music

السبت، 13 مايو 2017

شخابيط على جدران الجموح ( الخفقة الأولى 2 )

(٢)


حتى جاء يوم التى تجرأت فيه وأشارت لى بيدها فى دعوة صريحة لمقابلتى ، لم أصدق فى بداية الأمر حتى جحظت عينى فى محاولة للتأكد ورحت أفركها غير مصدق لعلها أخطأت رؤية ماأرى ، لم يخطر ببالى يوما أن تدعونى لمقابلتها ، وهى التى لم تسع من قبل أن تكلم أحدا مهما كانت رومانسياته أو وسامته أو لباقته ، وتعلم أنها أكثر بنات الحى فتنة ، وأنها حلم شبابه ، وتعلم أيضا أنها مثار أحاديثهم فهم لايكفون أبدا عن محاولتهم فى إثارة اهتمامها ، وحتى هؤلاء الشباب لايهمها أمرهم فى شيئ ، رغم أنها تكلم الكل ، ولكنها تعيش بكبريائها واثقة من نفسها ربما إلى حد الغرور ، واثقة من جمالها .. واثقة من ذكائها ، واثقة من أنها تستطيع أن تحرك مشاعر كل معجبيها بطرف أصبعها ، وأنها تستطيع أن تثير فتنتهم برموش عينيها ، فكان من المستحيل أن أتصور يوما وأنا على هذه الهيئة وهذا الخجل وهذه الإحباطات أن أحرك مشاعرها ، أو أحرك فيها حتى ساكنا . هبطت من السطح إلى شقتنا وثبا وأنا فى غبطة من السرور الذى لم أكن أشعر به من قبل ، وارتديت ملابسى فى تلهف وعجلة ، ولم استطع أن أقول لأبواى إلى أين أنا ذاهب ، فهما يحسبان على حركاتى وسكناتى ، انتابتهما الدهشة من تصرفى الذى بدا غريبا عليهما . وبعد تلعثم قلت لهما إنى سأتمشى مع أصدقائى . ورحت أقفز على السلالم من الدور الخامس للأول قفزا اجتيازا للوقت حتى بلغت مدخل المنزل ومنه لشارعنا فى غمضة عين حتى وصلت لشارع الجيش وعبرته للرصيف المقابل أمام بقالة صلاح حسن ولم أشأ أن أنظر خلفى حتى شعرت بقشعريرة تسرى فى جسدى وترجفه ، فأيقنت أنها جاءت وتسير على بعد خطوات منى حتى قبل أن ألمحها .. إننى أستطيع أن أراها دون أن ألتفت ورائى .. كأنى رأيتها بحاستى السادسة ، أو لى عينان فى مؤخرة رأسى . التفت ورائى وجدتها قد عبرت هى الأخرى الشارع ودنت منى أكثر ، ارتبكت قليلا وشعرت بأن العقدة التى أعانيها قد تحركت ، واضطربت وتعثرت خطواتى وكأننى أسير على تلال من رمال متحركة ، ثم توقفت عن المسير ، حتى إذا تجاوزتنى كأنها لاتعرفنى ، كأنها تعطينى فرصة أن أبدأ أنا بالحديث ، فأخجل منها وأتردد فى البدء بالكلام فأنا لاأعرف ماذا أقول ، حتى إذا بعدت خطوات عنى تعقبها عن كثب من جديد ، فأجدها وقد استدارت لتنظرنى بسرعة وكأنها تقول لى تكلم بقى ياأخى لقد أتعبتنى ، أما أنا فمازلت على حالى مضطرب الخطوات والخجل مسيطر على  . هى التى كانت تتشجع ، وأنا الذى كنت أتردد وأخجل وكأننى أريد أن أتوارى من أمامها وأدارى نفسى عنها كلما جاءت عينى فى عينيها . 





