music

الثلاثاء، 25 أبريل 2017

شخابيط على جدران الجموح ( الخفقة الأولى 1 )



مقدمة
كثيرا ماكنت أفضل ألا أتكلم ، وأفضل أن أسمع أكثر، كنت انصرف عن الكلام لأنشغل بما يدور فى رأسى ، والذى يدور فى رأسى زخم من أفكار ومواقف وتعاملات وآراء ودنيا وناس ، أحيانا تأخذنى أفكارى للبعيد الذى أريده ، وأحيانا أخرى تصدمنى فى الواقع الذى أعيشه وتؤلمنى ، وأحيانا أخرى تجرنى للذكريات ، والذكريات ماهى إلا مجموعة من الأحداث رسمها القدر يوما ، ومع الأيام مضت وتلاشت ، ولكنها بقيت فى الذهن فكرا ، وكلما تقادمت مع الزمن بهتت وتحللت وتحولت داخل العقل إلى مجرد شخابيط ، أو خطوط تشابكت وتداخلت وتلاهت على جدران الذاكرة .. عشوائية المعالم .. مضطربة الخاطر ، ولم تكن يوما مستقرة ، ليس لها معنى إلا فى مكنون صاحبها ، فهى مخزونه الفكرى ، هذا المخزون إن لم يكن له إنبعاث نفسى ، فلانستطيع  مطلقا تخطى الحدود الحسية والمعنوية لما عشناه يوما لكى ندرك الحقيقة المختبئة وراءها فى دائرة اللاشعور ، فهذا الإنبعاث هو الذى يُحيى المواقف المؤثرة من متبقيات حصيلة تجاربنا الحياتية الناشئة من ظروفنا النفسية والاجتماعية والجسدية من صداقة وحب وسعادة وألم ، كانت حبيسة الصدر .. أسيرة النفس ، فيأتى الإنبعاث ويخرج طاقتها الإيجابية كمتنفس ، ويكون مفتاحا يفتح الأبواب المغلقة داخل قلوبنا وعقولنا . وكل منا له مفتاحه الخاص يختلف فى كينونته وأدائه من فرد لفرد ، وفقا لما يمنحه الله للإنسان من فكر ومواهب وملكات ، قد تظهر فى إبداعات الكتاب واستلهام الشعراء وعطاء الفنانين ، فلابد من متنفس لذكرياتنا وخواطرنا . أما بالنسبة لى لم أجد أفضل من الكلمات ، فعدت إليها وبحثت عن ذكرياتى فيها فوجدتها مبعثرة ، ومواقفها متناثرة ، والكثير منها مضى وتساقط من شجرة حياتى ولم أعد أتذكره ، حاولت أن أجمع ذكرياتى من عرض الطريق الذى كان يتسع بى وأحيانا يضيق ، وعندما هممت أن أكتبها حمّلت على ذهنى فى اعتصارها كى أكتب أكبر قدر منها وتأخذ شكل الحكايات العابرة ، أو المواقف المؤثرة ، حتى أستنطقت السطور بالمعانى التى تحتوينى ، كنت فيها حريصا على وضوحها وتنسيقها ولكن فى إطار معين ، ليس من أجل الأخرين ، رغم أن الإنسان لايعيش وحده ، ولايعرف قدرات نفسه إلا من خلال مايمرون بحياته ويمضون ، ولكننى أكتبها حتى أفرغ نفسى منها .. أو أفرغها من نفسى ، لتنطلق منى ، أو أتحرر منها ومن قيودها وأرتاح ، ولكنى كلما كتبت جزءا منها وجدت نفسى لاأرتاح ، ذكرياتى تريد منى أن تعيدنى إليها ، والماضى يؤثرنى وينغص على حياتى من فرط الحنين إليها ، والحاضرلاأجد فيه متعة الماضى ، وخاصة المواقف الرومانسية الجامحة التى عشتها وكانت تستهواها النفس وتؤسرها ، ماأجملها .. وماأرقها .. وماأحلاها . على أنه ليس كل الماضى جميلا ، ففيه أيضا منغصات ومواجع ومجرد استعادتها تثير فينا الألم والشجون ، وكم من آمانى كانت النفس تتمناها وتهواها وعدوت وراءها كثيرا ثم جنحت منى ، أو جنحت عنى ولم تتحقق . فبينما كنت متجها فى طريق حياتى ، وقفت لأعيد حساباتى مع النفس ، حتى نظرت لها فى المرآة وأصابتنى الدهشة على ماوصلت له من حال ، كم سنة مرت من الجرى وراء سراب ؟ ، ورحت لحظات فى شرود أفكر فى التلاشى ، ثم وضعت نظارتى السوداء على عينى ، ومضيت فى طريقى .

