music

الاثنين، 4 ديسمبر 2017

شخابيط على جدران الجموح ( وكانت لصباح حكاية 4 )

لم يكن العام الذى عرفت فيه صباح قد استدار حتى جاء القدر بما لانحب ، ووضع حدا فاصلا لكل أفكارى المشتتة وأحاسيسى المتباينة تجاه قصتى معها المليئة بالمتناقضات والتى عاشتها نفسى متقلبة على جانبى الرحى مابين بهجة الأنس التى صنعتها لى من حشاشات قلبها عرشا وأجلستى عليه ، ومن أفئدة عيونها بساطا وجعلته تحت قدمى ، ليهزنى الشوق إليها حتى وأنا معها فجعلت للدنيا معنى أخر ، وبين قسوة الحياة عندما تتأهب لتغادر ، ولعنة ظروفنا الحائلة التى كانت تداهمنى كلما همت لتنصرف ، فتترك فى النفس مافيها من تعلات ، غير أننا لم نفكر فى لحظة الفراق أو النهاية التى تتماشى مع منطق ظروفنا وأحوالنا ، حتى صدمنا القدر بما لاتهواه النفس ، وبما لايتحمله القلب ، جاء بزلزال هز كياننا هزا ، وزعزع مشاعرنا بقوة ، وأطاح بما ملكناه من عواطف جائشة .. جاء وكأنه أراد لنا ألانحتار فى شكل وصورة النهاية التى طالما خشينا منها ونحن نعيش لحظات السعادة التى احتوتنا .. جاء بفراق قسرى من الإدارة الهندسية بحى الظاهر التى قررت فجأة إزالة المنزل الكبير التى أظهرت شروخه الكبيرة شيخوخته وجعلت جدرانه مترنحة توشك على التصدع والانهيار . أمهلتنا مدة يومين لمغادرته ، بدت التصرفات تسبق العقل فتحول المشهد فجأة من هدوء إلى طوفان عارم انتاب سكانه ، وأصابهم بشلل وعقم فكرى أعقبه حالة من الخوف والترقب وعشوائية الحركة المعلنة دون ترتيبات لايحكمها شيئ ، فالكل فيها هائم على وجهه مشتت الفكر يجمع أشياءه وممتلكاته من أثاث ومؤن للنزوح منه فى أسرع وقت ممكن وكأنها هجرة جماعية ، لايعرفون لهم اتجاها أو وجهة أو مصيرا . تركت الكل يموج فى بعضه وصعدت للسطح مهرولا ، ورحت فى دوامة عميقة وعلى طريقة المونتاج فى السينما كانت المناظر تترى أمام عينى ، حيث رجعت بالذاكرة لبداية التعارف بصباح ، كيف جاءت .. وكيف تمت ، حتى رأيت فيها أجمل وجه فى حياتى ، وأرق وألطف وأطهر روح صادفتها ، وتذكرت وهى تنظر فى وجهى ، وهى تقف أمامى ، وهى تجلس إلى جوارى ، وتذكرت أيضا مشهد السطح وقت الشفق وهى تسند رأسى بيدها لتضعها على صدرها فى حنان بالغ ، لتجعل من أناملها سبيلا تتسلل من خلاله بين خصلات شعرى لتداعبها فى رفق ، وبأنفها تتشممه مغمضة العينين كالمستغرقة فى حلم ، وتروح فى صمت لتتسلل بشفتيها المتقدين إلى جبينى وعينى فى مسات خفيفة كالقبل ، وترفع رأسها برهة قبل أن تفتح عينيها المغرورقتين وتهمس فى لهجة ذائبة : ليتك كنت زوجى ، وأتذكر كم غمرتى موجات حنينها الجارفة والتى كانت تثير فى نفسى شجنا لم أعرف بمثله قط فى حياتى ، وخاصة عندما قالت لى والكلمات تنساب من شفتيها بطيئة كأنها تحدث نفسها : إنى أحبك حبا كامنا فى أعماقى .. اكتشفته كلما خلوت إلى نفسى فى محاولة فاشلة لسبر أغوارها حتى أعرف كم أنا أحبك ، ولكنى لم أعرف ولم أصل لشيئ من هوة عمقه فى جذور قلبى . نفد الوقت مارقا كالسهام الجثة أخذنى فيه الفكر لشريط الذكريات الجميلة ولم أدر ماذا أفعل أو ما الذى يجب أن أفعله ، فالليل سيطول والدموع لن تتوقف ، وكآبة الوضع لازالت جاثمة على قلبى وعقلى مسيطرة ، ورحت فى دوامات المصير المجهول . 



