music

الاثنين، 4 ديسمبر 2017

شخابيط على جدران الجموح ( وكانت لصباح حكاية 4 )

لم يكن العام الذى عرفت فيه صباح قد استدار حتى جاء القدر بما لانحب ، ووضع حدا فاصلا لكل أفكارى المشتتة وأحاسيسى المتباينة تجاه قصتى معها المليئة بالمتناقضات والتى عاشتها نفسى متقلبة على جانبى الرحى مابين بهجة الأنس التى صنعتها لى من حشاشات قلبها عرشا وأجلستى عليه ، ومن أفئدة عيونها بساطا وجعلته تحت قدمى ، ليهزنى الشوق إليها حتى وأنا معها فجعلت للدنيا معنى أخر ، وبين قسوة الحياة عندما تتأهب لتغادر ، ولعنة ظروفنا الحائلة التى كانت تداهمنى كلما همت لتنصرف ، فتترك فى النفس مافيها من تعلات ، غير أننا لم نفكر فى لحظة الفراق أو النهاية التى تتماشى مع منطق ظروفنا وأحوالنا ، حتى صدمنا القدر بما لاتهواه النفس ، وبما لايتحمله القلب ، جاء بزلزال هز كياننا هزا ، وزعزع مشاعرنا بقوة ، وأطاح بما ملكناه من عواطف جائشة .. جاء وكأنه أراد لنا ألانحتار فى شكل وصورة النهاية التى طالما خشينا منها ونحن نعيش لحظات السعادة التى احتوتنا .. جاء بفراق قسرى من الإدارة الهندسية بحى الظاهر التى قررت فجأة إزالة المنزل الكبير التى أظهرت شروخه الكبيرة شيخوخته وجعلت جدرانه مترنحة توشك على التصدع والانهيار . أمهلتنا مدة يومين لمغادرته ، بدت التصرفات تسبق العقل فتحول المشهد فجأة من هدوء إلى طوفان عارم انتاب سكانه ، وأصابهم بشلل وعقم فكرى أعقبه حالة من الخوف والترقب وعشوائية الحركة المعلنة دون ترتيبات لايحكمها شيئ ، فالكل فيها هائم على وجهه مشتت الفكر يجمع أشياءه وممتلكاته من أثاث ومؤن للنزوح منه فى أسرع وقت ممكن وكأنها هجرة جماعية ، لايعرفون لهم اتجاها أو وجهة أو مصيرا . تركت الكل يموج فى بعضه وصعدت للسطح مهرولا ، ورحت فى دوامة عميقة وعلى طريقة المونتاج فى السينما كانت المناظر تترى أمام عينى ، حيث رجعت بالذاكرة لبداية التعارف بصباح ، كيف جاءت .. وكيف تمت ، حتى رأيت فيها أجمل وجه فى حياتى ، وأرق وألطف وأطهر روح صادفتها ، وتذكرت وهى تنظر فى وجهى ، وهى تقف أمامى ، وهى تجلس إلى جوارى ، وتذكرت أيضا مشهد السطح وقت الشفق وهى تسند رأسى بيدها لتضعها على صدرها فى حنان بالغ ، لتجعل من أناملها سبيلا تتسلل من خلاله بين خصلات شعرى لتداعبها فى رفق ، وبأنفها تتشممه مغمضة العينين كالمستغرقة فى حلم ، وتروح فى صمت لتتسلل بشفتيها المتقدين إلى جبينى وعينى فى مسات خفيفة كالقبل ، وترفع رأسها برهة قبل أن تفتح عينيها المغرورقتين وتهمس فى لهجة ذائبة : ليتك كنت زوجى ، وأتذكر كم غمرتى موجات حنينها الجارفة والتى كانت تثير فى نفسى شجنا لم أعرف بمثله قط فى حياتى ، وخاصة عندما قالت لى والكلمات تنساب من شفتيها بطيئة كأنها تحدث نفسها : إنى أحبك حبا كامنا فى أعماقى .. اكتشفته كلما خلوت إلى نفسى فى محاولة فاشلة لسبر أغوارها حتى أعرف كم أنا أحبك ، ولكنى لم أعرف ولم أصل لشيئ من هوة عمقه فى جذور قلبى . نفد الوقت مارقا كالسهام الجثة أخذنى فيه الفكر لشريط الذكريات الجميلة ولم أدر ماذا أفعل أو ما الذى يجب أن أفعله ، فالليل سيطول والدموع لن تتوقف ، وكآبة الوضع لازالت جاثمة على قلبى وعقلى مسيطرة ، ورحت فى دوامات المصير المجهول . 