وفى أثناء ذلك كان ذهنى يبحث بسرعة وفى إلحاح بالغ عن أنسب العبارات التى أبدأ بها حديثى معها ولم أجد ، ورحت أستعيد لنفسى الكلمات الرقيقة من بين وسائل المغازلة الكثيرة التى كنت أسمعها من أصدقائى ولم أوفق ، ومضت فترة أحملق فى كل ماحولى دون أن أنظر إليها ، ولم اهتد إلى الكلمات التى استطيع أن استدرجها بها إلى ميادين الغرام ومعارك الهوى ، جبنى وحيائى الشديدين منعانى ، واتضح لى أيضا أننى لاأملك إلا النظر فقط  ومن بعد ، والإعجاب فيما بينى وبين نفسى . نفد صبرها وأيقنت أنه لافائدة من الإنتظار أكثر من هذا ، وأننى لن أتكلم حتى ولو مشيت ورائى إلى ميدان العباسية . رأيتها تتقدم نحوى فى جرأة بالغة وسمعت لأول مرة صوتها ينطلق من بين شفتيها فى خفوت ، وكأنها تهمس لى فى أذنى ، سمعته ينادينى وقد أفتر وجهها عن ابتسامة رقيقة حلوة . بدأ العرق يتفصد من جبينى بعد أن صعبت الموقف على نفسى ، ولكن عندما سمعت صوتها ينطق أسمى وينادينى كانت كأنما أذابت فجأة كل جبال الجليد التى تعقدت فوق كاهلى - أما " ميمى " فهو اسم الدلع فى ذلك الوقت ، أرادت أمى أن تنادينى به من باب التدليل والدلع والرّفه .. فأنا أول من أنجبت وأول فرحتها - فوجدتنى سارحا ، تأملت وجهى فى حنان وقالت فى رقة : مساء الخير يا ميمى ، وكررت اسمى أيضا ولمسنى ذلك النداء ، وسمعت لأسمى رنينا وأداء مختلفا : ميمى لماذا تركتنى أمشى وراءك كل هذا ، هل أنت تخجل منى . قالت لى هذا بعد أن صافحتنى بإيماءة معبرة وأنا شائح الوجه عنها ، لاأريد أن أنظر فى عينيها ، مخافة مواجهتهما وخشية أن تلحظ اضطرابى ، وتضيع على هذه الفرصة السانحة التى لم يأت القدر بمثلها قط ، ويكون سببه ذلك التردد وهذا الإحجام . وعزمت أن أتجرأ وأقول لها أى شيئ ، إلا أن الارتباك يزداد والتلعثم يربد وجهى كله ، ارتباك مضرج بالتوتر دون أن أنبس ببنت شفة ، فضحكت وأردفت بعد أن لاحظت أن وجهى قد أحمر تماما : أنت مكسوف منى ولا إيه ، تعرف كان نفسى أكلمك من زمان ، وأسمع صوتك ، وعلى أية حال لم يكن هناك داع لهذا الإرتباك وكل هذا التمهيد الطويل والتردد الذى بلا معنى ، فأنا الذى تجرأت وبدأت بالمبادرة وطلبت منك المقابلة ، وأنا التى أردت أن أتكلم معك على انفراد ، وعليه دعنى أنا التى سأحدثك . لم يسعنى خجلى إلا أن ابتسم ، وارتبكت وكأن هذا الحديث جاء فجأة ، ولم أرد عليها واكتفيت بابتسامة باهتة ربضت على شفتى ، إننى لم أتكلم ولكنها هى التى تكلمت طول الوقت ، وكان حديثها فى أى شيئ فعندها من الموضوعات الكثير ، ولديها حكايات لاتنتهى ولديها أيضا مهارة الحوار، والقدرة الهائلة على تحويل أى شيئ إلى حكاية . أما أنا فكنت أكلمها بإحساسى فقط ، فأنا لاأعرف لغة الحوار ولم أتعلمه ، لا فى بيتنا ، ولا فى الشارع ولا فى المدرسة ، ولا حتى مع الأصدقاء ، إننى اعتدت على السمع فقط  وأجد متعة كبيرة فى متابعة أى شيئ أمامى ، لذلك أحسست بها لدرجة أنها تسللت إلى قلبى بسرعة البرق ، وشغلتنى فرحتى بها وانفصلت عن كل ماحولى وعنها ، فلم أعد أسمع صوت المارة ولا ضجيج المركبات ، ولا حتى كلامها . أحست بشردتى وأدركت بالذى أنا فيه وكأنها أرادت أن تتكلم كثيرا حتى تبدد ماعرانى من مظاهر السكوت والتكلف والخوف والرهبة فكانت هى التى تتحدث أكثر وأنا أتابعها معظم الوقت . 