وانتبهت فوجدت صباح واقفة أمامى تنظر لى ساهمة واجمة منتظرة عودتى من نوبة السرحان التى خمنت ماوراءها ، أتت بعد أن حدثها قلبها بأننى موجود فى السطح ، ونظرت لى كى تستطلع ماأفكر فيه . بدت حزينة لم تطارحها كالعادة نسمات الأصيل العابرة غرامها أو تبثها هواها ، ولم يرنح غصنها المياد من الهواء الخفيف الذى كان ينطلق مع هبوب أولى نسمات الليل إليها ، ويروح كل ليلة يشرح لكل أبعاد الزمان والمكان قصة حبنا ، ربما أحست الطبيعة بما نحن مقبلون عليه من ضياع وشيك . كانت تفكر فى هذا كله فيأخذها الروع ويتملكها الجزع ، وتشرع دموعها فى التساقط اللاإرادى . تتكلم وكأنها لاتدرى عن دموعها شيئا : يمكن مش هنشوف بعض بعد كده . ثم سكتت حتى اكفهر وجهها وزحف نحوه اليأس الشديد واستوطن كل مساحاته ، ثم عادت وردت على نفسها وهى تدفع يدها نحو وجهها لتمسح عنه دموعها الهاطلة التى غلبها الشجن فى محاولة خائبة منها أن تستجمع كل قواها الخائرة لتنشد بها المستحيل وتتماسك غير مصدقة بل ورافضة هذا الواقع المرير ، حتى استطاعت فى تلاحق أن تغالب نفسها وبمشاعر مغايرة قالت : بس أنا واثقة أنى هشوفك تانى ، أكيد هشوفك تانى وتالت ورابع ، إننى لاأتصور حياتى بدونك ، ألم تقل لى مرارا وتكرارا أن الحب الذى جمعنا هو الذى سيحافظ عليه . قاطعتها حتى لاأدعها تغالط نفسها وتتشبث بأمل خبا وعما قليل سينطفئ ، وقلت لها بعد أن أخذت من الهواء نفسا عميقا : لن نكذب على أنفسنا ، فالفراق جاء على غير موعد ولاحيلة لنا أمام قسوته وجبروته ، لكنى أعاهدك أمام الله بأن الحب الذى جمعنا سوف أحفظه لك فى قلبى ماحييت ، تعرفى لماذا ؟ ! لأنه كالزهرة لايقطف مرتين ، صباح ربما تكون هذه اللحظات الأخيرة التى أراك فيها فلا تصعبى علينا الموقف أكثر من هذا . ثم قلت لها والدموع تغالب عينى : إننى لن أقول لك وداعا ، بل أرى وجهك على خير حتى ولو لم نتقابل مرة أخرى . أدركت صباح أن كل شيئ قد انتهى بينما كانت تهم لتتكلم سكتت وأسهمت ، كأن كلامى ألجمها وأخرسها ، فلامفر من الحقيقة المُرة التى جثمت فجأة على صدورنا حتى هشمت قلوبنا ، وأفحمت عقولنا ، وبينما هى كذلك رحت أنظر فى عينيها لأملأ نظرى منها وقد تملكتنى الدموع ، ربما تكون هذه أخر مرة أراها فيها ، كنت أحاول جاهدا أن أجمد دموعى وأركز معها ، واستوعب كل كلمة ، وألاحظ كل خلجة ، وأرقب فيها كل رمشت عين ، بدت كقطة برية .. محاصرة ، أخذت أتفحصها بنظرات مجردة من العاطفة . انتظرت أن أقول لها شيئا ولكنى لم أتكلم ، أحست بتقلص وجهى وبدا لها كأنه قدُ من حجر ، كنت أحاول أن أبحث بنظرات حادة فى وجهها عن أى شيئ يبعث على الكراهية كى أهدأ وبعد الفراق أرتاح ، وبعد طول تحديق تسمرت خلالها عينى عليها حتى جحظت ، أنزلت عينها الواسعة من على عينى ، هذه المرة أشاحتها من على وجهى وأسقطتها إلى الأرض . لقد أحست بمعنى الإنكسار وعدم الصمود ، ثم ارتمت فى حضنى وقبلت شفتيى فكانت هذه هى القبلة الأولى فى حياتى التى لثمتُ شفاهى فيها شفتى امرأة ، وكانت أيضا القبلة الأخيرة على شفتى صباح . كانت قبلة غريبة فيها كل المعانى المضطربة حلاوة الحب وضياع الأمل ومرارة الفقد والهروب من المستحيل ، ذقت مرارة دموعها الحارقة التى جاوزت حلقى من سرعة جريانها . نظرت إليها بإشفاق ، لقد جثم الحزن على كامل هيئتها ، نظراتها شاردة تجوث فى أرجاء المكان كله ، وفجأة التفتت ناحيتى وقالت فى لهفة : يعنى خلاص مش هقدر أشوفك تانى . أحسست بأن درجة حرارتى قد ارتفعت ، وتراخت قدماى ولم تعد تحملانى ، وجلست على الأريكة التى بجوار السور ، ولاح بذهنى أفكار كثيرة تداخلت ، كيف آن للمسافات التى قربتنا أن تغدر بنا وتبعدنا بهذا الشكل المفاجئ وبلاسابق إنذار ولارحمة ، ليتنا ماتقابلنا ، ولاكنت عشت هذه اللحظة القاسية ، ليتنى كنت قريبا من الحب ولست فيه .



 لم استطع أن أنظر فى وجه صباح العابس الذى ازدرد وامتقع لونه واكفهر .. ثم انهمرت دموعها بعنف وتساقطت كالشلال ، دموعها نبهتنى لومض الشعاع الآتى من أعماقها مع نسمات الليل الذى بدأ يخيم على المكان فأناره وعم ضياؤه كأنها الصحوة التى تسبق الموت ،  إنه شعاع الضوء المنسرب من مبعث كوامنها الذى أوشك على الانفجار من حالتها المضطربة التى مالبثت أن تحولت إلى نيران أضرمت كل كيانها حتى اجتاح ما بين ضلوعها ، تكاد أحجار السطح أن تنطق من الحالة التى بدت عليها صباح وهى تبكى تباريح الحياة والمكان الذى سيصبح عما قليل مهجورا ويصير أطلالا ثم يهدم وينتهى من الوجود وإلى الأبد . سادت لحظات من الصمت كان جسمها كله ينتفض انتفاضا إذ لم يعد هناك مجال لكلام يُقال . أخذت تجر خطواتها الثقيلة تاركة المكان ، وكلما بعدت خطوة من أمامى تلفتت وراءها وتنظر لى باسترحام ، لقد أحرقتنى نظرتها اليائسة الأخيرة ، كنت أشيح بنظراتى عنها ، حتى لاأضعف أمامها وأشجعها على الرجوع كعادتى معها عندما كانت تهم فيها  للمغادرة عقب كل لقاء ، فكانت تطاوعنى وتعود مسرعة ونجلس وقتا أخر كنا نمنحه لأنفسنا نقول فيه أجمل كلام ، أما اليوم لم تعد أعصابى تستطيع أن تتحمل هذ الموقف ، إننى لم أشأ أن أنظر إليها فالرجوع لايفيد والفراق يطرق أبوابه بعنف ولاحت كل بوادره جلية . غابت من أمام عينى حتى تلاشت واختفت فى عتمة السلم وظلمة دركاته ، غابت وتركت لى ظلمة النفس وشبح البعاد . الوجوم سادنى وسرحت .. إننى كنت لا أعرف للحب معنى ، ورحت فى دأب أبحث له عن معنى كى أعرفه ، حتى ظهرت صباح فى حياتى فوجدته وعثرت عليه ، وكانت فرحتى ، وقلت لنفسى إننى أخيرا أدركته وعرفته وتذوقت حلاوته ، ولكن ماأن اختلطت الأنفاس وأوشكت المشاعر على الانسجام جاء الفراق مسرع الخطى ، حتى همت فرحتى على المغادرة والانتهاء ، ولم يُكتب لحبنا أن يطول فى الدوام ، وآسفاه بيتنا الكبير الذى جمعنا على الحب ، هو الذى سيفرقنا ، ستذهب صباح ليبق وجهها فى وجهى مجرد صورة وعيناها فى عينى مجرد وهم ، وصوتها فى أذنى مجرد رجع صدى ، وحبها سيأخذ حبى للأبد ، وأن قلبى سيظل بعد ذلك يدق وراء كل باب حتى يراها ، ولن تنفتح الأبواب مهما حاولت ، لأن الحقيقة اختلطت فيها مشاعر الحب بخيبة الرجاء ، والأمل بالمستحيل ، أيمكن حقا أن يتبدد كل هذا فى لحظة ويذهب جُفاء ، ويضيع هباء لينته بعد ذلك كل شيئ ، نعم وهذه هى الحقيقة المرة .