وانتبهت فوجدت صباح واقفة أمامى تنظر لى ساهمة واجمة منتظرة عودتى من نوبة السرحان التى خمنت ماوراءها ، أتت بعد أن حدثها قلبها بأننى موجود فى السطح ، ونظرت لى كى تستطلع ماأفكر فيه . بدت حزينة لم تطارحها كالعادة نسمات الأصيل العابرة غرامها أو تبثها هواها ، ولم يرنح غصنها المياد من الهواء الخفيف الذى كان ينطلق مع هبوب أولى نسمات الليل إليها ، ويروح كل ليلة يشرح لكل أبعاد الزمان والمكان قصة حبنا ، ربما أحست الطبيعة بما نحن مقبلون عليه من ضياع وشيك . كانت تفكر فى هذا كله فيأخذها الروع ويتملكها الجزع ، وتشرع دموعها فى التساقط اللاإرادى . تتكلم وكأنها لاتدرى عن دموعها شيئا : يمكن مش هنشوف بعض بعد كده . ثم سكتت حتى اكفهر وجهها وزحف نحوه اليأس الشديد واستوطن كل مساحاته ، ثم عادت وردت على نفسها وهى تدفع يدها نحو وجهها لتمسح عنه دموعها الهاطلة التى غلبها الشجن فى محاولة خائبة منها أن تستجمع كل قواها الخائرة لتنشد بها المستحيل وتتماسك غير مصدقة بل ورافضة هذا الواقع المرير ، حتى استطاعت فى تلاحق أن تغالب نفسها وبمشاعر مغايرة قالت : بس أنا واثقة أنى هشوفك تانى ، أكيد هشوفك تانى وتالت ورابع ، إننى لاأتصور حياتى بدونك ، ألم تقل لى مرارا وتكرارا أن الحب الذى جمعنا هو الذى سيحافظ عليه . قاطعتها حتى لاأدعها تغالط نفسها وتتشبث بأمل خبا وعما قليل سينطفئ ، وقلت لها بعد أن أخذت من الهواء نفسا عميقا : لن نكذب على أنفسنا ، فالفراق جاء على غير موعد ولاحيلة لنا أمام قسوته وجبروته ، لكنى أعاهدك أمام الله بأن الحب الذى جمعنا سوف أحفظه لك فى قلبى ماحييت ، تعرفى لماذا ؟ ! لأنه كالزهرة لايقطف مرتين ، صباح ربما تكون هذه اللحظات الأخيرة التى أراك فيها فلا تصعبى علينا الموقف أكثر من هذا . ثم قلت لها والدموع تغالب عينى : إننى لن أقول لك وداعا ، بل أرى وجهك على خير حتى ولو لم نتقابل مرة أخرى . أدركت صباح أن كل شيئ قد انتهى بينما كانت تهم لتتكلم سكتت وأسهمت ، كأن كلامى ألجمها وأخرسها ، فلامفر من الحقيقة المُرة التى جثمت فجأة على صدورنا حتى هشمت قلوبنا ، وأفحمت عقولنا ، وبينما هى كذلك رحت أنظر فى عينيها لأملأ نظرى منها وقد تملكتنى الدموع ، ربما تكون هذه أخر مرة أراها فيها ، كنت أحاول جاهدا أن أجمد دموعى وأركز معها ، واستوعب كل كلمة ، وألاحظ كل خلجة ، وأرقب فيها كل رمشت عين ، بدت كقطة برية .. محاصرة ، أخذت أتفحصها بنظرات مجردة من العاطفة . انتظرت أن أقول لها شيئا ولكنى لم أتكلم ، أحست بتقلص وجهى وبدا لها كأنه قدُ من حجر ، كنت أحاول أن أبحث بنظرات حادة فى وجهها عن أى شيئ يبعث على الكراهية كى أهدأ وبعد الفراق أرتاح ، وبعد طول تحديق تسمرت خلالها عينى عليها حتى جحظت ، أنزلت عينها الواسعة من على عينى ، هذه المرة أشاحتها من على وجهى وأسقطتها إلى الأرض . لقد أحست بمعنى الإنكسار وعدم الصمود ، ثم ارتمت فى حضنى وقبلت شفتيى فكانت هذه هى القبلة الأولى فى حياتى التى لثمتُ شفاهى فيها شفتى امرأة ، وكانت أيضا القبلة الأخيرة على شفتى صباح . كانت قبلة غريبة فيها كل المعانى المضطربة حلاوة الحب وضياع الأمل ومرارة الفقد والهروب من المستحيل ، ذقت مرارة دموعها الحارقة التى جاوزت حلقى من سرعة جريانها . نظرت إليها بإشفاق ، لقد جثم الحزن على كامل هيئتها ، نظراتها شاردة تجوث فى أرجاء المكان كله ، وفجأة التفتت ناحيتى وقالت فى لهفة : يعنى خلاص مش هقدر أشوفك تانى . أحسست بأن درجة حرارتى قد ارتفعت ، وتراخت قدماى ولم تعد تحملانى ، وجلست على الأريكة التى بجوار السور ، ولاح بذهنى أفكار كثيرة تداخلت ، كيف آن للمسافات التى قربتنا أن تغدر بنا وتبعدنا بهذا الشكل المفاجئ وبلاسابق إنذار ولارحمة ، ليتنا ماتقابلنا ، ولاكنت عشت هذه اللحظة القاسية ، ليتنى كنت قريبا من الحب ولست فيه .



