music

السبت، 19 سبتمبر 2020

هذا الرجل أعرفه



مرت علينا سنين طويلة منذ أن التقيت به أول مرة .. رحلة كفاح مابين الزمالة والصداقة والأخوة ، كنا لا نحرم أنفسنا من عمل أى شيئ يروق لنا سواء كان داخل العمل أو خارجه ، صنعنا لأنفسنا سياجا وضعنا فيه كل أحلامنا وأمانينا وطموحاتنا ، تحدينا أنفسنا باجتهادنا ودأبنا على معرفة أدق تفاصيل عملنا الذى كان يتطلب منا أن نغوص فيه ونعيش فى أعماقه من خلال أدق تفاصيله مابين حضور الجلسات ومتابعتها واستخدام أدواتها الذهنية واللائحية والدستورية حتى أصبحنا فيه وبلا فخر أمهر صُناعه ، إنه صديق الكفاح الذى كان يعمل فى صمت ، صاحب الباع الطويل فى تحرير مضابط الجلسات صلاح عصر .. عرفته إنسانا، رأيت فيه الشخصية المتزنة المريحة ، التى تجد عنده راحة النفس والسكينة كلما تجلس إليه فتتيقن أنك أمام شخص غير عادى ، وتشعر بأن قسوة الحياة بالنسبة له ليست فى قدرته على التحمل ولا فى تلقيه وتعلمه فنيات العمل ولادبلوماسية التعامل مع الزملاء ، وإنما فى آفة الناس واستصغار المشاعر والولوج لدهاليز مكاتب الكبار ذلك ماكان يحيد عنه ويتجنبه ، فكان شعوره الدائم بأنه لم يكن صاحب حظ ، رغم أنه كان يتحلى بدبلوماسية الحوار الراقى وشياكة التعامل ولكن مع الذين لاتربطهم به أية مصالح . يقدس المبادئ لدرجة استعداده أن يضحى من أجلها بأى شيئ أو بكل شيئ من أجل شيئ قد لا يعرف مصيره ولايفكر فى عواقبه ، فهو يعيش كما تربى ، تربيته الريفية البسيطة التى علمته الصبر والتؤدة والحياء والنقاء وحب الناس ، كما علمته أيضا ألايحمل بداخله ضغائن ولا أحقاد لأحد حتى صار الكل يحبونه . أقل شيئ يرضيه ويجعله منتشيا ، وعندما يثور ويغلب عليه التوتر ، لايتسرع وينتظر حتى ينفض عن نفسه هذا الاحساس ويهدأ فلا يتمكن منه الغضب البتة . وأنه يعلم تماما إمكانات نفسه فكان لماحا .. يملك سرعة بديهة فى اكتساب المهارات والتقاط المعلومات ، لديه من الكياسة والفطنة وبشاشة الوجه فلاتستطيع أن تنظر إليه وتتأمل أحاديثه المسترسلة العذبة التى كان يرسلها ببسط الكلمات إلا وترى وجهه يفتر عن ابتسامة رضا ، حتى إذا ماغلبتنا المواقف الضاحكة تأخذنا فوبيا الضحك فيصير ضاحكا لدرجة البكاء ، رغم تغضن وجهه إذا ماشعر بأنه فى موقف حرج لايحسد عليه ، ولكن سرعان ماتجده يستبسل استبسالا مضنيا فى حرصه التام على اخفاء هذا التغضن حتى لايصلك منه إلا مشاعره الطيبة فقط .


هذا هو صلاح عصر ..علم من أعلام العمل البرلمانى المضنى ، إنه مثل المخطوط القديم النادر فى مكتبة ذاخرة عامرة بأمهات الكتب ، فهو بالنسبة لرجالات أمانة الجلسات أثمن كتبها لسعة مداركه وأعزها لندرته واحسنها لموضوعيته ، حتى بلغ مابلغه من تميز وفطنة العمل ووصل ماوصل إليه من قدرات خاصة ميزته عن كل أقرانه ، فاعتلى قمة هذا العمل بلامنافس .



إننى لاأدرى هل أهنيأه على وصوله لتمام عمله وبلوغه مرحلة الكمال النفسى والانضباط التقنى فى عمله ، أم أنعى هذه الخبرة التى ستذهب جفاء وهى لازالت فى قمة عطائها وقدرتها على تأهيل الغير وسيكون فى هذه الحالة المجلس هو الخاسر الوحيد ، ولكن مادامت الدنيا ، فلكل شيئ إذا ماتم نقصان ، والثمار إذا مانضجت طاب قطافها ، ولكل شيئ نهاية ، ولكن مع صلاح ستكون بداية جديدة بإذن الله تعالى لحياة جديدة سينعم بها بالاستقرار مع أهل بيته وعزوته وذوية وأحبابه .

















 

القاهرة فى فبراير 2020



الجمعة، 21 أغسطس 2020

المهاجر النبيل


فى كل مرة نتقابل فيها تحاصرنى الذكريات بشده ، وأجد نفسى أناشدها بإلحاح وفى تفحص بالغ استرجاع شريطها المليئ بمواقف وحوارات وتطلعات والأمل فى المستقبل ، وأتذكرعندما كنا نذهب معا لأى مكان نمرح فيه ، أو عندما كنا نفكر ونخطط لمستقبل لم يكن له صدى إلا فى أحلامنا .. أحلام اليقظة . ولكن كان أكثر مايستغرقنى أن أعرفه بشغف .. الجديد الذى طرأ عليه من تغيير بفعل الزمن وطبيعة المكان المغايرة بالنسبة له ، ثم سرعان أعود مبهورا ، إذ أننى اكتشف وبسهولة أن الأيام لم تستطع أن تبدله ولا الغربة أن تغيره ، وكأن الأيام وبعد المسافات لم تكن حائلة بيننا ، وأن الإحساس بعدم التمكن من التواصل لم يكن له وجود من الأساس ، ففى كل مرة نتقابل فيها معا أشعر بأننا لم نفترق عن بعضنا البعض سوى سويعات قليلة ، وأنسى مرور كل هذه السنين فى لحظة اللقاء ، لأجد أن الأوراق البيضاء مازالت بيضاء ، بل أصبحت شديدة النقاء ، لم يزد عليه غرامه بحب الناس إلا قلبا اتسع بحجم الدنيا ، فهى كانت من إحدى هواياته العديدة التى جمعت معها أشياء أخرى كثيرة كنت أعرفها عنه : طموحاته وحبه للموسيقى والمغامرة والترحال وكثرة الأسفار ، والتطلع إلى ماهو أفضل ، إضافة إلى كل ماكان يطريه من زهو الجو الأسرى وحبه الشديد لوالديه وإخوته ، حتى صارت بصماته على الأخرين هالة مضيئة تحيط بكل ماحوله فتحجب عن الجميع كل بغيض ، وتخلق من القبح حسنا ، ومن المرارة لذة ، ومن الألم متعة .
كانت هذه هى دنياه التى عاشها ، تصورته يوما وكأنه يعيش فى صحراء رمالها انتحلت من دأبه عليها ذهابا وإيابا بحثا عن لقمة العيش بالمصابرة والكفاح والجد فى العمل كى يستلقط الحياة استلقاطا وسط شظف هذا البيد وإقفهراره ، استطاع أن يبنى نفسه فيها بنفسه ، كان يعتصر الرمال عصرا ليستقطر فيها هذه الحياة ، حتى اكتستها الإخضرار وسرت فى عروقها قطرات من روح لاتعرف المستحيل ولاتحس بوحشتها وجفافها ، فاستطاع أن ينبت فيها وتزدهر أعماله ويتزوج ويأتى بجيل جديد من شباب غض ، ورغم المعيشة فى الغربة إلا أنه استطاع بحنكته أن يربط أولاده بالوطن الأم ربطا لاتحس فيه خللا ولامفارقة بين بيئتين مختلفتين .
لقد كبرت الأعوام ورغم ذلك هو لم يكبر ، مرت سنون الغربة آنسته فيها زوجته المتفهمة الواعية لحدود أفكاره وتطلعاته ، حتى صار أولاده الصغار شبابا غضا واعيا ، وازدحم من حوله الأصدقاء من عالم شتى ولكنه لم يتغير .. لم يتغير شكله .. لم تتغير نظرته إلى الحياة لأنه لايزال يبدو كما كان شابا صغيرا ، بنفس الرأس التى تحمل عقلا كبيرا ، وبوجهه الأسمر النحيل بنفس تقسيماته المريحة ، إنه من هذا النوع الذى يتسم بالهدوء الذى ترتاح إليه ، ضحكته الرنانة عندما تنطلق ، تنطلق من دواخله بنفس عفويتها وسجيتها ، لم يسع هو إليها ، ومع ذلك تحس أنها تتسلل بنعومة إلى قلوب كل من يعرفه بسرعة البرق ، مظهره العام يوحى إليك بالثقة والاطمئنان ، هذا النوع من الناس الذى تقبل على استصحابه وتفضى إليه بأسرارك وتروى له هناءاتك ومنغصاتك دون وضع حدود ولا قيود لذلك .
لقد نال احترام الجميع واطمئنانهم إليه إذ أنه من القليلين الذين يسبق عقلهم عمرهم ، فلم يكن مايبدو عليه من شيوع المرح والبهجة إلا ائتناسا من مواجهة الحياة والغربة ، ومن الهدوء والاتزان إلا تحليا بما لايود أن يبديه لأحد ، ومن إنشغاله بكثرة التفكير مع نفسه إلا سبيلا لإسعاد كل من حوله من الأهل والأصدقاء ، فكر لايتناسب قط مع عمره الذى بلغه ، ولكن يرجع إلى قلبه الطيب الذى يحمله بين جوانحه وإدراكه لطبيعة لكل من يعرفه ، حتى يغمر كل من حوله بمشاعر الود والمحبة الخالصة .

