ، فتأثرت لحاله وماقالته عنه إبان زواجها منه ، كما تأثرت كثيرا وبكت بكاء مريرا عندما أطلعتها على بقية معالم مصر، فلم تستطع كبت مشاعرها مما وصل إليه حال آثار أجدادنا ومجد آبائها الذى ضاع سدى، وكيف تعرض معظمه للسلب والنهب والسرقات والإهمال وأخيرا الهدم ، أى التخلى عن تركة عظيمة خلفوها وراءهم ، ثم عاتبتنى بحالة  اللامبالاة التى نحن عليها وعدم الإكتراث وتقديرنا لمسئولية الحفاظ على القيم حينما تركنا حضارة عظيمة بنوها هم بالعرق والجهد ودمرناها نحن بتخلفنا وبعدنا عن الأصالة . ثم أخذنى الفكر للمنطلقات العاطفية الحانية فتذكرت عندما لثمت فاهى بأول قبلة أحسست بها وكأننى لامست ورق الورد بنعومته اللامتناهية ، وتذكرت يوم أن بحت بما يكنه قلبى لها ، ويكتمه صدرى نحوها ، احتراما لقيمة الحب لديها وما تعرضت بسببه من عوارض وأهوال وفاء له ، وتذكرت حوارنا معا والتى أفضت فيه عن كيفية تغلبها بطموحاتها على أحزانها عندما صُدمتْ بمصارحتى لها أنها استهانت بقلبى وتركتنى أبحث عنها طويلا ، بعدما ذهبت واختفت فجأة ، فتصورتُ يومها أنها عاقبتنى بالغياب ، من باب التلاعب بالمشاعر والعبث بحبى لها بعد أن صارحتها به ، تذكرت يومها أننى دأبت فى البحث  عنها فى كل مكان ، ورحت أمشط كل الطرقات التى كانت لنا فيها وقفات ، حتى تعبت من البحث عن المرأة التى أحببتها وليس لها عنوان  ، وظللت أبحث عنها أياما وشهور ، تركت كل شيئ عداها ، كان شعورى وقتئذ أن كبريائى يحترق ، لكننى لم أكترث ، ولم أعبأ سوى أن أجدها وأراها ولو لأخر مرة ، وفجأة عادت .. أتذكر جيدا اللحظة التى وقعت عينى عليها بعد طول غياب ، يومها أحسست وأنا أقترب منها أنفاسى تتصاعد بحرارة وتملكنى الغيظ  وعاتبتها عتابا شديدا ، كم كنت يومها قاسيا عليها ، ولم تسألنى عن سبب ذلك إلا بالبكاء .. عتاب صامت مغموس بالدموع . ثم تأثرت بما قالته لى ردا على عتابى الذى وصفته بأنه الأكثر قسوة منذ أن عرفتنى ، أنها تحدت أهلها والناس والدنيا كلها من أجلى ، وجاءت لى هاربة من الإحكام والأسر ، فألجمنى ماقالت ولم أنطق ببنت شفة ، وإنما رحت أتفحص ملامحها بدقة وفى إشفاق بالغ لأتأكد أنها لازالت كما هى على عهدها . وتأكدت وعرفت ووعيت ، ثم كان وعدها لى بأنها قادرة على أن تعوضنى عن الأيام التى غابت فيها عنى رغم أن الأمر لم يكن بيدها ،  وكانت للوعد وفية حيث أكدت الأيام التاليات ، تبلور شعورها نحوى وتصاعده بشدة أمام عينى يوما بعد يوم ولحظة بلحظة ، وكيف تحول إلى عاطفة جياشة ، حتى جاء يوم وقررت أن تكشف لى ماينغص حياتها ، قلقا وخوفا على هذا الحب الكبير من الضياع ، وبقى حلمها في رأسها ، تفكر كيف تحميه من بطش أهلها بعد ماعلموا به وبقوة سريانه فى عروقها ، ولكنها لم تقو ، وذهبت دون وداع ، إنه القدر ، ياله من قدر .