 لم استطع أن أنظر فى وجه صباح العابس الذى ازدرد وامتقع لونه واكفهر .. ثم انهمرت دموعها بعنف وتساقطت كالشلال ، دموعها نبهتنى لومض الشعاع الآتى من أعماقها مع نسمات الليل الذى بدأ يخيم على المكان فأناره وعم ضياؤه كأنها الصحوة التى تسبق الموت ،  إنه شعاع الضوء المنسرب من مبعث كوامنها الذى أوشك على الانفجار من حالتها المضطربة التى مالبثت أن تحولت إلى نيران أضرمت كل كيانها حتى اجتاح ما بين ضلوعها ، تكاد أحجار السطح أن تنطق من الحالة التى بدت عليها صباح وهى تبكى تباريح الحياة والمكان الذى سيصبح عما قليل مهجورا ويصير أطلالا ثم يهدم وينتهى من الوجود وإلى الأبد . سادت لحظات من الصمت كان جسمها كله ينتفض انتفاضا إذ لم يعد هناك مجال لكلام يُقال . أخذت تجر خطواتها الثقيلة تاركة المكان ، وكلما بعدت خطوة من أمامى تلفتت وراءها وتنظر لى باسترحام ، لقد أحرقتنى نظرتها اليائسة الأخيرة ، كنت أشيح بنظراتى عنها ، حتى لاأضعف أمامها وأشجعها على الرجوع كعادتى معها عندما كانت تهم فيها  للمغادرة عقب كل لقاء ، فكانت تطاوعنى وتعود مسرعة ونجلس وقتا أخر كنا نمنحه لأنفسنا نقول فيه أجمل كلام ، أما اليوم لم تعد أعصابى تستطيع أن تتحمل هذ الموقف ، إننى لم أشأ أن أنظر إليها فالرجوع لايفيد والفراق يطرق أبوابه بعنف ولاحت كل بوادره جلية . غابت من أمام عينى حتى تلاشت واختفت فى عتمة السلم وظلمة دركاته ، غابت وتركت لى ظلمة النفس وشبح البعاد . الوجوم سادنى وسرحت .. إننى كنت لا أعرف للحب معنى ، ورحت فى دأب أبحث له عن معنى كى أعرفه ، حتى ظهرت صباح فى حياتى فوجدته وعثرت عليه ، وكانت فرحتى ، وقلت لنفسى إننى أخيرا أدركته وعرفته وتذوقت حلاوته ، ولكن ماأن اختلطت الأنفاس وأوشكت المشاعر على الانسجام جاء الفراق مسرع الخطى ، حتى همت فرحتى على المغادرة والانتهاء ، ولم يُكتب لحبنا أن يطول فى الدوام ، وآسفاه بيتنا الكبير الذى جمعنا على الحب ، هو الذى سيفرقنا ، ستذهب صباح ليبق وجهها فى وجهى مجرد صورة وعيناها فى عينى مجرد وهم ، وصوتها فى أذنى مجرد رجع صدى ، وحبها سيأخذ حبى للأبد ، وأن قلبى سيظل بعد ذلك يدق وراء كل باب حتى يراها ، ولن تنفتح الأبواب مهما حاولت ، لأن الحقيقة اختلطت فيها مشاعر الحب بخيبة الرجاء ، والأمل بالمستحيل ، أيمكن حقا أن يتبدد كل هذا فى لحظة ويذهب جُفاء ، ويضيع هباء لينته بعد ذلك كل شيئ ، نعم وهذه هى الحقيقة المرة .





