music

الخميس، 30 مايو 2013

وفاء إيزيس وعودة هاميس ( الجزء الثانى )


كانت أيام الربيع الأولى تتسلل فى نعومة ورقة وحنان ، أيام فى حياتى لاتنسى .. أقبلت وأقبل معها إحساسى بأطيب ألوان السعادة والهناء والحب ،لاأدرى كيف ذهبت بعيدا مع أحلامى ، ولكن مافوجئت به فى تلك الليلة الموعودة ، جعلنى أظن أننى أسرفت فى الخيال ، إن الإسراف آفة حياتى ، ولكن هوس الدأب على اقتفاء كل أثر لإيزيس جليلة القدر .. وفية الخلود .. والتى قهرت الموت بمشاعرها القوية تجاه ماأحبت بمنح لامتناهى مطلق الحدود .. وأعطت فكان العطاء الذى بلغ المدى دون مقابل ، جعلنى أكثر تشوقا لمعرفة المزيد عن الكائن العجيب أوزوريس رب العدالة فى الحضارة الفرعونية وربما غيره من أساطير ، إذ ما الذى حفزها على مواجهة الخطر بالحب ، والحب بالموت والموت بالتحدى ، آه من الأساطير وماتبدعه الأساطير . مر وقت من تلك الليلة وأنا جالس فى مكانى فى أوج الصحوة والنشوى واليقظة ، كأننى أخشى النوم أن يدنو منى ، وأنا فى الهزيع الأخير من الليل.





فجأة قفزت أمامى فتاة مشرقة الطلعة .. فائقة الجمال تسدل عليها ثوبا من الحرير الشفاف أبيضا ناصعا  ، ذات قوام متناسق رشيق ، وقفت أمامى بدمها وشحمها وجسدها ، ولاأبالغ إن قلت عن إحساسى فى هذه اللحظات بأنه لايوصف ، حيث تسارعت دقات قلبى وارتعدت مفاصلى وغطى العرق جسدى .. عرق بارد ، واحسست بدوار غريب ، ودار بعقلى ألاف الأفكار التى تنكر ماأراه أمامى جليا واضحا ، أحاول التركيز فى البريق المنبعث من مقلتيها الواسعتين السوداوين الكحيلتين ذات الأهداب الطويلة ، ولكننى لم أستطع الصمود فى مداومة النظر إليهما ، فنورهما مبهران وساطعان للغاية لدرجة أنه يكاد أن يخطف البصر ، فتولت يدى فرك عينى أكثر من مرة فى محاولة استعادة ماأراه من نور وتوالى المشاهد الغريبة التى تحدث الآن ، طلعتها كنورعينيها مبهر ساحر كلما لامس نسيم السحر ثوبها تطاير حولها ، وبدت بطلعتها وثوبها أشبه بالنور الهادئ الجميل ، طلعة تشرق معها الحياة بصفوها وعذوبتها ، كأنها ملاك جميل مرسوم بريشة ليوناردودافنشى على أسقف الكنائس . قاطعت سكون ورهبة اللحظة نابسة بأول كلمات : أنا هاميس ، ألم تسمع عنى ، أنا قصة فرعونية فيها موسيقى معبدية وشعر وطقوس ، حياتى من الزمن السحيق .. عالم من الأطلال الذى يكتنفه الغموض الأسطورى ، كم تمنيت هذه اللحظة . ثم خرجت من فمها آهة خفيفة وهى تنظر صوبى : أخيرا أصبح الحلم حقيقة .. لقد أمسكت أحلامى بيدى .. ملكتها بالحقيقة ، لقد عشت مع توالى الأيام وانقضاء الليالى أتنسم الماضى الذى أنا جزء منه .. أملأ به قلبى وعقلى بمعانى الخلود ذاك الذى عشته ، ومع كل بسمة فجر جديد أطلق خيالى أتخيل هذه اللحظة ، من سأقابل وكيف سأرى وماذا سيواجهنى به القدر ؟!! الأن اكتملت الصورة أمامى ورأيتك ، أحدثك وتحدثنى . حاولت أن أتجاوز بسرعة لحظات الشرود الأولى التى تكلمت فيها ولم أسمعها بسؤال محدد: من أنت ؟ قالت وهى ترنو إلى بنظرات حانية : بعد كل ماقلته لك ألم تعرفنى بعد ؟! ، لقد قلت لك اسمى منذ لحظة واحدة ، قلت لها :آسف لم أسمعك . ردت فى غبطة وبنظرات كسيرة : أنا هاميس ، قلت لها بدهشة : هاميس من ؟! قلبت شفتيها بامتعاض وكأن لسان حالها يقول من هذا المجهول الذى لايعرف جميلة الجميلات . تصورت أن التاريخ أنصفها وكل الأجيال تعرفها مثل إيزيس ، أومأت برأسها متعجبة وقالت : ألم تسمع بعد عن عروس النيل التى أتُخذت قربانا للنيل كى يصفو ويهدأ ، ويكون أكثر وداعة ورقة ، فلا يفيض فيضانا مدمرا يجتاح به القرى والمدن فى ثورة عارمة ، هل تذكرتنى ، إناهاميس .. أنا آخر عروس للنيل يابن مصر الحديثة . بدت وكأنما قرأت ماتولد فى خاطرى بأننى لاأصدق ماتراه عينى وأننى لازلت على حالى  مضرجا بالتوتر الشديد .. تهيلنى الأفكار وجو الأساطير .