كان اكتشافها ثروة قومية ، وانتصارا علميا هائلا ، وعالميا مدويا ، وكانت النهاية فى المؤتمر الصحفى الذى أعلن فيه عن زعم هيئة الأثار إيداعها المتحف المصرى  ليكون مستقرها الأخير، لقد توقف النفس وسقط القلب الخفاق بالمشاعر الرقيقة الحنونة ، المشاعر التى انصهرت فى الجراح ، وانسابت فى توجيه كل الأحلام والرغبات والحب الكبير الذى ملأ حياتى وعمرى . كان بودى لو لامست وجهها أو داعبت بأناملى شفتيها الجميلتين لأخر مرة ، تمنيت لو قبلت جبينها ، ولكن كان حملهم لها أسرع من فكرى الذى يبدو أنه سيتوقف كثيرا وسيأخذ وقته الطويل أمام أطلال الحب وبُعد الحبيب ، ومضيت تسبقنى دموعى ويملأ أصدائى صوت حليم " راح .. راح .. خد قلبى وراح ، خد نور أحلامى ، خد من أيامى .. كل الأفراح  وراح .. راح .. راح " . تمت الإجراءات ، وحملوها فى مشهد مهيب ومضوا بها لمستقرها الأخير ، أحسست وكأنهم حاملين معها على نعش الأحزان ، قلبى النابض فيها .. قلبى الذى أصبحت لاأملكه منذ أن عرفتها ، "لست قلبى أنا إنما أنت قلبها " نغمات من الحزن الدفين الذى يولد الأسى وتترجمه حنجرة حليم . ماذا أقول فى قلبين تواعدا بالحب فتوحدا ، ثم فرقهما الموت والليل الطويل ؟!! إننى أصبحت قليل الحيلة ، لاأملك أن أفعل شيئا ، فمن ذا الذى يستطيع أن يتجلد ويتحمل ؟ . مضى كل شيئ ولم يبق لى سوى الذكريات التى تعتصر الحب . أصبحت هاميس مجرد ذكرى كامنة فى عالم اللاشعورالمعنوى البعيد ، بعد أن امتلكت القلب والروح والوجدان ، رأيت قلبها وكأنه ينبض ، لازلت أحس نبضاته تدق فى قلبى وتطرق على عقلى ، وكأننا كيانا واحدا ، اتحدا وعاشا وانطلقا معا فى عالم أخر تحرر من كل القيود التى نسجتها الحياة من حولنا إلا من هذه النبضات التى لازالت تئن داخلها ولم ينلها عناية التحنيط ، فها ذا قلب خفاق ، الحب جعله ينبض بالحياة دون سائر الجسد المسجى داخل تابوت بين لفائف من كتان وعطور.