حاولت جاهدا أن استرد وعيى حتى أثبت لها أننى أيضا أستطيع أن أجاريها الكلام وعندى ماأقوله ، وعندما استرديت بعضا من هذه الجرأة الطارئة لم أتردد وقاطعتها فجأة مما أصابها بالدهشة وقلت لها : هل تصدقينى لو قلت لك أننى حتى الأن غير مصدق أنك واقفة أمامى وتكلمينى .. وأنا بالذات ، قالت : لماذا تقول هذا الكلام ، الموضوع أبسط من كل هذا بكثير، قلت لها : صدقينى لاتقدرى مدى سعادتى بك ، ولم أكن أبدا أتصور يوما أننى سأحظى بهذا اللقاء ، واعذرينى فى ارتباكى ، ربما الفرحة ضغطت على قلبى ودقت على عقلى ، ففرحتى بك اليوم لاتقدر . ابتسمت خجلا فى تدلل وقالت : ياه أخيرا سمعت صوتك ، طيب ماهو أنت كويس أهو وبتعرف تتكلم أفضل منى كمان ، لماذا إذن كل هذا الخجل والتردد . إنها أرادت أن تشجعنى على مواصلة الكلام ، ولكنى لم أشأ أن أرد عليها بأكثر من ذلك ، إننى لاأعرف كيف أجرى حديثا أو على الأقل أستكمله ، ولاأعرف كيف أجيبها على اسئلتها الكثيرة التى كانت تحاصرنى بها عن كل مايتعلق بأصدقائى ، لدرجة أننى ظننت أنها أرادت أن تكلمنى ليس إعجابا بى ، بل بهدف التعرف على كل أسرار أصدقائى فأنا الساذج طيب القلب والوحيد بينهم على نياتى وسأقول لها كل شيئ هى تريده صراحة وبلا مواربة . إنها تريد أن تعرف الذى نقوله ونتحدث فيه عندما نقف فى الشارع وخاصة حكايا البنات . شكى فى نواياها جعلنى أقول لها وعن عمد مالايريح قلبها وأننى لاأذكر شيئا مما يتحدثون فيه ، إنها مجرد حكايات معظمها تافه وممل لاأجد فى متابعتها أية متعة . فهمت بفطنتها أننى ربما تضايقت ، فحاولت تغيير مسار الحديث وتجعل لى سبيلا فيه :
- هل تعرف أنك غيرهم ولم تكن أبدا يوما مثلهم ، إنهم يحاولون فى دأب التحدث معى ، كل واحد منهم يحاول ذلك دون أن يُعرّف الأخرين ، وكل منهم يحمل لى كلاما وحديثا شيقا ومطولا عن الصداقة والحب ، وأظن أن أحدهم لايصارح الأخر بإحساسه تجاهى ، ثم أردفت وقالت : تعرف أنك الوحيد الذى أثار فضولى ، وسألت نفسى كثيرا عنك ، رغم أنك شاب مثلهم له خصوصياته وتطلعاته وأفكاره ، ولكنك كنت غيرهم فأنت الوحيد الذى لم يحاول أن يكلمنى ، كنت كلما أنظر لك أجدك تهرب وتختفى ، كنت لاأراك بوضوح مثلهم . وأنت تعرف أننى تكلمت مع كل أصدقائك ، ولكن لم يأخذوا حيزا من تفكيرى ، فهم لايمثلون لى أكثر من أصدقاء أو إخوات بحكم أننا جيران ، ولكن حدث أننى وجدت أن قلبى تعلق بك ، ولا أعرف لماذا ولامتى ولاكيف ، أحسست فجأة بأنك شيئ مهم بالنسبة لى ، كنت حريصة أن أقف فى الشرفة لأطل عليك وأنت واقف معهم .. من المؤكد أنهم كانوا يتكلمون وأنت تسمعهم فى أشياء لاأعرفها ولكن أغلب ظنى أنهم يتكلمون عن مغامراتهم مع البنات فقد سمعت من صديقاتى الكثير والكثير منها ، فهم لايكفون محاولاتهم معى وأيضا معهن ، وحكاياهم كثيرا مانجعلها مسلاة لنا ، لذلك كنت أراك أفضلهم ، لاتتكلم فكنت أروع من يسكت ، كنت أواجه نظرات أصدقائك ذات الإبتسامة العريضة بمنتهى البلاهة والوجوم ، إلا أنت أدبك استلهمتنى لدرجة أنه كلما كنت أشعر بالضيق أشعر بك أكثر وكأنك أنت الذى ستخلصنى من هذا الضيق وتطرق على باب قلبى السعادة والهنأة والسرور ، كنت كل ليلة يستوقفنى تفكيرى لأسأل نفسى ماهذا الذى يحدث لى ؟ وماهذا الإحساس الغريب الذى انتابنى فجأة؟! ، واحترت ولم أعرف أسما له .. أهذا حب أو ميل أو استلطاف أو إعجاب أو احترام ، أو فضول ؟! ربما كان فضولا حتى أكشف الغموض الذى يحتويك ، لذلك حاولت أن أعرف مالاأعرفه عنك فسألت أصدقاءك في كل مايخصك ، ولكن لم أخرج منهم بإجابة واحدة محددة تريحنى ، أوترضى طموحى فى أن أعرف عنك المزيد أو أكثر مما أعرف ، وحتى إجابتهم عنك كانت غريبة فيها تصدية وإحجام مثل : لماذا تسألين عنه ، إنه قليل الكلام ، ويحب ألا يشارك فى حديث ولا يريد أن يذهب معنا فى مكان دون استئذان أبويه وغالبا لايوافقان ، ويخجل من البنات بلا سبب . وهذا جعلنى أسأل نفسى سؤالا أخر متى وكيف جاء هذا الاهتمام تجاهك ؟ حتى أجد نفسى أحب أن أراك كل يوم ، وأتمنى أن أكلمك وتكلمنى .. ولكننى لأعرف لذلك سبيلا ، وتوقفت عند هذا الحد ، ولكن تفكيرى فيك لم يتوقف حتى جاء اليوم الذى قررت فيه أن أذهب إليك وأقول لك : يالله نخرج ، وها آنذا تشجعت وفعلت.
- هل أنا استحق منك كل هذا ؟!
- سألت نفسى أيضا هذا السؤال ، ولكنى لم أحتر فى الوصول لإجابته ، تعرف لماذا ؟
- لماذا .
- لأنى اكتشفت أنك كنت مثار إعجابى ،  وكان أكثر مايعجبنى فيك أنك دائما تنظر لى بعينين مهذبتين ، قليل الكلام ، دائما تنظر فى الأرض وتخجل كلما مرت من أمامك أية فتاة ، فى الوقت الذى كنت أراهم يتحدثون بصوت عالى وأحيانا يتهامسون ، ويضحكون كثيرا ويسهرون فى الشارع إلى الليل ، وأراهم يتهافتون ويتبارون على كسب ود البنات ويحبون ويختلفون ، وكأن كل واحد منهم يريد إثارة غيرتى عليه ، وكثيرا ماكنت أضحك على حالهم ، وعلى ماهم فيه ، وكثيرا ماكنت أنا وصديقاتى نتندر من تصرفاتهم التي كانت مكشوفة لنا ، أما أنت توقفن عندك كثيرا وأخذت حيزا كبيرا من تفكيرنا ، وكثيرا ماتحدثت معهن عنك وعن أدبك وخجلك وأخلاقك وكنا نتفحص شخصيتك من كل الزوايا وندرسها فى إعجاب.
- بجد لهذه الدرجة ، إننى لااستحق كل ذلك .
- بل تستحق أكثر  ، فأنت مختلف تماما عنهم ، ولكن الشيئ الوحيد الذى كان يحيرنى فيك أنك تقف معهم وتجاريهم فى حكاياتهم وموضوعاتهم الكثيرة التى ربما لاتناسب طريقتك ، وأنت بكل المقاييس تختلف عنهم فى كل شيئ ، يعنى مثلا لاأتصور كيف كنت تتابعهم فى مغامراتهم فى الجرى وراء البنات ، ولا كيف تتكلم معهم عن الحب .