فى هذه الأثناء تذكرت فجأة قصص وحكايات نداهة الحقول أو سيدة الترع والمستنقعات وما كان ينسجه عنها خيال أقاربنا فى الريف كلما حللت أنا ووالدتى ضيوفا عليهم عندما كنت صغيرا، كنت استمع بإنصات لرواياتهم التى لاحصر لها ورسخت فى العقلين الظاهر والباطن خلال الطفولة لم نتبين بعد وإلى الأن  مدى صدقها أوصحتها ، فقد كان يروى عنها أنها امرأة تتمتع بجمال ساحر يخطف القلوب ويخلب الألباب .. غريبة كالسراب قريبة بعيدة ، تمشى على الأرض والماء ، تتسع عيناها وتنفرج شفتاها بلا إرادة ، صوتها له رجع صدى وضحكاتها تسمع له دوى بسحر الليل يأخذك ويرهبك فى آن واحد ، بإمكانها أن تظهر بالشكل الذى تريده وفى السن التى تختارها ، كما يمكنها أيضا تغيير حجمها . لها قوة خارقة باستطاعتها أن تخترق الحوائط بسرعة البرق مستخدمة حيل الأنثى وفتنتها الذكية التى كانت تفلح جيدا فى استخدامها فى إغواء الرجال ، وكان ديدنها الظهور في الليالى المظلمة لاعتراض سبيلهم ، لاتنادى ولايسُمع لها صوت إلا فى الأماكن الواسعة الخالية من المارة وخاصة على ضفتى الترع والحقول ، نداؤها غالبا يكون للشخص التى تريده فينجذب لها مندفعا متتبعا النداء دون إرادة منه تحت طائلة جمالها الطاغى وتأثير سحر نداءاتها إلى أن يصل إليها ، ثم اختلفت الروايات فى شأن مصيره قيل أنه تحدث له هلاوس وتطورات نفسية فيبدأ فى التحدث مع نفسه ويأخذ فى التردد على الحقول كثيرا قاصدا المكان الذى قابلته فيه أول مرة ، وقد ينتهى به الحال بالجنون أو أن يختفى لفترة أو فترات .. يصعب تعقبه فيها أو معرفة أين يختبأ وقد يجدونه ميتا، وقيل لو صادفه وأحبته يمكنها أن تتعايش معه فى نور الظل دون الشمس أو تأخذه معها إلى عالمها السفلى وتتزوج منه . إننى لازلت فى حيرة وخوف مشوبين بالحذر الشديد أربط ماأراه أمامى بكل مايدور فى ذهنى الأن من الأساطير الشعبية والفرعونية ، ربما كان اهتماماتى بحضارة مصرالقديمة هى السبب فيما أبدو عليه الأن من هوس ، حيث كنت دؤوبا فى سماع القصص والروايات وقراءة الكثير من كتب السير والحكايات والزيارات الكثيرة والمتكررة للمتاحف والمعابد عن ماخلفته الحياة المتحضرة فى مصر من آثار اجتماعية واقتصادية وسياسية بفلسفتها الصعبة المعقدة والغريبة  ولكن ما أشاهده الأن أمر أغرب مما يتصوره الخيال حقا ، أن أجد نفسى أمام إنسانة لاأعرف عما إذا كانت هى النداهة أم  إمرأة المستنقعات أم إمرأة قادمة من العمق .. من الزمن البعيد ومرت عليها كل هذه العقود الكثيرة ، إننى أجد نفسى مخترقا تماما وسط  تلك الحواديت والحكايات ، لتتصاعد فكرة ملحة أهذا حقيقى أم خيال أم أنا فى حلم أم أواجه خطرا؟ ، رباه إننى أراها بعين رأسى . قاطعت ذهولى للمرة الثانية بعد أن تركتنى مستغرقا لفترة كى استوعب الموقف كاملا : إننى آتية من حيث انتهى تفكيرك .. أنا هاميس ، أسطورة أخرى من عالم الأساطير .. جئت من العالم الأخر .. أوفدتنى الآلهة أتون برسالة معبرة عن نشرالحب والسلام ، فقلت لها : لمن هذه الرسالة بالضبط ؟ قالت : إليكم ، قلت : إذن لماذا أنا تحديدا ، قالت : أنت من قادنى الشوق إليك ، وأنت مصرى موصول بجذورك .. ولا حياة لشجرة بلا جذور ، ونحن جذورك وأنت نبتها الطيب . أعجبنى لغة حوارها المنطقى المقنع والمذهل رغم غرابته ، وكان سببا كافيا كى يهدأ روعى وتذهب حالة الهلع التى كنت عليها وخاصة أنها لم تكن نداهة ولم تأت من الحقول ولم أسمع لها صوتا إلا عندما تكلمت معى بكل سعة صدر وهدوء . بدأت أستوعب الموقف واستعيد حواسى واتزانى وزادت صورتها التى بدت عليها والتى جاءت متوافقة مع روعة الجمال الذى فاق كل خيال بتقاطيعها الجميلة وبشرتها الصافية من التخلص نهائيا من حالة الصدمة التى خلفها التباين الشديد من عاملى الزمان والمكان ، حيث بدت عيناها واسعتان فيهما صفاء ، شعرها ذهبى طويل ، أنفها متقن دقيق ، وشفتاها متفتحتان ممتلئتان ، صوتها كله أنوثة ، طلعتها مبهرة ، قوامها مستو ، ملابسها حريرية شفافة مرصعة بالحلى الذهبية ، يعلو رأسها تاج مرصع بالأحجار الكريمة ، حتى تصورت أنها أجمل فتاة وقع عليها بصرى . هتفت متمنعة وعيناها اللامعتان تقتحمان كل شيئ فى وجهى ، فقرأت بحس الأنثى ماكنت مستغرقا فيه من فكر .. أحست بشيئ من الارتياح يجتاح قلبى وعقلى ، أغمضت عينيها ، أخذت نفسا عميقا ، هزت رأسها فى اتجاه واحد حتى لاتحول نظراتها عنى ، ووجهت لى الحديث : عصام تعرف أنا التى اخترتك من بين ألوف البشر كى ترافقنى فى مهمتى . أصابتنى الدهشة لمعرفتها اسمى ، ولكنها لم تمهلنى فرصة أن أسألها عن كيفية معرفته . فجأة همت من مكانها واتجهت حيث أجلس ودست جسدها الرقيق إلى جانبى على المقعد ، وأحاطت كتفى بذراعها ، وتوالى حديثها فى صوت عذب وهى ترمق وجهى فى شغف : أتعلم كيف أخترتك وكيف عرفت اسمك ؟ قلت لها بعد أن استدرت إليها متلهفا الإجابة : كيف ؟ قالت : الصدفة وحدها هى التى قادتنى إليك بعد أن تتبعت أصول أسرتك من جذورها مذ عرفت أننى سآتى إلى عالمكم .. فلامست طيفك .. همت على وجهى ورأيتك أكثر من مرة دون أن ترانى .. أعجبتنى إبتسامتك الجذابة ونظراتك التى تشع حبا وحنانا لكل جيرانك وأحبابك ، تماما كما كنت أراها على وجه حبيبى " ميرى " بطبيعته السمحاء ونقاء سريرته .. هل يضايقك هذا ، قلت لها فى حنان قد أنسانى رهبة اللقاء وغرابته : أبدا أنا سعيد برأيك رغم أن جرأتك اخجلتنى، ولكن من هو " ميرى " هذا ، قالت : ميرى كان خطيبى قبل اختيارى للزيجة المقدسة .