حملوها وهم لايدرون أن قلب هاميس مازال ينبض حياة تسرى من أصدائى .. دما فى عروقى .. دموعا من عيونى .. أنات فى صدرى .. صرخات تشرق من حنجرتى ، نحيبا لا تسمعها إلا أعماقى . إننى أرى قلبها على البعد يخفق بنبضاتى خفقانا .. يعلو فى صدرىى ويهبط  فى صدرها ، قلب فريد شديد الاستحواذ ولكن بكيفية رائعة ، فقد امتلكت صاحبته قلبى وأطبقت عليه ثم غادرت ، وذهبت للبعيد الذى لايأتى . إن قلبى ذهب معها منساقا إلى حيث ترقد فى مستقرها الأخير ، ولكن برضا نفس بعد أن تركت لى أناته الحزينة ، فالأن لا شيئ يهم ، ولافرق عندى الحياة أو الموت ، لقد توقفت كل عطاءات المنح وذهبت وراءها ، وأصبحت وحيدا . توارت كل الأشياء أمام نظرى وأصبحت كما لو أننى أشيعها وحدى ، وأنتظرت حتى تمت مراسم وضعها فى تابوتها الزجاجى بحجرة المومياوات بالمتحف المصرى ، بين الملكات  الفضليات اللاتى زخر التاريخ بهن ، لأقف أمامها فى مشهد مهيب ، لم يبق منه سوى لحظة الوداع ، وقفت أمامها أبكى قصة حب أنطوت وذهبت من سجل الأيام والليالى ، عيونى شاخصة على وجهها فكل جانب منه يحاكى عمرا ، وكل نظرة من عيونها حكاية ، وكل ابتسامة فيها شيم وطبع ، ابتسامة الرضا التى لم تفارق جبينها قط  ، عاشت بها وماتت عليها ، ثم رحت أتخيلها واقفة .. نائمة .. منطلقة كعادتها ،  وتذكرت أول لقاء تم بيننا .. يوم أن وقعت عينى عليها ، وقتها لم أصدق ماأرى .. فتاة في ميعة الصبا .. تتمتع بجمال لا يضاهى ، فاتنة السحر من اللاتى تستحوذن  فى التو واللحظة على أفئدة من ينظرون إليها ، بشرتها مخملية النعومة ، تأسر الألباب بجمال وتناسق تقاطيع وجهها ، تتمتع بذكاء فائق مما جعلها شديدة الثقة بنفسها ، تتحلى بدرجه رفيعه من الثقافة ، لماحة وتجيد التحدث ، تملك فكرا ثاقبا ، فائقة الطموح ، صاحبة شخصية قوية ، ومع هذا كانت لديها سجايا فطرية طفولية ، مشاكسة ومندفعة وسريعة الغضب ، مضطربة الخاطر ، تتحول مشاعرها العاطفية فجاة من السعادة الغامرة إلى الحزن والأسى البالغ ، ومن الضحكة الرنانة إلى الدموع الساخنة  ، عنيدة لا تقبل أى توجيهات  ، ولكنها حنونة بسيطة تصفو سريعا ، فكل ما فيها كان يدعو للتأمل والحلم ، معها تعرفت على ثقافة الحضارات المصرية العريقة التى لم أكن أعرفها بهذه الكيفية من قبل ، ومعها استمتعت بالموسيقى المعبدية المهيبة .. واسعة الأصداء كانت ولازالت ترنيماتها تملأ كل مساحات الشجن بداخلى ، والمتع الحسية التى لم تبخل علىّ بها ، فأدخلتنى من خلالها لعالم من السحرالخفى ،  كما منحتنى تأشيرة الدخول لواحة الفكر وجماليات روعة الفنون لدى أبائها وأجدادها فانطلقت معها لعالم معرفى جديد لم أكن أعرف عنه شيئا من ذى قبل . إنها كانت تمثل لى الحياة ، بكل أبعادها وعنفوانها وثرائها . سأُعد نفسى من الأن أن أعيش بالمأثورات القديمة التى كانت تقولها لى دوما : "ليتنى كنت خاتمك الصغير .. حارس أصبعك .. لأرى حبك فى كل لحظة " كم تمنيت أن أكون أنا كذلك حتى لاتغيب عنى لحظة واحدة ، ولكن ماجدوى هذا الأن ؟ لاشيئ سوى أن اقف عن حد التذكر والتمنى استتر وراءهما واستعذب العذاب بالكلمات ، فأى كلام يقال وأى كلام يسمع . ثم أخذتنى دوامة الوهم الجميل إلى طوفان من الشجن لم أعرف مثله قط قبل ذلك ، ورحت أنشد :
أقف على بابها بتأنى
تحاصرنى أفكارى بالتمنى
أرهف السمع على إشارة تأتى
أو بارقة تضيئ
تفترع السماء  لتنبئ
الموكب الملكى قد يحين
وأنا على رأس الأشهاد 
منتظرا أن يجيئ
ونادى المنادى من بعيد :
هاميس ملكة النهر الجميلة قد أتت
فلتهيأوا وتأهبوا للمحفل
يامن أحبوها وقصدوا ساحتها
فها هى وسط الحشود تسير
وستختار للحب من بينكم أسير
ليقع اختيار قلبها على من يريد
والرفاق فى غمرتهم يتسألون
أهذا تجمهر لرفعة وطن
أم لإمرأة ضج بوجهها الأديم
ثم جاء وقت سكت الرهط  فيه
وفزعنا السكون
كى تختار حبيبها
ياتُرى من سيكون
حتى تلاشت المساحات 
حد الإنحسار
تأهبت لتأوى إليه متئدة
سابحة فى المدار
ساطعة كالنهار
من طلعته حتى المغيب
من الندى إلى الأصيل
من كبد الشمس للظل الظليل
لعلها تشارف مد السماء
تبسط بين يديه احتياج العشاق
فدنت منى مسرعة المروق
حتى سكنت إلىّ  
وذابت فى العروق
وتعالت الهتافات
وشربنا نخب الأحباء
فرحين حد البكاء
فالذى بيننا ليس نزوا
ولامحض اشتهاء
ولكنه الأثير
جمعنا فى لحظة انجذاب
فيها الحب وفيها الوفاء
وعشنا أيام وليالى
حتى بلغنا حد الأرتواء
من الوهج السديم
ثم رمقنا مهدم اللذات
ومفرق النديم
وانسرب من حبنا الحياة
كان ريا لظمأ قديم
ترقرق بأنسها الحميم
خضراء باسقة 
كالعود القويم
ويالعجب الدنيا !
لم يعد كل ذلك يفيد
فقدر الدنيا واقع
حتى ولو بلغت الأمانى 
مد السنين
فلاعادت الأحلام تجذبنى
ولا أنا لها أسير .