( ١ )


منذ أن كنت صغيرا وأنا أعانى من الأيام حتى سرقتنى ، سرقت منى أحلامى كلها ومرت دون أن أحس بها ، سرقت متعة الصداقة ، فلم أنعم بها حتى أقدرها ، وسرقت منى نعمة الحب فلم ينبت فى حياتى عشب المحبة حتى أعرفه ، إننى لم أعرف بعد معنى التعايش مع الناس أو بينهم ، كنت أراهم ولا أعرف كيف أتعامل معهم ، وهذا سر عذابى كله ، إننى لم أتعود فى حياتى  إلا على الإنزواء والبعاد حتى نشأ بينى وبين الناس حائط كبيرمن الخوف ، لم أفلح أبدا يوما فى تسلقه حتى أقترب منهم ، ليس فى يدى شيئ ألمسه ، ولاعلى شفتى شيئ أستطعمه،  ولاعلى لسانى كلام استطيع أن أقوله ، ولاعلى قلبى إحساس استشعره ، إننى لم أعد أفهم شيئا مما حولى ، ولاشيئ حولى يستوعبنى ، إن بينى وبين العالم كله حاجزا كبيرا من الزجاج الكاشف لكل شيئ ولا تراه عينى ، فلا قيمة لحياة لاأساوى فيها شيئا .. حياة بلا معنى ، ومع ذلك كنت عند أمى كل شيئ ، إن أمى لايعنيها إلا أن أكون فى صحة جيدة وأنام نوما عميقا وأن تكون ملابسى نظيفة ، وأنجح كل عام بتفوق ، أما غير ذلك لايهم ، لايهم أن أعرف بعد معنى للحياة ، أو أعرف معنى للخروج مع الزملاء ، ولا متعة النزهة مع الأصدقاء ، أو أفهم معنى الاختلاط بالجنس الأخر ، إننى لم أعرف قيمة المرأة فى حياتى وهل تساوى شيئا عندى أم لا ، إننى لم أعرف إلاامرأة واحدة هى أمى ، ولم تعرف أمى ماأفكر فيه فى هذه السن ، لاتعرف أن شيئا بداخلى بدأ يتغير ويتبدل  .. وأن لدى مشاكل وعندى متاعب ، وسأخلو مع نفسى وأفكر ، وعندما أجلس إلى زملائى فى المدرسة ثم الجامعة سيكون من بينهم الأصدقاء والرفاق والأحباب ، وستكون هناك حواديت وحكايات تناسب أعمارنا ، وتناسب رؤيتنا للدنيا والناس ، لم تعرف أمى كل ذلك ، فقط كانت ترانى كائنا حيا ، حملته فى بطنها ، ثم ولدته ليأكل ويشرب وينام ويلبس فقط . وأن خوفها الدائم على حياتى هو الحماية التى يجب أن توفرها لى كى تقينى من شرور الدنيا وشرور الناس .    