هذا هو إبراهيم عبد الستار عنوان الإنسانية البحتة بكل مقوماتها وقيمها ، كل عام وأنت مثل كل عام قابض على قيمك وأخلاقياتك التى يعرفها عنك القاصى والدانى .


القاهرة فى سبتمبر2017


السبت، 11 أبريل 2020

مرثية صديق غالى


جاءنى خبرٌ

هز فى القلب دقاته

وطار العقل من شتاته

قالوا صديقك مات

وحان وقت صلاته

وصرت حائرا لاأصدق

خبر وصدمة وفاته

آثرتنى وكبلتنى وقفاته

ومجالسنا وحوارته

وخفة ظله وابتساماته

وصدى رنة ضحكاته

واتزان عقله

التى كانت من سماته

ولم يسعفنى الوقت

لملاحقة نعشه ووداعه

والوقوف على قبره

والدعاء له فى مكان رفاته

فدعيت بظاهر الغيب

صدق أفعاله

عسى الرحمن يغفر له

صنيع زلاته

وصلى عليه رهط

رغم تحذيرات أوانه

فالمنع كان للخوف

من فيروس انتشر وباؤه

ولم يهب الإخلاء الموقف

إلا عند رفع النّعش وثباته

فانهارت العبارات

حتى سالت رخاته

وتعالت التكبيرات 

عند رهوانه

فصدق القول 

أنه من فعل حياته

والفردوس برحمة الله 

هى جزاته

وعند القبر سادت الرهبة غلاته

فالحبيب الغالى

أصبح تحت التراب مباته

غريب أمر الدنيا

كيف حولت 

مرحه لسكاته

ارتاح هو وترك لنا 

هدير دمعاته .

لازلت تقلب المواجع ، ولازلت أقاطع حضورى للمجلس لأن المكان استوحش بدونك ، المكان الذى قضينا فيه أجمل عمرنا ذهدت فيه بسبب غيابك الذى بلا عودة ، ياكريم الجاه وصاحب صولجان الحب ، يامن تركت فينا أجمل أطياب الحياة سعة الصدر وحب الناس وعدم الوقوف عند الصغائر حتى وإن كبرت ، علمتنا وأنت الأصغر سنا دروسا فى الحياة من فضل ماتربيت عليه ، ياخالد أنت لم تغادرنا لأن صورتك تتصدر أصداءنا التى لازالت تحمل صرخة ألم مكتومة ، لكنه قدر الله ولارادا لقضائه ، وقضاء ربك أن يكون هذا هو منتهاك ، وإن كان عزاؤنا أنك ذهبت عنده .. عند من يملك الرحمة ومن غيره يملكها ، ذهبت عند من يغفر ويسامح ومن غيره يستطيع ، ذهبت عند من يملك مفاتيح الفردوس الأعلى ومن غيره يقدر ويمنح ، ذهبت عند من يملك الحب ومن غيره أحبك وأحبب فيك من يشاء من خلقه . إننا نتوجه له وحده ولاأحد سواه ونرجوه بكل الحب والإبتهال .. رجاء الطامعين فى عفوه ورضاه أن يتقبل دعاءنا وحبنا لك .. كل دعوات الأحبة من أولادك وأسرتك ومحبيك ويجعلها طاقة من نور متصلة لاتخبو ولاتنتهى .. وأن تصلك على طبق من ذهب تحمله لك ملائكة الرحمة تنير قبرك وتجرى بك على الصراط بإذن مولانا التى تجلت قدرته فى الكون والملكوت ، فكن قرير العين فرحانا حيث أنت ، وحيث يعلم سبحانه وتعالى مستقرك ومستودعك .
القاهرة فى 11 من إبريل 2020