حل الصمت أرجاء المكان بعد أن غادر المنزل جميع سكانه ، وغادرت صباح بعد أن أخذت معها كل شيئ . فرقتنا الأيام وافترقنا وانقطعت أخبارها عنى ، وعشت حياتى أقطع فى دروبها أشواطا حتى تخرجت من الجامعة وكبرت ، وسرت مع الناس فى ركب الحياة ، تكلمت فيها مع من تكلمت وأسهبت فى علاقات مع فتيات أخريات ، وتعرفت فيها على من تعرفت وأحببت من النساء الكثيرات ، كلهن مروا بحياتى ومروا أيضا من ذهنى بعد أن شغلت نفسى بحثا فى وجه كل فتاة منهن عن ملامح من وجهها ، وفى قوام كل امرأة عن مثل قوامها ، ولم أجد فيهن مااجتمع فى صباح من صفات ، ربما توافر لبعضهن جزء منها ، ولكنها كانت لاتكفى أن تعوضنى عن معنى الحب الحقيقى الذى عشته مع صباح ، لذلك كنت حريصا مع كل اللاتى عرفتهن بعدها ألا أفرط فى الرقة فلا امنحهن أملا أحمق ، أو أفرط فى الجفوة فأصدهن صدا موجعا ، وكنت أطرد من قلبى أولئك المتعِبات مكتفيا منهن باللاتى تمنحنى من قلوبهن الخصبة مايسد رمقى ويروى ظمأى ولكنها كانت كلها علاقات عابرة لاأكثر ، فقد تعودت بعد صباح أن أرى فيمن اخترتهن أو اللاتى استطعن التسرب إلى قلبى أنواعا كثيرة تأخذ شكل الحب ولكنه لم يكن أبدا حبا : نوعا يعرض نفسه .. ونوعا يقبل أى علاقة .. ونوعا يمنح بسخاء باسم الحب .. ونوعا يتمنع بشدة بهدف الزواج .. ونوعا يبحث عن نزوة أو غريزة .. ونوعا يبعث على أمل التفاهم ولايأتى ، إنه لم يصادفنى يوما حبا حقيقيا ، فكان منتهى الأمر أننى كنت ألجا إلى عمل تصفية أولا بأول لما فى قلبى من أولئك الباحثات عن السعادة ، أو من كن يردن شغل أوقات فراغهن بإقامة أى نوع من هذه العلاقات والسلام لتضييع الوقت أو جلب أية مصلحة أو منفعة ويتصورن أنه حب ،  لذلك لم تُعمر معى قصة واحدة من تلك العلاقات حتى ذهبن كلهن مع الأيام وطواهن النسيان ولم يبق لهن فى قلبى مجرد لمحة ، أو أى تأثير على مناط ومنطلقات السعادة التى غابت مع صباح صاحبة القلب الشفيف ، فكلهن كن مجرد صور ممسوخة لها ، أتذكر إنها لم تكن أبدا لتصرح بحبها لى ولم تقبل يوما الاستقرار فى قلبى إلا بعد أن تأكدت من أنها أجْلت عنه ساكنته السابقة يسرية صاحبة الخفقة الأولى جلاء تاما ، حتى تملكته واستعمرته وحدها .. حب لازالت دقاته تنبض حتى اليوم .. حب استعصى على المحبين فهمه وعسر عليهم إدراكه . لذلك لم يكن فى استطاعتى أبدا أن أنساها رغم مرور كل هذه السنوات الطويلة من العمر ، ولم أرض عن حبها بديلا ، فإلى الأن مازال حبها قائما فى قلبى كما هو لم يعتره غبار السنين ، ولم تنل منه الأيام ، رغم أن الدنيا أخذتنى فيها ودارت ، وفى رحاها جُلت ولفيت ، لكن بقيت صورتها فى رأسى كما هى لم تهتز يوما ولم تستطع تفاصيل حياتى المضطربة أن تمحوها من مخيلتى ، مازلت أشعر بسعادة بالغة كلما مرت بذهنى فيأسرنى جمالها ويخفق قلبى لها . 