   
كنت كلما كبرت تعلقت فى أذنى عبارات " لاتلتف لأحد " و " خلى بالك " و" وأوعى لنفسك " و" عيب " و "وأوعى تقف أو تتكلم مع البنات " كانت تبثها لى عبر موجات من الخوف الذى ارتبط بكل شيئ في حياتى ، وخاصة مايخص البنات أو بالجنس الأخر، فالكلام معهن والجلوس إليهن عيب ، عشت فى وجود حدود لكل شيئ حتى كبرت ، وكبرت معى مشاكلى وكبرت معى أيضا رهبة التحدث إلى الناس وخاصة النساء ، وعانيت وتعبت واضطربت حتى اكتشف فيما بعد أن معايشة الناس شيئ طبيعى ، وأن الحديث مع أى فتاة ليس عيبا ، والخروج معها منتهى المتعة ، ومصادقتها شيئ ضرورى ، وحبها لابد منه ، فمعها تحلو الحياة ، والإنسان يظل مرتبطا بالشيئ الذى يجد فيه راحته ويضيف له الجديد فى حياته ، ومن أجل ذلك فهو يحبه ، ومادام هذا الشيئ يعطيه السعادة ويضيف لحياته معنى ، إذن فهو نادر ولابد من الحرص على تواجده والبحث عنه طول الوقت وكل العمر . فكان ولابد أن أتلصص على هذا العالم الذى كنت أهابه ، عالم المرأة ، الفضول والحرص جعلانى أحاول اكتشافه ولكن من بعيد ، وقتها كانت لاتوجد عندى فرصة ولاوقت ولاشجاعة ، أن أدخل عالمها بارتياح مثل كل من كانوا فى سنى ، وأن أجوب آفاقه وأباشره بنفسى ، ورغم القصص التى كنت أسمعها ، ورغم الفتيات اللاتى كنت أراهم ، إلا أننى لم أجرؤ على النظر إلى واحدة منهن ، وإذا نظرت لاأعرف ماالذى يمكن أن يحدث بعد النظرة أو الابتسامة أو السلام أو الكلام إذا ماتجرأت إحداهن ونظرت لى . كنت خجولا جدا ولاأستطيع أن أواجه شيئا من كل ذلك ، فقد كانت الحياة عندى هى الخجل من الحياة ، أو أن الحياة هى الحياء ، فإذا دق قلبى لفتاة ، يجب أن أكتم قلبى لأن هذا الذى يجرى فى داخله خطر على حياتى ، خطر على دراستى ومستقبلى لاألعب ، ولاأسهر ، ولاأنظر إلى أى فتاة ، فإذا نظرت أكون قد اقترفت جرما وارتكبت جريمة ، لذلك كنت اكتفى بالاستماع فقط إلى هذه المغامرات من أصدقائى وكثيرا ماكنت أشارك فى تخطيطها وأتابع معهم النتائج ، وكم كانت سعادتى عندما يصادفها النجاح ، كنت أحس بزهوى أمام نفسى وبالطبع أمام أصدقائى ، حتى صرت خبيرا فى العلاقات الغرامية والمغامرات العاطفية لهم ، ثم أسجلها فى ذهنى وأعيشها مرة أخرى ، ولكن مع خيالى وفى أحلامى الياقظة مع من تهواها نفسى ، إننى لم أنفرد بواحدة أو بقصة أو بمغامرة ، وإن كنت أتمنى ذلك ، حتى تشكلت أول قصة حب فى حياتى ، أو أننى توهمت بينى وبين نفسى إنها قصة حب .  


يسرية جارة تسكن فى المنزل المقابل لمنزلنا كانت تكبرنى بثلاث سنوات ، كانت مثار إعجاب كل شباب شارع الشيخ القويسنى بل ومنطقة الظاهر كلها ، منحها الله الفتنة فكانت متعة لكل نفس تهواها ، ومنحها الجمال فكان حديثا لكل عين تراها ، وأعطاها سمة القبول فكانت قبلة لمريديها الذين كانوا يتضاعفون يوما بعد يوم ، كان جمالها هادئا ، وأنوثتها طاغية ، جمال تملك كل محاسنه ويفصح عن قد ملفوف كغصن بان ، ووجه نضر ذى بشرة صافية وتقاطيع جميلة ، يضم عينين فاتنتين وأنف أشم وشعر أسود ناعم قصير ، كانت أنوثتها تشع منها جاذبية غريبة من النوع الذى يمس شيئا فى أعماقك ويشعرك بأن كل حواسك شدت إليه حتى تصورت وقتئذ أنها أجمل فتاة وقع عليها بصرى ، فداعبنى حبها ، وكانت هذه هي الخفقة الأولى التى شعرت فيها بهذا الإحساس الوافد الجديد ، أما هى فلم يظهر عليها مايمكن أن أستشعر من خلاله إحساسها ، وعندما بدأت اهتم بها اكتشفت أننى لم أكن وحدى من لفحه هذا الشعور الجميل وداعبه هواه واجتاحه ، فالمعجبون بها كثيرون ، والكلام عنها أصبح متداولا بينهم كأحسن مايكون الكلام فى الحب ، والغريب أنها لم ترد أحدا منهم خائب الرجاء إذا ماحاول أن يتكلم معها ، أما أنا فلم أحاول وكأننى أكتفيت باستراق النظر إليها ، كانت تنظر لى فى تعجب ، ربما أحبت خجلى ، أو أحبت فى حيائى ، أو لفت نظرها المجهول التى تحمله نظراتى لها ولم تستطع أن تتبينه ، فكنت استشعر من نظرات عينيها أن وراءها كلام وحديث يريد أن ينطق ويسألنى من أنت ؟ وماذا تريد ؟ ، ولم تعرف أن خيالى الظامئ كان يهيئ لنفسى أننى اقترب منها وأتوهم أنها تفضلنى عن كل هؤلاء الذين أحبوها ، أو أنها تحبنى . إننى لاأدرى كيف وصل بى خيالى إلى هذا الحد وسط كوكبة الذين تزاحموا على حبها وعاشوا يتمنون رضاها ، وكانت تمنحهم نفس النظرات التى كانت تمنحها لى وأحيانا كانت تغدق عليهم بابتسامة ، مقابل إبراز عواطفهم التى كانوا يمنحوها لها بسخاء ، أما بالنسبة لى فإنها لم تعرنى أى اهتمام غير نظراتها الباحثة عن ذلك المجهول البعيد الذى ينظر لها ويبتعد ، ينظر لها ولايحاول أن يكلمها ، وخاصة أنها كانت فى غنى عن هذا الشخص تماما الذى هو أنا ، فمحبوها كثيرون وأفضل وأجرأ منى بكثير ، فلا وقت لديها حتى تضيعه مع إنسان مثلى ليس لديه الثقة فى نفسه وأمامه الكثير حتى يكون جديرا بأن تفكر فيه . أنها لم تدر أن الذى يملأ جوانحى إحساس جميل لها ربما لايعادله كل أحاسيس معجبيها ، وربما كان مختلفا عن كل من حاول أن يكلمها ، ولكنه حبيس صدرى ولا أدرى إلى متى سيظل هكذا ، إننى لاأجد مايشجعنى ولو تشجعت أتذكر كلمات أمى فجأة فتثبطنى وتحبطنى ، إننى لااستطيع أن أقول حتى مع نفسى أنى أحبها ، كنت كثيرا ماأتخيل وهى تقول لى تكلم إننى أحبك ، كنت أتوهم ماأتمناه ، أى أننى أتمنى لو يحدث ، والحقيقة هى أن شيئا من كل ذلك لم يحدث ، ولكن أريده أن يحدث ، إنها لم تشعر بى أساسا ، ولم تكلمنى ولا أنا حاولت أن أكلمتها ، أو حتى اقترب منها ، والمعنى إننى أريد ولكن لاأستطيع . 