حل الصمت أرجاء المكان بعد أن غادر المنزل جميع سكانه ، وغادرت صباح بعد أن أخذت معها كل شيئ . فرقتنا الأيام وافترقنا وانقطعت أخبارها عنى ، وعشت حياتى أقطع فى دروبها أشواطا حتى تخرجت من الجامعة وكبرت ، وسرت مع الناس فى ركب الحياة ، تكلمت فيها مع من تكلمت وأسهبت فى علاقات مع فتيات أخريات ، وتعرفت فيها على من تعرفت وأحببت من النساء الكثيرات ، كلهن مروا بحياتى ومروا أيضا من ذهنى بعد أن شغلت نفسى بحثا فى وجه كل فتاة منهن عن ملامح من وجهها ، وفى قوام كل امرأة عن مثل قوامها ، ولم أجد فيهن مااجتمع فى صباح من صفات ، ربما توافر لبعضهن جزء منها ، ولكنها كانت لاتكفى أن تعوضنى عن معنى الحب الحقيقى الذى عشته مع صباح ، لذلك كنت حريصا مع كل اللاتى عرفتهن بعدها ألا أفرط فى الرقة فلا امنحهن أملا أحمق ، أو أفرط فى الجفوة فأصدهن صدا موجعا ، وكنت أطرد من قلبى أولئك المتعِبات مكتفيا منهن باللاتى تمنحنى من قلوبهن الخصبة مايسد رمقى ويروى ظمأى ولكنها كانت كلها علاقات عابرة لاأكثر ، فقد تعودت بعد صباح أن أرى فيمن اخترتهن أو اللاتى استطعن التسرب إلى قلبى أنواعا كثيرة تأخذ شكل الحب ولكنه لم يكن أبدا حبا : نوعا يعرض نفسه .. ونوعا يقبل أى علاقة .. ونوعا يمنح بسخاء باسم الحب .. ونوعا يتمنع بشدة بهدف الزواج .. ونوعا يبحث عن نزوة أو غريزة .. ونوعا يبعث على أمل التفاهم ولايأتى ، إنه لم يصادفنى يوما حبا حقيقيا ، فكان منتهى الأمر أننى كنت ألجا إلى عمل تصفية أولا بأول لما فى قلبى من أولئك الباحثات عن السعادة ، أو من كن يردن شغل أوقات فراغهن بإقامة أى نوع من هذه العلاقات والسلام لتضييع الوقت أو جلب أية مصلحة أو منفعة ويتصورن أنه حب ،  لذلك لم تُعمر معى قصة واحدة من تلك العلاقات حتى ذهبن كلهن مع الأيام وطواهن النسيان ولم يبق لهن فى قلبى مجرد لمحة ، أو أى تأثير على مناط ومنطلقات السعادة التى غابت مع صباح صاحبة القلب الشفيف ، فكلهن كن مجرد صور ممسوخة لها ، أتذكر إنها لم تكن أبدا لتصرح بحبها لى ولم تقبل يوما الاستقرار فى قلبى إلا بعد أن تأكدت من أنها أجْلت عنه ساكنته السابقة يسرية صاحبة الخفقة الأولى جلاء تاما ، حتى تملكته واستعمرته وحدها .. حب لازالت دقاته تنبض حتى اليوم .. حب استعصى على المحبين فهمه وعسر عليهم إدراكه . لذلك لم يكن فى استطاعتى أبدا أن أنساها رغم مرور كل هذه السنوات الطويلة من العمر ، ولم أرض عن حبها بديلا ، فإلى الأن مازال حبها قائما فى قلبى كما هو لم يعتره غبار السنين ، ولم تنل منه الأيام ، رغم أن الدنيا أخذتنى فيها ودارت ، وفى رحاها جُلت ولفيت ، لكن بقيت صورتها فى رأسى كما هى لم تهتز يوما ولم تستطع تفاصيل حياتى المضطربة أن تمحوها من مخيلتى ، مازلت أشعر بسعادة بالغة كلما مرت بذهنى فيأسرنى جمالها ويخفق قلبى لها . 