الجمعة، 10 أبريل 2020

مع السلامة ياصاحبى

لأول مرة أكتب شيئا لم ولن تقرأه ومهما انتظرت فلن يأتينى رأيك فيه ، فلكم كنت على الدوام أكتب وانتظر متشوقا معرفة رأيك فى حرفى الذى كنت تشجعنى وتدفعنى دفعا إن أجيده . جمعنا الصدق والمحبة والصراحة والوضوح والمبادئ والمثالية وحب الأشياء وسماع حليم وكنوز الفن الراقى وحتى فى اختلافنا فى تشجيع الكرة كنت تخلق جوا من السعادة يخلو من آفة التعصب البغيض . ولكن لاشيئ فى الحياة يدوم ، فاليوم غير البارحة ، لقد تبدلت الأحوال وانطوت بعد أن تركتنا حائرين مبهوتين من مفاجأة فراقك المفاجئ الذى أدميت به قلوبنا بعد أن انهارت عقولنا من هول الصدمة التى نزلت علينا كصاعقة السماء واجترت عبرات عيوننا  شلالات منهمرة حتى تحجرت جفوننا وجفت منابعها . لقد تلقيت خبر وفاتك ياخالد وأنا فى ذهول وفى عقلى استنفار حاد .. أنفاسى كانت تتصاعد بقوة لاهثة متقطعة كأنها تنتزع خفقات قلبى الموجع من بين جوانح صدرى وكأننى احتضر ولاأدرى منتهاه ، ولكن هذا هو حال الدنيا .. كم هو مفجع ومؤلم أن تتسلل الروح من جسد من نحب وتبهت صورته أمام أعيننا وتختفى إلى الأبد وهى التى كانت تملأ الدنيا من حولنا بهجة وتبعث فى نفوسنا الطمأنينة والأمل . لقد عرفت فيك نقاء القلوب ، وحب الناس وأنا كنت واحدا منهم ، كنت لاتألوا جهدا فى سبيل إسعادنا ، كنت تواصل الليل بالنهار لوضع منظومة عمل تخدمنا وتعلى من شأننا وتلبى مصالحنا ومطالبنا التى كانت لاتنتهى برحابة صدر ونقاء سريرة ، كنت تقدس الشأن العام وصالح الجماعة .. كنت تستقبل زملاءك فى مكتبك ببشاشة وجه ، رغم علمك أن فيهم من كان يريد هدمك .. ومن كان يريد أن ينال منك ، فأصحاب النفوس الضعيفة كانوا يخشون سطوتك المستحقة فى نفوس محبينك ، عشت على الفطرة ، كنت تتعامل على سجيتك ونقاءك الذى تربيت عليه مهما كانت أبعاد الشخوص الذين كانوا يتعاملون معك ، ولذلك كنت لاتستجيب لنداءاتى المتكررة بأن تغلق عليك باب مكتبك وأن تعامل الناس بقدرهم ، رغم أنك تعرضت من إيذائهم الكثير ، ولأنك كنت تعاملهم بفطرتك قلت لى : " إننى لايعنينى أمرهم ولا هم من ؟! ، فهذا متروك لله هو حسبى وهو من سيرد لى حقى " ، لذلك جاء تعاملك مع الجميع بتفهم أكبر وصبر أكثر ، ولكنى كنت أراك تتحمل مالايطاق وتعانى وتقاسى بين التزامك بقيمك النبيلة وماتواجهه من أحقاد ونفور . قدمت حياتك فداء لأفكارك التى كانت تتسم بالبراعة وحب الابتكار وكأنك تعيش فقط للناس ، تفرح لهم وتواسيهم فى أحزانهم وتعين الكثيرين منهم ، وكان ذلك يأتى على حساب بيتك وأولادك وأقاربك وأقرب الناس إليك ، قلبك ريشة طائر أبيض تطوف فى الهواء بلا هوادة .. مغردة بعيدة عن أسراب الحقد والطمع والأنانية . إننى مازلت لاأصدق ، ذهنى يكاد أن ينفجر من زحمة الأفكار التى أرادت أن تخرج عن مضامينها لكى تسقط على الأرض مستنفرة بسؤال بئيس كيف يخمد فجأة عطاء من نحب  ، كيف يضعف القلب المفعم بالبياض إلى هذا الحد  ، وكيف ينطفئ بريقه  بهذه السرعة ، إننى لازلت لاأصدق ، فكلمة الموت بالنسبة لك لها وقع غريب فى أذنى وعقلى وكيانى ، أحقا أنت ذهبت بعيدا ! ، إننى لم أستوعب بعد فكرة غيابك وحتى كتابة هذه السطور مازلت لاأصدق ، رغم إيمانى الشديد بقضاء الله وقدره ، وأنها أعمار تستوفى حقها فى الدنيا وفق إرادة الله ، ولكن هى لعنة الفراق وطول البعاد ، والحنين لكل لحظة جميلة عشتها معك . إن فكرى الشارد يحمل لك  شريطا حافلا من الذكريات الجميلة والكثيرة التى جمعتنا فى كثير من المواقف التى كنا نقف عندها ونحللها ونرتبها معا فى عقولنا وضمائرنا .. كنت أهرع إليك فى أدق التفاصيل لنتشاور بتؤدة ونضع كل الحلول الممكنة وغير الممكنة ودائما كنت أجد عندك الحل الأمثل للتصرف القويم . رغم أن الظروف الحائرة منذ ثورات التغيير تأرجحت كثيرا بمؤسستنا العملاقة مابين المثالية والواقع وكانت تدفعنا إلى الوراء دائما ، وتؤكد لنا أن مافات لم يعد ، والحاضر لايعدو إلا محاكاة للماضى ، وبشائر المستقبل لاتأتى لنا بجديد ، لقد كنا نعلق حياتنا على نهار طويل انتظرناه معا على أن يأتى ولكنه لم يأت ،  حتى جاءت الظلمة التى طالت لياليه كثيرا وأه من ليل العذاب والغربة . لقد أعطينا المجلس كل مانملك ولكن عطاءاتك أنت هى الأكثر .. لقد منحته عمرك كله ، أفنيت فيه صحتك وفكرك حتى يكون المجلس أفضل مؤسسة على وجه الأرض . كنت أذهب إليه فى وجودك ، أتصل بك أولا لأتأكد أنك فى مكتبك حتى لاأستشعر بغربة المكان ، لأننى كنت لاأرتاح إلا فى وجودك ، كنت كلما أدخل عليك مكتبك الوثير رغم صغره أجد رائحة المسك تفيح من كل جنباته ، وبمجرد أن ترانى تهب واقفا مبتسما ، وتستقبلنى بحفاوة وحرارة .. كنت أجد عندك الراحة والمكانة ، فلا يوجد من بعدك صديق ولا زميل ، بل لم يعد لى من الأن مكان فى المجلس حتى أذهب إليه ، لأنك كنت أنت دائما المقصد والمآل ، والأن أنت ذهبت ، فأصبح المجلس بالنسبة لى أرضا غريبة ، لا مكان لى فيه ولا أعرف فيه أحدا ، وهذا هو حصاد الأيام الذى توقف من بعدك مكتفيا بهذا الحد فى الذهاب إليه .

من لم يعرفك لايعرف أحدا ، ومن لم يمر على زمانك خسر الكثير من كنوز الإنسانية التى عرفتها من ابتسامات وجهك التى كانت دوما تشع نورا وأملا ، ولم لا وقد كنت رمزا للشهامة ، ورمزا للرجولة ، تفانيك مع نفسك لم يكن يوما لك ، واجتهاداتك لم تكن نابعة إلا من ضميرك الحى .. الذى لايعرفه إلا الصالحون ، من أجل ذلك كنت دائما تغرد خارج السرب وتنشد اللامعقول فى زمن التردى ولوى الحقيقة ، وتجابه المستحيل ، وتضمر فى نفسك ماكنت تجاهد أن تخفيه عن أعين الناس التى لاتعرفك ، وقد عرفنا معا الكثير، ولكن اختلفنا فى المساحة التى كنت تفردها لكافة البشر الذين صادفوك فى حياتك بحلوهم ومرهم ، لذلك تفوقت على قدراتى فى كسب الناس واحتوائهم ، فصارت محبتك فى قلوبهم بلا إرادة منهم ، فأنت كنت ولازلت مثالا رائعا على قوة عطاء الله فى البشر، لأنك كنت توهبه كله لله ، وبذله كان من أجل الأخرين . كم من أيام مضت يارجل منذ غيابك الذى سيطول ، ونحن لازلنا نلملم أحزاننا التى تملكت من نبضاتنا والعروق .




أخى وحبيبى وصديقى وزميلى الغالى .. إنما هى ألوان الحياة تهرب مننا والوجوه ، أصبحت أتألم بلا ألم ، وأبكيك كل لحظة بلا صوت ، حتى صارت نار البعاد تحاصر صدري بلا لهب .. نار وقودها الذكرى ، سأقف عند حد التمنى واشتاق لك ياأخى فقط لمجرد سماع صوتك .. سماع كلماتك التى كنت تواسيني بها أو التي كنت تشجعني عليها . كان بودى أن أكتب فيك مجلدا لأن مايحتوينى تجاهك أكبر وأعمق من أية كلمات تكتب أو تقال ، حقيقى لم أجد من الكلمات ماأوفيه به حقك ، لأنك أكبر بكثير من أية كلمات . سيظل الزمن يحاكيك وستظل أجيال كثيرة فى المجلس تذكرك لأنك وضعت حجر الأساس لمن أفنى عمره فى المكان من أجل الأخرين . إننى أتوجه لمن يرد البصر ويعيد النور ويملك الرحمة فى الأرض والسماء .. أتوجه إلى من بيده الملك والملكوت .. إلى الله العلى القدير وليس لغيره نلجأ ونرجوه ، ولا أحد سواه نرفع إليه أكف الضراعة بأن يكتبك مع الشاهدين وينعم عليك بالسلامة والغنيمة والرضا ، وأن يمنحك من رحمته مايتجاوز به عن سيئاتك ، ويسكنك فسيح جناته . فسلام الله عليك حيث ترقد الأن مطمئنا مستريحا وأنت فى رحابه .. سلام الله عليك من الأرض الطيبة التى أنجبتك وأحببتها وأحبتك وتضم الأن ثراك .. سلام الله عليك فى رحاب الخلود ، المشتق من اسمك ذلك مااكتسبته من رحلة الحياة والممات .. سلام الله على روحك الطاهرة ياخالد التى تحفها الرحمات ويملؤها نور الإيمان فهى ذهبت عند من يملك المن والرحمة بلا حساب وكل دعائنا لك أيها الحبيب الغالى أن يجعل مثواك الجنة ونعيمها .. اللهم اجعل مثواه الجنة ونعيمها . 
القاهرة فى 10 /4 / 2020