مازلت على قدر الموقف ازداد مهابة يكتنفه الغموض كلما تطورالحديث الذى كان مزيجا من المشاعر المضطربة والرومانسية الإسطورية التى كانت تحاكى التاريخ فى زمن الحب ، فقلت لها : الزيجة المقدسة !! وميرى ، ماهذا ومن ذاك ؟!! وماعلاقتى أنا بهما ، فأنا لست حبيبك ولا أنا ميرى ، إذن كيف شعرتى بى منذ أول لحظة ؟ لاأخفى عليك إننى لازلت مستغربا لوجودك هنا الأن وافصاحك عن مشاعرك بهذه السرعة ، فقالت فى رقة : لاتستغرب ، سأحكى لك قصتى ، لكن لك أن تعرف أننى صادقة معك فى كل كلمة قلتها لك وكل كلمة سأقولها بعد ذلك .. أنت فعلا تشبه "ميرى" إلى حد كبير.. شبه لايتصوره عقل لدرجة أننى ظننتك إياه ، ولكنك لاتعرف مقدار حبى له ، إننى كنت أحبه كثيرا .. حبا شديدا كدت من جنونى إليه أن أعشق الحب والحياة من أجله ، ولكن فرقتنا الأيام مذ إختيارى عروسا للنيل ، وهى مهمة كهنوتية وشرف لايدانيه شرف لبنت مثلى أن يتم اختيارها لهذه الزيجة المقدسة التى تنشر الرخاء وتجدد العهد لملكوت أتون ، وكانوا مذ اختيارى ينادونني .. حلم النهر .. العروس .. الأميرة ،لأننى كنت أجمل فتاة على أرض مصر وقتئذ .. وأى فخر ، تصور كيف تمت إقامة ليلة عرسى ، كانت بدايتها هناك في المعبد الكبير ، حيث أقام الكهنة المراسم ، كانوايتمتمون أناشيد من صحائف البردى ويدقون الطبول، ثم يتوجونني برأس أفعى عيناها ياقوتتان رمز الرفعة والشموخ والخلود ، وكانوايضعون بيدى صولجانا بمفتاح النيل لايمنح إلا لمن يتقلدون هذا الشرف العظيم .. وليس لغيرعرائس النيل ، كنت أبدو فى أبهى زينة وأجمل ثياب تم تطريزه بالزمرد والياقوت والرقائق الذهبية ، ثم تمت بعد ذلك مراسم زفافى فى احتفالية كبيرة مدت لها الولائم على ضفتى النهر ، والنيل نفسه كان فى هذا اليوم مزهوا تفترش صفحته أزهار اللوتس وورد النيل ، كان يمر بين حشود فرعون الذين جاءوا يباركون العرس ويرسلون التمائم صوبه تبركا وكرامة له ، إننى لازلت اسمع صوت أهلى وهم يقولون لى : " إن النهر عطوف .. حنون ستشعرين بدفء أبدى يسرى فى قلبك وجسدك حالما يطبق عليك بجناحيه " هذا آخر ماسمعته من كلمات بعدها دقت الطبول دقاتها السريعة مدوية فى الآفاق معلنة عن قرب زفافى التليد ، قصة العشق الأبدى ، ثم مررت وحدى فى لحظة صمت رهيبة ، بعد أن جاوزت الحشود وعَبارات ميرى التى كنت أرمقها عن بعد وسط هذه الحشود الغفيرة .. أغرقتنى قبل أن أغرق فى مياه النيل .. كفت الطبول عن قرعها وصمت الجميع ، وحانت اللحظة عند وقوفى على حافة النهر انظر للماء وهو يحاسرنى ووقف خلفى اثنان من كهنة آتون ، ثم رحت اتمتم بكلمات حفظتها عن ظهر قلب فى المعبد الكبير :  " كم تمنيت أن أحلق فى آفاقك ، وأفرغ نفسى فى سطوحك ، سيكون دارى بألف دار فى دروبك ، سألقى بنفسى فى لجتك ، أقتلع الخوف من أهداب عيونى ، وأغرس فى قلبى عشق هواك ، فلتكن لى حبيبا ووديعا وأنيسا ، وليكن تيارك هادئا حنونا ، وفيضانك قلاعا وحصونا " . ثم دفعنى الكاهنان من خلفى وأصبحت الحلم .. الحبيبة .. العشيقة ، وأى فخر تتمناه الكثريات من بنات مصر ، فأنا كنت فى ذلك اليوم الأميرة المتوجة .