كنت خجولا ومترددا وخائفا وحساسا ، وبقدر ماكانت خيبة الأمل وتهيبى كانت جرأة الأخرين ومهاراتهم ، فكنت أكتفى بالنظر والإعجاب والحب عن بعد ، وكان هم لايكتفون بأقل من حديث عابر أو لقاء خاطف كلما ذهبت للمدرسة أو راحت تشترى شيئا ، وكانت هى تحدثهم ولكنها لم تمنح أحدا أملا أو تصريحا بأنها تميل له أو ترتاح إليه ، أبدا ، ربما هذا هو الذى شجعنى على إمعانى فى هذا الوهم الجميل أن أحدا منهم لم يظفر بحبها ،  مما أعطانى الأمل فيه وقلت في نفسى حتى ولو كنت أخر من تنظر إليه ، إننى صرت لاأرى غيرها ، وصورتها دائما تملأ خيالى ، وكرهت ذلك الحذر والتردد والضعف والخوف وكل ماكان يحول بينى وبينها ، إن القدرة لم تكن هى التى تنقصنى ، ولكن كانت الثقة بالنفس والجرأة والشجاعة ، بدأت أهتم بنفسى .. بمظهرى وهندامى ، كنت قبل ذلك لاأهتم بهما ، ولا حتى أكلف نفسى النظر فى المرآة ، كنت أرى أننى لست بحاجة للنظر إليها حتى أرى وجهى ، إذ لم يكن شكلى أو مظهرى يهمانى فى شيئ ، ولكن من أجلها وجدتنى أهتم بمظهرى ، وأنظف أسنانى ، وأمشط شعرى ، كى ترانى بأفضل ماتكون عليه صورتى فى عينيها ، كنت أبحث عن كل الطرق كى أراها ، ولم أجد أفضل من سطح منزلنا كى أتابعها بكل اهتمام ، فهو أنسب وأقرب مكان لرؤيتها منه ،  وكثيرا ماكنت أجد متعة كبيرة عندما انتظر خروجها للشرفة أو عندما أراها واقفة خلف الشباك . كنت أحب دائما أن أصفها للمقربين ، وأجد لذة كبيرة كلما تحدثت عن جمال وجهها ، ورشاقة جسمها ، وأتغزل كذلك فى عينيها الغافيتين وحاجبيها وشفتيها وشعرها الأسود ، ومشيتها التى كانت تتهادى فى خطواتها كأنها بطة . كنت أتخيلها وأنا أهرب بها إلى أخر الدنيا  حتى جاء اليوم ..........  
                              وللخفقة الأولى بقية


       


مع خالص تحياتى : عصام  

              القاهرة فى إبريل  ٢٠١٧