ياله من خيال خصب لم يعد لى سواه ، تخيلت كل هذا ، وتخيلتها تحدثنى وأحدثها .. تحنو على .. تواسى وحدتى وكأنما تريد ألا أتعذب بعدها . انخرطت فى بكاء مستمر دون أن أجهش .. وظلت دموعى تبلل خدى وحلقى .. حارقة نازفة صريعة حزن الفراق .. كم هو مفجع ومؤلم أن تتسلل الروح من جسد من نحب وتختفى أمامنا .. مفجع أن يتجمد ويشحب وجه طالما كان مشعا بالحياة يملك من النضارة مايملك ومن آيات الجمال مالايستطيع العقل وصفه .. كيف يذبل هذا الجسد الذى كان يضج بالنشاط والروعة ؟ كيف تخمد هاتان العينان اللامعتان الجميلتان اللتان طالما منحتنى كل مشاعر الحب والرقة ؟ كيف يفتر هذا الوجه المستغرق أبدا فى عشق الغرام ، بلمسات الحنان ، ومتعة الحوار وصنع الأحلام ؟ كيف ينطفئ هذا القلب المفعم ببياض الحب ؟ نعم بياض الحب .





عدت سريعا لأصداء الحياة وأفقت من شردتى على صوت الحارس يطلب منى مغادرة القاعة الملكية التى أصبحت هاميس واحدة منهن . لم يحتو المكان غيرى ، لقد حانت لحظة الفراق على صوته بأن وقت الزيارة قد انتهى ولم يعد فى المكان أحد يناديه غيرى ، أومأت رأسى خجلا  وتزحزحت عن المكان ببطء ، بعد أن تسمرت قدماى أمامها وقتا طويلا ، ثم خرجت مغادرا وتركتها . تحول إحساسى بعد ذلك إلى الكآبة الخالصة، أرفض الواقع المر، أحلق بالخيال فى حلقة مفرغة .. لاأرى فيها غيرها .. تعذبنى نظراتها التى أصبحت تطاردنى فى اليقظة والمنام .. فى أوقات الليل والنهار ، لقد أصبحت استمتع بالعذاب .. العذاب الطويل .. أناجى طيفها كثيرا :" هاميس يابنت النيل .. يامصرية القلب والضمير .. يامن أحبت فأعطت .. وتمنت فوهبت .. يامن قدمت حياتها فداء لوطنها .. وضحت بروحها وجسدها مرتين ، مرة فى أحضان النيل من أجل أن يعيش الملايين من أهل البسيطة على أرض الكنانة مصر، والأخرى من أجلى .. نعم من أجل الحب .. من أجل أن أعيش أجمل أيام حياتى ، هربت من عالمك لتكمنين فى عالمى كى أعيش أجمل أيام عمرى .. لك حبى وامتنانى .. لك شوقى وعذابى .. لك سلامى الذى سيظل طيلة أيام حياتى يطوف حولك وبك .. مسافرا إليك  إلى حيث تكونين ، لأبقى بقية عمرى مكسور القلب والخاطر، ويبقى شيئ ما بداخلى  يتعذب .. يئن، ولكن هذه المرة أعرف ماهو ، وهل هناك شيئ بعد الحب يستحق أن أنثر رفاته هنا عند راحتك وبين يديك ؟ لاأظن .  