وأتذكر أنها قالت لى فى المرة الأخيرة : أحبك وأتمنى أن ألد ولدا مثلك ، وقتها لم تكن حُبْلى ولكنها كانت تتمنى أن تحمل ، تتمنى أن ترى وجهى فى وجوه أولادها ، ولم يشأ القدر أن أر لها أولادا ، ربما كان كلامها نوعا من أنواع اليأس على استحالة أن يكون لهذا الحب نهاية منطقية وأنها تعرف يقينا أنه كان ولابد أن يأتى علينا يوما سوف نفترق فيه ، وجاء هذا اليوم سريعا وافترقنا . وأتذكر أيضا وهى ترفع لى وجهها الفاقد لكل معانى الأمل وقد ازدرد ريقها ، وغاب عقلها المشتت بين الحقيقة والتمنى ، وهى تبتسم فى وهن ومضات حب تسربت لها فجأة فى ظلمة حياتها وراحت تتشبث بهذا القليل الذى أتاها وعلقت عليه كل آمالها ، وحتى هذا لم تدم نعمته عليها كثيرا ، وراحت فى غمرة الإحباط تسألنى أمنية يستحيل تحقيقها : ياترى ستكون سعيدا لوكنت عشت معك طول العمر ، وأتذكر أننى قلت لها بلهفة : من يدخل الجنة لايفكر أن يخرج منها ، إننى معك أعيش أجمل أيام حياتى ، وهنأة مابعدها هنأة ، ونعيما مقيما مابعده نعيما ، وسرورا لم أشعر بمثله قط فى حياتى . ولكننى خرجت من الجنة ولم أعد إليها ، وعرفت من بعدها معنى البعاد وكيف يكون التشرد والتشرذم ، وهمت على وجهى لاتحكمنى أية مشاعر ، ولاتتحكم فى أى أحاسيس ، ومر من الزمن زمان وبقيت فى عينى حتى الأن العروسة الجميلة التى لازالت حديثة العهد بالزواج ، إنها لازالت تعيش بداخلى كما هى بنفس الهيئة التى كنت أراها عليها ، مرتدية نفس الروب الستان اللامع الذى يشهد تألق جسدها فيه والذى ينساب فى رعونة بقدها المياس ، ولازالت قصة حبها مكنونة فى قلبى رغم أنها كانت مختلفة الظروف والاتجاهات . 



أما هى فلم تعرف بعد أنها عاشت فى حياتى عمرا كاملا ، وكثيرا ماسألت نفسى : تُرى هل سعدت فى حياتها أم بقيت على شقائها ؟ هل هى حية حتى اليوم أم رحلت عن هذا العالم ؟ ورغم أنه كان بإمكانى أن أبحث عنها وخاصة بعد أن سمعت من أسامة أنها سكنت بجواره فى نفس الشارع الذى يقطنه بمدينة نصر ، ربما فرحت للحظات أحسست فيها أن الحظ أراد أن يبتسم لى مرة أخرى ، فأنا أيضا سكنت فى مدينة نصر ولكن فى منطقة مجاوزة ، أى أصبحت على مقربة منها ولايفصلنى عنها سوى محطتى اتوبيس ، إلا أننى لم أحاول ولم أفكر يوما أن أذهب إلى شارعها واتسكع فيه أو أحوم حول عماراته وأتطلع للنوافذ المغلقة فيها ، ريثما ترانى أو أراها صدفة وأعرف مسكنها ونعاود الوصال ، ولكننى لم أفعل ربما خشيت بعد مرور كل هذه السنوات أن أسمع عنها مايحزننى أو أراها مكتهلة أو أصبحت تعانى من مرض عضال ، أو رحلت عن هذه الدنيا ، فضلت أن تظل صورتها كما كانت لم تكتهل ولم تمرض وأنها موجودة ولم تكن قد غادرت دنيانا ، أردت أن تبقى نهايتها مجهولة ، إننا عندما لانقوى على مواجهة الحقيقة أو نخاف منها نخدع أنفسنا ونهرب ونتخفى وراء المجهول ، ففى المجهول راحة وسعادة وأمل متجدد . 



انهدم البيت الذى كنا نسكن فيه وأقيم مكانه أربع عمارات كثيرا ماكان يأخذنى حنين الماضى إلى شارعنا القديم كى أتجول فيه ، كنت لاأبذل جهدا كبيرا فى أن أعثر على أجمل ذكرياتى فيه ، ولكن ماكان يحزننى أن المكان اعتراه التغيير فى الأبنية والناس ، وإنه لم يعد كما كان ، ومع ذلك كان يخيل لى أثناء مرورى أن عطرا قويا من الماضى يعبر حياتى ، وسرعان ماتقفز أمام عينى صورة صباح ، كما هى .. لم تبهت بعد ، ولم يكسرها القدر الذى فرقنا رغم تباعد مسافات الزمن واتساع مساحاته بينى وبينها ، فرائحة عطرها وحده كان يكفى أن يذكرنى وأنا فى لحظات الوحدة والصمت بما آل إليه مصير كل الغراميات غير المواتية التى حاولت أن أنسى بها حبها ولكنها تكسرت جميعها عند حدود الذكريات ، وحدود هذا الشارع ، وهذا المكان وهذا الحى ، والمنزل الكبير الذى لم يعد له أى وجود ، محته الأيام وذهب مع الزمن ولم تبق له صورة إلا التى تأتينى فى ذهنى وأحلامى فقط .. صورة السطح وقت الشفق وصباح متهيئة للصعود إليه أو الوقوف فيه أو النزول منه ، لذلك لاحب بعد حبها يستحق أن أشغف به ، تلك ماأدركته أخيرا واستوعبته بعد طول الوقت وطول الحرمان ، لم أشأ أن أحسب أيامه ولياليه التى لاتحصى . 

 أننى مع صباح استمتعت بالحب وفرحت .. وبعد فراقها قاسيت من عذابه وشقيت .. ذقت معها نعيم الوصال وسعدت ، وتألمت فى غيابها جحيم البعاد واحترقت ، وعانيت فى بُعدها تباريح الهجر ولازلت ، لذلك كان يخيل لى وأنا أغادر المكان أننى لازالت اتنفس هواها ، ولازلت أشعر بأن روحينا تقتربان وتلتقيان ، وأن قلبها مازال يخفق ، ومشاعرها مازالت تهتز ، وإنه مهما باعدتنا الأيام أبدا لم ولن أنساها .
                                 وهكذا كانت النهاية ...