وأتذكر أنها قالت لى فى المرة الأخيرة : أحبك وأتمنى أن ألد ولدا مثلك ، وقتها لم تكن حُبْلى ولكنها كانت تتمنى أن تحمل ، تتمنى أن ترى وجهى فى وجوه أولادها ، ولم يشأ القدر أن أر لها أولادا ، ربما كان كلامها نوعا من أنواع اليأس على استحالة أن يكون لهذا الحب نهاية منطقية وأنها تعرف يقينا أنه كان ولابد أن يأتى علينا يوما سوف نفترق فيه ، وجاء هذا اليوم سريعا وافترقنا . وأتذكر أيضا وهى ترفع لى وجهها الفاقد لكل معانى الأمل وقد ازدرد ريقها ، وغاب عقلها المشتت بين الحقيقة والتمنى ، وهى تبتسم فى وهن ومضات حب تسربت لها فجأة فى ظلمة حياتها وراحت تتشبث بهذا القليل الذى أتاها وعلقت عليه كل آمالها ، وحتى هذا لم تدم نعمته عليها كثيرا ، وراحت فى غمرة الإحباط تسألنى أمنية يستحيل تحقيقها : ياترى ستكون سعيدا لوكنت عشت معك طول العمر ، وأتذكر أننى قلت لها بلهفة : من يدخل الجنة لايفكر أن يخرج منها ، إننى معك أعيش أجمل أيام حياتى ، وهنأة مابعدها هنأة ، ونعيما مقيما مابعده نعيما ، وسرورا لم أشعر بمثله قط فى حياتى . ولكننى خرجت من الجنة ولم أعد إليها ، وعرفت من بعدها معنى البعاد وكيف يكون التشرد والتشرذم ، وهمت على وجهى لاتحكمنى أية مشاعر ، ولاتتحكم فى أى أحاسيس ، ومر من الزمن زمان وبقيت فى عينى حتى الأن العروسة الجميلة التى لازالت حديثة العهد بالزواج ، إنها لازالت تعيش بداخلى كما هى بنفس الهيئة التى كنت أراها عليها ، مرتدية نفس الروب الستان اللامع الذى يشهد تألق جسدها فيه والذى ينساب فى رعونة بقدها المياس ، ولازالت قصة حبها مكنونة فى قلبى رغم أنها كانت مختلفة الظروف والاتجاهات . 