الأربعاء، 25 مارس 2020

الحب الذى قتل صاحبه



ومن الحب ماقتل .. مقولة غير مبالغ فيها ، لأنها حدثت بالفعل وعلى مدار عقود كثيرة خلت لكل من كانت مشاعرة فياضة ويمتلك إحساسا غزيرا ، أتذكر أنه عندما تكلمت عن الحب قلت أن ألوانه كثيرة وأن أشكاله متعددة ، وقلت أيضا أن دوافعه وأهدافه تختلف وفقا لحظوظ الناس منه ، وتحدثت عنه وأسهبت فيه ولكنى لم أتكلم عن الحب الذى يكون من طرف واحد رغم أن الكلام فيه كثير وحكاياته وحواديته لاتنتهى ، ولايخلو تراثنا الأدبى من مخطوطاته التى تزخر بها مكتباتنا العامرة سواء فى كتب الأدب العربى أو العالمى أو الإنسانى .. وإن كان هذا النوع شأنه كغيره من أنواع الحب فى أنه يدخل لساحة القلب بلا هوادة بدفقات من المشاعر سريعة الاجتياح التى تفرض نفسها بقوة بمجرد رؤية من اختاره قلبه على أمل أن يشعر به ويحلم بلقائه ويعيش على فكرة الإرتباط به ، إلا أن أعراضه خطيرة أنه لم ولن يعطي أبدا للإنسان فرصة أن يمهل نفسه ليقول نعم  أو لا ، ولايستأذن أبدا صاحبه بل يباغته ويستولى على مشاعره . ربما تعمدت وقتها ألا أتكلم عنه لكونه يعد أسوأ أنواع الحب ، غير أننى بعد ذلك فكرت أن أكتب عنه منفردا لأنه يبدوغريبا فى أطواره ، مشاعره تحزنك ، لأنك تجد فيه نوعا من القسوة والقهر والتجاهل ، من الصعب جدا أن تحب شخصا لا يحبك ، والأصعب أن تستمر في حبك له رغم أنه لايحمل لك أية مشاعر ، فهو الحب الذى يتمسك صاحبه به دون أمل . حبيب يشتاق ، يحلم ، يتخيل ، يتألم ، يملك  مشاعر دافئة ، تماما كالطائر الذى لايملك سوى جناحا واحدا ، إنه يظل ينظر باستمتاع إلى السماء ولكنه لا يستطيع أن يحلق فيها لأنه لايمتلك مقدرات الطيران فى الهواء . لذلك فإن قصصه كلها رغم ماتحمله من مشاعر جمة وفيوضات إلا إنها تذهب جميعها هباء كفقعات فى الهواء ولكن تشعرنا بمرارة ، والذى يزيد من جراحه أنه فى كثير من الأحيان يصل بصاحبه إلى درجة العشق الواهم حينما يستولى على كل المشاعر التى لاتبرأ منها النفس فتتعذب . لأن فيها مافيها من فقد تبادل المشاعر ومايترتب عليه من معاناة وألم ودهشة ، وفيها أيضا سوء فهم وسوء تقدير يتحمل صاحبها العنت النفسى الذى يصل به فى كثير من الأحيان إلى اليأس والإحباط  الشديدين لأنه يفضل فيها السكوت عنها حتي لا يتسبب في مشاكل للطرف الأخر الذى يحبه ،  أويخشي البوح به خوفا من المخاطر النفسية فى المواجهة إما من عدم القبول أو أن يكون الطرف الثانى على علاقة بأخر وبالتالي يصبح حبه حبيس الصدر والقلب لتتبدل اسمي معانى الاحاسيس والمشاعر إلي لعنة تحول حياة صاحبها الي جحيم ، إذن فهى مغامرة غير مأمونة للذى يدخل فى تجربتها لايسلم منها أبدا . 

فما بالنا إذا ارتبط هذا الحب بحياة الشعراء والأدباء بالتأكيد سيكون إحساسهم بالألم أكثر إلا إن هذا الإحساس يتحول عندهم إلى إبداع ، فهم يبدعون فى صياغة أجمل الكلمات فى وصف معاناتهم ومشاعرهم الجريحة ، فملكة الشاعر أو الأديب هى التى تحركه وتوجهه فيخرج علينا بأجمل ماعنده توطيدا لأحزانه العميقة وآلامه الشديدة ، ولذلك فإن حياة معظمهم كانت تنتهى بفاجعة ، إن قصتنا التى إليه مقصدى تعانق فيها الأدب والفن حيث انصهرا فى بوتقة واحدة رغم ماتحمله من متناقضات ، فشاعرنا الذى سأتكلم عنه كان رقيق المشاعر رغم ضخامة جسمه ، وصاحب أجمل قلب رغم ملامح وجهه التى تفتقر كثيرا للوسامة ، كان قلبه أكثر جمالاً من ملامح وجهه ، وأكثر رقة من محبوبته .. طيبة قلبه فضحته ، فدائما ماكان يفصح عن ذاته من وراء كلماته التى كان ينثرها بين سطوره ، رغم أن الشعراء دائما يميلون للعيش وراء أقنعة كلماتهم حيث يوارون بها أحزانهم وتعاستهم ، جاء فضح مشاعره من ذلك التأثير المنبعث من أوتار صوت محبوبته الحالم .. النافذ إلى القلب عبر نبرات كلها رقة وعذوبة لم تمنح لغيرها من مطربى زمانها ، ولذلك وصفت بأنها أرق مطربة عرفتها مصر ، فغناؤها كان يتميز بالشجن المفرط والإحساس المرهف الراقى ، كانت كلما تشرع فى الغناء ينصت الجميع ويصغون إليها فتصفوا لها قلوبهم ، أما بالنسبة له لم يكن غناء فحسب ولكن كان كتراتيل المساء .. موسيقى على أوتار الشجون ، وكما وصفها هو بأن صوتها ناعم كنغمة المتهدج فى مناجاته ، كانت هى تغنى وكان هو ينصهر ذائبا فى كلماته التى انتشلها من تلابيب قلبه واختلطت بألحان أصدقائه من فرط مشاعره ، فكثيرا ماكان يؤثر العيش مع كلماته وصوتها ذلك الربط الغريب الذى هيأه لنفسه ، فصنع بهما حالة من الشجن المزمن الهارب به فى دروب الحياة ، ومن معاناته الدائمة وإحساسه بالفقد والألم . كان يعرف يقينا أنها لا تحبه ولا يمكن يوما أن تبادله حبا بحب ، ولكنه فضل أن يكون وفيا لحبه لآخر نفس ، فكان يهرب من أصدقائه وهو معهم ، ومن الناس وهو بينهم ، كان يهرب من كل شيئ حوله ، ولم يعبأ بأى شيئ يضايقه ، عبر عن حياته بأنه عاش عمرا بلا شباب ، وحياة بلا ربيع ، وعن أحواله النفسية المتقلبة أنشد : " دمعتى ذاب جفنها ، بسمتى مالهـا شفاه ، صحوة الموت ما أرى ، أم أرى غفوة الحياة ، أين يأسى ؟ . . لقد مضى ومضت مثله المنى ، فحياتى كما ترى : لا ظلام ولا سنا  ، كل ما كـان لم يكن وأنا لم أعد أنا  .. أنا فى الظل أصطلى لفحة النار والهجير وضميرى يشدنى لهوى ماله ضمير  ، وإلى أين ؟ . . لا تسل فأنا أجهل المصير " . أنه دأب على الهروب حتى من نفسه  فلا يدري من أين أو أين يمضي ، أصبحت حياته فى شكوك دائمة أفقدته ثقته بنفسه ، أيامه كلها أصبحت ضبابا ، يرى كل ماحوله حطاما ، مشاعره بعضها يتمزق وبعضها الأخر تهون عليه فتصعب عليه نفسه . إنه فضل العتاب ولكن بالكلمات ، عتاب الأحبة عنده كان أسلوب حياة .. لأنه أحب فأجزل العطاء ولم يلق مقابلا لهذا البذل الذى كلفه الكثير من المشاعر والكثير من المعاناة أيضا ، وماأقسى المشاعر التى تواجه معاناة ، هكذا كان حاله مع نفسه ومع أصدقائه .. سخيا فى كلماته .. ساخرا فى جلساته التى كانت تتسم دائما بالسمر والضحكات الزائفة التى كان يطلقها من وخز الألم ، لهذا أحب السهر ، وأحب أيضا لمة الأصدقاء حتى يشغل فراغ نفسه بملأ المكان فكان يتحسس دفء مشاعر واهمة لقيطة فى مشاعرهم ، فيتوه بينهم قاصدا إياه .. هاربا من همومه التى ثقلت عليه ، ولكنه عندما ينفرد بنفسه كان يقسو عليها أشد القسوة ، معاناة مابعدها معاناة ، فوجود محبوبته أمام عينيه فى معظم الجلسات التى كانت تجمعهما معا فى وجود أصدقائهما أصعب بكثير من غيباها ، ففى وجودها كانت تأسره وتكبله بأضغان مشاعرها الرافضة لحبه ، ليجد نفسه مكدودا مهموما فينفرد بها ويسجنها طواعية مستسلما فى زنزانة حياته منفردا حتى لاتراه ، إنه أراد أن يتوارى وراء جدر شاهقة الارتفاع حتى لايفقد إطلالة الأمل الباقية فى حبه لها ، فى الوقت الذى كان يشعر فيه بأن قيمة الحياة عنده تهدر كل يوم وتنهار كل ليلة ، ولحظات التمنى تخبو ، والسعادة تغلق وراءها ألف دار ، ولم يتبق له سوى حرقة النفس ومعاناة الفرار .
فلنتصور أن الحياة على اتساعها أصبحت فى شعوره مجرد زنزانة .. نفسيته الحبيسة المكتئبة الذى خيم عليها الحزن تبدو فيها كم الإحباطات والأحلام المجهضة التى واجهنا بها فى أشعاره التى تميزت بالقدرة الفائقة على التعبير عن دواخل النفس ، وجعلنا مثله غير قادرين على النظر للضوء الذى يبدو فى نهاية النفق المظلم ، وجعلنا نستشعر باحساسنا مدى حجم المخاوف والتوجسات التى كان يشعر بها كلما أمسك قلمه .. حيث كانت أنفاسه تلهث ، وعيناه تزوغان ، ويسيطر عليه القلق ، كما يسيطر على كتاباته وقراءاته وضربات قلبه محاولا أن يعتصر من ألمه هذه الكلمات المعبرة عن احساسه الداخلى مباشرة دون التجائه لاستخدام الرمز الذى يتوارى وراءه معظم شعرائنا على أمل أنه عندما يفصح عن حبه قد يفيد وتشعر به محبوبته ، ورغم مصارحته إلا أنه فى نفس الوقت كان يتعمد ألا يؤذى نفسه أمام الغير ، فكان يبدو متحفظا فى حبه تملأه عزة النفس التى كانت تؤرق قلبه كثيرا وتؤذى إحساسه غاية الإيذاء وهو معذور فى ذلك لأنه كان يراها دائما أمام عينه ، وكان يرى ميلها لغيره من بين أصدقائه الكُتاب ، لذلك كان حجم المفارقات عنده كثيرة وحجم القمع الذى كان يواجه به نفسه أكبر من أن يحتمل . فى يوم كتب لها " إنني لا أجري خلفك صدقيني ولكنني أجري خلف شقائي " ، عندما سألوه عنها قال " إنها تحتل قلبي وتتصرف فيه كيفما تشاء تنظفه وتعيد ترتيب أثاثه وتقابل فيه كل الناس إلا شخص واحد كانت تتهرب منه هو صاحب البيت ."