والحق كان كلامها جميلا رائعا حينما تكلمت بكل فخر عن عشقها المنحدر للموت والحب الذى ارتقى للخلود لآخر عروس للنيل ، لأنها أحبت حبا صادقا ، وضحت به من أجل حب أسمى .. حب أعظم ، حبها لبلدها ، وحبها لمن أحبتهم ، أو هكذا كانت المعتقدات والطقوس والتقاليد التى كان يتم بها إرضاء النيل العظيم رمز الخصوبة والنماء وفاء لعطائه المهيب وإرضاء لغضبته ، فجعلت جسدها فداء .. وقلبها نورا .. وروحها أملا فى فيض الخير وإثراء هذا النماء ، ورجع الروع وآلالام عن ربوع مصر من أدناها لأقصاها ، فتحولت من مجرد أنثى جميلة .. إلى رمز يعلوه الرفعة والشموخ ، عاش عبر عصور تليدة ، يسجل صفحاته ، تاريخ أمة محفورا على نقش الحجر ولايزال يقام كل عام احتفالية يوم وفاء النيل التى تنتهى بإلقاء تمثال من الحجر رمزا وفداء لبنت مصر الغالية لتظل حكايتها ملئ الاسماع ، ويعرف العالم كله وفاء المرأة المصرية القديمة ، وحرصها الشديد على أسرتها الصغيرة ، وأسرتها الكبيرة أيضا .. مصر ، إنها جاءت مادام التاريخ ممتدا ، وسيمتد صفحاته ، لتعمق معنى الوفاء فى نفوس البشر ، جاءت من العالم الأخر لتغير حياتنا التى غاب عنها الحب ، وغاب عنها لحظة صدق وهان على أنفسنا وقع الضمير. كانت تستغرقنى بنظراتها وأنا فى انشغالى عنها بتصورى اللامحدود لكلامها الجميل الراقى ولواقعية وجودها الذى مازلت استغربه الأن وعن سبب مجيئها وسر اختيارها لى أنا بالذات . مدت يدها تمسح على شعرى فى حنان ، وأراحت رأسها على كتفى ثم تسللت بيدها من تحت القميص وأخذت تمسح بخفة على صدرى أحسست معه بضغطة أناملها ، ورفعت لى وجهها ، ونظرت لى بعينين تكاد تطبق أهدابهما وتغمضهما .. مشعين بعاطفة جموحة ، ثم الصقت خدها المتورد الناعم بخدى .. وفجأة قبلتنى بأنفاس سريعة شاهقة ودقات قلب متلاحقة نافرة  .. قبلة عارمة لم تنج شفتاى من آثارها حيث فتحت فمها والتهمتهما فى جوع وظمأ غريبين ، أحسسته بشوق وعمر كل هذه السنين الطوال .. فبادلتها القبلة بقبلات ، ارتجفت لها يداى .. وانتفض لها قلبى بدقات سريعة لاهثة ، أحسست وكأنما نار تسرى فى جسدى كله .. أضرمت كل حواسى ، وانصهرت به مشاعرى وأتقد منه فؤادى .. فغمرتنى أحاسيس متباينة .. حارة متدفقة كدقات وخفقان قلبها .. باردة مرتعشة كأهدابها التى أخذت تطبق جفونهما فى حنان دافء ، أما شفتاى حيث موضع القبلة لم أشعر سوى تنميل غريب أفقدنى بعد ذلك الإحساس بهما ، تماما كحقنة التخدير التى يعطيها طبيب الأسنان عند خلع جذور ضرس .. أحسست أنها خلعت قلبى من جذوره .




