music

الجمعة، 15 يناير 2021

وإذا مرضت فهو يشفين

 

كنت بحكم المرض الذى أصابنى به القدر فجأة ودون سابق مقدمات جعل فى مقدمة أفكارى البعد عن مشاكل الحياة والعودة للنفس فهى دائما التى تبقى معك فى أحرج أوقاتك ، ورحت أفكر بصوت عال فمازالت هناك مساحات من الوقت وفراغ حينى بإجبار ، وسألت نفسى كيف يأخذك المرض بهذا الشكل ويفصلك عن الدنيا ، ثم يفصلك عن الناس ، ثم ينفرد بك ويجعلك ترى نفسك دون أن تفعل لها شيئا ، بل تقف معصوبا .. مبهوتا لاتقدر على الحراك ، وقد يكون هذا وضع طبيعى عندما تختل الأمور وتمرض وتذهب لعدم الإتزان فسترى حياتك وكأنها تتهادى بين اليقظة والمنام وكلاهما مع حالة الإعياء مر . قد يرغمك هذا الوضع بالضرورة البعد عن الناس وأن تنصرف عن الكلام لتنشغل بما يدور فى رأسك المجهد ، والذى يدور فى رأسك هو نوع من استئناف الحوار بينك وبين نفسك ولكن بالإكراه ، وأن الذى صنع هذا هى الحالة المرضية التى باغدتك فجأة بما تنطوى عليها من هلاوس وخطرفة وأرق مقيم من جراء أوجاع الجسم وأنينه ، وأن الحرص على الإقفال النفسى لم يتم وفق إرادتك ، وإنما هى حالة طارئة مفروضة عليك فرضا تحت وطأة المرض قد تعيد فيها حساباتك مع النفس ومع الناس ، لترى مقدارك عند الأخرين فيحقق لك هدفا مهما جدا كنت لاترى له مكانا أو أثرا فى حياتك الواعية . إن حكمة العقل والجسد ربما مثلت فى جزء منها حجم معاناتك التى تطفلت على حياتك دون أى تدخل منك بأن تكلف نفسك مجابهة هذا الضيف الثقيل الذى جاء ليجبرك على التعايش معه كجزء من رحلة معاناة مع آلام لاتعرف إلى متى ستمتد بك وفى أى وقت ستبرح عنك . وربما تفكر بطريقة أخرى على غير عادتك وترى مصيبة هذه الحياة على حقيقتها أنها تغرق الناس وتشغلهم .. ينشغلون بها وينشغلون عنها ، وفى النهاية لايأخذون منها إلا القليل ، والقليل الذى يأخذونه يكون عادة عبارة عن وهم أو حالة تشبه الغيبوبة مثل التى أنت عليها الأن .. تخيل نفسك وأنت لاتستطيع إدارة نفسك حتى فى مسألة الراحة نفسها .. أن النوم لاتستطيعه .. والنوم هنا ليس للراحة وإنما إجبارا للراحة ولذلك فنحن نتصيده بالحبوب والعقاقير ومع ذلك لايأتى مستريحا وخاصة إذا تطور بك الحال وتجد نفسك تعانى من أشياء أخرى كثيرة غير النوم المتهدج الذى يزيد من ألم الجسم وحرارته ، منها دوخة المرض نفسه وضيق ذات الصدر ووهن الجسم وانهياره وتداعيات مراحل التعب التى تسبب لك الهواجس والكوابيس .. منتهى المرارة ، وحتى فى تقبلك لأمر الطبيب المعالج عندما يقرر لك علاجا وتتجرعه يكون أيضا غصبا عنك .. فكلاهما واحد فى مرارته . حقيقى أن معايشة فترة المرض أرقنى فيه التعب كثيرا وأرهقنى وحملنى مالا أطيق .. حتى وصلت فى بعض الأحيان أن ضاق بى صدرى وأظلمت الدنيا فى عينى ، ولست أدرى أهذا من سوء حظ الإنسان أم من توفيقه ، إننا نملك حق التصرف فى كل شيئ إلا لشيئ واحد لانملكه هو حياتنا ، وكما أن الحياة لاحيلة لنا بها ، فكذلك المرض . وإن كانت هناك حكمة من هذا فإن الأمراض والأسقام رغم علتها وقسوتها إلا إنها فرصة حقيقية كى تعيد للإنسان اتزانه النفسى وتنبهه إلى هشاشة هذا الكيان الذى يختبئ فيه ويتغطرس ويستقوى به أمام عنفوان الصحة فلا يرى مايراه المريض ولايشعر بالمرارة التى تذم حلقه وتدفعه دفعا للإنزواء بعد تقدير حجمه الواهى الضعيف . فضلا عن هذا كله ومع مراحل التعافى تخرج بشيئ لطيف جدا حيث تجد نفسك تلتفت لأشياء لم تكن تلتفت إليها من قبل وأخذتها بحكم العادة أنها مسلمات ، إنك عندما تستشعر خوف وقلق زوجتك وأولادك عليك وتوفير جزء كبير من وقتهم لرعايتك وخدمتك وراحتك شيئ يدعو للفخر ولصحوة داخلية وشعور كبير بالإمتنان والغبطة والسرور ، وعندما تستشعر بقلق أصدقائك وأحبابك وخوفهم عليك وسؤالهم الدائم عنك أيضا شعور إنسانى كبير لاتستطيع تقديره ، إنها الفرصة الحقيقية لإعادة تقييم نفسك ومن ثم علاقاتك بالناس ، فالرؤية هنا تكون أكثر وضوحا وأكثر نضجا وأكثر استشراقا ، وهذه هى حالة الخلو من المعاناة التى يمكنك أن تصل إليها بعد فترة طويلة من التأمل العميق أثناء مرضك ، فلا تشعر بالمؤثرات الخارجية المحيطة بك على الإطلاق ، أى تصبح منفصلا تماما بذهنك وجسدك عن العالم الخارجى ، ومن ثم ترى الأشياء الصغيرة جدا بوضوح كامل ، والهدف من ذلك هو شحن طاقات الروح من أجل تحقيق السعادة النفسية العميقة والقناعة والرضا بما قدره الله لك ، لتبتعد بهذه الحالة عن كل المشاعر السلبية من الاكتئاب والحزن والقلق والخوف وغيرها ، لذلك شعرت بأن الحسنة الصغيرة كبيرة جدا فى عينى استروحها قلبى واستشعرها فؤادى وفاضت على جوارحى فلا أنساها ، لأنها نقلتنى إلى شيئ جديد كنت أجهله وأجهل أن له مكانا فى نفوس الناس . اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وبصفاتك العلا وبرحمتك التى وسعت كل شيئ أن تمن علينا بالشفاء العاجل ، وألا تدع فينا جرحا إلا داويته، ولا ألما إلا سكنته، ولا مرضا إلا شفيته، وألبسنا ثوب الصحة والعافية عاجلا غير آجل، وشافنا وعافنا واعف عنا، واشملنا بعطفك ومغفرتك، وتولّنا برحمتك يا أرحم الراحمين .


القاهرة فى يناير 2021