ومن مفارقات اهتمامه بها أنه كان يهتم بأدق تفاصيل حياتها ، ومنها حرصه الشديد على أن يقيم لها حفلا فى احتفائه بعيد ميلادها الذى كان ينتظره على وهج من العام للعام ، كان يستعد له استعدادا خاصا قبل مجيئه بزمان ، وفى الإحتفالية التى كانت فارقة فى علاقته بها حيث اضطربت بعد ذلك وتعقدت غاية التعقيد ، حدث مالم يكن فى حسبانه ، ففى هذا اليوم ظل فى بيتها بحى الزمالك يقوم بكل الترتيبات اللازمة للحفل وكعادته لايألو جهدا فى أن يقوم بنفسه بشراء كل مستلزماته من هدايا وحلوى وتجهيز المكان بتعليق الزينات الملونة والبالونات ، كما كان يهمك نفسه انهماكا فى تحضير الأطباق وتجهيز الطعام ، ظل على هذا الحال من الصباح إلى مابعد العصر ، لدرجة أن قدميه كانتا تتحسسان الأرض وهو يتنقل من مكان لمكان كى لا يثير إزعاجها . حتى انتهي من إعداد كل شيئ بنفسه ، ثم عاد إلى بيته ليرتدى هِندامه ويعود برفقة الأصدقاء . وفي المساء جاء الكل فى الموعد انتظارا لبدأ مراسم الحفل ، التى بدأت بمعزوفات موسيقية رقيقة انسابت من كل اتجاه احتواه المكان عبر أريج من السعادة التى غمرت الجميع ، بيد أن إحساسه كان مختلفا .. إحساسه كان هو الأعمق بكثير من احساسهم ، فمنذ الوهلة الأولى التى وقعت فيها عيناه عليها خطفته من نفسه ، رأها تقبل عليه كما تقبل الدنيا ، بهرته وهى تمشى بينهم آتية إليه ، القوام كالسيف ممشوق ورقيق .. ثوبها للسهرة يخبل العقل لم ير أحكم منه فى إبراز رشاقة جسدها وكأنه انطبع عليه وراح فى تألق يكشف عن تفاصيل كنوزه فأثارت فيه جاذبية ضارية . مدت يدها له وهى تحييه ، خُيل إليه بأنها تحييه بشوق زائد ، وتصافحه فى حرارة فأحس بضغطة أناملها ، أخذ يتحسسها بأنامله وكأنه يتحسس قلبه الذى بين جنبيه ، وتمادى خياله بأنها زادت فبالغت فى الكرم وهى تعابث يده بأصابعها الرقيقة ، وأن ثغرها افتر عن ابتسامة انبلجت لها الدنيا .. ثم دلفت به إلى الداخل فرحة لمقدِمه ، وقد فسر ذلك وحسه من فرحة أصابعها  الجميلة الضاغطة على ذراعه وهى تمر به عبر الطرقة الطويلة المؤدية إلى الشرفة التى يفضل دائما الجلوس فيها . وما أن بلغا أقرب مكان للشرفة حتى أجلسته على مقعد وثير ثم تركته مستأذنة كى ترحب ببقية الأصدقاء . 
أخذه التفكير الذى يغلب عليه الظن مرة أخرى فى نعومة أنوثتها الصاخبة التى أحيت فيه إحساسا رائقا تلألأت معه عيناه من بريق ثوبها الأحمر النارى المرصع ببعض مجوهراتها التى تفاعل لمعانها بأضواء المكان فانبهر من انعكاس أنوارها  فى عينيه وجذبتهما فى رضوخ حتى أغمضهما من شدتها ، ثم أخذ  يشهق بنفس عميق هواء نقيا ملأ به صدره وكيانه كله .. وفتحهما ثانية فإذا به يرى أمامه مروجا قد اخضرت وقد غدت بساطا متراميا يسيران فيه معا ، والهواء المحمل بقطرات الندى يلفحهما فى غبطة فيرتشفان من رقراقه الصافى ، والشجيرات تمايلت وراحت تظلهما ، كل ذلك فكر فيه وتخيله وراح مبتهجا يشعر بأن الفرحة تغمره وتفيض عليه وتسر عليهما أيما سرور  . إنه كان يرى نفسه وكأنما يذوب بها هائما فى كل إغفاء واستفاقة .. وكلما سرح به خياله .. وفى كل لحظة تمر فيه من أمامه وهى فى قمة نضارتها وأناقتها وتألقها كشمس تتهيأ للإشراق فارتدت أنفاسه وعاودته ابتساماته تملأ الكون وراح قلبه من شدة الفرح أن ينخلع من بين ضلوعه ينشد تجاوبا منها أو رنوة طرف تبث فيه روح الجمال وتؤكده ، لذلك كان يرى فى بريق عيون الرفاق لسع اشتياقه ، وراح يتخيل مع نظراته الزائغة فى أبعاد القاعة أنها اتسعت به وتضخمت وأنوارها ترامت وتلألأت ، ورآها كأنها تسبح معه فى فضاء بنفسجى الرائحة خلف كل المدعوين بعد أن أتاها متسللا من ورائهم ثم حضنها وأغمض عينه وأخذ يلثمها بعنف وتمنى فى هذه اللحظة البكاء على صدرها ، إنه معها ينسى الدنيا ومافيها فلاشيئ عنده بعد ذلك يهم ، ولكنه عندما تنبه برهة وجد نفسه يحتضن قلبه بقسوة وهمس فى نفسه وكأنه يخاطبها ويرجوها : ألا تفرحى معى هذه الليلة .. الليلة فقط  ، كان يُمنى نفسه لمجرد لحظة فرح واحدة صادقة يعيشها معها فى هنأة  بال وغبطة من سرور ، ولكنه لم ينلها ، لدرجة أنه تمنى حتى أن يموت بين يديها ولكن بعد أن يعيش معها هذه اللحظة الفارقة .. هذه اللحظة وكفى . تلك اللحظة كانت تساوى عنده عمرا ، فكان يستحسن معاودة خياله فيها ويعيش فى شذاها ، حتى كان يفند مااحتواه من رقة الجمال ويحيلها إلى درجة كبيرة من النشوى ، بيد أن كل هذا سرعان ماتلاشى فجأة فور إطفاء الشموع عندما رأى مالم يخطر بباله ، وتفاجأ بما كان لايتمناه ، فبعد مرور لحظات الخفوت التى علت فيها أصواتهم مرددين فرحين بأغانى عيد الميلاد ، عادت الأنوار تحمل له المفاجأة الكبرى التى صدمته صدمة كبيرة إثر وقوع نظراته عليها فإذا بها تختار صديقهما الكاتب الوسيم المعروف عنه حب النساء والتلاعب بمشاعرهن ليقطع التورتة معها ممسكا بيدها فى وضع الأحبة . فشعر فجأة بشيئ كأنه الضيق يضغط على أنفاسه حتى ليكاد يخنقه فاحتقن وجهه واكفهر مما اعتمل بداخله من ثورة نفسية عارمة اجتاحت كل مشاعره وأثرت فيه تأثيرا كبيرا مما يراه من حقيقة بدت أمامه بكل تفاصيلاتها ، ورغم ذلك يريد ألا يصدقها ولايود ذلك ، ولكن أسفه أن عيناه رأت هذا الوضع المخجل المهين لمشاعره التى جعلها يوما ثرى تمشى عليه ، والأيام التى تسخر من وجهه المتغضن ، والقدر الذى لايريد أن يبلغ مناه أو على الأقل يشفق عليه وعلى حاله ، وقال فى نفسه : " ماذا سأفعل مع قلبى الذى غادرنى منذ تاريخ لاأحسبه .. كيف استعيده منها ، إنه مازال يهفو إليها كما يهفو الوليد لصدر أمه " . 