مع خالص تحيات : عصام   

القاهرة فى ديسمبر2017

الاثنين، 13 نوفمبر 2017

شخابيط على جدران الجموح ( وكانت لصباح حكاية 3 )

إننى لم أنم فى هذه الليلة ، ولم يغمض لى فيها جفن ، حتى جاء اليوم التالى وانتصف نهاره وصعدت للسطح منتظرا على أحر من الجمر متمنيا أن تبر صباح بوعدها الدائم للحضور وتأتى وتكون هذه اللحظات أشبه بالبارحة . أوشكت الشمس على الانكسار آخذة طريقها للرواح ، وأنا مازلت على حالى واقفا وحدى قلقا أن الوقت يمضى ولاتأتى ، فلايعانق وجهها الجميل هذا الشفق وتُحرم النفس بمنظره الخلاب وهو يلوح فى الأفق البعيد تاركا أثاره المنسدلة عليه من بقايا شعاع الشمس الغاربة وتضيع علىّ ليلة من ليالى العمر ويتبدل الحال وتصبح الشجرة التى كانت بالأمس مورقة منتشية بأزهارها المختالة على سور أملس من الحرير ليس على النسيم العليل إلا أن يهب عليها رخاء فترنح بأغصانها حتى ينطلق أريج عبقها حيث يشاء لها الهوى ، أن يتبدل حالها اليوم وتواتيها فجأة ريح بما لاتشتهى السَفن ، فيصيبها الظمأ ويوأد انتشاءها ويتبدل حالها من رخاء إلى جفاف وجدب فلا لأوراقها أن تورق ، ولا لأزهارها أن تعبق . كنت أحاول أن أنشغل بالتفكير بها وأستعيد كلامها عن نفسها الذى يناسب جمالها وفطنتها وأحسد نفسى أنها منحتنى كل هذه الحفنات من الثقة بعطائها الوفير ، وخاصة أن صباح تختلف عن يسرية بقلبها المغلق الذى عرفت كيف تحكم إغلاقه فلا يتسرب إليه أى أحد مهما كانت سطوته وقوة جاذبيته لدرجة أنها أوصدته حتى فى وجه زوجها فلم تشأ أن تجعل له مكانا فيه ، مثلما كانت مثار حديث كل شباب القلعة قبل زواجها بسبب هذه الأنفة لدرايتها بقيمة جمالها ، فهى تعلم جيدا أنه لاتوجد واحدة فى مثل سحره طرا ، وأرفعهن به شأنا ، وأوفرهن به على دفع هؤلاء الشباب أن يُتيموا فى هواها عشقا ويتمنوا منها مجرد نظرة ، كل ذلك علمها التعالى والزهو وجعلها ألا تخفض لهم جناحا ، وإن كان هذا لايكلفها إلا لفتة من جِيد أو بسمة من ثغر أو رنوة من طرف تؤكد به غرورها المستحق ، فما زادها ذلك إلا منعة وتدلل . كنت غارقا فى تخيلات تفضى لتخيلات وأحدث نفسى بذلك فخورا بزهو حبها لى . ثم أعود وأمنى نفسى بألا يعوقها عائق وتأتى لتشعر بما تملكنى نحوها من إحساس صادق ، وأن تعلم بحالتى الجديدة التى أصبحت عليها منذ أمس ، حالة إنسان محب جاد فى حبه ، ومخلص لمن يحب ، فشعورى نحو صباح فى هذا اليوم أنها قريبة منى جدا ، وتمنيت أن ألمس يدها ، كانت هناك قوة خفية تحفزنى على ذلك .



 وبينما أنا كذلك جاءت صباح فهممت أن أصرخ وأهتف من فرحتى التى غمرتنى تماما ، ولكنها كانت فى هذا اليوم مربدة السحنة ، بدت وقد امتشقت قرارا باترا لمحت له دون أن أفهمه ، أحسست بالدم يندفع من عروقها ، وحنقت عليها . كانت مرتدية نفس الروب الستان اللامع الذى تأتينى به ، والذى يشهد دائما تألق جسدها بطلعته فيه ، فما كان للثوب حيلة إلا أن يطيعه بانسيابيته عليه ، ولكن كان يعبث بتقاطيعه فى رعونة كلما سنح له الهواء هبوبه عليه من أمامه ، ثم يعود ويتدفق نورا من صدره المفتوح ، كنت أقول فى نفسى : يالها من مفاتن وقسمات جمال هذه الخلقة . مكثنا فى مكاننا المعتاد ودار بيننا حديث طويل وقصت علىّ مادار بينها وبين زوجها ، أكدت فيه على عصبية مزاجه التى لاتحتمل ، فكلما كان يدور بينهما أى حوار فى أمر من الأمور ينتهى نقاشه بمشكلة ، كأنه يختلق سببا للشجار ، ويثور عليها بلا سبب ، وتتوتر أعصابه بلاداعى ، ويظل يكيل لها السباب والشتائم . وبينما هى تحكى عزت عليها نفسها وهانت عليها حياتها ، فدمعت عيناها .. ثم تساقط سيل من الدموع على الخدين الشاحبين . لقد رأيت تعاستها واضحة على وجهها الممتقع ، والأسى الدفين فى أعماق العينين الشاردتين ، وعندما رأيت دموعها تقطر أمامى ثم مالبثت أن تساقطت بغزارة أحسست بيد غليظة تقبض على قلبى .. لماذا صباح تبكى والدنيا قد دانت لها بهبة الجمال وحُسن الخِلقة وتدعوها من حولها أن تحب الحياة وتضحك ، أى عذاب هذا الذى تعانيه .. ومن أجل من ؟!  وأى محنة هذه التى تجتازها ، يالها من امرأة تعيسة سيئة الحظ ، لايناسب كل هذا جمالها الهادر . 




