music

الأحد، 20 يناير 2019

فى رحلة البحث عن حلم (1)



ماأجمل ليالى القاهرة عندما يعانقها جو الربيع الرقيق الناعم بلمساته الساحرة وسمائه الصافية وأسماره البريئة ، كانت تأخذنى نشوته كلما كانت تهب نسماته الحلوة في تسلل رقيق وحنان بالغ لكل خلايا كيانى وتداعب خلجاته بخفة حتى أكاد أشعر بأنها تحتوينى وهى تضمنى بين أحضانها . فليل الربيع وهدأته دائما يحمل لى الكثير من المعانى الجميلة الجذابة الساحرة رغم ماكان يكتنفها من غموض ورهبة وخاصة سكون وقت السَحَر الذى كان يثير شجونى وخيالى ، مثلما كان يثير عشاق الليل من المفكرين والأدباء والشعراء  ، فكانوا يفكرون ويحلمون ويحبون ويعاتبون ، ثم يكتبون ويخطون ريثما تكون فى النهاية فكرة ، أو ترجمة تعبيرية للأحساس سواء بالفرحة أو بالدهشة ، أو بالحزن ، إحساس ينشد راحة البال واطمئنان النفس لتغسل كل ماعلق بالحياة من تعقيدات وصخب ومتاعب وضجيج وقسوة .
ومن يحب الليل يجد فيه جمالا سرمديا ، مرآة يرى فيها انعاكسات النفس المتجاوبة لغزو الخيالات الشاردة من اللاوعى برومانسية رقة المشاعر وفلسفة الإحتواء وتقدير قيمة الحنان سواء كانت أفكار ومخاوف ، أو مشاعر وتطلعات وأحلام منسية .. رحلة البحث عن الذات من مكنون نفسى ، فينصت إلى الكون من حوله باستمتاع عن طريق التبحر في أجوائه الطيفية تماما مثل إنصاتنا إلى مقطوعة موسيقية محببة للنفس تنساب نغماتها من وراء الأفق البعيد حتى إذا مانتهت  تجاوبت لها مشاعرنا الباسمة مطالبة بعزفها مرة أخرى ، وهكذا الحب لو أتى نطلب منه الكثير ثم نطمع في المزيد ، فاسمحوا لى أن أطرق أبوابه بكل تواضع ، لأضع لهذه الكلمة رونقها وحلاوتها .. " الحب " أجمل ماتنامى على سمع الزمان ، إننى لم أكن أتصور أننى سوف أمسك قلمى يوما وأغمسه فى مداد الحب لأكتب عن نورانياته التى تضاء به القلوب فتعم آفاق حياتنا حنانا ودفئا ومودة ، وأيضا عن سهره ودموعه وليله الطويل ، وسهاد المحبين وعذاباتهم وقلقهم ، ولكنى وجدت راحة كبيرة عندما بدأت أكتب عنه ، بعد أن اكتشفت أن كلمات المحبين ماهى إلا شاهدة على معاناتهم ، وعرفت كيف يتأرجحون بين توثيق الهم اليومي وبين المطلق الجمالي لشخص الحبيب في عالم الخيال مشدودين لابراز المكون البصري والروحي من خلال فتح المجال للبصيرة محل البصر كى يرى كل محب حبيبه بوضوح حتى ولو كان في أقصى البعاد ، وتعلمت أيضا كيف تنفك للغة الرومانسية رموزها ، وأسرار أبجاديتها التي تستطيع من خلالها التعبير عن مشاعر الحب المتفردة داخل فحوى القلوب ومحتوى العقول ، حتى يتحول كل شيئ فيه من صخب ، وانقلاب فى الشعور واللاشعور واجتياح العواطف والإنفلات فى مراكز الاحساس إلى مأثورات يتعرض لها كل من يريد أن يعرف معاناة وسير المحبين ، ويعرف وقتها كيف ومن أين أتى انبعاثها .. وكيف تمازجت مع العوامل الخارجة عن الإرادة لتتحد مع كوامن النفس وتضمها ثم تحتويها ، فتحتل كل شيئ . 

هكذا عرفت مفردات الرومانسية على هذا النحو .. عرفت أنها نوع من الإجتياح النفسى الذى يفرضه الحب بقوته وجبروته وعنفوانه .. بانوراما من روعة الخيال وجمال الاحساس ، احساس اللحظة الواحدة فيه تساوى عمرا .. لحظة تنبع من سلطة إملاءات غامضة وإلهامية تتمازج بموسيقية النفس الحائرة وشاعريتها التواقة ، فالصبوة الروحية فيها تعطى للوعي الداخلى مساحة واسعة من امكانية التوليف التوافقى غير المتصادم بين اختزانات الذات وطرح الواقع ، مما تعطيه القدرة على توسيع عالم التخيل عند المحبين واللعب على أوتار العاطفة الجائشة ذات النكهة الموسيقية الداخلية بتدرجها وتداخلها دون اشتراطات من العقل أن يرتضيها أو لايرتضيها ، وحوار داخلي متفرد بين الحدة والبرود لخلق هذه الهرمونية الحسية ذات الرؤية البصرية المتفجرة التى لاتشترط وجود الحبيب من عدمه ، فمهما كان بُعاد الحبيب وأينما كان موقعه ، فإن الحب يرخى سدوله ويخيم على بؤر ومراكز الشعور ، فيجعل المحب يستشعر وجوده رغم غيابه وكأنه معه يشتم رائحة عطره وسحر لمسات أنامله ونبضات قلبه التى تدق بقوة على عقله وتثنيه عن فكرة البعاد ، فكم يساوى العمر أمام لحظة هرمونية كهذه تبحث عن حلم .. تبحث عن كل المنعطفات الحسية والروحية في حياتنا وتضعها فى بوتقة تنصهر فيها المشاعر ثم تتمازج وتتحد ، حتى إذا ماالتقى الحبيبان تُقبل الدنيا كلها بزهوها وجمالها معهما ، كما يقبل الربيع على الجِنان بتوهجه فيثير فى النفس عنفوانا بطبيعة الأجواء الساحرة حولهما وتنثره نورا أمامهما وفوق رأسهما وتحت جلدهما ، ويتحول الليل إلى كرنفال من كل الوان الطيف مسحا لوجدانهما المتيم .. وآه من الوجدان المتيم .
القاهرة فى يناير 2019  
مع تحيات : عصام