هاميس كلمة أخيرة فى أذنك التى لن تسمعنى بعد اليوم ، سأهمس بها رغم أن كل شيئ مضى إلى غير عودة وانطفأت جذوة النار المشعة فى قلبى وصدرى وأصبح الحب رمادا يغمرنى .. وثرى يضمنى .. وواديا فسيحا تضيع فيه صرخاتى بعد أن تحولت حياتك مجرد ذكرى .. مجرد طيف يصاحبنى ليل نهار ، ستظل قصة حبنا أبدية ، فلاأتصور عالما لست فيه ، ولاأتخيل دنيا لاتحتويك ، إننى لازلت أرى الأشياء بعينيك ، فكم كان من الصعب أن يغتال الحب عند منتصف الطريق ، وتموت الكلمات فى الحلق ، ولو تجاوزته لاتجد من يسمعها، وتهطل الدموع ولاتجف لانها لم تجد من يمسحها ، ولكن لازلت عند وعدى أتأمل البقايا الصغيرة .. إننى سأعيش الأن على البقايا ، وسأتمسك بالقليل ، سأعلق صورتك على جدران قلبى ، وستبقى ملامحك محفورة داخل شرايين جسدى ، فلا أقل من أن يبقى أنين الذكريات .. لأيام وليالى حلقت السعادة أجواء أجمل مافينا .. سعدنا بأمسنا القريب البعيد الذى لن يتكرر .. ولن يعود " . وتمضى الأيام بى متواترة ثقيلة .. متوترة حزينة .. أحاول أن أنغمس فيها بيأسى وآلامى رغما عنى ، توجهنى الحياة فيها كيفما تسير .. وأتوه وسط الزحام وأكمل رحلة الأيام .. وآه من الأيام آه .. لم تعط من يهوى مناه .

تمت بحمد الله
القاهرة فى ديسمبر 2015                                
                                  مع خالص تحياتى : عصام


تنويه : وصف الأماكن والرسومات على الجدر مجرد محض خيال وليس حقيقيا








هناك تعليق واحد:

  1. قمة الحب هو التضحية الممزوجة بالعطاء فأنا أفضل الانسحاب من حياة إنسان أحبه لكنه يسعد مع غيري من أن أظل في حياته وأسبب له التعاسة وهذه قصة هاميس من بدايتها إلي نهايتها جاءت وملأت الدنيا حبا وعطاء لمن أحبته لكنها لم تنل منه غير عدم الاكتراث كانت تحارب من اجله وعندما آثرت الانسحاب بدا يشعر أن ثمة شيئا قد فقده وبدا رحلة البحث عنها ولكنها آثرت الانسحاب للمرة الأخيرة بالموت أصدق حقيقة فوق الأرض كي تترك من تحب يعيش في سلام مع من اختارهم قلبه نعم احيانا نترك من نحب ونتخلي عنهم لأن في التخلي السعادة لهم والاستقرار وتبقي الذكري كما عبرت تعتصر قلوبنا لكن ما يجعلنا نمضي في طريق الفراق للنهاية أن النهر سيظل يفيض ويروي القلوب العطشي وأن السعادة ستكون حليف من نحب قصة رائعة عشنا معك فيها اعتصرنا الألم ولكن كان يحدونا الأمل والامل يعني المستقبل والمستقبل بيد الخالق فننتظر لعل روح هاميس تلك الأسطورة الخالدة تعود من جديد وتملأ الدنيا بهجة وسعادة دمت ودام قلمك وحروفك المضيئة

    ردحذف