إن قصتها حزينة بكل تفصيلاتها إذ لايشعرن بها غير نفسها المكتربة وأنا . بدت صباح مضطربة الخاطر تجلس أمامى فى الوضع الذى اختاره لها جمالها وأرغمتها عليه فتنتها ، وأحيانا تعدل من جلستها فجأة فتهب واقفة تريد أن نستند على السور ، إنها لم تعد مستقرة على رأى أو حال ، اختارت أن تقف من الناحية المطلة على شارع الشيخ القويسنى تجاه شارع الظاهر ذلك ماكانت تفضله ، إنها أحبت الوقوف فى هذه الوجهة متعمدة ومنتظرة أن تلمحنا يسرية كى ترانا كأن قرارها أن تنتقم من زوجها فى أى شيئ لايصادف هواها ، ورغم أن يسرية لاتعلم شيئا عن ماكانت تعانيه صباح وتشعر به تجاهها ، إلا أن صباح جعلت منها خصما ، وفى نفسها من ناحيتها شيئا ، فمتى تلمحنا يسرية حتى يتحقق لصباح مأربها ، فكانت تستلفت لها ضاحكة تخلص بأناملها خصلات الشعر التى رفت على جبينها فى دلال وزهو ، ثم تتحرك فى تلو وغنج كأنها تريد أن تظهر لها كل مفاتنها ، لتؤكد لها افتتانى بها ، حتى تقتص منها وتكيد لها ، وترد لها الصاع صاعين .. وتصدر لها القلق والحيرة وتجعل نيران الغيرة تكتوى فى قلبها وجوانحها ، كى تذوق ماأذاقته منها ، فلطالما حزت فى نفسها تلك النظرات المشرئبة والابتسامات التى كانت ترسلها لى بتدفق ، ذلك ماكان يسهدها ويختلط فى كيانها بأمل يحدوها وتقول فى نفسها ربما ألفت نظره يوما ويرانى ، فأنا أجمل شكلا وأحلى جسما منها بكثير ، فتغدو ضربات قلبها مضطربة ، وتحاول جاهدة أن تفلت من قبضة الشعور بالغيرة التى كانت تزم صدرها وتستعرض كيانها كله ، وتحاول أن تدفن نفسها بين جدران حجرتها الكائبة فى هذا البيت الغريب عنها بجوار زوجها الذى كان يغض فى نومه العميق لايبالى ولايأبه ماكانت تحس به وتعيشه ، وإن كانت تفضل نومه عن إفاقته حتى تتلاشى مايفتعله معها من مناوشات ومشكلات ، بيد أن كل جزء من روحها ينطق ويتنهد ويفضح خلجاتها ، تتأوه بعذاب لايشعر به أحد غير روحها الساهدة وعيونها الساهرة  ، تنتظر الصباح لتنهمك فى ممارسة طقوس أعمالها المنزلية ، حتى تفرغ فيها كل طاقتها السلبية ، وتذيب أرق وسهد الليالى الموجعة وماأكثر الأيام والليالى التى كانت تعيشها وتجرع فيها من الألم أشكالا وألوانا ، إلا من ملاذها الوحيد وتسليتها المعتادة ، الجلوس خلف النافذة إذا مافرغت من أعمالها ، حيث كانت تواربه ثم تنظر من ورائه وتراقبنى من جديد ، أو الصعود إلى السطح للقائى ، تلك هى كانت أجمل وأروع لحظات حياتها .