أراد أن ينتفض من هذا الشقاء الذى لايُحتمل وينسحب مغادرا هذا المكان وتلك اللمة بعد أن استولى عليه الإحباط وتملكه الحزن ، غير مصدق أنها جرحته بهذا الجرح الغائر وكأن السكين الذى قطعت بها التورتة انغرز فى قلبه وقطعه قطعا صغيرة . لقد أثر فيه هذا الموقف تأثيرا عميقا حتى خارت قواه وللحظة لايدرى فيها أين هو دارت به الدنيا ولم يتمالك نفسه وكاد أن يقع على الأرض ، ولولا أن بعضا من الأصدقاء الذين كانوا يقفون بجواره اسندوه وأجلسوه على المقعد القريب منه لسقط على الأرض ، إنه شعر بدوار شديد ، ثم ذهب فى دوامة تمنى أنها تأخذه بسرعة إلى أسفل ولايبقى أسير هذه اللحظة التى رأى فيها الحقيقة الصادمة وهذا الوهم القاسى ، ويريد أن يكسر هذا الطوق الحديدى الذى طوقه من كل جانب وأصبح يحاصر عنقه ولم يعد يحتمله . بعد أن تنبه واسترد شيئا من وعيه أخرج علبة سجائره وأشعل واحدة منها ثم أخذ يتعمق بعينيه دخانها المتصاعد رويدا فى التواء ، وراح يحدث نفسه ويتذكر فى قسوة بالغة منذ متى التقى بها وكيف تعرف عليها ومتى تحمس لها ولموهبتها التى ساندها فيها كثيرا ، وكيف أحبها كل هذا الحب وأحبت هى غيره ، ثم راح يهمس فى نفسه متمتما وكأنه يحدثها : " إنه لم يساورنى يوما حتى ولو بعض الشك فى أنها تميل لغيرى ، أحقا هى تحب غيرى ، وهل هناك من يحبها أكثر منى ؟ إننى كنت أريد لها الحياة ، كنت أريد أن أرتمى بها عبر نافذة عريضة الى عالم جديد .. عالم ساحر جميل هى وحدها تستحقه ، كان لابد لهذا الحب أن ينتصر " . ثم أخذ يردد بعدها فى نفسه " إنها كالدنيا تتجدد بالناس ولا تكتفي أبداً  ." وعندما استرد كامل وعيه من الصدمة رأها لازالت واقفة مع صديقه الغريم تنظر إليه بإشفاق ، أدرك أنها تتسلل خارجة من حلمه ، وكلما كان يراه واقفا معها أمامه مستغربا وهو فى قمة الرونق والبهاء يتلاشى إحساسه تجاهها كما يتلاشى الضوء الشارد عبر ممرات الأمل فيغمره شعور عميق بالأسى على ضياع أجمل ماكان يحتويه ، كان يرى ضياع ذلك النور المنبعث من خاطره وأضاء المساحات الوهمية فى قلبه ووجدانه يتبدد من أمامه وينقشع حتى تلاشت معه اليقظة . ثم فاجأته بصفعة أخرى عندما استدارت إليه وقالت له ببرود : " آسفة إن كنت أنا السبب ، شكرا على تعبك معايا ".


خرج حزينا مُنفطر القلب إلى مسكن صديقه مصطفى أمين الذى هرع إليه قاصدا إياه حيث لم يجد مكانا أخر أقرب منه لمسكنها ليذهب إليه ، فقد كان مسكنها مجاورا لمسكنه فى ذات الحى . وما أن وصل حتى أخذ يكتب كلمات قصيدته التي تقطر ألما .. وراح ينشد فى نفسه كلاما لها " لا تكذبي إني رأيتكما معاً .... " . كتب مصطفى أمين عن هذه الواقعة وتلك اللحظات القاسية فى كتابه الشهير " شخصيات لا تنسى " حيث قال : " عشت مع كامل الشناوي حُبه الكبير، وهو الحُب الذي أبكاه وأضناه .. وحطّمه وقتله في آخر الأمر، أعطى كامل لھذه المرأة كل شيئ ؛ المجد والشهرة والشّعر، ولم تعطه شيئًا .. أحبها فخدعته .. أخلص لها فخانته .. جعلها ملكة فجعلته أضحُوكة ، . ثم استطرد قائلا : " كتب كامل قصيدة لا تكذبى فى غرفة المكتب بشقتى في الزمالك.. وهى قصيدة ليس بها مبالغة أو خيال . وكان ينظمها وهو يبكي .. كانت دموعه تختلط بالكلمات فتطمسها ، وكان يتأوه كرجل ينزف منه الروم العزيز وهو ينظم .. وبعد أن انتهى من نظمها قال : إنه يريد أن يقرأ القصيدة عليها بالتليفون . كان تليفوني بسماعتين ، أمسك هو بواحدة وأمسكت أنا وأحمد رجب بالأخرى ولكن من غرفة ثانية ، كامل بالفعل اتصل بها وبدأ يلقى عليها القصيدة بصوت منتحب خافت تتخلله الزفرات والعبرات والتنهدات والآهات مما كان يقطع القلوب : " لاتكذبى إنى رأيتكما معا ، ودعى البكاء فقد كرهت الأدمعا .. ما أهون الدمع الجسور إذا جرى من عين كاذبة فأنكر وادَّعى .. إني رأيتكما ..إني سمعتكما ..عيناك في عينيه .. في شفتيه .. في كفيه في قدميهِ .. ويداك ضارعتان .. ترتعشان من لهف عليه ..." إلى آخر القصيدة ، وتصورنا أنها عندما تسمعها سوف تتأثر وتنتحب وتشعر بالندم . إلا أننا فوجئنا بأنها ظلت صامتة منصتة وهى تسمع القصيدة لاتعلق ولا تقاطع ولا تعترض ولم تقل شيئا البتة ، وبعد أن فرغ كامل من إلقاء قصيدته قالت له : " كويسه قوى ، تنفع أغنية..لازم أغنيها ". وانتهت المحادثة ، ورأينا كامل الشناوي أمامنا كأنه جثة بلا حِراك ، أنها قست على قلب من أخلص لها وأحبها وقدم لها الكثير . بعدها حاول أن يعود إليها بأى طريقة ؛ يمدحها ويشتمها، يركع أمامها ويدوسها بقدميه ، يعبدها ويلعنها .. وكانت تجد متعة كبيرة فى أن تعبث به ، يومـا تبتسم له ويومـا تعبس به ، ساعة تقبل عليه وساعة تهرب منه .. تطلبه فى التليفون فى الصباح ، ثم تُنكر نفسها منه في المساء "  ثم أردف : " أشك أن البعض يقول : الأمر ليس مؤلمـا فمن حق المرأة ألاتحب ذلك الشخص .. فهذا حقها ، لأنه كان أكبر منها بثلاثة عقود! ولكن لم يكن هناك داع لكل هذا التمسك منه بها وهى ترفضه ". إلا أنه عاد وقال : " إن صد المطربة لحب الشناوي كان يمثل أمرا صعبا عليه ، ولم يرغب في تصديقه ، للدرجة التى دفعته أن يقول عنها : إننى لا أفهمها، فهي امرأة غامضة لا أعرف هل هي تحبني أم تكرهني؟ هل تريد أن تحييني أم تقتلني؟ ". هكذا كتب مصطفى أمين عن حب كامل الشناوى لنجاة ومأساة هذا اليوم الفاصل فى حياته ، وهذه الوقعة التى ألمت به .