ماأغرب وأحلى قبلة تذوقتها فى حياتى جعلتنى أشعر بدوار لذيذ طار بى إلى متع لم أكن أتصور أن العالم يختزن مثلها لدرجة أننى كدت أفقد وعيى ، وجعلتنى أحس بأننى لم أُقبل قط بمثل هذه القبلة ، فى عذوبتها وقوتها وحرارتها . وماكدت أتنبه حتى قلت لها هامسا وقلبى ينتفض من صدرى : لم فعلت هذا ياهاميس ؟ قالت : لأنى أحببتك .. ألا تصدق أننى أحببتك ، قلت : بعد هذه القبلة أصدق كل شيئ ، لكن ألا تخافين أن الحب قد يُذهب العقل وحتما سيؤثر على السبب الذى جئتين من أجله ، قالت :إذن أنت لم تصدق ماقلته لك أننا نفعل كل شيئ بالحب ، وسبب مجيئى هو الحب ، والرسالة التى احملها مضمونها من كلمتين الحب والسلام ، إذن الحب من صميم مهمتى ، ولكن حبى لك جاء مختلفا ، ولم أتصوره ، إننى منذ أن وقع نظرى عليك أحببتك ، لقد تذكرت بك خطيبى ، وعاودت أنت كل حنين الماضى وأشعلته فى قلبى وفى صدرى من جديد .. نارا اضرمت كل حواسى ومشاعرى ، لقد سلبتنى رباطة جأشى .. سلبتنى كبريائى .. سلبتنى وقارى المخلد باعتبارى زوجة النيل ، ألا تعلم أن أهلى يعلمون مدى عاطفتى وهو سبب اختيارى لهذه المهمة ، ولكن حذرونى من الوقوع فيه ، وقالوا ليس لك أن تحبى ، إنك موفودة لمهمة رسمية فقط ، ولكنى أحببت ووقعت فى الحب من أول لحظة .. من أول نظرة .. حبا رومانتيكيا .. رومانسيا خالصا ، قل عنه ماتشاء بلغتكم ، ولكنه قدر .. إنه قدرى و قدرك ، فقلت لها متعجبا : كيف ؟ قالت : كنت على موعد بإنجاز مهمتى منذ أكثر من خمسمائة عام ، ولكننى وجدت من الصعوبة أن أتفاهم مع أحد بعد أن قضوا على لغتنا التى لم تعد مألوفة لديكم ، فقررت أن أتعلم لغتكم مما استغرق وقتا طويلا ، فكان النصيب أننى جئت فى زمنك ، كأننا على موعد مع القدر . ثم أكملت دون أن تنتظر إجابة منى : عصام ألا تصدق أننى جدتك ، ألا تتصور أن عمرى الأن أكثر من خمسة ألاف عام ، عشته أعانى الحرمان .. حرمان الحب ، كنت من أسرة صغيرة .. فقيرة ، لكننا كنا نحيا بالحب ، لانعرف غيره ، نحب مصر ونهبها أرواحنا ، كنا نعرف قيمة الحياة على أرضها ، ونعرف مهابة النيل العظيم وقدرته على سريان الحياة ونمائه فى شرايين الوادى ، ولهذا كان عصرى .. قمة ازدهار الحضارة ، ولقد سجلت ملامحها فى مقبرتى بعد أن أصبحت الأميرة الحالمة .. الضائعة فى هوى النيل ، فكم كانت الأضواء ترتعش بين أهدابى فى صورتى على صفحة مياهه ، وكم احتضننى طيفه بابتساماته الوردية وأحلامه العذرية ووشوشته لنسماته الربيعية ، كله ستجده مسجلا على جدران مقبرتى ، وطبعا أنا ادعوك لزيارتى فيها .