أحسست ماعانته من أجلى وكنت أطاوعها على النحو الذى تحبه ، ونقف فى المكان الذى كانت تفضله وتريده ، نمد نظرنا معا إلى الأفق البعيد وهو يقضم الشمس ويسحبها على حافته ويأخذ فى ابتلاعها ليجلى لنسمات الليل الأولى أن تسود ، وقتها نبدأ فى مغادرة المكان على وعد بتجدد اللقاء . وفى يوم نسينا أنفسنا حتى امتدت يد الظلمة لتمسح بقايا الشفق فمحته ، أخذنا الكلام ودون أن نشعر وجدنا الظلام يحوطنا فيما أحاط ، وانتبهنا فجأة على صوت حماتها أم بدرية ففزعت واضطربت اضطربا شديدا وقامت من مكانها فجأة بعد أن سمعت صوتها المدوى الذى كان يشبه الرعد وهى تنادى عليها فى حدة : ياصباح أنت بتعملى إيه عندك كل دى . لم تشأ صباح أن ترد عليها بل همت للنزول فى عجالة شديدة واستئذانى دون أن تنتظر منى إجابة . ومضت مسرعة حتى اختفت من أمامى ، لتعود الألوان باهتة إلى أرضية السطح ومعها اختفى كل شيئ .. سعادتى ولحظات النشوى التى كنت أعيشها وتبدلت إلى مايشبه الخوف ، ولم أعرف سر هذا الخوف من هذه السيدة حتى الأن للدرجة التى تجعلنى أهابها بهذا الشكل لدرجة أن مفاصلى كانت ترتعد كلما أراها وأعمل لها ألف مليون حساب . تسمرت قدماى فى مكانها حتى يذهب ذلك الروع الذى تمكن منى وأخذت أهدأ نفسى من نوازعها . وانتظرت حتى عم الأفق بضوء القمر المتسلل فى نعومة إلى أرجاء المكان . ومع ذلك لازلت خطواتى متعثرة مترددة لاتريد النزول من السطح من شدة الخوف والرعب الذى مازال مسيطرا ، فكنت أتوارى وراء الملابس المنشورة وهى ترنح بفعل الهواء الذى تصادف هبوبه ليساعدنى على إقفال باب وراء باب من التخيلات والظنون ، حيث جاءت أفكار كثيرة بذهنى وتزاحمت ، ماذا لو أن أم بدرية لم تناد عليها وصعدت كى تستطلع بنفسها سر تردد صباح على السطح بمناسبة وبغير مناسبة ، وتفاجأت بى أمامها ، أو أنها شكت فى أمر زوجة ابنها وارتابت فى مسألة الصعود اليومى بحجة نشر الغسيل وظنت كل الظن أنه ولابد أنها تعرفت على شاب وأنها على علاقة به ، وأنها فى سبيل ذلك كانت تغافلها وتصعد لمقابلته حتى تفيأت له . يالها من أفكار جعلتنى أشعر فجأة بشيئ كأنه الضيق يضغط على أنفاسى ثم رويدا رويدا يزداد حتى كاد أن يخنقنى وقلت فى نفسى : لو أن التفكير وصل بأم بدرية إلى هذا الحد فمن المؤكد أن صباح هى السبب فى ذلك بتصرفاتها حيالها وسرحانها المستمر حتى جعلت نظرها ينبلج إليها بالشك فى قلبها والريبة فى تصرفاتها ، وجعلها تضمر لها فى نفسها شيئا يبعث على الكراهية داخلها وتكيد لها كيدا ، فلطالما حكت لى صباح عن معاناتها معها فى كل خلاف يدب بينهما ولم نجد لهذا سببا كافيا يقنعنا ، أليست حالة الترقب والتلصص على كل حركاتها وسكناتها سببا مقنعا يؤكد لها شكوك حماتها فيها كى تثبت لنفسها ولابنها أنها كانت على حق فى كل خلاف كان ينشب بينهما ، وأنها أبدا لم تكن هى الزوجة الصالحة له ، فأرادت أن تثبت له ظنونها فيها بأنها كانت تستغل ثقته وثقة كل ماحولها بخداعها لهم كل هذه الفترات التى كانت تصعد فيها للسطح لكى تقابل فيه حبيبها . أليست كل هذه الأسباب المقنعة تدعو أم بدرية إلى التفكير والتبصير والروية فى حياة زوجة ابنها الجميلة الممتلئة أنوثة وشبابا ، وراحت تدبر لها مايُكره أن تباغتها به من أفكار مسمومة وهدامة حتى تكتشف سر هذا الصعود وتتفاجأ بوجود عشيق لها ، وأكون أنا هذا العشيق . أه لو حدث ذلك ، كيف سيكون رد فعلها ؟ ، من المؤكد أنها ستتمكن منها وتظل ترميها بأبشع تهمة فى حق أى امرأة حرة .. الخيانة الزوجية ، وتكون نهاية وجودها فى هذا البيت بطلاقها من ابنها  ، وبالتالى سأُحرم من رؤيتى لها وستكون هذه المرة إلى الأبد ، وستصدر بعد ذلك المشكلات لأسرتى أشكالا وألوانا لايعلم مدى عواقبها سوى الله !! . 




وتقاذفتنى الأفكار ودفعتنى نسمات الهواء من جديد وهى تحت أغطية كثيفة من اليأس أن أعاود التفكير مرة أخرى فى كل شيئ بعقلى وليس بقلبى ، فكرت فى حياة صباح المضطربة ، وأن وجودى فيها هو ماسيزيدها اضطرابا ، ومن المؤكد أنه سوف يحاصرها الندم بعد ذلك إذا استمرت بالسير فى طريق أنا فيه ، وستلفظك حتما من حياتها عند ظهور أول مشكلة تعصف بحياتها . ثم رحت أقسو على نفسى أكثر وأنا أحدثها : إذا هربت من الناس ، فكيف تهرب من نفسك إذا حدث لها لاقدر الله أى مكروه وتسببت فى خراب بيتها . قل الأن ماتريده لنفسك وصارحها بشفافية ، فليس هناك أفضل من حديث النفس إلا للنفس .. حديث المصارحة التى تأبى اللحظات الجميلة التى تعيشها معها الأن أن تفكر فيها ،  فسوف تتراكم بداخلك شحنات من وخز الضمير يصعب بعد ذلك إفراغها ، فمن الأفضل أن تفرغها الأن قبل فوات الأوان حتى تستفيق ولا تبقى نادما طول العمر إذا ماعرف الناس قصتها معك وظلموها ، ويتحول الحب الجميل إلى مرار ينغص عليها حياتها ، ولا أظن أنه ستجدى مع زوجها أية مبررات لو علم بحكايتها معك وهو بهذه الحالة المريرة معها ، ولن يشفع لك صغر سنك تجاوز محنة هذا الأمر ، فأقل ما قد تصل إليه الأمور هو طلاقها ووقتها ستكون أنت السبب ، ولن تستطيع أن تتزوجها لوجود عوارض كثيرة تجعل هذا الأمر مستحيلا وأنت تعلمها جيدا ، فحينئذ سوف تهدم حياتها كلها وتسبب لها آلاما ، ولنفسك ولأسرتك المشاكل ، وخاصة أن طيبة أبيك لن تفلح أبدا إذا حدث تصادم محتمل مع الحاج صالح والد زوجها الجزار المعروف بالتجهم وعصبية المزاج للعِيان فى المذبح ، ناهيك عن شكيمته وحزمه اللذان لايظهران إلا فى وقت الأزمات والشدة ، ولاأعتقد أنه ستوجد أزمة أقوى من هذه الأزمة لقدر الله إن حدثت . أما أم بدرية ياحفيظ يارب ، لم نعرف اسمها الحقيقى ولكن نعرفها بأنها  سيدة ذات مواصفات خاصة .. شديدة .. سليطة اللسان تتعامل مع جيرانها بكل غلظة وغباء ومع كل الناس بجبروت وتعال ، كان جيرانها يخافونها من مجرد رنة صوتها ، ولا أحد مهما قويت شخصيته أن يقف أمامها إذا مابدأت فى التبويخ واستحضار شتائمها البذيئة ، فكان الجميع يهابونها ويعملون لها ألف حساب فى تحركاتها  أثناء نزولها وصعودها .. كانت إذا مرت على السلم تهزه هزا كأنه زلزال ، أما بدرية رغم أنها كانت بنت بلد لطيفة ، وتملك قلبا طيبا حنونا ، وتتعامل مع أسرتى بكل ود وحب واحترام ، إلا أنها إزاء هذا الموقف ستتخلى عن كل ذلك ، ولن تستطيع أن تفعل شيئا إلا الوقوف بجانب أخيها وستنقلب ضدنا . أخذت نفسا عميقا حاولت به أن أطرد كل الأفكار التى حاول العقل أن يضعها أمامى كعقبات وعراقيل بأنها هى الحقيقة المرة ، والتى طالما كانت تبعث كل مكامن قلقى وخوفى .