فى صباح اليوم التالى فتح عينه المرهقتين وقد رأى البارحة أشياء كثيرة لاتُرى ولاتُحكى شعر بصداع رهيب فى مقدمة رأسه ، وحين لمس جبينه شعر وكأنما صفعته حرارة شمس طاغية صبت بكل حممها فى رأسه  ، وجعلت منها حفرة عميقة ظنها بجحم الأرض ، إنه لن يستطيع أن يمد يده لوقف النزف أو على الأقل ليقدر شكل الجراح ، لقد شعر بإنها أفسدت رأسه وكسرته بعد أن أتت على روحه وطعنتها فى جرح لايندمل ، فخسر كلا من الجسد والروح ، لقد حاول أن ينسى جراحه وآلامه ويذهب بعيدا ولكن كيف سيفر من قدره ، حاول أن يبتعد عن المكان الذى كان يعده البارحة لإقامة الإحتفالات من أجلها ، فإذا بها تطعنه طعنة غدر شلت بها حركته .. إنها أرادت أن يكون هذا المكان قبره ، حاول أن يهرب منه ولكنه لم يستطع حتى أن يزحف ، محاولاته خلال ليلة كاملة باءت بالفشل إلا مسافة صغيرة أوصلته بشق الأنفس إلى مسكن صديقه مصطفى أمين ولم يعرف بعد كيف جاوزها ولا كيف وصل إليه ، خُيل إليه إنها بألف يوم . بقى عنده إلى مابعد الفجر ثم غادره عائدا إلى منزله بعد أن اطمأن صديقاه أنه أخذ قسطا من الراحة استرد بها شيئا من الإتزان وانضباط النفس رغم أنه مازال يعانى من اضطراب شديد فى سرعة ضربات القلب وارتفاع كبير فى ضغط الدم وآلام لاتنقطع فى جنبيه ، لذلك اصطحبه أحمد رجب الذى أصر أن يوصله بنفسه إلى منزله ، وعندما عاد لم ينم ، ورغم وهنه وضعفه إلا أنه أمسك بقلمه ، ولأنه لا يملك غير الكلام فكتب لها :" لا وعينيك يا حبيبة روحي لم أعد فيك هائما فاستريحي .. سكنت ثورتي فصار سواء أن تليني أو تجنحي للجموح واهتدت حيرتي فسيان عندي أن تبوحي بالحب أو لا تبوحي ، وخيالي الذي سما بك يوماً يا له اليوم من خيال كسيح ، والفؤاد الذي سكنت الحنايا منه أودعته مهب الريح ، لا وعينيك ما سلوتك عمري ، فاستريحي وحاذري أن تريحي" . ثم كتب لغريمه قصيدة " حبيبها لست وحدك حبيبها .. حبيبها أنا قبلك ! ، وربما جئت بعدك ، وربما كنت مثلك !" إذعانا منه بوجود شريك له فى حبها ، لقد رضى بأن يشاركه أخر فى حبها .. رضى حتى بالقليل ، ومع ذلك فإن رضوخه لم يشفع له ، فكتب برؤية ساخرة هذه القصيدة التى تؤرخ  معاناة النفس مع النفس فى عاطفة سامية سكنت الفؤاد فى نوبة من نوبات العشق من طرف واحد ، فللوهلة الأولى نشعر بأنه رفض هذا العبث ثم أقره نزولا عن حبه الذى لاحيلة له فيه " ويحفر الحب قلبى .. بالنار ، بالسكين .. وهاتف يهتف بى : حذارى يامسكين ! " ثم وصف معاناته مع نفسه وضياعها : " وسرت وحدى شريدًا ، محطم الخطوات ، تهزنى أنفاسى ، تخيفنى لفتاتى ! كهارب ليس يدرى ، من أين ، أو أين يمضى ؟ ، شك ! ضباب ! حطام ! ، بعضى يمزق بعضى ! " وهذه القصيدة لحنها الموجى وغناها عبد الحليم حافظ .


لم ينس كامل الشناوى تلك الليلة ، ظل بقية عمره بتعذب بها ويعاتب نفسه عليها كثيرا حيث قال : "هل تذكرين تلك الليلة..؟ أنا أذكرها؛ فاسمعي لي، ولا تحزني ! لقد حاولت أن أنساها، ولكنّي لم أستطع.. ففي حياة الناس أشياء يعجزون عن نسيانها لأنها تثير خجلهم ، وكم شعرت بالخجل وعانيته طيلة هذه السنين، وأعتقد أن خجلي سيعيش معي إلى أن ألفظ آخر أنفاسي ؛ فإن ذاكرتي تأبى أن تنسى هذه الليلة.. "
روى الناقد الكبير رجاء النقاش أن الشناوى كان صاحب فلسفة خاصة فى حبه، فكان يرى أن الحب والعذاب فيهما شيئ واحد ، لافتا إلى أن الشناوي لم يكن يميل إلى الحب السهل الخالى من الآلام ، لذلك لم يتزوج ولم يعرف فى حياته إلا قصة حبه للفنانة نجاة الصغيرة، وكانت هذه التجربة العاطفية بالنسبة للشناوى مليئة بالعذاب ، لقد ساعدها كثيرا .. ساهم بشكل كبير في ظهورها وقدم لها الكثير من القصائد والحب ، ثم أعطاها المجد والشهرة ، فكان جزاؤه تجرُّع الحُزن كؤوسا لا تنتهي .. فنجاة كانت تصغره بثلاثين عامًا، وكانت تحبه كحب الأبنة لأبيها، بينما كان يعشقها هو كعشق الحبيب لمحبوبته ، لكن نجاة تزوجت من كمال منسى وتركت عاشقها غارقًا في دموعه ، التي ولدت بداخله إنتاجا شعريا متفردا  .