تكلمت كثيرا وأفاضت في مسألة الحب هذه ، ولم أكن أعرف ماالذى تقصده ، إننى لأاستطيع تحليل كلامها كله بنفس القدر التى تتحدث به ، فهى تقول أشياء كثيرة فى آن واحد وأحيانا تقصد منها أشياء أخرى ، أتفاجأ بها ولم تكن تخطر لى ببال فأنا لاأفهم من الكلام إلا معناه المباشر البسيط ، وليس لى فى المواربة أو الإلتفاف ، أو استخدام الرموز فيه . إننى احسست ولأول مرة بعجزى أمامها  فهى تتكلم كثيرا ولكن دون ترتيب أو توجه ، مع أنها تعرف جيدا ماتقول ، لماحة إلى أبعد الحدود ، وأكثر حيوية ومرحا ، وأكثر كلاما ، وأكثر وعيا بمن حولها من الناس ، ترفع صوتها وتخفضه ، وتتوقف عن الكلام إن أرادت ثم تواصله وكأنها لم تتوقف عنه بعد ، عندها قدرة فائقة على الربط ، كانت كلما تخرج عن سياق أى موضوع تعود إليه وكأنها لم تقطعه قط ، وأحيانا توارى وجهها فى دلال أثناء حديثها فى مواقف تتطلب ذلك ، وفى نفس الوقت لاتغيب عنها كلمة أو لمحة واحدة مما أقول ، حضور مابعده حضور . ولكنى توقفت كثيرا عند تناولها لكلمة " الحب " ، فكل الذى أذكره أننى تعلمت ونشأت على أنه "عيب" ، وهذا ماجعلنى انفصم كلما جاء ذكره على لسانها ، فهذا الشيئ أحبه ولكن أهابه ، أريد أن اقترب منه ولاأريد خوض أي تجربة فيه ، هكذا تربيت على الخوف الدائم منه ، وكانت هى تريد أن تجعل كل كلامها عنه  فكانت اسئلتها كلها تدور حوله وفى معناه ، حتى فاجأتنى صراحة وسألتنى
- وأنت
- وأنا ماذا ؟
- مارأيك
- فى أى شيئ

- فى الحب .
 ورحت فى دوامة ............... 




                               ولنا فى الخفقة الأولى بقية




مع خالص تحياتى : عصام  
          القاهرة فى مايو ٢٠١٧