أما هى فلم تعرف بعد أنها عاشت فى حياتى عمرا كاملا ، وكثيرا ماسألت نفسى : تُرى هل سعدت فى حياتها أم بقيت على شقائها ؟ هل هى حية حتى اليوم أم رحلت عن هذا العالم ؟ ورغم أنه كان بإمكانى أن أبحث عنها وخاصة بعد أن سمعت من أسامة أنها سكنت بجواره فى نفس الشارع الذى يقطنه بمدينة نصر ، ربما فرحت للحظات أحسست فيها أن الحظ أراد أن يبتسم لى مرة أخرى ، فأنا أيضا سكنت فى مدينة نصر ولكن فى منطقة مجاوزة ، أى أصبحت على مقربة منها ولايفصلنى عنها سوى محطتى اتوبيس ، إلا أننى لم أحاول ولم أفكر يوما أن أذهب إلى شارعها واتسكع فيه أو أحوم حول عماراته وأتطلع للنوافذ المغلقة فيها ، ريثما ترانى أو أراها صدفة وأعرف مسكنها ونعاود الوصال ، ولكننى لم أفعل ربما خشيت بعد مرور كل هذه السنوات أن أسمع عنها مايحزننى أو أراها مكتهلة أو أصبحت تعانى من مرض عضال ، أو رحلت عن هذه الدنيا ، فضلت أن تظل صورتها كما كانت لم تكتهل ولم تمرض وأنها موجودة ولم تكن قد غادرت دنيانا ، أردت أن تبقى نهايتها مجهولة ، إننا عندما لانقوى على مواجهة الحقيقة أو نخاف منها نخدع أنفسنا ونهرب ونتخفى وراء المجهول ، ففى المجهول راحة وسعادة وأمل متجدد . 



انهدم البيت الذى كنا نسكن فيه وأقيم مكانه أربع عمارات كثيرا ماكان يأخذنى حنين الماضى إلى شارعنا القديم كى أتجول فيه ، كنت لاأبذل جهدا كبيرا فى أن أعثر على أجمل ذكرياتى فيه ، ولكن ماكان يحزننى أن المكان اعتراه التغيير فى الأبنية والناس ، وإنه لم يعد كما كان ، ومع ذلك كان يخيل لى أثناء مرورى أن عطرا قويا من الماضى يعبر حياتى ، وسرعان ماتقفز أمام عينى صورة صباح ، كما هى .. لم تبهت بعد ، ولم يكسرها القدر الذى فرقنا رغم تباعد مسافات الزمن واتساع مساحاته بينى وبينها ، فرائحة عطرها وحده كان يكفى أن يذكرنى وأنا فى لحظات الوحدة والصمت بما آل إليه مصير كل الغراميات غير المواتية التى حاولت أن أنسى بها حبها ولكنها تكسرت جميعها عند حدود الذكريات ، وحدود هذا الشارع ، وهذا المكان وهذا الحى ، والمنزل الكبير الذى لم يعد له أى وجود ، محته الأيام وذهب مع الزمن ولم تبق له صورة إلا التى تأتينى فى ذهنى وأحلامى فقط .. صورة السطح وقت الشفق وصباح متهيئة للصعود إليه أو الوقوف فيه أو النزول منه ، لذلك لاحب بعد حبها يستحق أن أشغف به ، تلك ماأدركته أخيرا واستوعبته بعد طول الوقت وطول الحرمان ، لم أشأ أن أحسب أيامه ولياليه التى لاتحصى . 

 أننى مع صباح استمتعت بالحب وفرحت .. وبعد فراقها قاسيت من عذابه وشقيت .. ذقت معها نعيم الوصال وسعدت ، وتألمت فى غيابها جحيم البعاد واحترقت ، وعانيت فى بُعدها تباريح الهجر ولازلت ، لذلك كان يخيل لى وأنا أغادر المكان أننى لازالت اتنفس هواها ، ولازلت أشعر بأن روحينا تقتربان وتلتقيان ، وأن قلبها مازال يخفق ، ومشاعرها مازالت تهتز ، وإنه مهما باعدتنا الأيام أبدا لم ولن أنساها .
                                 وهكذا كانت النهاية ...







مع خالص تحيات : عصام   

القاهرة فى ديسمبر2017