وفي إحدى المرات شاهد أحد محبيها يتودد إليها ، فكتب ساخرا: " إنها كالدنيا لا تبقى ولا تتجدد إلا إذا خرج من حياتها أناس .. ما أكثر الذين شاهدتهم وهم يغادرونها وما أكثر المواليد الذين رأيتهم على بابها ".
وظل يردد كثيرا ماكان يعكف على كتابته كل المساء إذ أن الكتابة كانت متنفسه الوحيد : " أتُسمَّى محبوبة ؟ أتوصف بكل البراءة التي تظهر على وجهها ؟ يقولون أنّ قساة القلوب لا يحبون ، والحقيقة أنّ القساة بلا قلوب " ، وقال : " افهميني على حقيقتى .. إنني لا أجري وراءك بل أجري وراء دموعي " .
"  إن الحُبَّ ليس له عقل . وإنه قادر على أن يسحق أكبر العقول . ولست مغرورا حتى أتصوَّر أن لي عقلا كبيرا .. ولكنني شجاع إلى حد الاعتراف بأن الحُب انتزع عقلي من رأسي، وألقى به في عرض الطريق  ". ثم قال : " دمرتنى لأ نـنى كنت يوما أحبها وإلى الآن لم يـزل نابـضًا فيك حبها ! ؟ لست قلبى أنا إذن ! ! إنمـا أنت قلبها ."



أصبح الشناوى يشعر بغربة الأيام وقسوتها مع لعنة الهجر الذى أتى على كل طموحاته ودمرته ثم قتلته ، وكان يجلس يوميا يكتب عن عذاباته وعن تجربته الفاشلة مع الحب والحياة منتظر الموت الذى أصبح يحاصره من كل اتجاه ، ولم يبق سوى الموعد الذى ستشييع فيها جنازته ، فوجئ به مصطفى أمين يتردد على المقابر، ، وكانت هذه عادته الجديدة، فسأله ماذا حدث، فابتسم "الشناوى بابتسامة يملأها الحزن " وقال : " أريد أن أتعود على الجو الذى سأبقى فيه إلى الأبد ".
ورغم كبرياء " الشناوي" إلا أنه تأثر كثيرا عندما علم ماقالته لصديقاتها وأصدقائها عن عذابه فى حبها : " مسكين كامل ، لقد دمرته الغيرة ". فكتب إليها يقول : " صدقيني إذا قلت لك ، إنني لست مسكينا، ربما كنت كذلك لو أنني استسلمت للوهم الذي علقني بك ، ولكنني قاومته ورفضته وجعلت من كبريائي حصنا يحميني منك، ومن قلبي ، ولاشىء يقوى أن يدمرني لأننى أحيا، ومادمت أحيا فإن العواصف التي تهب من حولي لا تزيدني إلا قوة ، تبدده حفنة من الهواء ، ولكني جبل لا أبالي العاصفة، بل أحتفي بها، وبدلا من أن أتذمجر في الفضاء أجعلها تغني من خلال صخوري، وليس صحيحا أنى أغار من أى إنسان تعرفينه، فالغيرة لا تكون إلا ممن تحبينهم، وعرفت بالتجربة أنك لا تحبى إلا ذاتًا واحدة، لا أستطيع أن أغار منها لأنها مختبئة في ثيابك، إنك تحبين نفسك، وتغارين ممن يشاركونك حبها، بل إنك تناصبينهم العداء، ومن أجل ذلك عاملتني كما لو كنت عدوك الطبيعي، أحببتك فكرهتني، قدمت إليك قلبا فطعنتيه بخنجر مسموم  ".




يقول مصطفى أمين : إن تلك المطربة الكبيرة مضت تثير الشناوي بأنها تعشق الطبيب الفلانى ، أوالمحامي المشهور العلانى ، أو أنها خرجت مع المهندس المعروف كذا ، فلم يصمت "الشناوي" وكتب يقول: " ليتك تعلمين ، أنك لا تهزينني بتصرفاتك الحمقاء، فلم يعد يربطني بك إلا ماض لا تستطيع قوة أن تعيده إلينا أو تعيدنا إليه، كنت أتعذب في حبك بكبرياء، وقد ذهب الحب، وبقى لي كبريائي ، كنت قاسية في فتنتك، ونضارتك وجاذبيتك ، فأصبحت قاسية فقط  ".


ظل يدخن بشراهة ويشرب بإفراط ويدمن السهر ويستمتع بالكتابة ويحب نجاة ،  كان يكره النوم لأنه عندما كان يذهب لمخدعه تتلقفه الهواجس ، ويتملكه الأرق ويتسلمه السهد ويستبد به الفكر العميق الذى لاينتهى إلى شيئ ، وكلما كان  يأوى إلى فراشه ويضطجع فى سريره يتصبب العرق منه وقلبه يدق بكل عنف ، حتى إذا غفا قليلا يشعر وكأن الدنيا كلها تجثم على قلبه ثم تأخذه إلى أعلى وتهوى به فجأة فى واد سحيق لايوجد فيه غيره ، ثم يصحو مضطربا مكروبا لايستطيع بعدها أن يتحرك أو يتنفس أو يتأوه وكأن الموت يناديه ، ولم يكن يدرى هل هذا كابوسا أو حلما مزعجا ، أو حقيقة أو وهما ، أم أن قدر حياته أنه يرى مماته كل ليلة . حتى قال عن نفسه أنا وهم أنا سراب ، وقال عن نفسه فى أخر عيد ميلاد له : " ولكن أيامي اليوم قليلة ، إننى صحوت على صوت رقيق يهنئني بعيد ميلادي .. إن كلمات التهنئة والعيد والفرح أصبحت غريبة على أذني؛ فأنا في عذاب دائم من أوهامي وظنوني. تمرُّ بي الأيام فلا أدري أأبكي عليها أم أبكي منها . إن عبء الكهولة يرهقني وشبح الشيخوخة يخيفني ، ومع ذلك فأنا أريد أن أحيا، وأريد حياتي أن تكون إلى أمام وليس أمامنا إلا الموت ". ورغم كل ذلك لم ييأس ، ولكن عندما يئس استسلم للموت ، مات كامل الشناوى محبطا بسبب فشله فى الحب ، وهكذا انطوت قصة أرق شاعر عرفته مصر ، ذهبت روحه لخالقها فى الثلاثين من شهر نوفمبر عام ألف وتسمائة وخمسة وستين ، مات بعد أن تدهورت حالته الصحية وساءت بسبب مضاعفات حادة فى الكلى أثرت على القلب ،  القلب الذى عانا كثيرا من منغصات الحياة والحب ، مات كامل بعد أن شعر بأنه لاقيمة لحياة بلا حب ، وحب بلا شريك ، وشريك بلا قلب ، وقلب غض طرفه عن رد الجميل .. قلب أعطاه كل شيئ من كيانه .. من دمه ودموعه وآلامه ولم يبق لنفسه شيئا حتى أصبحت غريبة عليه ، وأصبحت الحياة غريبة على روحه فلفظ الحياة .. وكما لفظ الحياة ، الحياة لفظته أيضا ، إنه لم يعد يعرفها .. ولم تعد لديه القدرة أن يعرفها ، وقتها تساوت عنده الحياة بالممات ففضل الممات ولهذا أنشد : " لم تعد الحياه كما كانت ولم أعد أنا أنا . "


وبعد وفاة كامل الشناوي التقى مصطفى أمين بتلك المطربة ، وأخبرها أنه كرهها طول حياته منذ قصيدة : " لا تكذبي "، فقالت : إنني لم أحبه ، وإنما هو الذي كان يحبني ، إنني كنت أحبه كصديق فقط ، وعندما طلب مني الزواج رفضت لأننا مختلفون في كل شىء .. فأنا رقيقة وهو ضخم .. وأنا صغيرة وهو عجوز ، وأنا أجد متعة في أن أجلس مع الناس، وهو متعته أن يجلس معي وحدى ، أنا لا أريد أن يعرف الناس من أحب ، وهو يريد أن تعرف الدنيا كلها أنه يحبني . فرد عليها مصطفى أمين : إن أصدقاءه يعتقدون أنك قتلتيه ، فقالت : " لا .. إنه هو الذي انتحر ". الفنانه نجاة لم تكن قاسية ، ولا هو يستحق هذه المعاناة ، ولكنها لعنة الحب من طرف واحد! ربما نجد التاريخ زاخرا عن حكاوى هذا النوع من القصص ، لكن أكثرنا لم يعش مثلها ولا يُدرك مدى تألم شخص علق قلبه بإمرأة ارتمت بأحضان أخر أو العكس على حد سواء .


مع خالص تحياتى : عصام        
القاهرة فى مارس سنة 2020