لم أعلق فأكملت : بعد وفاتى عرفت أن بعضا من أهلى نزحوا البحر وعبروه ، وعرفوا اليونانيين ، واندمجوا معهم ، وتناسلوا وانتشرت حضارتنا فى الغرب ، ولكن بقى أن تعرف الفرق الشاسع والكبير بين أجدادك القدماء المصريين الفراعنة واليونانيين حيث كانت تروعهم الحقوق التي كانت تتمتع بها المرأة المصرية فى ظل حماية الرجل الذى كان يعرف قدرها ويعلم أهمية هذا المنح . وربما كان الروع وعدم الفهم يعودان للتباين الشديد بين الحضارات ، وهو نفسه ماكان يثير حفيظة اليونانيين والرومان ويجعلهم يشيعون عن المرأة المصرية أنها متحررة جنسيا أو خليعة أو مشاكسة ، وإنما الواقع يؤكد تخلفهم ورجعيتهم ، ولك أن تفخر بأننا كنا أول من عرف مذ عهد أخناتون المدينة الدينية ، أو المدينة الفاضلة كما سماها اليونانيون ونسبوها لأنفسهم ، هليوبوليس أقدم وأهم عاصمة دينية فى التاريخ والتى ظلت منارة للمعرفة حتى الفتح الاسلامى ، وهليوبوليس هذه تعلم فيها أفلاطون صاحب المدينة الفاضلة وهيرودوت صاحب أشهر مقولة قيلت عن مصر عبر تاريخها الطويل " مصر هبة النيل " ، كما تعلم فيها المئات من الفرس والروم ، هى أيضا نفس المدينة التى اسميتموها بعد ذلك بعين شمس . ثم أردفت متساءلة : لكن لماذا تخليتم عن ماوصلنا إليه من ريادة ؟ لماذا تاهت خطواتكم وتعثرت أقدامكم فى التاريخ ؟ إننا أكثر منكم غيرة لأننا كنا نعرف الحب .. ونعرف معنى الوفاء ، كانت حياتنا قائمة على التعاون والود ، والحضارة علمتنا معنى العيش فى سلام وأمان . والحق لم أجد  كلمات تسعفنى فى الرد .. فأكملت : صحيح أن التاريخ لا يعيد نفسه ، وأن الحياة دائما عبارة عن طفرات تصنع أجيالا ، ورغم غياب روح الحضارة عنكم إلا أنها كامنة فيكم ، تحتاج فقط لعزم وفهم ووضوح و جلد وقوة والأهم من كل هذا .. تحتاج للحب .. للحب .. للحب ، من أجل ذلك جئت ـ كما قلت لك ـ برسالة من كبيرنا أخيتاتون يحذركم فيه الضياع والوهن الذى أصبح يهدد حياتكم .. ضياع موروثنا لكم الذى بنيناه بالعرق والجهد فى سنين طوال واكتفيتم فقط بتعليق اخطائكم على مقولة " لعنة الفراعنة " على خلاف الحقيقية بعد أن نبشتم فى قبورنا وأضعتم الكثير من كنوزها وتهريبها خارج البلاد ، ومثلتم بجثثنا بدلا من الحفاظ عليها ، هل عرفت الأن سبب تواجدى ، أم لازال الأمر غامضا عليك ؟ ، بقى أن تعرف حقيقة واحدة أننى أحببتك .. حبا حقيقيا ، حبا خالصا لك وليس لـ" ميرى " ، ولاتسألنى بعد ذلك متى وكيف تم ذلك ، فالحب هو الحب .. نسبى .. ليس له معايير .. وليس له أرض أو وطن أو عنوان ، ولاتعرف حدوده زمانا ولا مكانا ، ولايعترف بالأعمار وحساب السنين ، فالحب لحظة .. قد تأتى أو لاتأتى ، فإن جاءت كانت بسنين العمر كله ، وميرى كان الماضى الذى انطوى وذهب منى وأنت الحاضر الذى أصبحت أهواه وأرنو إليه ، فكم انتظرتك عبر سنين طويلة ذقت فيها طعم الحرمان وبات قلبى فى حاجة كبيرة أن ينشب حبك مخالبه الحاذقة فى المساحات الكبيرة الفارغة فيه لتزرع فيها ورود الأمل وأعواد الحياة الخضرة من جديد . اختفت هاميس من أمامى كما لو أنها تبخرت بغتة فى الهواء .. بل تلاشت ، لم أعد أراها ، ياترى أهذا كان حلما وأفقت منه ، أم كان وهما تخيلته من نسج خيالى الذى يتلاعب بى أحيانا ، كيف تكون هذه الإنسانة جدتى وأقبلها هذه القبلة العارمة ، التى أحسستنى بأننى لم أقبل شفتين فحسب ، بل أدخلتنى عالما من الدفء محلى بالسكر ومكسوا بقطرات الندى ومحاطا برحيق الأزهار .. أحسستنى بروعة الحب .