ثم تصيبنى نوبة شجاعة فأعود وأسأل نفسى أيضا إلى متى ستظل خائفا بهذا الشكل ، وإلى متى ستظل جبانا لاتستطيع أن تتخلص من أوهامك وقلقك وحيرتك الذى صورها لك عقلك وهو يحاول أن يدق على قلبك ويضغط عليه بمنتهى القسوة والعنف ويصور أن ماتعيشه عبارة عن مأساة يجب وأدها والتخلص منها ، وهو ليس صحيحا أن هناك مأساة ولاوجود لمخاوف حقيقية ، ولكن حياءك وجبنك هما مايحدثانك كثيرا وينغصان عليك فكرك وحياتك ، فليس هناك مايمنع أن تقول كل مافى قلبك بلا تردد ، وتستطيع أن تحكم على الناس بلا انفعال ، وتقول رأيك دون أن تهاب أحدا ، وأنك تستطيع أن تحب وأنت المسئول عن كل ماتفعل . وافترت شفتاى على ابتسامة مريرة لئن كان القدر قد بعث بصباح فقد بعث أيضا بإنسانة ظروفها صعبة للغاية تعيش فى دنيا الناس وظروفها لاتسمح أبدا لإنسان أن يراها أو يحادثها ، أو أنها تعيش فى سماء أخرى لاتهبط أبدا إلى دنيانا . لم يكن لصباح أن يراها أحد فهى مختلفة عن يسرية التى كانت فى مراحل التعليم وتحكمها ثقافة وروابط اجتماعية معينة منحتها مساحة معقولة للتعامل مع الناس بكافة انماطهم ومختلف اتجاهاتهم ، ولم تكن أبدا لتعيش وسط هذه القيود المكبلة التى أحاطت بحياة وفكر صباح ، ربما كان ذلك بحكم أنها لازالت عذراء وغير متزوجة ، أما صباح غير ذلك فهى سيدة متزوجة ، ووافدة من بيت أبيها فى حياة منغلقة تماما إلى بيت زوجها وعائلته الأكثر انغلاقا وصلفة ، وأن عائلتها وعائلة زوجها متأصلان فى حرفة الجزارة أبا عن جد ، وهى نوعية من البشر لها طبيعتها الخاصة وصفاتها المحددة ، لم تكن لها أبدا أى توافق اجتماعى بينها وبين العائلات الأرستقراطية التى تعرف كيفية الأناقة فى التصرفات ، والترف فى التعاملات ، أو حتى العائلات الدونية .. طبقة عوام الناس مثل التى انتسب إليها وأعيش فيها ، والمعروف عنها طبية القلب والتسامح والمعايشة السلمية بلا مشاكل . وكنت أتعجب أكثر أن صباح تنبت وسط هذا الوسط الذى تحكمه العصبية والعنترية والعجرفة والتخلف الفكرى بكل أشكاله وأنواعه وهى التى وهبها الله كل نوازع الأنوثة .. جمال الخلقة بلا حدود .. ورقة مابعدها رقة ، وليس ذلك فقط  بل منحها الله من الصفات الإنسانية حسن الخلق والحياء والخجل وقد شعرت به منذ أول وهلة عانقت عينى فيها عينها حيث وجدت فى ثوان معدودات وجهها  يتصاعد إليه الدم ويميل لحمرة الخجل ويفتر ثغرها عن بسمة جميلة وتلألأت عيناها بفرحة ممزوجة بدهشة ، فكانت من النساء اللاتى يتصفن بأرقهن قولا ، وأحرهن مشاعرا ، وأجملهن روحا ، وأشدهن صلة بأميرات القصور ، وحياة البرنسيسات ، فلاهى من اللاتى تنتمين بأى شكل من الأشكال لهذا الوسط الذى عاشت فيه ولازالت . ورغم الشجاعة الطارئة التى كانت تنتابنى أحيانا إلا سرعان ماأعود وأفكر فى الابتعاد عنها تجنبا للمشاكل ، فكثيرا ماكنت أفكر أن أحرر نفسى منها ومن حبها ومن قيود ظروفها العائلية ، ولكنى فى كل مرة أفكر فى هذا أفشل ولاأستطيع وخاصة بعد أن أجد ذلك الإحساس المناقض والمغاير يجذبنى إليها ويغرينى بها ويهيئ لى فيها أى نوع من أنواع المغامرة فتعاودنى الشجاعة المفاجئة مرة أخرى . إننى أيقنت وانتهيت أنه لامناص ولامفر ، وخاصة أن حبها تمكن من قلبى تماما وأذاب كل فكر أمام مشيتها وهيئتها التى كانتا تغريانى وإلى حد كبير ، ليعود الحنين وغريزة الشباب وحب الاستطلاع لرغبة فى المغامرة بقوة فيوقظ حسى من جديد ويرهف أعصابى . أن هذه الأحاسيس المتباينة كانت ترهق فكرى وتجعلنى لاأستقر على أمر أو اتجاه أو تفكير مرتب أو هدف واضح ، فكانت العفوية هى من تحكمنى معها ، والانسياب الذى بدا منى غالبا غير مقصود ، ماذا أفعل وأنا أعيش متناقضات مابعدها تناقضات .. لاأعرف ؟.
                          وإلى الجزء الرابع والأخير







مع خالص تحيات : عصام   

القاهرة فى نوفمبر2017