إنه الحب ، ذلك الزائر الذى طالما كنت انتظره ، الأن قادنى قلبى لهزته ، فكم من سنين طوال تمنيت أن يفتح لى أبوابه ، الأن جاءنى وبأغرب طريقة لم أكن أتصورها ، جاءنى كما كنت أهوى أن يأتى به بسخاء العطايا .. وبفيض المشاعر وبلوغ قمة الأحاسيس .. بأن أحب فأعطى قلبى لمن يهواه ، وأن تكون هى بنفس قدر العطاء تحبنى فتهبنى قلبها ، ليغمر القلبين حبا بلا وهم ولا خوف ولامبالغة فيتحابا ، حبا حانيا ملونا بجميع ألوان الطيف .. فيه الخيال والحقيقة .. فيه الروح والجسد ، حبا يشبه قوس القزح وقد تحول إلى تاج من نور يستقر على قلبينا ويستشعراه  فى كل شيئ خلقه الله لنا من آلاء ونعم وملكات حيث يكمل بعضها بعضا ، وكأنما خلقت عند كل منا لينعم به الأخر ، كنت استعذب صوتها الناعم الجميل وكأن الله خلقه لأذنى ، كانت تحب طول قامتى حيث كانت تراه فى فتى أحلامها ، كنت أحب قراءة الشعر وأتمعنن فى ألفاظه وحواشيه فوجدتها شاعرة تجيد انتقاء الألفاظ واختيار العبارات بمنتهى الدقة والحرفية ، فكنت استعذبه وأحبه وأجد نفسى فيه . كانت لفطنتها الكبيرة وشفافيتها العالية أن تقرأنى من كتاباتى ورسوماتى التى كنت أجيد استخدام الرمزيات والحيل الفنية فيها ، فكانت تتسلل وراء كل إخفاء ، وتصل إلى كل مكنونات أفكارى سواء فى مداد الكلمات على صفحات الأوراق أو ماوراء ريشة الألوان فلاأحد يصل إليها إلا هى ، كانت تمتلك فراسة عالية بجانب ثقافتها فى الأدب وحبها للفنون ، فكانت تلتقطنى من كلماتى ، وبين السطور تصل للذى أحبه والذى أريده  ، كما كانت تعرف كيف تفصل فى فك رتوش الألوان رغم شدة مزجها وجمال تناسقها . كل شيئ جاءنى كما كنت أتمنى أن أجده وأتصوره وأرنو إليه فى شخصية المحبوبة ، نعم لقد أحببتها وأحبتنى ، تعانقنا .. تهامسنا .. تلامسنا ، يالها من لحظات جميلة جعلتنى أعيد السؤال على فكرى مرة أخرى ، هل حبى لها حبا حقيقيا بالفعل ؟ وهل يمكن التعبير عنه بهذه السرعة وفى هذه اللحظات القصيرة فحسب ؟ وهل يستطيع أن يصمد أمام الظروف الصعبة الذى ولد فيه وهل سيتجاوز عاملى الزمان والمكان ؟ إننى لازلت أشعر أثار قبلتها مطبوعا على شفتى ، ولازلت أحس هذا التنميل ، ولازال خيالى يستعيد صورة فمها ذى الشفتين المكتظتين المملؤتين باستدارته الغريبة وهو يلتقم شفتاى كأنما يريد أن يلتهمهما من جديد . عدت من إحساسى ، برغبة قوية لنوم عميق .. تمددت على فراشى ، جذبت غطائى ، وأخذت أستعيد ماحدث حتى غلبنى النوم .. وكان أخر ماشعرت به قبل أن استغرق فيه ، أحساسى بسعادة رائعة من شفتين ناعمتين كأوراق الورد أطبقا على شفتاى فأحالنى نومى إلى سعادة خالصة .







                               وإلى ملتقى آخر فى الجزء الثالث
    

القاهرة فى يونيه 2013                                 مع تحيــــــــــــات ، عصـــــــــام


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق