music

الثلاثاء، 19 ديسمبر 2023

هاجس فى صدرى

 

النفس البشرية لها أغوار ، وعالم النفوس .. عالم كبير لانعلم عنه شيئا .. ولانستطيع معرفةحتى مجرد القشور منه ، لتبق للنفس أسرارها لايعلمها ولايدركها سوى الذى خلقها .. الله سبحانه وتعالى .. هو وحده الذى يعلم مستقرها ومستودعهاومثواها . لكن التجارب الحياتيةعلمتنا أن النفوس لها تصنيفات  كثيرة ، ربما قابلنا القليل منها  أو معظمها ، فهناك نفوس طيبة من طبيعتها أن تتجاذب  ، ونفوس شريرة حاقدة من طبيعتها التنافر والتناحر، وهناك نفوس الأنا عندها عالية، وهناك نفوس لاتعرف إلا الدنو والحقارة ، وطبيعة النفوس إما نارية أوترابية أوهوائية أومائية لها من طبيعة الأرض والهواء  و الماء .. أى إنهاتعيش بطبائعها هذه ..  تعرف ،  وتعاني، وتتذكر  ولديها رغبات  .. تحكمها مكتسبات كثيرة  من الحياة ،  أهمها التربية الناشئة والأسرة الحاضنة ،  إنه عالم يموج فى بعضه البعض .. ولكنه لم يكن فوضاويا بل تحكمه قبضة الله وإرادته وقدرته فى توجيه هذه  النفوس إما شقية أو سعيدة . إننى لازلت حتى اليوم أقع فى أخطاء فى تقدير نفوس الناس رغم ماعشته ووعيته من الحياة ، ربما يرجع ذلك أن هناك عوامل تحكمت فى تربيتى ونشأتى فى منـزل كان الأب والأم فيه شديدى الخوف علي فأصبحت بالنسبة لمن حولى كأنى أعيش فى سياج يفصلنى عن عالمهم . إننى لم أعرف فى حياتى كنهة المرأة إلاامرأة واحدة هى أمى ولا شكيمة الرجل إلا رجل واحد فقط هو أبى .. أمى لا تعرف ماأفكر فيه فى هذه السن ، ولايهمها أننى فى سن بدأ ت فيه مظاهر التبدل والتغيير ، وأننى مع الوقت سوف أنشغل بمن حولى ،  إنها لم تع  أننى أصبحت جزء اممن ماحولى  وسيكون لى  زملاء دراسة  و أصدقاء من أولاد الجيران وفى الشارع وبعد ذلك فى العمل ، وأنه من المؤكد ستتكون لى رؤيةللدنيا والناس تناسب عمر كل مرحلة أحياها ، لم تعرف أمى كل ذلك ، فقط كانت ترانى الصغير الذى سيبقى عندها صغيرا حملته فى بطنها ، ثم ولدته ليأكل ويشرب وينام ويلبس فقط . وأن خوفها الدائم على حياتى كانت تراها فى تلك الحماية التى يجب أن توفرها لى كى تقينى من شرور الدنيا وشرور الناس .  أما أبى دأب كلما كبرت  أن يبث فى أذنى عبارات دامغة يجب ألا أنساها ولايسمح لى أن اتجاوزها  " خلى بالك من نفسك " "وأوعى لنفسك " و" عيب إنك تتكلم مع البنات " كانت عباراته حاذقة بثت فى نفسى الخوف  الذى ارتبط بكل شيئ بعد ذلك في حياتى ، لذلك عشت فى وجود حدود لكل شيئ ، وكلما كبرت كبرت معى مشاكلى ومنها رهبة التحدث إلى الناس وخاصة الفتيات ، فكنت لاأعرف حدودى ولاحدود الأخرين ، إن الخوف العام جعلنى أتوارى من كل الذى أحبه ولاأعرفه ، فنشأت على فكرة الخوف وعندما بدأت أكبر وجدت صعوبة بالغة فى تجاوز هذا السياج الذى تحول مع الأيام إلى جدار  أخذ فى العلو كلما تجاوز ت مرحلة من مراحل حياتى  . أتذكر عندما كنت مراهقا وأصبح لى أصدقاء لم يكن من بينهم فتاة ،  إننى لم أفكر يوما أن أتكلم مع أى فتاة فى حين أن أصدقائى كانت أحاديثهم كلها عن حب الفتيات وكنت الوحيد الذى لايتكلم ولايستطيع أن يتكلم ، مازلت أتذكر كيف كانوا يتبارون فى حب فتاة واحدة .. بنت الجيران التى كانت تسكن فى منـزل مقابل لمنـزلنا بحى الظاهر  كانت على قدر كبير من الجمال ولكنها لم تعر لأى منهم  أى اهتمام وشغلت نفسها بى ،  وعرفت ذلك من المحاولات التى أرادت  بها أن تلفت نظرى فى رغبتها أن تتكلم معى كلما كانت الظروف تسمح ويتصادف مرورنا فى الشارع  وجاء وجهى فى وجهها ، كنت ألاحظ  ذلك  وكنت فى كل مرة أبر ر لنفسى أنه ليس من المعقول أن تترك هؤلاء  الذين يحبونها وتنظر لشخص مثلى لايعرف كيف يتعامل مع الجنس الأخر ، حتى حانت الفرصة وتحديدا لاأتذكر كيف جاءت ، ولكنها جاءت وتواعدنا وعند المقابلة لاحظت توترى الشديد ولم أعرف مجاراتها فى الفكر أو الكلام .. كانت لبقة .. شديدة الفطنة والذكاء  ، لم تبذل مجهودا كبيرا فى أن تعرف أننى لست الشخص التى كانت ترغب فيه ، بل وجدتنى  شخصا أخر يفقد الكثير من جاذبية الشخصية التى كانت تفكر فيها و تمنى نفسها أن تجدها فى شخصى ، إنها لم تجد غيرالهيئة التى كانت تراها وأعجبت بها فقط  طول القامة و الوجه المنبسط بقسماته التى كانت تنطق بكل مايريح أى شخص ، فضلا عن ماعُرف عنى من أدب جم ودماثة خلق ، وهى أشياء كانت تعرفها قبل أن نتقابل ، لذلك لم تهتم بكل هذه التفاصيل ، أنه  لم يعجبها خجلى  ولاتوترى الذى جاء بلا مبرر ، ولا بوضع الصمت الذى كنت عليه حيث لم أنطق بحرف واحد ، رغم أننى حاولت جاهدا أن أنتزع الكلمات من بين شفتى ولكنى لم أوفق ،  وحاولت أن أرفع رأسى المنتكسة فى الأرض من الخجل وأن التفت يمنة أو يسرة  ولكنى لم أعرف ، حاولت أن أتابع كلامها الذى يحرك أى ساكن ولكن لم يحدث ، وحاولت أن انظر فى عينيها الجميلتين  الموجهتين تجاه وجهى كالسهم وهى تتحدث بمنتهى الطلاقة ولكن لم أستطع . إنها وجدتنى لاأعرف شيئا فى زمن كل شيئ فيه معروف وواضح ، زمن الكل فيه يفكر .. الكل فيه يعى ماحوله ، الكل فيه يريد أن يعرف . فالذى يعرف هو الذى يبحث ، والذى يعرف هو الذى يقدر قيمة المشاعر والاحاسيس ، والذى يعرف هو الذى يتأمل ويشتاق ويحن ويحب ويكره ، أما بالنسبة لى فكل هذه الكلمات لامعنى لها عندى لأنى لاأملك معرفتها ، ولاأملك كل ماكنت أحبه وأريده .. فرغباتى معطلة ولست فى حاجة إلى أن أقول أو أفعل..فكيف أجد الحب وكيف أعرف الكراهية حتى أفرق بينهما . إن الكلمات التى لها معنى عندى هى التى تربيت عليها  من توجهات  أبى وتعليمات أمى .. هى التى كنت أعيها فقط وأوجه لها كل اهتماماتى دون تفكير ودون معرفة مخزاها وهكذا تعلمت وتربيت 


إننى عرفت فيما بعد أن الحب هو أن تنشغل بشخص يعجبك ، وأن الكراهية ألا تنشغل بشخص لايعجبك ، وأن الحب والكراهية متشابهان ، فكلاهما انشغال بأن تفكر فى شخص أخر غيرك وغير أمك وأبيك وغير الذين يعيشون فى محيط حياتك ، وبعد ذلك المعنى هو الذى يختار الشكل المناسب  من مشاعر وأحاسيس تجاهه بأى منهما ، هذا الشكل  وقتها  كنت أجهله ولم أجد له مايناسبه بداخلى من معنى . لذلك جاءت خسارة  أول علاقة بسبب الوحدة والعزلة و الانقطاع عن العالم من حولى حتى أصبح الخوف يطاردنى فى حياتى و ملازما لى ، ومن ثم حرمت نفسى من تكرار التجربة لفترة  ، كان لابد فيها  أن أهرب .. لابد أن أنسى هذا الماضى الذى فرض على فرضا .. لابد أن أهرب من هذا الفراغ المخيف  الذى ألمسه فى المنـزل وفى الشارع وفى نفسى وفى حواسى وعواطفى  . ولما كبرت فى مرحلة أخرى من مراحل حياتى وأصبحت شابا يافعا كنا قد انتقلنا لحى مدينة نصر ، وكان الحى الجديد مازال بكرا يختلف كثيرا عن حى الظاهر الذى شاهد طفولتى ، فكان علي أن انتهج نهجا جديدا فى حياتى ،  وأن أنسى الخوف وأحارب الخجل بكل قوة ، لذلك وجدت  فى نفسى مايلح علي أن أعاود فكرة مجانسة الفتيات والحديث معهن وأكسر ذلك الحاجز الذى حجبنى عنهن زمنا، ووجدت تشجيعا من أصدقائى الجدد عندما صارحتهم بإعجابى بفتاة جميلة بعد أن لاحظت أنها تبادلنى بعض النظرات المشجعة وابتسامات خفيفة ظننت أن وراءها مقصد فخفق لها قلبى أو هكذا كنت أرى ، فى بادئ الأمر لم يصدقوا ماسمعوا ولتشجيعى أشاروا على أن أتجرأ وأكلمها ، وبالفعل فى اليوم التالى تتبعت خطواتها التى جاءت على مهل ، وحاولت جاهدا أن استلقط بعض الكلمات الإعجاب لأغازلها بها، رغم أنى وجدت صعوبة بالغة من فرط حيائى ولعدم معرفتى بعبارات الغزل من الأساس ولكنى مع إصرارى فى المحاولة لانت بعض كلمات الغزل على شفتى وهممت أن أفعل حتى فوجئت بها تلتف وراءها بوجه عابث مكفهر موجهة لى كلمات احبطتنى تماما : أنت عاوز منى إيه وليه ماشى ورائى ، من فضلك لاتحاول أن تكلمنى مرة أخرى . تسمرت قدماى وتمنيت أن تنشق الأرض وتبلعنى ولا أعيش هذه اللحظة القاسية . كانت الصدمة قوية جعلتنى ألزم المنـزل أياما تركت فيه أصدقائى الذين بدأوا يبحثون عنى وعن أسباب غيابى رغم توقعهم للذى حدث ، وعندما حكيت لهم وعلموا به انتابتهم نوبات من الضحك الذى أثارت تحفظى ، وقالوا لى ماهى لازم تعمل كده فى الأول ألم تسمع عن شيئ اسمه دلال  البنات ، كان لازم تدلل عليك شوية علشان تشوف مدى إصرارك على مغازلتها والحديث معها لتتأكد من معزتها عندك ، فالفتيات يحببن الشاب الجرئ ولايملن للشاب الخجول ، ولو كنت حاولت مرة أخرى لوجدت الأمر مختلفا وكانت ستتكلم معك ، وبالمناسبة لاحظنا فى الأيام التى غبت فيها أنها كانت دائمة التواجد فى المكان الذى كانت تراك فيه ، رأيناها تتلفت حولها وكأن عينيها تبحثان عنك . كلامهم لم يجد له صدى فى نفسى ولم أقف عنده طويلا إذ قررت أن أنصرف عنها وفعلت ، بل وانصرفت أيضا عن فكرة العلاقة مع الفتيات  نهائيا وعن أى محاولة فى الحديث عنهن  مع أصدقائى للدرجة التى جعلتهم يرون أنها أصبحت تمثل عقدة كبيرة عندى . فكروا فى طريقة يعيدوا بها اتزانى النفسى وأن يبثوا فى نفسى الجرأة والشجاعة فى التحدث مع الفتيات حتى دبروا لى أمرا لم أكن أعلم بحقيقته إلا فيما بعد ، حيث رتبوا لى موعدا بالإتفاق مع من هو أكثرهم خبرة فى معرفة دروب الفتيات وخير مايستعينون به فى هذه الأمور .. صديق اشتهر بوسامته وكثرة صديقاته ، ولاتكاد تخلو محادثاته من عشرات الفتيات الساحرات .اتفقوا معه أن يقنع إحداهن بلقائى على أن تكون بارعة الحسن وخبيرة بالنفوس .. داهية ماكرة ، تستطيع أن تعيد الثقة فى نفسى . حددوا يوما قابلته فيه لنذهب معا كعادتنا إلى مصر الجديدة بسيارته ، فمصر الجديدة وقتئذ كانت قبلتنا الدائمة ، و فى أثناء الطريق توقف فجأة عند كلية بنات عين شمس ، وشاور لفتاتين فى قمة الأناقة والجمال ، واستغربت أنهما استجابا له وتحركا فى اتجاه السيارة بهذه السهولة والسرعة ، ثم أشار لهما بالركوب فركبا بالكرسى الخلفى دون التلفظ بأى كلام ، وما أن تجاوز بعض الخطوات حتى توقف بالسيارة مرة أخرى وقال لى أنـزل واركب فى الكرسى الخلفى  ، وفهمت أن واحدة منهما ستجلس مكانى وأنا سأجلس مع الأخرى  فى المقعد الخلفى ، وفعلت وأنا فى حالة من الذهول فهذه أول مرة أتعرض لمثل هذا الموقف الغريب وتعجبت كيف وقع أختيار ه على واحدة منهما دون الأخرى وكيف استجابت هى لهذا الاختيار القصرى التى لاحيلة لها فيه . بدأ يتحرك بالسيارة فى اتجاه شارع الحجاز ، وتعجبت أكثر لطريقة حديثه مع الفتاة إنه يبدو وكأنه يعرفها فى معرفة سابقة ،  وشغلنى حواره معها الذى جاء سلسا ميسرا  يحمل عبارات الإعجاب التى بها رقة وطلاوة وصوته ذا رنة غريبة مما جعلنى أسرح معهما متابعا  ، وبينما أنا فى أثناء انشغالى تعجبت الفتاة الأخرى التى تجلس بجوارى  على سكوتى وأنى لم انبس ببنت شفة حتى ولو بكلمة من كلمات المجاملة التى تقال فى مثل هذه المواقف المحرجة وزادها عجبا أن ترى وتسمع صاحبنا يمطر الفتاة الأخرى بكلمات من الغزل الصريح  مما زاد الطين بلة ، وأصبح الموقف أكثر تعقيدا وحرجا لى  وهى ترانى وكأن لسانى أنعقد ، وعندما أحست بأنه لاأمل فى أننى أتكلم بدأت هى بالكلام وسألتنى : أنت طالب .

قلت لها : نعم .

قالت : أقصد أنت طالب فى الجامعة .

قلت لها : نعم أنت شايفه حاجة غير كده .

قالت : لا أبدا أصل شكلك بيديك أصغر من سنك ، وياترى بقى أنت من أى جامعة.

قلت : جامعة القاهرة . 

قالت : فى كلية إيه  .

قلت لها : كلية دار العلوم . 

قالت لى : وشاطر بقى على كده .

قلت لها : بيقولوا كده .

قالت : وياترى لك أصدقاء بنات ، يعنى بتعرف تكلم بنات .   

قلت لها : يعنى . 

قالت لى بحده وكأنها سئمت من ردودى المقتضبة : يعنى إيه . 

قلت لها : يعنى لى مجموعة من الأصدقاء وأكيد من بينهم بنات . 

قالت : طيب بتقول يعنى ليه ؟ ! ماأنت بتعرف تتكلم أهه  

قلت لها : ولاحاجة أنا حاسس إنى بتكلم أى كلام .

قالت : يبدو ذلك  . وبدأت تضع يدها على يدى وأنا اسحبها من تحتها ، فنظرت لى نظرة غريبة.. نظرة جائعة نهمة وقالت : هو أنت ماسمعتش عن حاجة اسمها الحب  .

اصابنى الوجوم ولم أنبس بكلمة ، وبعد لحظة شاردة قلت لها : لا ماعرفش ..لسه ماقبلتوش . 

بدت عليها علامات التعجب وقالت شاهقة : ياخبر  أزاى وأنت شاب  أهه وبقيت فى الجامعة ومتعرفش تحب . 

قلت لها : قدرى كده  ، ومش بالضرورة كل اللى بيدخل الجامعة لازم يحب .

ثم بدأت تقرب وجهها من وجهى  وقالت بما يشبه الهمس : يعنى متعرفش أيه بوسة .

قلت لها : لا الحقيقة مجربتهاش لسه . 

قالت لى : طيب قرب وجهك منى وأنا أعرفها لك  بس متخدش علي كده .

قلت لها : أزاى يعنى ، دا أنا يادوب عارفك من خمس دقائق بس ،  واللى أعرفه إن القبلة لاتكون إلا للمحبين فقط  اللى ارتبطوا ببعض وتآلفوا مع بعض  ومر عليهم وقت عرفوا فيه  ايه هو الاحساس اللى بينهم .

قالت لى : طيب منا بحبك أهه  .

قلت لها : أزاى  . 

قالت : هو مافيش حاجة اسمها حب من أول نظرة . 

قلت لها : نعم قرأت  عنه فى رواية الوسادة الخالية لإحسان عبد القدوس  بس فى نهاية القصة قال إن ده مجرد وهم كبير  ومافيش حاجة اسمها حب من أول نظرة . 

قالت لى : إحسان عبد القدوس غلطان  ، أنا بس اللى أقول لك إن فيه حب من أول نظرة ولا لا ، وهخليك تعرفه دلوقتى حالا .

ثم تورد وجهها وافترت شفتاها عن ابتسامة فيها تلميحات جامحة ومدت ذراعها تريد أن تجذبنى إلى جانبها فتخلصت منها بلطف وظللت جالسا فى مكانى  وقلت لها : بس أنا مش عاوز  .

امتقع وجهها فجأة وتغيرت ملامح الغنج التى كان عليه وتحول لحنق وامتعاض وبدت ثائرة  وقالت لى كلاما لازلت أذكره جيدا حتى الأن كعلامة سيئة لموقف غريب : أنت واضح عليك إن أمك بتخاف عليك وأخرك إنها بتشربك اللبن وتنيمك. هنا شعرت بإهانة .. إهانة من هذه الساقطة كيف سمحت لنفسها أن تتكلم معى بهذه الطريقة وأن تتفوه بكلمة أمى ، شعرت وقتها بأن كلامها كان كالسهم المارق الذى انطلق من فاها ليحدث انفجارا دوى فى أذنى  ، انتفضت ورفعت رأسى أنظر إلى صديقى فإذا بالفتاة الأخرى مندسة فى أحضانه ، ناديت عليه فنظر لى مبتسما وكأنه ينظر لأطياف لايراها.. شارد النظرات  تائه الفكر ، يبدو أنه قد ثمل تماما من نشوة القبلات التى انغمس فى حلاوتها ونسى معها الدنيا وما فيها ، عاودت النداء عليه بصوت  محتدكريب : من فضلك يامجدى توقف ونزلنى هنا حالا . تملكته الدهشة وهو يحاول أن يخرج نفسه من جو الهيام الذى يعيشه وبصعوبة كان ينطق : طيب ماتستنى شوية . ولكن لما أحس بأن  ردى أسرع من طلقات الرصاص على مسمعه وأنا أقول له : من فضلك لازم أنزل حالا  . بدأ يستعيد اتزانه فوجد وجهى متجهما عابثا ووجد فى ردى الإصرار على النـزول من السيارة : أرجوك توقف فورا ونزلنى هنا . تغيرت ملامح وجه صديقى وفوجئت به يوقف السيارة فجأة وقال للفتاة التى كانت فى أحضانه منذ برهة : اتفضلى أنـزلى أنت وصديقتك ياأولاد .......  . أصابتنى الدهشة كيف تحول صديقى فى لحظات من العاشق الماجن إلى هذا الوجه العابس وينهرها، وسألته هذا السؤال الذى بالفعل أعيانى عندما سألته لنفسى ، قال لى : لأنك أنت صديقى لايمكن أن أعوضك إنما هن فتيات ساقطات أصطاد منهن كل يوم من الطريق مثلما أريد ، أصابنى الوجوم وشردت للحظات كنت فيها صامتا وناقما من نفسى ومن صديقى ومن كل الدنيا ، كيف يأتى ذكر أمى التى كانت مثالا للفضيلة والحب والتضحية فى هذا المقام  الوضيع ومع من ! مع ساقطة ليتنى صفعت وجهها حتى أستريح 



كان هذا اليوم فاصلا .. يوم تحول بالنسبة لى أخذت فيه على نفسى عهدا بأن أحاول كسر هذا الحاجز الذى أقاماه أمى وأبى ،  وأفعل كل مايطرينى أن أفعله ويلذ لى أن أراه ، ويجعل عقلى الذى تبلد أن يفك قيوده بعد أن ران عليه البؤس كما يفعل الصدأ بالحديد يطمس معالمه ويشل تفكيره ، سأرجع وأفكر من جديد .. تفكيرا حلوا جميلا مستقيما متزنا فيه مايطمئن النفس ويبهجها ويصور له الأمال العذاب فى صورة جميلة يحيطها أطار مزخرف  من الأمانى التى كنت لاأعرفها وأصبحت أعرفها ، سأفعل ذلك فى الحدود التى تربيت عليها من قيم وشيم وأخلاق ،  وبالفعل بدأت أتقرب من الفتيات ومن السيدات  شيئا فشيئ ،  ووجدت أنه أمرا كان لايستحق كل هذا العناء  ، ووصلت إلى درجة كنت أتخير فيها من النساء مايروق لى منهن ، فكانت كل النساء اللاتى عرفتهن فى حياتى ، أجملهن  شكلا وروحا ، وأرقهن قولا ، وأسبقهن فى محاولة الوصول إلى قلبى ، وأحرصهن على إسعادى ، وتعجبت بعد ذلك من حالى إننى حتى الأن ومع كل هذه العلاقات  لم أشعر بالحب ، أننى كنت اكتشف مع كل علاقة جديدة  أنها كانت مجرد محاولة فى البحث عنه وفى النهاية لاألقاه ، فالعلاقة التى تفتر بعد صخب لم تكن حبا بل يمكن أن نسميها مودة أواحترام فقط ، إلا أننى عشت فترات طويلة أنعم بهذا الشعور الجميل رغم غرابته بالنسبة للرفيقات اللاتى كن يتساقطن من حولى كما تتساقط أوراق الشجر ، وكنت أسأل نفسى فى كل مرة قلبى يطرد فيها ساكنته إن لم يكن هذا حبا فما هو الحب ؟! أننى كنت أحلم فى أن أقابله يوما وأمنى نفسى أن أعيش فيه ، ولكن يبدو أن حظوظى معه ألا أعرفه بعد ، لذلك جاءت كل علاقاتى التى نشأت بينى وبينهن هى علاقة مودة وصداقة حقيقية . حتى عرفت مع مرور الأيام أنه لم يكن بوسعى أن أفعل أكثر من  تحويل الخوف الذى كان بداخلى إلى احترام ، لذلك توقف شكل علاقتى معهن ومع كل الناس عند حدود الإحترام والتقدير ، ولكن أصبح لدي ملكات وعرفت مع نفسى مقدار نفسى وعرفت أيضا مقدارى عند الأخرين ،  ومع من استطيع أن أتعامل وأصادق و أتكلم.. ومع من لاأستطيع . وعرفت أخيرا معنى خوف أمى وحرص أبى ، بأنه  كان شيئا مهما وعظيما ، وأن السياج الذي أحاطانى به كان ضروريا ، عرفت قيمته الأن بعد أن كبرت وتعلمت من الحياة الكثير ، تعلمت أن النفوس على اختلافها سر من أسرار الخلق  تدور فى فلك الدنيا : أسوياء ومرضى .. أنقياء و حقدة . وفى علم الفلك ربط النفس بطبيعة الأرض ووقت الميلاد وتوافقها مع المجرات والنجوم التى تحدد وإلى حد بعيد الأشياء التى تسعدنا والأشياء التى لاتبعث فى نفوسنا الراحة ، إنها أصعب رحلة للإنسان أن يقوم بها .. رحلة البحث عن الذات .. موقعك مع كل مايمكن أن يصادف حياتك من ناس ومواقف .لقد جاء اليوم الذى استطعت فيه التحكم فى شكل العلاقة مع الناس ولكنى مازلت أتخوف من نفوسها.

القاهرة فى ديسمبر 2023     

مع تحيات : محمد عصام



الخميس، 26 أكتوبر 2023

موعد مع الحقيقة

كنت على موعد مؤجل أكثر من مرة .. المكان شارع رمسيس والموعد الساعة العاشرة  مساء بعد انتهاء حفل الموسيقى العربية ، المكان كله يلفه الليل  تحمل نسماته بعضا من الهواء الخفيف الذى لايفقدك الإحساس برطوبة الجو الخانق الذى لازال مسيطرا على أجواء القاهرة كلها فنحن فى شهر يونيو . جئت قبل الموعد بكثير وانتظرت متخيلا كل سيناريوهات اللقاء ، وطريقة استقبال كل منا للأخر ، وماذا سنقول، وفى أى موضوعات سنتحدث ، زخم من تخيلات كثيرة صورها عقلى جعلتنى مضطرب الخاطر ، فهذه أول مرة أقابلها فيها ، ولاأعرف عنها إلا القليل . وكلما مر الوقت كنت أزداد اضطرابا فحاولت أن أشغل نفسى بمتابعة المارة بأشكالهم وأنماطهم وخاصة النازحين من مكان الحفلة حيث كانت وقفتى بجانب السيارة خلف السور المواجهة لبوابة المعهد .هاتفتنى لتحديد مكان انتظارى، فوصفت لها المكان الذى أقف فيه واطمأننت على احترامها للميعاد وإثبات جديتها للحضور . انصرف الناس ومن بعدهم جوقة الموسيقيين والفنانين ولم ألمحها بينهم ، وكان من المفترض خروجها معهم . مضى بعض من الوقت وأنا على حالى  منتظرا حتى طالت مدة الانتظار ولكنها لم تأت . فنظرت إلى الساعة فى يدى فإذا بالوقت قد سرقنى وتجاوز الميعاد المحدد للمقابلة بكثير ولولا مهاتفتها ماكنت انتظر كل هذا الوقت ولمضيت لحالى ، عدت وجلست فى السيارة ساهما واجما وحاولت مهاتفتها عدة مرات من الرقم التى هاتفتنى منه ولكنها لم ترد ورحت ألوم نفسى وأحدثها فى ضييق .. لابد وأنها جاءت وانصرفت مغيظة حانقة ، فلقد مضى على الموعد مايقرب من نصف الساعة ، تركت السيارة مرة أخرى وترجلت بين المارة أجوس بينهم وقد تفصد وجهى بالعرق الكثير فالجو ازداد اختناقا  وضيقا، اتلفت هنا وهناك ، حتى خف المكان من الحركة وبدا يخلو من المارة ، وحاولت أن أعلل لنفسى بأنها لم تأت بعد ، فقد يكون ثمة عائق أخرها عن الموعد وقد تأتى بين آونة وأخرى ، عدت إلى السيارة حائرا أتابع كل الطرق من حولى التى من المحتمل أن تأتى من إحداها ولكن دون جدوى ، وبدأ اليأس يتسرب إلى نفسى يملؤنى الاحساس بالندم والخجل والضيق والحزن ، إننى لم أكن أبصرها قط قبل ذلك ، وهذه كانت الفرصة الحقيقة للتعرف عليها عن قرب ، وبدأت أشعر بالملل فقد خلا المكان وأقفر إلا من بعض الوجوة الآوبة لبيوتها وشعرت بالضيق من الناس والرغبة فى العودة خائب الأمل . 

أدرت محرك السيارة  وعند التحرك لمحت وجها قد أقبل بين هذه الوجوه التى كنت أرها عابثة جعلنى أتسمر فى مكانى ، وجه كأنها هى .. اقتربت صاحبة الوجه الذى بدت ملامحه تطفو إلى سطح عقلى فهذه الملامح مازالت حاضرة الذهن أعرف تفاصيله جيدا ، فمنذ قريب انتهيت من رسمه  على اللوحة التى أحملها معى وجئت لأقابلها كى أعطيها إياها .. اقتربت رويدا رويدا وتأنت فى مشتيها ثم تريثت ريثما أخطأت التقدير فى الشخص الذى ستقابله ، حتى توقفت واستدارت ببطء ، واتجهت إلى السور الحديدى الحائل بين الرصيف والشارع الذى تقف فيه سيارتى من خلفه واتكأت عليه مولية وجهها ناحيتى ، وسألتى : الأستاذ عصام . قلت لها : نعم . اطمأنت بأننى ذاك الشخص التى جاءت لتقابله ، ثم راحت لأخر السور حتى تأتى إلى الجهة التى أقف فيها ، كنت أثناء ذلك شارد الذهن ابحث فى سرعة عن أنسب الكلمات التى أبدأ بها حديثى معها ، وأخذت أستعيد لنفسى كل الكلمات التى يمكن أن تقال فى افتتاحية مثل هذه المواقف ، ومضت الفترة الوجيزة دون الاهتداء إلى كلمات . أسرعت فى استقبالها وترجلت خطوات قبالها حتى  دنونا من بعضنا البعض فأقبلت هاشة باشة كأن بيننا قديم صحبة وأحسست أن روحينا قد التقيتا قبل ذلك مئات المرات ، ولكن  تملكنى من رؤيتها الشعور بالدهشة والاعجاب ، فقد كانت حقيقتها أكثر روعة مما تبدو عليه فى الصور ،  إنها سيدة بارعة الحسن ، رائعة الجمال أقبلت على كما يقبل الشذى المعطر متضوعا من بعيد .. وجهها المشرق جعلنى أشعر ببعض الطمأنينة لأننى توقعت أن تمر بى مر الكرام فلا شك أنها لاتعرف عنى سوى اسمى وكل منا كان لايرى الأخر إلا من خلال الصور فقط ، والصور لاتعطيك احساسا طبيعيا وصادقا كما ترى العين وتحلو لها ، إن تخيل الشخوص ورسمها فى ذهنك  لايعادلها متعة الرؤية الحسية بل تفقدك الكثير من الإحساس الطبيعى الذى تحب أن تراه فى وجوه من يروقون لك  . والحق كنت خائفا وحذرا من أن يكون هناك اتساع كبير فى الفارق بين رؤية العين والصور ، فالصورة  قد تحمل تفاصيل كثيرة لم ترها العين، وربما يكون فيها تكامل وانسجام نتيجة إضافة تحسينات وتنقية وإضافة رتوش وأشياء كثيرة لاتستطيع أن تحس بها عينيك ، ولكن أيضا الرؤية الحقيقية المجردة تتعرض هى الأخرى لمؤثرات ولكنها مختلفة أهمها أنها تتعرض للعاطفة فلو رأيت بعين عواطفك التى لاتملكها قد تتأثر بالحقيقة فترى الشخص الذى تكرهه دميما وترى الشخص الذى تحبه جميلا ، فكما أن الصورة لاتكون دقيقة فالعين أيضا لايمكن أن تكون صادقة لأنها عين غير منـزهة ولا محايدة ،  إنما هى عين أسيرة بين قلب الإنسان وعقله أى  أسيرة الأهواء  . 

وهكذا كنت أرى وجوه الناس  بعين إحساسى . رفعت بصرى تجاه وجهها فإذا به أراه وقد علت عليه ابتسامة ساحرة فى ليلة عجيبة ، تخيلت وكأنها ليلة من ليالى الجنة ، اسقطها الله على أهل الدنيا ، فانسربت فى لياليهم .. ليلة ليست فى شيئ من الليالى التى يغيب عنها القمر .. إنها ليلة أشبه بليالى ألف ليلة وليلة من جم سحرها وحسن بهائها .. ليلة لاينام فيها إلا الحمقى الذين لايقدرون جمال الليل وسحر نسماته ، فى هذه الليلة احسست وقد غمرنى النعيم وامتلأ قلبى بالنشوى . وأيقنت أنه لا أروع ولاأجمل من التعارف الحقيقى و الطبيعى مهما كان جمال الخيال وقيمته ومهما كان حلاوة الصور ودقتها ، وخاصة لو أن رؤيتهم صادفت بداخلك ارتياحا وبعث فى نفسك الطمأنية . إنه الاحساس .. الرؤية الحقيقية التى تجد فيها الشعور بالاحترام والعمق ، ليؤكد أن الاحساس نعمة . مدت لى يدها وشدت على يدى فى رفق وحنان بالغين وصافحتنى بحرارة وسارت بجانبى حتى وصلنا للسيارة التى كانت تبعد عنا بضع خطوات ، و سرعان مادلفنا بداخلها وجلسنا فيها وراحت تلتفت لى باسمة وقالت وهى تنظر إلى وجهى وتتأمله ، فكل منا كان يتأمل الأخر ، بدت  وكأنها تتفحص ملامحه وتقارنه بالذى كانت تراه فى الصور .. تحسسته بعينيها اللتان تضيقان ثم تتسعان حتى نطقت بالتحية : أزيك ياأستاذ عصام ، أنا آسفة على التأخير كانت هناك  بعض الأمور بالفرقة ابقتنى بعض الوقت داخل المسرح لم تكن فى الحسبان ، واستطردت : ولكم كنت أتمنى أن أجلس معك أكثر من هذا ولولا أن الوقت أصبح متأخرا لما تركتك ، ولكن وعد منى إن شاء الله سنتقابل عن قريب ونشرب  معا القهوة التى عزمتك عليها . ولكنها لم تهم بالنـزول من السيارة ، ودار بيننا حديث بعد أن استبقت نفسها جالسة فى مكانها تطلعنى على بعض أسرارها ، رأيت فاهها ينطلق فى الحديث ويروى كل ماوعته ذاكرتها وكانت أحيانا أثناء حديثها تصمت برهة تسرح فيما تسرح ثم تعود لتستكمل حديثها وعلى طرف لسانها سؤال لايمكن أن يعرف إجابته إلا هى ، ربما كانت تريد استطلاع رأيى فيما تروى ، فكانت تسكت لتفاجئنى به ثم تجيب عليه وكأنها تريد أن تسمع الأخر الذى يؤكد لها أنها كانت على حق . سؤالها البسيط إجابته توجع القلب ، عن مجمل حياتها والتحولات الفجة والغريبة التى طرأت عليها والظروف التى واتتها على غير ماكانت تتمنى ، وصدماتها فى الناس بل أقرب الناس إليها ، هذا الشتات النفسى والعقلى جعلها فى حالة اضطراب دائم ، انعكس على صحتها النفسية والبدنية التى أصبحت مخترقة تماما ، جسدها لم يعد فى استطاعته الصمود فى مواجهة كل هذه النوائب حيث أخذ نصيبه الوافر من أمراض كثيرة نتيجة للحالة النفسية السيئة التى أصبحت متلازمة وملاصقة لحياتها . نظرت لى وصمتت ولكن فى هذه المرة طالت فى صمتها جالت فى عينيها بعض الدموع ثم قالت : إننى لا أعرف سر عذابى بعد ، لم أعرف لماذا قضيت عمرى كله شاردة العقل موجوعة القلب ، أبدو أحيانا كأنى مجنونة ، وأحيانا أبدو كأنى عاقلة وكنت أسأل نفسى دائما فى فترات جنونى : لماذا أنا جننت وأسأل نفسى فى فترات تعقلى لماذا أنا عاقلة فلا أدرى سببا لجنونى ولاتعقلى وعندما تخطيت سن الثلاثين تزوجت وعشت حياة بدايتها هادئة ولكن سرعان مادب الخلاف بيننا وإن كان الخلاف كأى خلاف تعيشه البيوت وتستطيع السيطرة عليه إلا أن تدخل الأهل وخاصة أمه وأخوته فى أدق تفاصيل حياتنا جعلنا ننفصل ، فانفصلت عنه وعشت أواجه الحياة وحدى مع ابنتى الوحيدة التى رزقت بها وسط هذه الأجواء المتلاطمة وكانت وقتها مازالت طفلة صغيرة .. وحاولت أن أواجه حياتى بكل مافيها من عواصف وأنواء ومنغصات كانت كثيرة ، حاولت وأنا لاأملك  إلا القليل من الصبر، مرت أيام كثيرة عصيبة وفترات أخرى هادئة ، وأخيرا فى فترة هدوئى أكتشفت سر عذابى ، أتدرى ماهو السر ؟ ! . سألت ثم أجابت وأنا لازلت أنظر إليها مبهوتا حتى أشفقت عليها من وجهها الذى اكفهر وازدرد، أرقب حديثها الذى بدت عليه العصبية والانفعال الشديد، كنت أريد أن تكف عن الحديث الذى يؤلمها وخاصة أنها واصلت حديثها بصوت محتد تملكه الشجن : السر أنى طول حياتى لم أملك شيئا حتى الصبر، وكان يخيل لى إنى أملك كل شيئ عندما كان والدى موجودا على قيد الحياة يحنو علينا ويملأ دنيتنا الصغيرة وحياتنا الرغدة بالسعادة والحب ، ولكن عندما فقدناه أصبحت أرى الحقيقة عارية وعرفت أننى لم أعد أملك شيئا .. لاأملك أبى الذى مات وذهب وتركنا ، لا أملك أمى فهى ملك مزاجها وميولها ومعتقداتها وتصرفاتها .. لاتريد أن تسمع إلا صوتها ولاتريد أن تستشير أحدا غير عقلها وكفى .. فهى ملك نفسها وإخوتها الذين تنكروا منها عندما مرضت وهى التى كانت تغدق عليهم بكل غال ونفيث ، ولا أملك زوجى فهو ملك أمه وإخوته . البيوت التى عشت فيها ليس من بينها بيت أملكه ، عشت طوال حياتى حياة غريبة فى هذه البيوت .. كنت دائما أجد نفسى مجرد ضيفة ، والانسان لايتحمل الشعور بالضيافة طول عمره ، لذلك كنت أهرب من هذا الشعور القاسى بالإنزواء والبعد ، وكلما عدت إلى نفسى أبكي .. كنت كثيرة البكاء .. أبكى الإنسانة التى صنعت جزءا كبيرا منها بنفسى ، وعشت أسيرة ظروفى وكانت الأيام تتوالى وتنقضى ..أيام طويلة وأنا وحدى أفكر ولا أصل لشيئ ،  وعشت على ذاكرة خيالى الذى كانت تصنع لى ماكنت أحبه وأتمناه .. لذلك كنت دائمة الهروب .. الهروب حتى من مواجهة نفسى ، كنت أهرب باحثة عن شيئ أملكه ، وهنا يكمن سر عذابى ، ربما استرحت عندما اكتشفت سرى .. على الأقل عرفت طريقى فى الحياة ، عرفت أن لى ابنة تحتاج منى أن أوفر لها كل ماحرمت منه وستكون هى الدنيا التى أملكها . 


انهت كلامها وصمتت ، نظرت إليها بعين الحب وبعين الرحمة وجال بخاطرى  سؤال كيف وثقت بى لهذه الدرجة و ارتاحت لى فجأة  ؟! وكيف حكت لى ماحكته عن نفسها بهذه البساطة وهى ترانى لأول مرة ، وكأن بيننا معرفة قديمة، ولكن عدت لأتذكر كيف كان حكمى على الناس من أول نظرة ، وكيف كان انطباعى فيما مضى  والنظر باستخفاف على أساس إنه غالبا مايكون متعجلا ، وأن الغوص فى أعماق الآخرين ومعرفتهم أمر فى غاية الصعوبة ، ولكن لم أفطن بعد إلا فى سن متقدمة أن الله جعل فى قلوبنا شيئا قد لاندركه ، إنها الرؤية الشفافة التى ترى الآخر فتقبله أوترفضه ، تحبه أو تكرهه ، ترتاح إليه أو لاترتاح ، إنها ممارسة طبيعية تدرك بالغريزة صحتها حتى ولو كان هذا الآخر "شخصية باطنية" تتوارى وراء أقنعة ، فدائما تجد مظهره الخارجى فى النهاية يدل عليه ، مظهرك هو أنت ظاهريا وباطنيا ، محصلة لمعالم شخصيتك ، ثيابك .. صوتك .. نظرتك .. لغتك .. مشيتك .. دموعك .. ابتساماتك ، كل هذا يتجمع فى شيئ واحد يراه الآخر ويتخذ منك موقفه سواء بالقبول أو بالرفض ، وموقفه هذا محصلة نفسية اجتماعية بيئية فهو يراك بعيون أحلامه وخيالاته وعقده وأهوائه ، فهذا الإنطباع قلما يكون مخطئا ، من هنا عرفت وايقنت مع نفسى أن المرء يستطيع أن يكتشف وبكل بساطة نقاء القلوب الطيبة ويرى الهالات التى تدور بها وحولها حتى ولو حجبت وراء الأستار لأن الطبيعة الشفافة والقلوب النقية لايمكن أن تضلل وتكذب أبدا ولايعلق بها  شوائب الدنيا وحقارة النفس ، إذن ليس من الصعب أن تكتشف وبكل سهولة أن وراء هذا الارتياح روحا طيبة وقلبانقيا ووجها جميلا يحمل ملامحه بشاشة وحب . 



كنت أتابعها باهتمام  ورأيت فيما رأيت أن أسرارها كثيرة لم أكن أتصور أبدا أنها فى حوزتها ، نقلتنى فجأة إلى عوالم أخرى ورحت من خلال الكلام الضبابى الذى غشى عينى أتطلع إلى وجهها الذى أضنته الدنيا ونال منه الكثير رغم أنه لازال يحمل جمالا ساحرا ، ولازالت أنوثتها دافئة ، تعاطفت معها ومع مشاكلها حتى أظلمت الدنيا فى عينى وهرب سريعا ذلك الإنسان الذى بداخلى لايرى إلا الأمل ويشق ضباب الليالى ببصيص من النور ، وبقيت وحدى حائرا أسأل نفسى أسئلة كثيرة فلا أظفر بجواب واحد ، وضايقنى هذا جدا حتى شعرت هى بذلك فباغتتنى : فيم تفكر ، فقلت لها أفكر فيما أنت عليه ، كيف لنفس أن تشقى من الحقيقة وتحاول كرا وفرا أن تهرب منها و الناس لايشعرون بذلك ولايهمهم أن يعرفوا هذه الحقيقة ولايرون فيك غير الفنانةفقط .. المغنية التى تسعدهم وتنعش خيالهم وتصوروا أنك تعيشين فيه وتتمرغين فى لفائفه ، ولم يروا أن حياتك لم تكن على غير ماتبدو لهم ، فلا أحد يدرى أن حياتك التى تعيشنها  مأساوية إلى هذا الحد حتى أقرب الأقربين لك ، ورغم ذلك تتحاملين على نفسك لترسمى البسمة على وجوههم بينما قلبك يعتصر من الألم والأحزان ، انهم لايسمعون شيئا عن حياتك ولايرون الدموع التى تملأ عينيك ولايسمعون الآهات التى تئز صدرك . ثم نظرت لى بكل غبطة وحنان وقد اغرورقت عينيها بالدموع ، ظلت جاهدة أن تجففها وتخفيها ثم قالت لى فى محاولة لتغيير دفة الحديث : مش هتورينى صورتى بقى ولا إيه . ولم تمهلنى فرصة أن أحضرها لها ، مدت يدها للكرسى الخلفى وانتزعت الصورة من غلافها ، فإذا بنور يشع من عينيها من جديد بدد دموعها وهى ترى وجهها المرسوم يتألق بهاء وصفاء والذى انسدلت عليه غلائل الشعر الفاحم فكادت تغرقه فى بحر من الظلام الدامس لولا الشعاع المنبثق من نور العينين الذى اقتحم الظلام وكشف عن إشراقة ابتسامة رقيقة . نظرت لصورتها مشدوهة وهى ترى نفسها مرسومة ، ولما تأملتها طويلا ووقفت على خطوطها ومعالمها نظرت إلى ممتنة وشكرتنى بعد أن أولتنى ابتسامة رقيقة وأغدقت على ماتملك من حنان وعطف ، ثم تركتنى بعد أن ودعتنى وضغطت على يدى ،  كنت حريصا أن أنظر فى عينيها فبدت منهما نظرة غريبة فيها استسلام وانتظار  ، ورأيت أجفانها تنطبقان ببطء وكأنها ذاهبة إلى حلم أو غيبوبة  ،  ثم همت بالنـزول من السيارة حتى غابت وسط الناس بعدها اكتسى الظلام المكان ، وافترقنا بعد حديث ذى شجون ، ولكن الفرقة كانت إلى موعد أخر ولقاء سيحدد فيما بعد  .  أدرت مفتاح سيارتى وتحركت بها فى اتجاه العودة ودار فى ذهنى مادار وأخذتنى الأفكار وغادرت المكان ورحت أحلق بروحى التى سمت إلى عنان السماء أجوبها على جناحى طائر جريح يطير بلا اتجاه ، لقد أحسست والدم قد غاض من وجهى وتدهورت أنفاسى  كلما تذكرت حديثها المنكسر الحزين  . 

وعلى هذا قضيت ليلة طويلة مسهدة لم اتنبه إلى طولها ، ولاأعرف كيف قضيتها حيث رحت فى دوامة من الفكر ، كيف لهذه النفسية المعذبة المقهورة أن تجلى عن نفسها كل هذه الأحزان حينما تنقل مشاعرها للأخرين .. عندما تغنى .. وكيف للغناء أن يذهب عنها الروع والإحساس بالألم وهى تشدو  مرتسمة الابتسامات التى لم تكن حقيقية ، إنه قدر الفنان الصادق الذى يستمد فنه من معاناته ويتغلب عليه به . ولأن الفن الحقيقى هو فى تلك  القدرة عند نقل  المشاعر  إلى الأخرين ، فإن الفنان الحقيقى أيضا هو من يستطيع تجاوز أحزانه ويفصل احساسه عنها كلما واجه الجمهور .. إنها القدرة على الفصل و القدرة على المواجهة ، وهذا يؤكد أن ملكات الفنان لاتتوقف على موهبته فقط ، بل هناك ملكات أخرى حسية ومعنوية تحركها تلك الموهبة الصادقة والتى يتغلب بها على معاناته ، لذلك وجدت فى نظرة  عينيها وهى تودعنى .. نظرة حنونة مضيئة بضياء غريب رأيته وكأنما يشع من حولها نورا فيه غموض رغم وضوح رؤيته ، حتى بدا فى عينى كهالات  تومض ثم تتلاشى ، أدهشى وجعلنى أسرح بعيدا وبداخلى شعور أن احتويها بروحى .. أمنا وسلامة و حماية ، فما حكته كان كفيلا بأن يدمر حياة أى إنسان ، مواقفها الصعبة فى كل الأحداث  التى مرت بحياتها رغم قسوتها وجسارتها إلا أنهالم تعصف بها ، فأحسست بأننى أمام نوع من البشر فائق القدرة على التصدى ولديه قوة فى المواجهة ، مهما كانت عواكس الدهر الكثيرة التى ناءت بها وفرضت نفسها على حياتها بقوة منذ الصغر ، جعلت طبيعة شخصيتها فولاذية المعدن أنها لو اصطدمت بالصخر كل يوم لن يؤثر فيها ، كل ذلك أعطتها القدرة على أن تمسح جراحها بنفسها لتضمن البقاء والاستمرار  ليس من أجل ذاتها بل لفنها وللذين كتب الله لهم أن يكونوا فى حياتها ، فأنت أمام نموذج فريد لفنان يعانى .. معاناة ليست إبداعية فقط للإنشغال بطرح مفردات الإرتقاء بالفن الجيد والتحفيز على نزع الآهات التى تحمله نبرات صوتها الشاجى ، ولكن لمعاناتها من الحياة ومن الناس أيضا ، لذلك عرفت معنى الخوف .. الخوف من الليل ، ومن الناس ، ثم من أقرب الناس .. الخوف من الزمن .. ومن المرض .. وأخيرا من الوسوسة .

من خالص تحياتى : عصام                 

القاهرة في : أكتوبر عام 2023

 






الأربعاء، 26 أكتوبر 2022

فنجان قهوة وذاتان

  

 بينما كان يجلس فى الكافية الذى اعتاد أن يتردد عليه يوميا يحتسى فنجانه الصباحي من القهوة ، أتاه النادل ليخبره بأن هناك سيدة سألت عليه وترغب في رؤيته ، سأله : ألم تعرف من ؟ قال له : لاأعرفها هذه أول مرة أراها ، إنها لم تكن ممن يأتين إليك كثيرا ويجلسن معك هنا . اضطر إلى الخروج ليرى من سألت عليه ، تلفت يمنة ويسرة ليبحث عنها ، أخذ مسحا بعينيه يدقق فى وجوه الموجودين بالمكان ولكنه لم يجد أحدا ، عاد إلى فنجان قهوته الذى لم يرتشف منه سوى بعضها وأخذ يفكر ياترى من تكون وماذا تريد . وكان معروف عنه أنه مصاب بداء الحب وأن هذا الداء متمكن منه تماما ، فلم يعد لديه أمل من برء أو رجاء في شفاء ، وكأن الحب فيروس الهوى الذى تولد في قلبه فجأة وتكاثر حتى أتى عليه وتملك منه ، إن أقصى ماكان يحبه في أي مخلوقة يسعى إليها أو تصادف حياته أن يشعر معها بشيئ من الإرتياح ، إنه دائم البحث عن أي شيئ يريحه ويعدل مزاجه المضطرب وهو ماكان يفقده فى حياة الوحدة التى كان يقاسى منها أشد المعاناة فتحجب عنه كل بغيض وتخلق من القبح جمالا ومن المرارة حلاوة ، لذلك فهو لم يهو في حياته امرأة بذاتها بل كان يهوى الحب نفسه وكان كل ماكان يطريه هو ذلك الجو الذى كان يعشقه والهالة المضيئة التي تحيط بالمحبين ، لم يكن هناك في حياته أكثر عددا من معشوقاته ، فقد كان يوقع نفسه في هوى كل حسناء يصادفها ، أو يصادفها سوء حظها أن تظهر في حياته . كان يعنيه شكل المرأة وهيئتها .. الوجه الفاتن المتألق بأنفه المتقن ودقة الشفتين المكتنزتين وبريق العينين بأهدابها الساجية ونبرات الصوت الرقيقة ، وكل مقاييس الجمال التي كانت تترك أثرا جميلا في نفسه وقلبه .. أثرمن رقة وحنان وسعادة وحب تجعله يعيش في قصور لايرى مثلها إلا فى فكره الخصيب ولاتظهر إلا كلما أفرط فى أحلامه الفاتنة حيث يرى نفسه فيها هائما مع العذارى التى يتخيلهن في جو ظليل كان يتقن هو صنعه من فرط ماعاش فيها ، ثم بعد ذلك يخطط بكل الأساليب التى تجعله يصل إلى مبتغاه كما كان يتخيل وكما يحب أن يرى .. هكذا كانت حياته .

كان ارتياده للكافيه بحكم أنه كان مجاورا للمحكمة التي كان يترافع فيها عن قضايا موكليه ، وهذا معلوم للصفوة والعامة حيث اعتاد الجلوس فيه يوميا ليرتشف فنجان قهوته كالمعتاد صباحا ثم فنجان أخر بعد أن ينتهى من مرافعاته ، ليأخذ قسطا من الراحة يستجم فيها وينسجم مع قهوته مستمتعا ، وكان دائم التعجب يسأل نفسه سؤالا كان يردده كثيرا بين الحين والحين ، كيف أصبحت القهوة عنده من ضرورات الحياة ؟ وكيف ارتبطت عنده بالانسجام ؟ وكيف الانسجام ارتبط عنده بالحب ؟ وكيف ارتبط الحب بالغناء ، وليس أي غناء ، بل أغنيات عتيقة . كان دائما مايطرب لفيثارة الغناء اسمهان عندما جعلتها حالة واستخدمتها كرسالة تنبيه للحبيب أنها تهواه وتحبه وتميل إليه وهو لايدرى أنها تحبه فكان استخدامها موضوعيا وموفقا للغاية باعتبار أن القهوة فى الأساس من المشروبات المنبهة : يامين يقول لي أهوى أسقيه بإيدي قهوة ، وراحت فيروز بصوتها الملائكي تحكى : " في قهوة ع المفرق في موقد وفي نار ، كنا أنا وحبيبي نفرشها بالأسرار" ، أما العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ  نقل برائعته قصيدة نزار قباني "قارئة الفنجان" إلى مستوى آخر من الجمال والحرفية في قراءة الطالع لفنجان مقلوب ومايحمله من خبايا وأسرار . وقد أشار الشاعر نزار قباني نفسه في كتابات أخرى له أن برودة القهوة بين العشاق ماهى إلا دلالة على انتهاء القصة "انتهت قهوتنا .. وانتهت قصتنا وانتهى الحب الذي كنت أسميه عنيفا ". كل ذلك يظهر قدرة القهوة على تغلغلها في نفوس شاربيها مما انعكس أثره فى إثراء الذوق العام الفنى والثقافى الذى يبدو واضحا وليس غائبا عن أحد ، فالكل يعرف قدرها ومدى استمتاعه بها فى المنتديات والأندية والكافيهات ومقاهي قاهرة المحروسة القديمة عاصمة الفن والجمال التي تضج بالأدباء والفنانين منذ زمن الأصالة ، لتبق القهوة جزءا من هذه الأصالة ، عالقة في أذهان من أحبوها بالأمنيات العبقة والذكريات الجميلة مناط الحب والألم ، إنها معادلة غريبة بين الإحتساء والسماع والانسجام وبين سر متعتها الغامضة في جلب الأحاديث المؤجلة التي ارتبطت برشفات القهوة عبر سنوات من الحنين . حتى أضحت بعد ذلك ذكرى مذاق ورائحة عابقة في المخيلة .. حاضرة في كل زمان ومكان ، وأن الحياة مهما كانت مليئة ومتخمة بالأشياء ، فلا بد أن هناك مساحة موجودة ودائمة لارتشاف فنجان من القهوة. كان يعى ذلك ويعرف قدرها جيدا فارتبطت حياته بها بشكل منتظم ويومى ، وأصبح تذوقها عنده يمثل فنا جميلا وراقيا كالشعر والرسم والغناء ، فيها من جمال العقيق رونقه .. ومن روعة البرلنت بريقه.. رائحتها ملهمة .. فواحة تسكن القلوب بسحر مجهول ، أما مذاقها كونى لايعادله مذاق آخر ولكنه خفي الطوايا ، لها مع العاشقين جولات وهمسات، لذلك كان يسأل نفسه عن سر هذا الإرتباط حبا وتعجبا فى كيفية تسللها إلى حياته وشغلها لجزء من وقته حتى تمكنت منه لدرجة الاستحواذ لترتبط به ارتباط التمكين الذى لافكاك منه ليجد فى رشفات القهوة كل هذا الاستمتاع الذى ترتاح له نفسه .


البداية جاءت من خلال مهاتفة قبل زيارتها الأولى له ، حين هاتفته وعرفته بنفسها بعد أن نما علمه بأنها ستهاتفه ، أخبره صديقه بقصة هذه المهاتفة وكيف ولماذا ، ولكنه لم يكن يعرف أنها هي من جاءته عند الكافيه وسألت عليه دون سابق ميعاد إلا حين أخبرته بذلك في ذات المهاتفة التى قصت عليه فيها بنبرات حزينة مجمل ماتطلب ، فرجاها التكرم بأن تأتى إلى مكتبه وتقابله حتى يراها ويستطيع أن ينهى لها المسألة بعد أن تسرد له بعض التفاصيل التي كان يرغب في الاطلاع عليها وجها لوجه ، فهو لايعتمد على أحاديث الهواتف وخاصة إذا كانت من الأمور التى تخص عمله فهو يحب أن يرى عملاءه وهم يتحدثون ويرقب كل لفظة وإيماءة وهى أمور يرى أنها قد تساعده كثيرا فى فهم قضاياهم ويتيقن من موقفهم السليم منها ، ولا يهم بعد ذلك أى شيئ أخر ، إنه يرى في نفسه المحامى المحنك الذى لاتقف أمامه أية قضية مهما كان موقفها القانوني ضعيفا ، لديه ثقة كبيرة فى نفسه ويعرف قدرها جيدا . إلا أنه أحس بشيئ غريب بداخله وهو يحادثها جعلته شغوفا بأن يراها ، فقد سمع عن حكايتها من صديقه ابن عمها ، ويعلم مسبقا حجم المعاناة التى ألمت بها فى حياتها حتى تعاطف معها دون أن يراها . وعندما سمع صوتها فى الهاتف كان لايهمه وقتها أن تتعرف على شكله أو يتعرف هو على شكلها فهو من النوع الذى يضع لحياته ثوابت فكان أكثر مايحرص عليه أن لديه القدرة الفائقة على فصل نزواته وحبه للنساء عن عمله . غير أنه شعر بشيئ من التعاطف والإرتياح فى كلامها لم يتبينه بعد جعلته يطلب منها أن يراها ، فطبيعة حياته أنه يخشى البدايات .. ويخشى كل جديد .. عوده عمله أن يسمع كثيرا ويتكلم قليلا .. وكل جديد بالنسبة له يكون مجهولا والمجهول عنده يمثل قضية مثل كل القضايا المتخمة فى مكتبه إذ لابد أن يتقصى عن كل كبيرة وصغيرة حتى تتضح له الحقيقة كاملة واضحة جلية .. وضوح الشمس ، لذلك فهو تعود ألايأخذ الأمور على علاتها وكيفما تأتى وتمضى بل يتفحصها جيدا ولايتسرع فى إصدار قراراته . ولكن عندما جاءته ورآها سقط كل هذا وكان ينظر إليها بتفحص غريب رغم أنه أراد أن يبدو لها كأنه ينظر إلى لاشيئ حتى لاتنزعج من نظراته التي تكالبت عليها ، أما هي فقد تفقدت كل ملامحه ونادرا مااستوقفتها ملامح انسان ، بدأ يشعر بالإرتياح حيث تبينت له الصورة التي كونها خياله عنها عندما هاتفته فوجدها مختلفة تماما عن الحقيقة ، فقد رآها امرأة جميلة بل وفى جمالها فتنة .. جمالها فيه من البساطة والرقة ماجعلته يعجب بها حتى شغلت حيزا كبيرا من تفكيره لدرجة أنه لم يسمع كلمة واحدة مما تقول ، وبينما هى تبدو منهمكة فى شرح قضيتها التى أتت من أجلها لم تكترث به ولم تبد له أى اهتمام به كشخص ولم تأبه بنظراته إليها حتى حديثها جاء خلوا من عبارات المجاملة التي تقال غالبا في مثل هذه المواقف ، إنها لم تظهر له مايفهم منها أنها استلطفته ، نظراتها جامدة عابسة لايشغلها شيئ إلا ماجاءت من أجله فقط ، لذلك خاب ظنه هذه المرة فهو الذى كما يعتقد في نفسه أنه اعتاد على حب النساء لدرجة أنه أصبح المحنك في أمورهن وبأبسط الطرق يستطيع أي يوقع أية امرأة في براثن حبه مهما كان جمالها وقد أحب الكثيرات منهن وهن كذلك أيضا يميلن إليه ميلا، ولكن هذه السيدة كانت من نوع أخر لم يره من قبل لقد تسللت إلى نفسه وتسربت في دمه . ثم تنبه فجأة على قولها : هذا كل ماعندى وأريد أن سمع رأيك فيما قلت وأن أسمع نصيحتك ومايجب علىّ أن أفعله . تلعثم فى الكلام ولم يجد مايقوله لها حتى وفقه الله وقال لها : حسنا فلتتركى لى الأوراق حتى أتفحصها جيدا وسوف أقول لك ماذا سنفعل وقد يستلزم الأمر أن نجلس معا مرة أخرى وربما مرات حتى أقف على حقيقة كل شيئ . إنه كان يريد أن تطيل فى الكلام حتى يملى نفسه بالنظر إليها وعندما سألها عن سر عذابها بدت علامة استفهام كبيرة ظلت مرسومة على وجهها أزعجتها ولم تكن متهيئة للإجابة أكثر مما قالت حتى فاجأته منبهة : هذا كل ماكنت أقوله لحضرتك منذ قليل يبدو أنك سرحت ولم تسمعنى ؟ ، مرت لحظات صمت شعر خلالها بالخجل ثم قال : أنا أقصد أن تكلمينى عن حالتك .. عن نفسك كإنسانة . تنبهت لمقصد كلامه وبدأت مستعجبة متوجسة .. قلبت شفتيها بامتعاض ثم باغتته : حياتى كإنسانة ماذا تفيد في القضية ؟ . ارتبك وحاول أن يطرد شبح الإحراج ولكنه استطاع أن يرد عليها ردا مقنعا : نعم تفيد ، سيدتى هناك بعض الجوانب في حياتنا نسقطها سهوا ومن الممكن جدا أن تكون حلا للسبب الذى جئتى من أجله ، فغالبا مانهمل فى حياتنا أشياء قد تبدو لنا بسيطة ولاقيمة لها ولكن عندما ننظر إليها بعين الإعتبار ونضعها فى الحسبان ونستقصى عنها نجد أنها تفتح لنا أبوابا كثيرة من الحلول التى يكون لها التأثير البالغ والمباشر في سير قضايانا ، ولهذا السبب طلبت منك أن اسمعك أكثر حتى أحتاط بكل الخيوط التي توصلنا لحقك المشروع ونرفع الدعوى ونكسبها بإذن الله . اقتنعت بوجهة نظره وبدأت تتأنى فى حديثها إليه . استطاع بمهارته أن يحول مجرى الحديث إلى ماتحبه نفسه غير أحاديث العمل ، بدأت تشعر معه بشيئ من الإرتياح أعجبها فيه أنه كان يتحدث بلباقة غير معهودة وأنه واضح كل الوضوح .. لماح جدا شديد الذكاء في فهمه للأمور التي تعرض عليه .. حيث جاءت أفكاره منظمة ومرتبة وسلسة وأعجبها أيضا أنه كان على سجيته ، حتى فى حركاته وسكناته .. لباقته في الكلام جعلها تقتنع بكل ماكان يقول . وهو أعجبه متابعتها بشغف لكل كلمة يقولها وتبدو علي وجهها نواجز ابتسامات مريحة جعلته يسترسل أكثر وأكثر ، فوجد كل منهما لذة في حديث الأخر إذ كان الحديث ذا شجون ورفعت إليه عينين ترقرت فيهما دمعتان كأنهما اللؤلؤ ، ثم قامت وحيته مستأذنة وتركته على أمل أن ينظر فى كافة جوانب القضية ثم يقول لها مايجب أن تفعله . 


مرت هذه المقابلة مر النسيم العليل الذى يهب رخاء على خميلة جميلة فيحيلها إلى جنة غناء ، يومها شعربحب كالسحر الذى يعلو على كل وجدان ، ويسموعلي كل أحزان ، ويضفى النشوى والطمأنية فى الأحلام . كما سمعت منه مايطريها سماعه واستسلمت لمتعة التجربة الجديدة فلكم تخلفت كثيرا عن كل الأشياء التي كانت تتمناها ولاتأتى بحواس اللمس والشم والنظر بل بالإحساس ، ولكنها كانت تستعرض في خيالها كم الصبر الذى واتاها بعد صدمة عنيفة قاسية تبخرت معها كل أمانيها وأحلامها التي صورت لها السعادة والحب التى طالما كانت تنتظرهما وعلقت عليهما آمالها ، إنها ومنذ فترات كثيرة مرت لم تعد تحلم أو تفكر مثلما كانت تفعل فيما مضى وهى تتلمس أطراف السعادة وتتمرغ في لفائف الهنأة والسرور سابحة في دنيا وردية جميلة حالمة ساهمة قبل أن تتزوج بهذه الزيجة التى أسهدتها وأفسدت عليها حياتها ، فلتترك لنفسها فرصة التعرف ريثما تتحرك مشاعرها مرة أخرى في حياة جديدة ، وكان يجول في خاطرها قصص المطلقات التي قرأتها والتي سمعتها ، والتى قاست فيها المرأة مر الحياة  حتى انتهى بها الأمر بافتراق مؤلم لعلاقة توجع القلب ، وأي حظ عاثر هذا حين تأتى عليها لحظة تواجه فيه مصيرا مفروضا عليها الأفضل فيه أن تغادر .. أن ترحل .. أن ينفك العقد الذى كبلها بحياة كلها أوجاع فى أوجاع لتنتهى حكاية من حكايات الصبر ، لتظل بعدها حبيسة ذكريات الألم والقهر والظلم والعنف ، فلايوجد مايؤذى مشاعر المرأة أكثر من إهانة أنوثتها مثل علاقة الزوج بامرأة أخرى أوالخيانة أوالتعدى على حقوقها المادية ، الأمر الذي يمكن أن يدخلها  إلى نفق مظلم ، ويحول تفكيرها للإنتقام ، وتجعلها تستهين بكل شيئ حولها ولاتفكر في المستقبل بل وتعمل على تدمير حياتها المقبلة ، وهى بذلك تنتقم من نفسها دون دراية وتجعل حياتها مهددة بالخطر النفسى والصحى الذي يمكن أن يدخلها في دوامات المرض المميت . إنها لم تنس أنها عاشت واحدة من حكاياتهن التي تحطمت فيها أجمل آمالهن على صخرة الحياة عندما تزوجن بمن لايليق بهن ولايتفق معهن طباعا وميولا وفكرا ، كأنهن لايحملن قلوبا تشعر وتنبض بالحياة والحب . وفى النهاية يتعرضن للعديد من المشكلات بسبب نظرة المجتمع لهن وهى نظرة دونية بأنها امرأة فاشلة لأنها فشلت في أن تستبقى زوجها أو هي فاشلة من البداية لسوء اختيارها .

عودتها حياتها ألا تثق في أحد حتى تثبت لنفسها مايطمئنها ويبعث في روحها الراحة والأمان والسكينة ، أرادت أن تستعلم من ابن عمها ماأعياه فهمها عنه ، تريد أن تسمع منه مايطمئن قلبها الذى تحركت مشاعره نحوه ولاتريد فى نفس الوقت أن أحدا يكسر بخاطرها مرة أخرى ولن تسمح لأى مخلوق أن يخترق ستائر عواطفها بعد ذلك دون أن تتأكد من صدق مشاعره وتسأل عنه حتى لايتكرر حظها العاثر وتتألم بقدر ماتألمت وتحملت سادرة صابرة على جزعها بما شاء الله وكتب لها ، وأنه أجدى لها ألا تكرر هذه التجربة المريرة من أن تكون كل يوم في منزل زوج جديد يصدمها ويسبب لها أوجاعا هي في غنى عنها ، ذهبت لمكتب ابن عمها ودفعت بابه حتى دلفت بسرعة إلى داخله دون استئذان ، ألقت بأوراقها على مكتبه ، فسألها مذهولا : ماهذا ؟ قالت : إنه صاحبك يريد أن أذهب إليه مرات أخرى إلى مكتبه ، قال : وما العيب في ذلك ؟ قالت : لقد شرحت كل شيئ وتركت له نسخة من هذه الأوراق التي تعينه في فهم القضية ، قال : هل قلت له هذا الكلام ، قالت : بالتأكيد ولكنه تحجج بأنه يريد أن يسمع منى أكثر . قاطعها : وما المطلوب منى الأن ، قالت : طالما هو صديقك أريد أن أعرف منك انطباعاتك عن شخصيته  إننى أراه غامضا رغم سلاسة حديثه ، ينظر لى كلما تكلمت بنظرات تبدو لى غريبة .. نظرات تحمل معانى كثيرة لم أتبينها بعد ولاأريد ، ثم أن طلبه أن أحدثه عن حياتى كإنسانة جعلنى أتوجس منه أكثر . وضع ابن عمها رأسه بين كفيه ومسح شعره إلى الوراء بقوة وتنهد بعمق وطلب منها الهدوء وقال لها : سأتولى هذا الأمر بنفسى ، رفضت رفضا قاطعا وقالت : ولم لاأتولاه أنا بنفسى أنا لست عاجزة حتى أشغلك بمشاكلى ، قال : إذن اسمحى لى أن أعرفك مجملا بالأستاذ ، واستطرد : هو محامى لاغبار عليه الكل يعرف إنه ماكر في تحليل قضاياه .. داهية في مرافعاته لم يعهد عليه أنه خسر قضية ، ولكنه كصديق حياته فارغة تماما لم يشأ أن يتزوج ولا يريد لأنه يملؤها بكثرة علاقاته مع النساء وكفى ، إنه لايعرف في حياته غير المحكمة ومكتبه واحتساء شرب القهوة ولهوه مع النساء وماتبقى يجعله لأصدقائه يجلس فيها معهم كى يحكى لهم أخر تطورات مغامراته فى علاقاته النسائية  . تنهدت بعمق وكأن بركانا في صدرها يكاد ينفجر في كل شيئ حولها من هول ما سمعت وكانت تتوقعه ثم قاطعته جازمة : إذن صحت كل ظنونى بأنه كان يريد أن يضيفنى إلى قائمة حسنواته طلب منى أن أذهب إليه في مكتبه لكى ينصب شباكة لأمرأة رآها فى موقف ضعف ، إننى سأعطيه درسا لم يره في حياته وسوف أفرغ فيه كل شحنات حياتى المضطربة المتراكمة بداخلى في وجهه ولو لم أفعل ذلك لبقيت نادمة إلى الأبد ، سكتت في محاولة يائسة أن تهدأ ، وأنهت كلامها وقالت : كل الرجال هكذا صور متكررة من بعضكم البعض ، بدا ابن عمها في ذهول ولم ينطق بكلمة . مضت لحالها ومازال ذهنها في حالة تفكير مستمر،  تفكر في كل شيئ حولها .. أعياها التفكير وتعقدت بها الدنيا مرة أخرى وراحت تسأل نفسها هل هو يستحق ذلك العناء ؟ تعرف جيدا أن ثمة غضبا ثائرا انطلق من داخلها تجاهه وكأنها أرادت أن تنتقم لكرامتها من زوجها في صورته هو .. تريد أن تقتص لحقها الضائع من كل رجال الدنيا . سيطرت عليها حالة من الضيق الشديد يكاد يخنقها من خلال ماعرفته عنه حجبت أي مشاعر للحنين كانت قد ربت بين أضلعها ناحيته ، وفى غمرة الحال التي تمر بها وعدم استقرارها النفسى والعاطفى كان صعبا أن تقرر شيئا غير أن تجعل علاقتها به علاقة موكلة بمحاميها فقط وعليه أن يقيم لها دعوى طلاق من زوجها وكفى . 


ثم كان اللقاء التالى الذى جاء برغبة ملحة منه بحجة أنه يريد مناقشة بعض التفصيلات ، وما أن جاءت حتى ابتسم لها في رفق ثم أشار لها بالجلوس على المقعد المجاور لمكتبه ، ونادى على ساعى مكتبه أن يتجه إليها ليعرف أي مشروب تفضل ؟ ولكنها رفضت ، اقترح عليها أن يطلب لها فنجانا من القهوة معه قاطعته بحدة : أنا لاأحب شرب القهوة ، فنظر إلى الساعى وقال له إذن أحضر لها كوبا من عصير الليمون . مازال وجهها على حدته متجهما على حاله وقالت له : أنا لاأريد احتساء أي مشروب ، حضرتك طلبت منى الحضور ألم تجد في الأوراق مايكفى حتى نجلس مرة أخرى ، فأشار برأسه وقال : نعم لم تكن كافية ، فهناك بعض النقاط أعيانى فهمها وأريد منك توضيحا أكثر لها ، قالت : حسنا سأحكى لك مرة أخرى ولكن ستكون الأخيرة فأرجوك اسمعنى جيدا ، قال لها : تفضلى وأنا منصت لك وكلى آذان صاغية . تنهدت بعمق وكأن ثوران البركان الذى في صدرها يريد أن ينفجر لتتحول بمشاعرها إلى حمم مشتعلة تتطاير شظاياها في وجهه بشدة ، ربما كانت تريد أن تستجمع كل أحداث السنوات البغيضة التي انقضت من عمرها مع زوجها التائه في غيه حتى تاهت خارطة حياتها وتبعثرت فوق أمانيها المتعطشة والتى ابتلعت مرارتها ، لاحظ ذلك على وجهها الذى تفصد العرق من على جبينها بغزارة واحمرت وجنيتها احمرارا شديدا ، حتى أشفق عليها وحاول تهدئتها ، تنبهت لحالها فاخترقت لحظات الصمت التي سرحت فيها قبل حكيها وحاولت السيطرة على انفعالها وإخماد مابداخلها من اضطراب ليعود إليها الهدوء نسبيا فاسترسلت وحكت : لقد تمت خطبتى عن طريق العائلة ، كان وسيماً وطموحا وذا أخلاق عالية .. ملامح من إعجاب فارط مما تتمناه أى فتاه فى الدنيا . بعد التعارف وفي فترة الخطوبة اقنعنى فيها بشخصيته الدافئة الجذابة بكل مقتنياتها، أعجبنى فيها الأسلوب الراقى ، وحسن التدبر للأمور والشياكة في التعامل مما جعلنى أنبهر بشخصيته وأتمسك بالإرتباط به نفسيا ، وبعد فترة بدأنا في تجهيزات شقة الزوجية وتجهيزات حفل الزفاف اقتربنا فيها أكثر وأكثر من بعضنا البعض ، وكان عطوفا يشجعنى على عملى ويلبي لى جميع احتياجاتى ورغباتى ، ولم يظهر عليه أي سلوك شائن أو طبع سيئ ، وتم الزواج وعشت أياماً جميلة، كانت أسعد أيام عشتها معه . وكانت حياتى تسير بشكل طبيعى ولم يكن هناك مايعكر صفوها سوى بعض المشكلات اليومية وهو أمر طبيعى يعانى منه كل بيت فالحياة ليست وردية وسلسة كل الوقت ولاعصيبة كل الوقت ، وكانا قادرين على تخطيها بشكل جيد، لكن بعد فترة أصبح التفاهم بيننا يضمحل شيئا فشيئ حتى أصبح أشبه بالمستحيل ، ومع ذلك كنت أكتم فى نفسى مرارة اختيارى له وأتغاضي عن هذه المشكلات التى يأتى معظمها من أتفه الأسباب فيجعلها ضخمة من لاشيئ حتى يتسع عراها وتستفحل مداها كل يوم ، مما جعل حالتى تسوء بسبب معاملته لى التي أخذت شكلا أخر ومنحى لم أكن أتصور أنه يصل بنا حالنا إلى هذا الوضع الوضيع ، وكثيرا ماكنت أذهب غاضبة لمنزل عائلتى بسبب طريقته وأسلوبه الفظ في التعامل التي كانت تميل كل يوم إلى الأسوأ ، وفى كل مرة كان والداى يلحان علىّ بالعودة وأن أتحلى بالصبر والتؤدة من أجل عدم خراب البيت رافضين تماما فكرة الطلاق وأنها لم ولن تحدث مطلقا في عائلتنا . عدت لكى استقر في بيتى ، وكان منتهى أملى أن ينصلح حاله إلا أننى لاحظت حينها أن زوجى بدأ يتغيب عن المنزل بالأيام بحجة أن ظروف عمله الجديد تضطره إلى ذلك ، وبدأ يسافر كثيرا دون إخبارى ، وبعد فترة لاحظت أنه أصبح يمتلك أموالا كثيرة مثلما كان يتغيب عن المنزل كثيرا ، وعندما سألته قالي لى أنه يتكسب هذه الأموال من عمله الجديد ، لكن بعد فترة بدأ الشك فيها يساورنى اكتشفت أنه كان يتردد على شقة في المنطقة ولما تتبعته وسألت عرفت إنها ملك لسيدة مسنة تجاوزت الستين عاما تقيم فيها بمفردها ، ولما واجهته بهذا لم ينكر وقال لى : إنه يخدمها من واقع الواجب الإنسانى ، ولكن كثرة ذهابه إليها جعلتنى أشك أكثر ودب بيننا شجار وخناقات كثيرة حاصرت حياتنا بمشاكلات لاقبل لنا بها بسبب عدم وضوح الرؤية طالت شكل العلاقة الزوجية من جذورها ، وبعد تدخل الأهل والأصدقاء انتهينا إلى أنه من الممكن أن نحضر لها ممرضة تقوم على خدمتها رغم أنه ليست لنا بها أى صلة قرابة أو معرفة ، وبالفعل أحضرنا لها جليسة مسن كى تقوم على خدمتها وهدأت الأمور نسبيا ، ولكن عاودنى الشك مرة أخرى من تصرفاته الغريبة وتلفيقه بحجج واهية وأكاذيب كى يجد منسربا لخروج آمن من المنزل وتفسيرا مقنعا لتغيبه عنه فلاحقته وتعقبته حتى عرفت من الجليسة أن علاقتهما غريبة ، ليست علاقة إنسانية فحسب بل علاقة أشبه بالعلاقة الزوجية ، ولما سألته ثار في وجهى قال لى أنه تزوجها لأنها ثرية ، وأنه منتظر أن يأتي أجلها حتى يورثها ونعيش معا فى نعيم ، حاولت مرارا وتكرارا أن أثنيه عن فكره البالى البغيض وأن يعود لرشده ولصوت العقل والضمير وأكدت عليه بأننى لن أعيش من أموال حرام ، ولاتكون سعادتى على انقاض أحد ، ولكنه كان يزيد في عنادى ولما بلغ السيل الزبى وجدت نفسى لااستطيع أن أتحمل أكثر من ذلك ولا أدرى ماذا أفعل ، وأننى في جحيم أبحث عن كيانى الضائع وسط زحام مبهم تائه ، تحملت فيما تحملت سنوات وأنا على هذا الحال في انتظار أن يعود لصوابه ويتنبه لصوتى الدافئ الذى يستجديه أن يشعر به ويفهم لغة عيونى وحرمانهما الطويل ، كم تمنيت لو يتنبه إلى حزنى ويمنحنى حبا يشع نوره في جنبات قلبى الحالك ، ولكن حاله كان دائما يمضى إلى الأسوأ . حتى سدت كل الطرق أمامى فى إصلاحه فطالبته بأن يطلقنى ، رفض وثار في وجهى ولم يرض ليس لحرصه على ارتباطه بى ، وليس من أجل أن يشعرنى بالأمان الذى تعاهدنا عليه يوما ، ولكن لإذلالى وإهانتى وكثيرا ماكان يقوم بتعنيفى وضربى حتى أذيت منه أشد الإيذاء ، وقال لى : لن أطلقك وسأجعلك هكذا مثل البيت الوقف ، تركت له المنـزل وذهبت لمنـزل أهلى ليس لغضبى فحسب ولكن لكى أبحث عن سبيل فك ذلك الوثاق الذى أحكم قبضته حول عنقى ويكاد يخنقنى خنقا ، والداى تنبها أخيرا لتعاستى ورأيا حالى الذى بدأ فى تدهور مستمر طال حالتى النفسية والصحية . استدعى والدى ابن أخيه بحكم أن لديه الكثيرين من المستشارين والمحامين الكبار فى شركته الكبيرة التى يديرها ، فما كان من ابن عمى إلا أنه تحدث عنك بصفتك أكثر المحامين مهارة وفطنة وشهرة وأنك الأقدر على رفع هذه النوعية من القضايا وكسبها بأقل مجهود وأقل زمن ممكن ، ووعدنى إنه سيحدثك عن مشكلتى ، بعدها بيوم أعطانى رقم هاتفك وعنوان مكتبك وأشار علىّ بأنى أهاتفك قبل أن أذهب إليك حتى يتم تحديد موعد ، ولكنى فكرت أن أذهب إليك مباشرة ، وعندما جئت لمكتبك لم أجدك وسألت عنك وعرفت من السكرتارية أنك تعتاد ارتياد المقهى المجاور لمكتبك وللمحكمة ، فتوجهت إليك دون أن اسأل نفسى كيف جئت إليك مباشرة ودون سابق ميعاد ولماذا لم أهاتفك أولا قبل المجيئ كما قال لى ابن عمى ، لذلك خجلت من نفسى ، وترددت عندما سألت عنك النادل ..فما كان منى إلا أن غادرت المكان فورا بعد أن أخبرنى بأنك موجود وسوف يذهب ليخبرك بوجودى خارج المقهى . وفى أثناء عودتى عاتبت نفسى كثيرا .. كيف فعلت ذلك ولم؟! وأنا لم أعرف عنك شيئا ولا أنت أيضا ، ثم سألت وعرفت بعد ذلك من ابن عمى بعد أن هاتفتك وسردت عليه مادار بيننا فى موضوع رفع الدعوى ، أن علاقتكما ببعض ليست علاقة عمل فقط بل أنكما أيضا أصدقاء وكان يثنى عليك ثناء حسنا وقال فيك ماقال ووصفك بأنك المحامى المحنك الشاطر ، وأنه لايثق فى استشارات أحد سواك وأنك الوحيد الذى تستطيع الوقوف بجانبى فى إقامة هذه الدعوى والخروج بها وبى من هذا النفق المظلم إلى مرفأ الأمان ، لذلك تحدثت معك بثقة مطلقة وبلاقيود وشرحت لك همى وحزنى وقلت لك سر تعاستى فأنت لا تعرف معنى أن يبقى المرء صامدا طول الوقت ، يواصل حياته اليومية صامتا وهو يتألم ، يبتسم أمام الجميع وفي قلبه أنين وبكاء ، يتعامل مع الناس رغما عن رغبته في الهروب والإنعزال عن العالم ، يساند الجميع وهو فى أشد الإحتياج لمن يربت على كتفه ، ويدفعهم للأمل وهو فاقده . وعندما قابلتك أول مرة ومضيت حدثتنى نفسى بتوجسات .. نظراتك لى جعلتنى استشعر بشيئ من الرهبة والخوف .. فالمرأة لديها حاسة سادسة فى فهم الرجل وقراءة ماوراء النظرة .. أى نظرة ، احسست فتنبهت فوجدت أن مايحيطنى من مشكلات لن تتركنى لأفكر كثيرا ، فظروف حياتى جعلت قلبى هشا .. محطما تماما غارقا في حزنه وتعاسته ، وبعد أن حدثتنى نفسى كثيرا انتهيت إلى أن مثل هذا القلب لن ولم يعد يصلح لشيئ ولاأعتقد أنه سيميل لأحد مرة أخرى فقد أخذ نصيبه من الدنيا ولم يعد له أمل في الحياة . ثم ران عليهما لحظات صمت عميقة ، راح هو فى توجس يفكر ، ياترى ماذا عرفت عنى وكيف فسرت نظراتى إليها وهل هى تقصدنى بهذا الكلام أم مجرد استرسال عن وصف معاناتها وظروف نفسيتها المحطمة ؟! . أدارت وجهها نحو الحائط ، وكان المصباح المعلق فوق المكتب يلقى على جانب وجهها وشعرها الجميل ضوءه الشاحب ، فبدت كأنها مرسومة فى لوحة حزينة ، ثم فجأة أدارت وجهها ناحيته ، فرأى عينيها تلمعان بالدمع ، مد أنامله وسحب منديلا من العلبة الموجودة على المكتب وأعطاها إياها لتمسح به دمعها ثم ابتسمت ابتسامة بلهاء مالبث أن تقلص وجهها فجأة وعاد في جمود . أقصى ماتمنته ظنـونه أن كثرة تقصيها عن متاعب حياتها أنها زادت من شجونها ، ولكن فى نفس الوقت كان أكثر ارتياحا أن حكيها الفضفاضة زادت من اكتشافاته لكثير من أسرار حياتها وظن انه لم يعد هناك مايمكن ان يشد انتباهه ويثير تساؤلاته أكثر مما سمع ، فربت عليها عاطفا وحاول أن يطمئنها وأن قضيتها بسيطة وسوف يفعل مافى وسعه حتى يحقق لها حريتها ويرد لها كرامتها . لم ترد عليه وتأهبت للإنصراف ، وقفت والتفتت إليه وقد استبد بها القلق وتصاعد لهاثها المحموم وصاحت غاضبة : نسيت أن أذكرك بأننى افشيت لك بأسرارى على أساس أنه من صميم عملك ولا انتظر منك تعاطفا لحالى فأنا هنا مجرد موكلة وأنت المحامى الكبير ولايجوز أن ترفع الكلفة بيننا ، وأن هناك من المسافات والحدود مالا يجب أن يتخطاها إحدانا ، وبالتالي وبما أنها علاقة عمل وليس أكثر من ذلك أود أن أعرف ماتود أن تتقاضاه نظيرأتعابك في رفع الدعوى . لم يتفاجأ من وقع كلماتها حيث تولدت بداخله بعض الشكوك أثناء سرد حكايتها أنها تقصده ، ولكنها نزلت عليه كصاعقة السماء وهز رأسه متعجبا كيف انتقل حديثها للنقيض دفعة واحدة وبهذا الشكل وحولت الأمر إلى ردود وإنفعالات متباينة ، فليست النظرات سُبة حتى تبدو بهذا الإنفعال الذى لامبرر له ، وسأل نفسه ياترى هل توقعت أننى أخطط للتقرب منها أو الإرتباط بها لأصارحها بحبى لها قبل أن يستوعبنى فكرها وهى مازالت خائفة من تكرار ماحدث لها وخاصة أنها تعيش فى معاناة كبيرة الأن . يالها من تعاسة بشر يخافون الفرح ويفسدون على حياتهم لحظات ممتعة دون أن يدروا بأنهم يخسرون سعادتهم وهى أمام أعينهم ، ثم راح في لحظات استعاد فيها هدوءه وقال لها : تذكرى سيدتى أن المحاماة مهنة الوجهاء ، وأن هذا المكتب الوثير الذى كنت تجلسين فيه الأن إنما جاء عن جهد وكد وتعب وحبى لهذه المهنة ولكبريائى الذى لاأرضى عنه بديلا ولاأرضى لأحد أن يتعرض له مهما كان وضعه بالنسبة لى ، فليس كل شيئ عندى يقاس بالماديات ، ولاأتصور أننى تكلمت يوما مع أحد وكلائى في مسألة الأتعاب ، فأتعابى الحقيقية لاأضاهيها بالمال ، فهى أغلى من ذلك بكثير ، وإنما أحصدها من فرحة مظلوم جعلنى الله سببا في براءته ورد حقه المسلوب ، كما أعى جيدا أن في قضايا النساء المعنفات مثل حالتك أننى أكون ملتزما تمام الإلتزام بحزمة من الأمور أعيها جيدا الأمانة ، والشرف ، والاستقامة ، والاعتدال، والصدق، والضمير المهني ، والنـزاهة، وبالطبع بجانب الكفاءة ، واحترام وكالتك لى نظرا لحساسية هذا النوع من القضايا ومدى تأثيرها على حياة المرأة ، ولكن لاريب مادمت تتحدثين عن أتعاب فسوف أطلبها من ابن عمك ، ردت عليه بكل حدة : آسفة أنها مشكلتى وأنا سأتولى أمرها بنفسى ، رد عليها والدهشة لازالت مسيطرة عليه : إذن يمكنك أن تسألى عنها السكرتير أثناء خروجك فهو من يتولى هذا الأمر كلية ، وأشكرك على تشريفك لى . فارت الدماء في عروقها ، وباندفاع خرجت من عنده . أحس بمدى فداحة التغيير الكبير الذى طرأ عليها فجأة وبلا سبب ولا مقدمات في هذا اللقاء عن اللقاء الأول الذى شعر فيه بجو من الشعر والهوى الذى يشع نورا حولها ، وغراما يغمرها جعله يحلق في جو مبهج ممتع مشبع بكل الأحاسيس الجميلة التى يملؤها الحب ، فإذا به يشعر بأنه متجهمة طول الوقت ، صدته أكثر من مرة أثناء حديثه معها ولم تأبه لذلك بل استمرت في إعراضها ، وبدت وكأنها لاتشعر به ولاتحس له وجودا وأخيرا تعمدت إهانته في مكتبه . عاد فى ذات الليلة إلى بيته مكدودا موجع القلب حاول أن ينام لعله ينسى أو يتناسى حالتى الضيق واليأس اللتان انتباه فارتمى في فراشه ، ولكن الأرق لاحقه حيث احتشد في رأسه شريط حياته كلها وأخذ يعيد تقييم نفسه حتى عصفت به الأفكار واستعصى عليه النوم فقام من نومه متثاقلا ، واتجه إلى الشرفة ومعه كوب من الماء ارتشفه حتى أخر قطرة وأخذ يتطلع إلى الفضاء الفسيح أمامه إلى أن ملأ صدره بالهواء ثم أخرجه مرة واحدة في زفرة قوية ، لعل الهواء يأخذ معه في خروجه بعض أحزان قلبه ، ولكن الأفكار الحاشدة لم تجعله ينام بل أسهدته حتى بدت بشائر نور الفجر تتهادى لصباح يوم جديد لم يعرف ماذا سيفعل فيه سوى أنه سوف يهاتفها حتى يعرف منها سبب التغيير المفاجئ التي بدت عليها البارحة .


لم ينم ولم يجد لديه القدرة على القيام بأى عمل في هذا اليوم ، حيث فرغ نفسه تماما لكى يهاتفها ليعرف سر هذا الغموض الذى اكتنفته فجأة ودون سابق إنذار وأعايه تقديره وفهمه . هاتفها ولم ترد ثم كرر الإتصال بها أكثر من مرة ولم ترد ، ثم أغلقت هاتفها وأحس فى صدره بلذعة محرقة لايدرى أهى لذعة الكبرياء المحطمة ، أم لذعة شغفه بها ، ثم قال في نفسه وهو نهب للإنفعال والحنق : لابد أن أحطم كبرياءها . أما هي فقد تركته نهبا للظنون قاصدة إياها ، وقالت في نفسها : ليتنى باغته عندما هاتفنى وأرد عليه وأدخل في الموضوع دون تمهيد وأعطيه درسا لن ينساه أبدا ليتنى فعلت ، ولكنه كمحامى عنده كل أساليب المراوغة وسيعرف حتما كيف يتملص بمهارة . فكرت أن تغير ملابسها وتذهب إليه ، كان لديها تصميم حينما قررت ذلك ، ثم فعلت . تحركت بسيارتها مشتتة الذهن تعقد سيناريوهات لحوارات ماسيئول إليه هذا اللقاء .. سيل من الحوارات ترتبها في ذهنها ليصل إليه كما تريد ، لن تعطيه فرصة للعب بمشاعرها، ولن تسمح له بغسيل الذهن الذى يحترفه . ثم ضحكت بسخرية من نفسها وعضت على شفتيها بقوة وقالت : هذا ماكان ينقصنى أن يحدثنى عن مغامراته ، كنت لاأتصور أننى سأخدع مرة أخرى في إنسان مدى رؤيته للحب ألايعرف من معناه سوى الأخذ .. الأخذ دون عطاء ، أى أنانية أكثر من هذا ، وحتى ولو أحبنى من كونى إنسانة نظيفة وهو يعلم يقينا أنه لا يستطيع أن ينال منى لكونى من عائلة لها أصول طيبة وكريمة ، فهل كان سببا كافيا أنه اختارنى دون البقية من الحثالة التي يعرفها لغفران زلاته وعلاقاته . انهمرت دموعها باكية حظها العاثر ، مضت مسرعة حيث اتخذت الطريق المؤدى إلى الكافيه الذى أعتاد الجلوس عليه ، وتماما كما توقعت ، تأكدت أنه هناك حيث وجدت سيارته في الباركن المجاور جنحت بسيارتها ثم ركنتها بجانبها ، حاولت استجماع قوتها وإصرارها على ماهى مقدمة عليه . نزلت من السيارة ثم ترجلت حتى بلغت باب الكافيه وفتحته ودخلت بخطى ثقيلة مترددة ، ألقت نظرة سريعة على المكان تبحث عن وجهه بين الوجوه القليلة المتواجدة ثم أخذت تحدق بعينيها حتى رأته يجلس في ركنه المعتاد أمام منضدته المخصصة له في أخر الزاوية البعيدة وبجوار كفه فنجان القهوة يتصاعد منه البخار يرتشف منها رشفات تملكتها عصبيته . أخذت نفسا عميقا . هزت رأسها تحاول لفظ مافى صدرها من زفير انفاسها المتهدجة ولم تدر كيف قطعت خطواتها إليه حتى تفاجأ بوقوفها أمامه ، حاول السيطرة بأن يبادرها بالحديث كما يفعل دائما  ، ولكنها بادرته وهى فى قمة انفعالها

- تسمح لى لماذا تتصل بى رغم اننى كنت واضحة من عدم ردى أننى لاأريد محادثتك ولا سماع صوتك ، وعلاقتى بك لاتتعدى سوى علاقة موكلة بمحاميها فقط ، وأعتقد أن تفاصيل قضيتى كلها عندك الأن ولست فى حاجة لتفاصيل جديدة بعد أن حكيت لك بالأمس كل شيئ .

- قال لها : اجلسى من فضلك واسمعينى ، قاطعته بحزم .

- اسمع أنت ماسأقوله لك أنا هنا ليس لشغفى بمعرفة ماكنت تريد ان تقوله ، ولكن آسفة على نفسى إذ أننى رضيت أن أجلس معك وحكيت لك حكايتى ، ولن ألوم عليك ولكن ألوم على ابن عمى الذى كان يعرف عنك كل شيئ وأرسلنى إليك .

- قال لها : الناس هنا تنظر ، أجلسى وبهدوء من فضلك .

- قالت : لايهمنى من هنا ولاأظن أن هناك مناسبة تستدعى جلوسى .

وفى رقة حالمة تفصح عن أشواق ذائبة أعاد بنفس لهجة الإستمالة وكأنه يزن كلماته قبل أن تخرج من فاهه 

: وهل ترين أن هذا لائقا .. أرجوك قولى لى ماذا قال لك ، وأتمنى أن تسمعينى ولو لأخر مرة ، يوجد لدينا في المحاكم مبدأ وحق مشروع يسمى حق الدفاع عن النفس ، ألا استحق أن أمنح إياه . لاحظت احمرار وجهه وعيناه ترقرقت بالدموع . اضطربت أحاسيسها بين الإقبال والإدبار ، تلاشت البراءة من كلماتها لتصر على عنادها مع بريق عينيها وهى تقول :

- إذا كانت حياتك هكذا كما سمعت تعج بالنساء وتستهين بعواطفهن من أجل نزواتك وإضاعة وقتك على حساب مشاعرهن ، فكيف آمنك على أسرارى وأثق في قدراتك على حل مشاكلى ، إننى أعرف مابرأسك .. وأعرف أيضا عنك مالا يعرفه أحد . ثم سالت من عينيها دمعتان صامتتان . استوقفها مرة أخرى وبلسان رطب جميل قائلا : 

- أرجوك أعطينى الفرصة ليس دفاعا عن نفسى بقدر أن أوصل لك معلومة أننى طوال حياتى العملية وحتى هذه اللحظة لم أقم بأى علاقة من أى نوع مع موكلاتى ، فأنا لست ممن يستغل ظروفهن وهن فى أشد الحاجة لمن يقدر معاناتهن فى وقت صعب لايحتمل ، صحيح لى علاقات نسائية وهذا لايعنى أنى كنت سعيدا بها ، بالعكس كنت أقيم علاقتى بهن من أجل سد فراغ الوحدة والعزلة التى كانت عنوانا لحياتى ، ففى كل ليلة عند أوبتى للمنـزل كنت أشعر بوحشة وأبدو كما لو أننى أبتعد عن الناس والعالم ولم يكن هذا باختيارى فلا أحد يريد أن يبتعد ولا أحد يريد أن يعيش فى عزلة ، ولكن هناك أشياء قدرية تجتمع وتنفرد بنا لتعذبنا وتقلقنا وتجعل ليلنا نهارا ونهارنا ليلا .. ماأقساها الوحدة وماأتعسه الأرق ، فكنت أهاجر من نفسى من أجل أن أشعر بنفسى ، وفى ذات الوقت كنت مهموما بالأخرين ، فكنت أهرب منهم وأهرب من نفسى بهذه العلاقات التى كانت لى بمثابة سد فراغ للذى كنت أعاني منه كى لاأشعر بثقل الوقت وبطئه ، ورغم ذلك أنا لاأبرئ نفسى من كونى مخطئا بالعكس بدأت منذ البارحة أن أشعر بفداحة هذه العلاقات وأثرها البالغ على شخصى من خلال نظراتك لى وتلميحاتك أثناء كلامك عند وصف معاناتك التى أعيتنى فى فهمها وتقديرها ، وكنت محتارا أشد الحيرة هل أنا المقصود بها أم زوجك . ولك أن تعرفى - وأنا لاأريد أن أجنى شيئا من وراء ماأحدثك به الأن - أن هذه أول مرة منذ أن عملت فى مهنة المحاماة وهى مهنة مقدسة بالنسبة لى أن أجد نفسى مشدوها لأحد ، فأرجوك رجاء ملحا أن كل ماأحتاجه منك فقط هو منحى القليل من الصبر.. صبرك على من يريد أن يقدم لك الدنيا على طبق من ذهب إن استطاع ، لأنه ولأول مرة يشعر بكيان أحد ويكون مهتما بأن يقدم لك الكون كله على صفحة واحدة وصفا لما يحمله من مشاعر جميلة وطيبة لم يشعر بمثلها من قبل ، يريد أن يقدمه لإنسانة يستطيع أن يقول لها كل مايريد .. يستطيع أن يرى الناس بمنظورها ويحكم على الناس من خلالها .. وفى كل القضايا أن يستشيرها بلا خوف ولااحتراس ، هذا ماأردت أن أقوله وفى ذلك الكفاية وأنا مسئول عن كل ماقلته ، لقد تغيرت الدنيا فى يدى وفى عينى .. حقيقى لقد تغيرت . 

لم تستطع أن تنطق بكلمة بل اضطرب كل شيئ في جسدها وبدأ يرتعش إنها تود لو تغوص في باطن الأرض ، حاولت أن تتماسك وقالت له : أنا الأن لست في محكمة وليس لى شأن بكل الذى قلته ، ولن تستطيع أن تؤثر علىّ أرجوك دعنى وشأنى . 

- قال : إذن لن أستطيع أن أحمل عليك أكثر من هذا ، كان منتهى أملى أنك تسمعينى لأخر مرة ووعدتك بأنى لن اعترض طريقك وسوف أكون صارما فى تنفيذه ولن ترانى مرة أخرى وسأختفى من حياتك تماما بعد أن أنهى لك القضية بإذن الله .

 وفى لحظة خارت فيها عزيمتها ذاب كل ماكان بداخلها من إحساس القلب وثورة العقل لذلك الرجل الذى خطف بصرها نحو غيمة ضبابية تاهت فيها بعيدا عن الدنيا ، امتقع لونها .. تخشى لو أنها تعود إليه ثانية منقادة تحت تأثير الهاتف الداعى الجديد الذى وجد منسربا إلى قلبها ليفرض عليها إحساسا أصبحت تخشاه ، ولكن ثمة شيئ مثل النور أخذ يبرق بين ضلوعها جعلها تهتف من داخلها تقتحمان فيه كل شيئ ، ورغم تمنعها إلا أن قلبها اتقد حتى لان له ورق لحاله بعد أن استشعرت صدق كلامه . شردت ببصرها بعيدا وقالت في نفسها وكأنها تخاطبه : أإلى هذا الحد تسللت الى كل ذرة في عروقى وتسربت في دمى ، إننى لم أعد قادرة على الخلاص منك . 

لاحظ شرودها والدموع طالت خديها ، فدعاها للجلوس ولو بضعة دقائق ، انساقت للجلوس معه على أقرب كرسى وأخذت ترمقه في نظرات طويلة محدقة في عينيه تريد أن تقنع نفسها بصدقه هذه المرة : لابأس تفضل قل ماتريده . 

بدأ يتحدث متلعثما وكأن الكلمات استعصت عليه ولاتريد أن تطاوعه فهذه أخر فرصة له معها ، بدا مرتبكا عيناه زائغتان تلمعان بالدمع وبصوت مختنق قال : إننى عندما جلست مع نفسى البارحة بعد أن غادرتى مكتبى ، وجدت أننى لم أكن أنا ولاأعرف من أنا ، وكنت كالتائه الذى لايعرف له سبيل ، من أين أتى وإلى أين يسير ، راجعت نفسى وواجهتها بعنف ، عانيت فيها ماعانيت ، وعشت بإحساس مكتئب وكنت مثل الغريق الذى جرفه تيار شديد فغمره بحر لجى ولاتزال روحه تجابه عمق الحياة ولم يهتد بعد سبيلا للنجاة ، وكنت مثل من أصابته صاعقة من السماء أحرقت كل شيئ حوله ومازال يعانى من كثافة دخانها المتصاعد حتى خنقته ولايعرف كيفية الخلاص ، وكنت مثل من ضرب حياته زلزال فزلزلته وحولت توابعه لحطام ، وعندما هدأت نفسى وعدت إليها انجلت الصورة القاتمة التي كنت أعيش عليها وبصرت أشياء لم أرها من قبل وكأنى ولدت من جديد ، عندئذ كم تمنيت أن أجلس معك لأقول لك كم أنا خجلت من نفسى وتمنيت أن أقول لك كل هذا الإحساس الذى زخم بعقلى وزم قلبى فجأة عن حقيقة نفسى التي تغافلت عنها في حياة زائفة لاتروى ظامئا مهما كانت مترفة .. للأسف هذه حقيقة حياتى المضطربة قبل أن التقى بك أول مرة حيث كان قلبى ساحة كبيرة يحتشد بالحسناوات من اللاتى كنت استطيع حشرهن فيه حشرا مهما أزداد عددهن ، ولاأخفى عليك سرا عندما تحدثت معك هاتفيا كان وقع صوتك غريبا على نفسى .. كان حديثك ذا شجون .. وبإحساس مختلف وخاصة بعدأن عرفت منك إنك جئتى لمقابلتى فى الكافيه ولم أكن أعرف أن من جاءت وسألت عنى هو أنت، ومن شدة إعجابى بك وبأسلوبك فى الحديث وحوارك السلس الذى ينم عن شخصية رائعة من خلال هذه المهاتفة فكرت أن أفسح لك ركنا لتقبعى في قلبى بجوار من كن يقمن فيه ، ولكن بعد أن رأيتك راجعت نفسى كثيرا وأمعنت التفكير في طريقة وأسلوب إدارة حياتى كلها وتأكدت أننى كنت مخطئا إذ وجدتك من النوع الذى لايقنع بركن في القلب ، بل كنت أشبه بالدولة الغاشمة التي تحاول التوسع والتمدد حتى يضيق بها العالم على سعته ، وانشغل تفكيرى بك بشكل وهيئة مختلفة عما كنت أفكر فيه فى علاقاتى مع الرفيقات قبل أن أراك ، وبعد تفكير مشتت أجريت فيه مقارنة ظالمة بينك وبين من سبقك منهن وجدت أن مكانك يتسع في قلبى مذ أن وطأت قدماك مكتبى ووقع عينى عليك إذ قمت بطرد معظم ساكناته منه حتى وجدت قلبى وقد خلا إلا منك إذ أنك ملأتيه واستحكمتى كل جوانبه ، لم أكن لأتصور أنه سيأتى يوم الذى أحب فيه حبا حقيقيا وصادقا ، ولم يخطر ببالى أنه سألتقى بك يوما وأنت فى غياهب الغيب مجرد فكرة لصورة الإنسانة التى تمنيت أن ألقاها يوما ، لذلك جاء غرامى هذه المرة من نوع جديد .. نوع ملك علي نفسى روحى وقلبى ، وعلمنى أن هذا هو محراب الحب الذى أصبح يأوينى حتى عرفت دهاليزه وخباياه ، وأن ماعرفتهن فيما مضى وكنت أظنه حبا لم يكن إلا نزوات من اللهو واللعب لإضاعة الوقت والتسلية وسد الفراغ الكبير الذى كنت أعيش فيه . لقد كان تيار الهوى في هذه المرة جارفا فياضا ، إذ أننى لم أعد أرى غيرك . 

غاص قلبها في صدرها ، وحدثت نفسها : ماهذا الذى أسمعه ، هل هو درب من دروب الخيال ، إنها لاتكاد تصدق أن تحولا كبيرا أجراه على حياته الماجنة التافهة من أجلى ، حدقت به طويلا تتفحصه ثم تضمه في عينيها ، وبعد صمت طويل . 

قالت : ولكنى أنا كما قلت مسيطرة لاأحب المشاركة وغاشمة أريد الاستيلاء على ماأحب أن امتلكه حتى ولو بالقوة ، تعرف لماذا تملكنى هذا الشعور معك وكنت قاسية عليك أشد القسوة ؟ قال لها : لماذا ؟ قالت : لأنى أعجبت بك ووجدت معك الراحة التى طالما كنت أنشدها ، ولاأدرى كيف حدث هذا لأنى كنت قد عزمت ألا يدخل حياتى رجل أخر ، ولكن عندما رأيتك ومن الوهلة الأولى أحسست بإحساس غريب سرى في كيانى وسيطر على كل حواسى ، حاولت أن أكذب نفسى ، ولكنى وجدت أننى أفكر فيك دون إرادتى ، وتعجبت كيف حدث هذا ومن مرة واحدة ، أن يولد إحساس من رحم الألم والمعاناة ، ثم خفت من تكرار التجربة ، ورحت أسأل ابن عمى عنك وكنت شديدة التحفظ والحرص معه حتى لا يفهم من كلامى مايفضحه إحساسى الوليد بك ، ولكنى فؤجئت بما قاله عنك وجن جنونى ، وتحول الإحساس إلى غضب ، والغضب تحول إلى غل ، والغل شل تفكيرى وشتته وجعلنى لا أفكر فى شيئ سوى الانتقام من زوجى فيك حتى أرتاح ، وفى ذات الوقت انتقم منك لكى أثأر لكل من كنت سببا في عذابهن . ولك أن تعرف أن طبيعة حياتى كانت ضد كل هذا ولم أكن أعرف بعد شكل ومعنى الغضب والإنتقام والغل ، بل كانت أحلامى في الدنيا بسيطة للغاية ولا أظن أننى تمنيت فيها أكثر من حب صادق يملأ قلبى ويفيض ، والمرأة عكس الرجل قلبها ليس ساحة تقبل الكثيرين .. فإذا ما أحبت حبا صادقا أخلصت فيه ولاتريد من الدنيا سوى إسعاد من تحب لدرجة استعدادها أن تضحى بكل شيئ من أجله بل وتكرث له حياتها وتعيش على ألاتكون إلا له وحده ، وفى نفس الوقت لاتحب أن أحدا يشاركها فيه . ثم سكتت وبدا في عينيها لحظة استسلام لعواطفها التي جاشت .

 انبسطت أساريره ولم يعد يصدق نفسه ماسمعه ، مد يده فضغط على يدها برفق .. ونظرحوله فإذا بالمكان قد خلا إلا منهما ، وإذا بعينيها تخاطبان عينيه لتقولان لهما : هنا لاتقع العين على غيرى وغيرك . ومسك يدها بين يديه ، ثم يرفعهما إلى شفتيه ليمسها مسا رقيقا ، ثم يرفع رأسه للسماء ليشكر الله على نعمته عليه .. نعمة الإفاقة ونعمة الحب .  


تكررت لقاءتهما ، كانت في بادئ الأمر تتم في مكتبه حتى استطاع أن ينهى القضية لصالحها حيث انتصر لها وبحكم بات ونهائى حكمت به المحكمة تم طلاقها من زوجها للضرر لتدعوها الحياة من جديد كى تشتم حريتها وتخط لنفسها خطا جديدا تسير عليه ، ثم بدأ يتحركان معا خارج حدود المكتب ، نشأ بينهما حبا كبيرا وفى أول لقاء جلسا في كافيه أخر قريب طلب لنفسه فنجانا من القهوة وفى تردد سألها أن تشاركه فى احتسائها ، رفضت وقالت له : اعترف بأني لم أكن مغرمة بالقهوة ولكنى بعد ذلك كرهتها لأن طليقى كان مداوما عليها لدرجة إدمانه لها، مع تدخينه للسجائر فكليهما كان يشربهما بشراهة ، قال لها : ولكن أنا أحب احتساء القهوة وهى تحقق عندى نوعا من الراحة وتضبطنى نفسيا ، لمح علامات الاستياء على وجهها وقالت له فاجأتنى ولكننى سأحاول ، ولم تعقب بأكثر من هذا ، أشار عليها بأن يطلب لها مشروب أخر ، قالت له لابأس سأشرب كوبا من عصير البرتقال الطبيعى ، فطلب لها ثم سادت بينهما لحظات كان جلوسهما فيها صامتين ، أدركت هي أن دقائق عديدة مضت ولم ينطق أي منهما ببنت شفة حتى جاء النادل حاملا للقهوة وشراب البرتقال وقال لهما تفضلا ، ثم وضع مايحمله على المنضدة أمامهما بكل أناقة وانصرف ، بدأ يرتشف قهوته في صمت وهى أمامه تراقبه بعيون حانية . كان السكون مشجعا على الاسترخاء .. حالة من الصمت البليغ شعرا كل منهما تجاه الأخر خلاله بالرضا والراحة لدرجة أنهما لم ينبسا بكلمة واحدة ، فلغة الصمت أحيانا تكون أكثر بلاغة من الكلام ، وخاصة أن سحب السماء بدت في هذا الوقت وكأنها تعاطفت معهما حين ظللت لهما المكان وهما على صمتهما يجلسان في هدوء . فأشرقت في نفسيهما شعاع من نور خفى .. لقد عرفا الحب الحقيقى ، وبالنسبة لها كان هذا هو الشيئ الذى كانت تلهث وراءه منذ أن كبرت ثم حرمت منه عند زواجها ولم تكن تحلم أنها ستقابله يوما بعد أن خاب أملها فى أن تحياه حيث شاءت لها ظروفها ألا تعيش سوى تجربة وحيدة لم يكتب لها النجاح بل خلفت لها الألام والأوجاع ، ولكنها الأن أصبح في حوزتها ، لقد تأكدت من حبه لها من أعماقه ، كما أحبته هي أيضا ، لقد تعاهدا معا على الحب إلى الأبد وأنه سيعوضها عن كل سنين العذاب التي تجرعت فيها من الأهوال ماتجرعت وتحملت من العذاب ألوانا ما ينوء بحمله الجبال ، وآن للعالم الساحر لهوى الحب أن يفتح أبوابه أمام عينيها . وأدركت أن الحب الحقيقى لم يعد صعب المنال ، بل أن الأمر على العكس من ذلك تماما فقد شعرت به يسرى في كيانها ولأول مرة ، بيد أنه إحساس مختلف تماما عن ذلك الإحساس الطاغى الذى كانت تحلم به وتتمناه يوما ولم يتحقق ، أن يظل قلبها فيه ينبض ويدق على رأسها بقوة ويؤرقها بالليل والنهار ويحول حياتها كلها إلى وهج الحب ، فقد عاشت وهمه فقط فى قصص العاشقين ، كما نالته فى أحلامها وأمانيها حينما كان ذهنها يسرح في أحلامها الياقظة مع ماكانت تسمعه من أغانى ، وتراه فى السينما ، وما صوره له خيالها أنها تتذوقه وتنساق إليه وتعيشه فى متع خيالها ، ولكن وهج الحب ماهو إلا لحظات حادة وعنيفة ومتحمسة فقط عند بداية الشعور به والذى غالبا مايحدث في مراحله الأولى ، والإنسان لايمكن أن يكون حادا أوعنيفا أومتحمسا كل الوقت ولا طول العمر ، لذلك أدركت في مرحلة النضوج النفسى الفرق الكبير بين هذا وذاك حيث تحولت بكامل عواطفها نحوالحب الذى يتسم بوضوح الرؤية والعقلانية الذى لامكان فيه للأحلام والتخيلات النرجسية ، فلاتوجد رومانسية الشمس الغاربة في الأفق كما كانت تقرأ وتسمع عنه فى قصص وأشعار العاشقين ، ولايختلقون موسيقى تعزف في الخلفية كما كانوا يتخيلون ، إنما ماحدث كان أمرا واقعيا وكانت تستشعره ببساطة مستمتعة به حتى فى هدوء هذا الصمت وذلك السكون المرتبطين بعدم وجود أي هدف آخر سوى أن يكونا معا ، وراحت تقول في نفسها مستغربة أى قوة دفع أوقوة جذب شديدة قادتها إلى هذا المقعد لتجلس معه وتصمت بل وتستمتع بهذا الصمت ، أخذت تلتفت حولها لتقرأ بعين فاحصة جمال المكان الذى تحول إلى جنة من الفردوس حتى استقرت عينيها عليه فوجدته ينظر إليها بابتسامة رائقة بشوشة ترقرق لها وجهها وهو ينظر إليها . وبنفس درجة الإحساس كان يشعر هو كذلك بسعادة مفرطة ووجد نفسه مثل رجل خلق للأجواء الباردة ودفعته ريح قوية نحو خط الاستواء .

مرت أيام عاشا فيها أجمل أيام عمرهما ، فاجأته ذات مرة وقالت له : هل تقبل عزومتى ، قال : حسنا ، رغم أننى كنت سأعتذر عن الحضور اليوم لوجود ارتباطات ، قالت : ارتباطات أهم منى قال : بالطبع لا ألايكفى أننى معك الأن ، أنت أهم من كل ارتباطات الدنيا كلها . ضحكت ثم قالت : كان سيفوتك أجمل مفاجأة أظن أنها ستعجبك كثيرا ، والأن ماذا تحب أن تشرب ، فاجأته بذلك السؤال الذى أشبه بالأمر وهو لم يعتد منها أن تكون هى البادئة بطلب المشروبات ، وغير ذلك أنها تعرف طلبه المعتاد الذى لم يشأ أن يغيره قط هو حبه لاحتساء القهوة ، أما هو فكان يعرف جيدا عدم حبها لها فقال : لاداعى لذلك سأطلب أنا ، كررت السؤال بإصرار أكثر كأنها لم تسمع رده : ماذا تريد أن تشرب ؟ صار عليه أن يجيب على السؤال مباشرة ، قال : مثل ماتطلبين بالضبط ، وتوقع أنها ستطلب مشروبها المفضل عصير البرتقال الطبيعى ، ولكنها جذبت نفسا عميقا ثم ابتسمت وقال في رقة : تصور كنت افكر فيك وأنا احتسيها وحدى ، ما رأيك لو تتناول معى فنجانا من القهوة . نظر إليها وقد تملكته الدهشة والفضول وكأنه لايصدق مايسمعه منها وفى غمرة من الفرحة العفوية قال – أحقا أنت تحتسين القهوة ، كيف حدث ذلك ومنذ متى ؟! ، إننى لاأصدق ماأسمع . وبلسان رطب جميل يشوبه شيئ من التودد – حدث ذلك منذ أن جربت احتساءها وعجبتنى وارتبطت بها وارتبطت بى تعرف لماذا ؟ قال : لماذا ؟ قالت : من أجلك أنت ، لانك معى وطالما أنت معى وأنت تحب القهوة فلابد أن أحبها مثلك، وكما أنك تحب هذا المكان ، وأن هذا المكان يجمعنا معا إذن فهو عندى أجمل مكان في الدنيا ، لذلك سألت وقرأت عن مدى شغف المحبين لاحتساء القهوة وعرفت مدى العلاقة الحميمة لعشقهم لها ، فكم كانت للقهوة باع كبير وقاسم مشترك فى حوارات قصص المحبين حيث عشقوا ارتباطهم بها لأنها شاهدة على هذه الحوارات ويجدون فيها سلوتهم ، فوجدت للقهوة مكانا ومذاقا في نفسى بعد أن اكتشفت أن رائحتها تبقى عابقة في المكان مما يؤثر على المزاج العام ويجعله فى أوج الإنتشاء ، فوجدت أن احتساءها يستحق المغامرة اليومية بعد أن حققت معى أشياء غريبة منذ أن شربتها أول مرة ، فمع كل رشفة كنت أجد نفسى سارحة بمتعة الإرتحال عبر الخيال للأشياء الجميلة التى أحب أن أتذكرها وأنا شاردة بذهن صافى ، ودهشت كيف أن رائحتها وطعمها يأخذانى إلى المواطن الجميلة من منابع الذكريات ، فوجدت نفسى أتذكر ماكنت أهوى أن أتذكره فى كل لحظة جميلة قضيتها معك . قال لها وعلامات السرور لم تغادر وجهه بعد – أصبحت شاعرة ، قالت : عن ماذا ؟ عن الكلام عنك أم عن القهوة أم عن الحب ، قال : عن ارتباط كل هذا معا حتى أضحت شيئا واحدا ، أراها فيك .. فى عذوبة وحلاوة ابتسماتك .. فى نور عيونك اللتين تملأ النفس بالأمل وألمح فيهما نظرة الشوق والحنين والحب .. فى سكونك وحركاتك ولفتاتك .. وفى جمال حديثك الممتع الشيق ، ابتسمت وقالت : نعم قيمة الارتباط أنه يجعل هناك توحد فى المشاعر والاحاسيس ، ولكن هذا يتوقف على أن يكون الحب صادقا ، وعندما يكون كذلك صار عشقا يوقظ هاجس الإحساس ثم مايلبث أن يتحول لكتلة من شعور رقيق فياض يظهر في محاكاتنا له في كل ماهو جميل وراق سواء كان : فنا ، شعرا ، رسما ، أوغناء ، حتى حبك للقهوة عرفت الأن من أين أتى ، إنه من هذا المنظور ذاته . نظر لها بإعجاب وكم راقه بلاغتها الراقية وفلسفتها في الحب وكلامها عن القهوة التى كانت تبغضها إلى حد الكراهية فإذا بها تتحدث عنها بمنطق العاشقين ، كل هذا جعله يفكر مليا في روعة الحب وجماله الذى لم يعهده في نفسه من قبل .. حب أسمى بكثير من ذلك الحب الذى كان يباشره على سبيل النزوات لمجرد التسلية ، وراح يعقد المقارنة الذى رآها بعد ذلك أنها ظالمة بين الحب الذى تعوده من قبل وكان يتسم بكثير من الأنانية ، وبين مايحس به في حالته الجديدة التي يود فيها أن يعطى أكثر مما يأخذ وهو الذى كان يأخذ ولا يعطى فكان شعوره نحوها مليئا بالرغبة في إسعادها وفى إزالة تلك اللمحة الحزينة من نفسها وكان يتمنى أن تكون لديه القدرة على تهيئة أسباب الهناءة لها .



كان دائم الحمد شاكرا لله أن وهبه تلك النعمة التي أنعمها عليه حين وجد أخيرا من ستسكن قلبه إلى الأبد ، كانت السعادة لاتسعه بل تعدى ذلك بكثير إذ رأى نفسه أنه ليس من أهل الأرض ، وأن خياله الشاعرى الرقيق يحمله ليطوف به محلقا فى السماء على بساط من حرير . ولكن بعد فترة شعر منها بتغير مفاجئ عجب له إذ لم يكن فى حسبانه البتة ، حيث بدت تصرفاتها معه فيها غرابة شديدة ، كما باتت فى أغلب الأحيان غير مفهومة ، أحس بأنها بدأت تحجم نفسها عنه ولكن بشياكة فكانت تختلق من الأعذار مالم تقنعه أسبابها ، وحتى إن حضرت لم تكن واضحة في تصرفاتها ترق له حينا ثم فجأة تشيح بوجهها عنه معظم الأحيان ، وتتجهم كثيرا ثم تسرح بعيدا وعندما يسألها مابك ، كانت تنظر إليه وتطيل النظر ثم تهب واقفة تريد مغادرة المكان ، وكثيرا ماكان يلمح في عينيها كلاما لم تقله ، وكلما همّ أن يستنطقها تدمع عيناها ، حتى احتار في أمرها ليسأل نفسه : إذ لم أكن متأكدا من حبها لى فما معنى كل اللحظات الحلوة التى عشناها معا كأجمل مايكون الحب وأروع مايكون الغرام ، ومامعنى الساعات الطوال الى كانت تقضيها معى كلما هاتفتنى أن تتحدث بحلو الكلم عن مواقفى الرقيقة معها معبرة عن حبها لى . بات يسأل نفسه كثيرا ويدهش وكانت لشدة دهشته من تصرفاتها التي أنكرها عليها صدى كبير في نفسها إذ أنها تعلم ماتفعله فأبت عليه ذلك وراحت تتجمل أمامه فى محاولة إخفاء أمر استعصى عليه فهمه ، فإذا بها تقبل عليه وتجلس معه وفى كل عودة كانت تعود معها رقتها وعذوبة حديثها الذى كان يطريه ، فينسى كل ماكان من إنكارها له ويقبل عليها بكل شغف وينسجما معا مرة أخرى ، وكانت تمنحه أثناء ذلك ابتسامة عذبة يرى فيها ألف معنى .. ابتسامة رقيقة كلما التقت نظراتهما وكأنها تريد أن تطفئ بهذه الإبتسامة ماأضرمته حوله من نيران الشك والريبة في تصرفاتها التي كان يرى أنها عجيبة المنشأ . بدأت علاقتهما تسوء بشدة حيث مضت فى غيباتها ولم تشأ أن تقابله ولم تعد تود أن تهاتفه وعلى مدار أيام كثيرة حاول أن يهاتفها ولكن لاجدوى فكان يجد هاتفها دائم الإغلاق عن عمد . حتى أعياه الفكر بعد أن أصبحت هذه الغيبات طويلة اختفت فيها عن بصره ، وافتقدها هنا وهناك ، تعب من كثرة التفكير وأعياه ما كان يختلقه من أسباب يحاول أن يقتنع بها حتى تستكن له نفسه وتهدأ . افترض أنها مازالت تعانى من الحالة النفسية السيئة التى خلفتها تجربتها المريرة السابقة فانعكست عليها بهذه التصرفات التى أحكمتها ولم تعرف كيفية التخلص منها ، أو أنها خائفة أن يتكرر معها ذلك مستقبلا بنفس سيناريو ماضيها ، أو أن سبب غيبتها كما أخبرته ذات مرة باقتضاب أنها مريضة ، فكان يشعر بالأسى يتملكه كلما تخيل أن مرضها أمر واقع ولم يعلم به وأنه ليس بالإمكان أن يفعل شيئا حتى يطمئن عليها لأنه لايملك حق زيارتها أو مواساتها فى مرضها وهو الذى لو خير لافتداها بعمره كله ، فيلوم نفسه لوما شديدا . لقد ضاق عقله من زخم الإفتراضات حتى ضاقت به الدنيا كلها ، ولكن كل ماكان يخشاه أنها كانت تخدعه بسراب حبها ، وأنه أخطأ حين وهبها من قلبه ماوهب وهى فى هذه الحالة لاتستحق إلا الإهمال والبعاد . وفى ذات مرة وعلى غير العادة فاجأته واتصلت به وطلبت منه أن تقابله على عجل ، والتقى بها وحدثته عن نفسها فأدهشه أن يعلم منها أنها كانت تعالج من المرض الذى حدثته عنه قبل ذلك وأنها فى مرحلة الاستشفاء ولكن لم تبد له أية تفصيلات تجعله يصدقها ، فقد كان لايبدو عليها أي أثر لمرض ، اللهم إلا لمحة الحزن البسيطة ، وذلك الأثر الخافت من الضعف الذى يلمحه في عينيها والذى لايستطيع المرء أن يميزه إلا من قرب وبعد طول تحديق ، وأنه ليس هناك أية علامات تعطى انطباعا بأنها مريضة أو عانت حتى من نزلة برد خفيفة ، فهو يراها أمامه بطبيعتها التى كانت عليها منذ أن عرفها أول مرة ولايرى ثمة أثر لتغيير طرأ عليها ، فقال وهو يحدث نفسه : هذه حجة واهية أن تبررتصرفاتها وغيباتها الطويلة واختفائها المفاجئ بأنها كانت تعالج من مريض لم تفصح عنه بل وتدعى أنها برئت منه ، أي مخبول يقبل هذا  . بدأ يتخبط في ظلمة الشك والحيرة ويحس وبالضيق يزم صدره زما . فكر جديا في الابتعاد عنها ولم يجد أمامه وسيلة أفضل من فكرة السفر للخارج ، ورسم لنفسه خطة بأنه سيطلب مقابلتها ثم يقول لها أنه تلقى خبرا أزعجه من طبيبه المعالج بأن لديه بعض الشكوك حول مرضه التي لم يقدرها في حالته وأنه طلب منه إجراء بعض الفحوصات والتحاليل الطبية جعلته يشعر بحالة من الحزن والقلق والخوف ، وأن ذلك الأمر قد يتطلب سفره خارج البلاد نظرا لعدم توافر دقة هذه التحاليل فى مصر وبالتالى توجد فرصة أفضل فى إجراء فحصاته وهو بالخارج ، وأن ذلك سوف يستغرق وقتا سيغيب فيه لايعرف مداه . وقد فعل وهاتفها وردت عليه بعد عدة محاولات لم ترد فيها عليه وقص عليها أنه يريدها في أمر هام . جاءت مضطرة وقص عليها حيلته ، ولكنه تفاجأ برد فعلها عندما سمعت بمرضه وبفكرة سفره للخارج ، أن أخذتها نوبة من البكاء المريراجهشت فيها وراحت تسأله في استعطاف بالغ عن صحته وقالت – كيف حدث هذا ومنذ متى ولماذا لم تخبرنى به وكيف الحال الأن ، أرجوك تكلم أرجوك - قال : لاأعلم  - قالت : ألا تحب ان تحكى لى - قال : قد تكون الأحزان معدية وأخاف إذا أردت أن تسمعينى أن أنقلها لك ، وأنت عندك مايكفيك وزيادة ، أرجوك لندع مافى القلوب فى القلوب ، وهناك من الحكايات الكثير الأفضل لها أن تظل طي الكتمان ربما يأتى اليوم التى نسترجعها ونتناول تفاصيلها إذا كان في العمر بقية أو يسترجعها إحدانا ولكن على طرق الحنين .. نتسلل لخواطرنا بين تنهيدة وغصه .. بين ذكرى حلوة عشناها يوما لخاطرة أو قصة ستظل مبتورة الفصول .. ثم تمضي بنا الحياة كما يشاء الله لها أن تمضي . واصلت نحيبها فى مرارة وقالت: اطمن لقد اخذت نصيبى منها كاملا حتى صرت محصنة ضدها ، لم يعقب واكتفى بعبارة واحدة : أتمنى أن أراك على خير ، وإن لم يشأ الله فاذكرينى دائما بكل خير . ثم صمت وهى تنظر إليه تحثه على الكلام فقد بدا مترددا حتى قال لها : إننى انهيت اليوم إجراءات السفر إلى الخارج . أصابها الوجوم ولم تنبث بكلمة واحدة وكأن دوى قنلة انفجرت فى رأسها ثم انهمكت فى بكاء صامت يكاد يفنى فيه نفسها ، ثم مالبث أن تحول البكاء إلى مرارة هطلت معها دموعها بغزارة فانهمرت كالشلال المتدفق حتى انتفخت عيناها من كثرة البكاء - قالت : أهكذا هى النهاية ، كنت دائما وأنا معك أتوجس وأخاف ألاأجزع فى اللحظات الممتعة أن تفسد وتنتهى ، كنت أخاف الفرح من أن تأتى لحظة تغتال فيها البسمة ، إنى خائفة من المجهول .. خائفة ألا ترانى مرة أخرى . لم يفطن لمدلول كلامها ، ودعها على أمل اللقاء بعد شهور واستأذن في أن يتصل بها هاتفيا ورجاها أن ترد عليه أو تكتب له كلما راسلها ، لم تعده وفى نفس الوقت لم تمانع وقالت له : أتركها للظروف إن لم أرد عليك فسأل عنى صديقك .



سافر ورحل بعيدا كى ينساها ويستجم من حالات الأرق وسهد الليالى والفكر الذى كان لاينتهى وليس وراءه طائل ورأى أنه من الأفضل أن يواصل حياته رغما عن تعبه ومأساته وخيبة أمله فى حبه من أن يقبع في بئر الظنون ومنابع الحرمان ، رغم أنه كان لايتصور يوما أن تكون هذه هي النهاية ، وأنه يغادر المكان الذى ملأ به كل قلبه .. لقد استطاعت فى هذه الفترة القصيرة أن تملأ فراغا كبيرا فى نفسه ، وأنه أحس من فرط ماتعود على رؤيتها كأنه ولد معها ، ويشعر بضرورتها له ، ولا يكاد يشك لحظة أن مغادرته البلاد ستخرجه من أحزانه وأنه يستطيع أن ينساها البتة ، ولكنه أضطر لذلك لأنه شعر أن قدراته على التحمل خارت منه والشكوك حاصرته من كل جانب بل وأحكمت طوقها حول عنقه ، فكان لابد من خلاص . رحل وظل يكتب لها دون انقطاع طوال ستة اشهر كاملة ولم ترد عليه وطال به الانتظار طلبها في الهاتف وبعد مرات اتصالات كثيرة رد عليه صديقه الذى أخذ يجيب بجهد بالغ على أسئلته المتكررة وتحمل قدر ماتحمل عندما سأله عنها وعن صحتها وأحوالها ولماذا هى لم ترد عليه حتى قاطعه وقال له : أنها في المشفى . شعر بصدمة وسكت برهة ثم عاود ولح عليه فى السؤال عن مرضها ومتى حدث هذا وكيف وصلت حالتها الصحية إلى هذا الحد ، وإلى أي مدى وصل مرضها الأن ، رد عليه برد مقتضب : هى أفضل الأن ، وحاول الاستفسار أكثر ولكنه لم يفز بطائل ، ثم انهى المكالمة فى عجل بشكل جعله يستشعر بأن هناك أمرا يخفيه عنه ، قفز من مكانه وكأن به مسا من الجن ، حيث توجس من هذه المهاتفة وهذا الاتصال وحدثه قلبه بما لاريحه فانزعج وراح يستفسر عن أقرب ميعاد طائرة تقله للعودة سريعا .. إنه يشعر بحنين جارف لها ، وأن صبره قد نفد ، وأنه لم يعد فى طاقته الاحتمال أكثر من هذا فى غربة النفس والوطن والحب ، وراح يحدث نفسه كيف لايقف بجانبها وهى في هذه المحنة الصعبة ، ولماذ أخذته العزة بالنفس وتركها من الأساس . أخذ يؤنب نفسه كثيرا أنه تخلى عنها وعن حبه في أصعب الأوقات ، وأن الغربة أثبتت له أنه لم يكن فى استطاعته أن يحيا مع أحد غيرها ، وأنه ليس أمامه سوى أن يعود .. لابد أن يعود على الفور ليطمئن عن الحبيبة ودعا الله ألا يحدث لها أى مكروه حتى يلقاها .عاد فى عجالة واتصل بصديقه بمجرد دخوله المجال الجوى حيث هاتفه وهو فى الطائرة ، لم يكن لينتظر هبوط الطائرة في المطار حتى نقل له أخر أخبارها وأبلغه بما أسهده وجعل الحزن يسيطر عليه ، أن حالتها الصحية في تدهور مخيف . صمت لحظة ثم سأل عن اسم المشفى ورقم الجناح ورقم الغرفة التى تقطن فيها وألح في طلبه إلحاحا شديدا حتى أملاه بكل المعلومات الكافية . دخل بيته ليضع أمتعته وهو يخطط لزيارتها ، إنه لم يحتمل أن يبقى دقيقة واحدة ، فقرر أن يزورها فورا ، لم تكن سيارته جاهزة وماكان يقوى على قيادتها بنفسه إلى المشفى وهو في تلك الحالة من الخوف والقلق والترقب . طلب سيارة أوبرعن طريق الهاتف فانطلقت به إلى المشفى . حتى وصل ، جاوز المدخل والطرقة المؤدية إلى المصعد ، فوجد أن كل مصاعد المشفى مكتظة بالزوار لم يمهل نفسه أن ينتظر حتى تفرغ ففكر أن يصعد على درجات السلم ولكنه وجد أن الصعود للدور التاسع سيكون أمرا مضنيا ومرهقا للغاية ، فوجد نفسه دون أن يدرى مندسا بين أحد الافواج التي تدافعت الى داخل المصعد الهابط توا من أعلى حتى بدا وكأنه انحشر فيه حشرا ، لم يشغل فكره في هذه اللحظات أكثر من إحساسه بالنقص الشديد في كمية الأكسوجين التي تتناسب مع هذا العدد المهول من البشرالمكدس داخل هذه العلبة الصغيرة ، أخذ يرتل بعضا من آيات الذكر الحكيم حتى يبدد مخاوفه أن يحدث لاقدر الله مكروها إذا هوى بهم هذا المصعد المغلوب على أمره ، إنه لم ينس أنه مازال يعانى من فوبيا ارتياد المصاعد للأماكن العالية . تنفس الصعداء حين كتب الله له السلامة وخرج من بين هذه الجموع النافرة بسلام وأمان ، توقف في أول الردهة الواسعة التي يتفرع منه عدة ممرات التي بها الأجنحة التي تسكن أحد غرفها ، وقعت عينيه على لوحة أسماء المرضى وأرقام الغرف وراح يستعرض الأسماء حتى وجد اسمها في الغرفة رقم خمسة ، تردد في فتح الباب وفكر ماذا لو دخل عليها ووجد أحدا من أسرتها أوأقاربها وهو لايعرف أحدا منهم إلا صديقه فقط ، ولكن حالة الصمت الشديدة جعلته يتيقن أنه لاأحد يوجد بداخل الغرفة حتى فتح الباب بهدوء بعد أن طرقة بطرقات خفيفة ولم يجد مجيبا ، ثم دخل فوجد نورا خافتا للغاية كضوء الشموع ينبعث من خلف السرير ، ثم رآها ترقد في الفراش بوجه شاحب وجسد مرهق أضناه المرض وأحكم قبضاته عليه حتى بدا في هذا الهزال الدامى الذى أتى على معالم حسنه وبهائه . 

تسحبت خطواته حول السرير .. خطوات اربكتها دقات قلبه الذى مازال يلهث من اضطراب خاطره وقلقه البالغ . انتبهت على وقع الأقدام ، اقترب منها فكانت هي أو بعض ماتبقى منها ثم دنا أكثر وربت على رأسها المكدود المستلقى على الوسادة مهدل الخصلات كجناحى طائر أعياه التعب ، فتحت عينيها بصعوبة بالغة ولم تشأ أن ترفع رأسها من على وسادتها . نظرت إليه بعينين غائرتين ولكن كانتا محتفظتين بجمالهما الذى لم ير مثلهما منذ شهور خلت . لم تحفل به كما كان متوقعا حتى سألته وقالت له : من أنت ؟ بدت وكأنها لاتعرفه ، لم يتوقف عند ذلك فهو مقدر مايراه ولكن هاله كثرة البقع الزرقاء المنتشرة على ذراعيها من كثرة الوخز بحثا عن موقع مناسب لدس الحقن والأنابيب . أفاقت هنيهة وحدقت فيه مرة أخرى ثم قالت : هل يمكنك ان ترفع ظهر السرير قليلا ففعل ثم ساعدها لتعتدل واسند رأسها الى الوسادة . فتحت عينيها حتى وضحت لها صورته فانفرجت أساريرها رويدا ، وعلا ثغرها الشاحب ابتسامة حلوة أضفت شيئا من الطمأنينة على الوجه الساجى الذى بدا وقد ارتسمت أطيافه بفعل لثمات الضوء الخافت الضئيل المنبعث من خلف السرير الذى ترقد عليه ولايكاد يٌرى فطبع بمهارة فائقة على كل تقسيماته الجميلة هالة من نور فأضحت مشرقة المحيا وقالت : أنت .. أحقا أنت إننى لاأصدق كنت قد فقدت الأمل في أنى أراك ثانية .. متى عدت ، قال : عدت اليوم ، ولكن عودتى الحقيقية منذ أن رأيتك .. إننى لم اتركك لحظة واحدة فقد لازمنى طيفك الذى ظل ساكنا بداخلى .. إننى عدت لنفسى .. عدت لزمن الحب ، ضحكت بلطف وقالت له : لا أرجوك إننى أتكلم عن جد ، قال : ولم تشكين في كلامى إننى أتكلم بكل جدية وصادقا في كل كلمة أقولها لك الأن ، ثم حاولت ألا تقف على إصراره في مداعباته لها فقد رأت أنه يريد أن يشفق عليها وهو يرى أمامه حطام امرأة ، ثم سألته وهى تحاول تعديل هيئتها : طمنى عن صحتك ، هل أجريت التحاليل والفحوصات المطلوبة ، وماذا قال لك الأطباء في الخارج ، قال لها وقد لمعت عيناه بالدمع : أنا بخير المهم أنت ، قالت : دعك منى الأن فأنا لست بخير ، ألم ترنى الأن ، هل هى الإنسانة التي عرفتها والتي أحببتها من قلبك البارحة .. لاأظن ذلك ، قال : بل أفضل .. أنت مثل الأقحوانة الجميلة وسط خميلة هب عليها النسيم البكر بأنفاسه العبقة رخاء فنثر للدنيا حولها عبيرا يعبق ويتضوع ، ابتسمت ابتسامة خفيفة لاتخلو من الألم وقالت له انت كما أنت لن تتغير ، أنا لست في حاجة لغزل الأن . قال لها : إننى أقول لك مافى نفسى ولا أجمالك في شيئ ، هل رأيت أن هناك شخصا يستطيع أن يجامل نفسه .. لاأعتقد ، نظرت له في حنان بالغ وقالت له : وحشتنى ، كم تمنيت أن أراك ، ولم أشأ أن أكتب لك لأننى لم أعد استطيع أن أمسك قلما كى أكتب به ، وكم تمنيت أن تكون بحياتى .. حياتى التي تمنيت أن تفنى بقيتها معك ، وإن كانت حياتى وشيكة لأننى أعلم بحالتى الصحية جيدا ، ولكن كانت نفسى تقاوم وأنا أعرف إنها لن تستطيع وسيهزمنى المرض حتما ، ثم سكتت برهة سرحت فيما سرحت حتى عاودت الحديث وكان هو أثناء ذلك منصتا لها باهتمام بالغ ، قالت : هل تعلم لماذا كنت أقاوم ، قال : لماذا ؟ قالت : لأننى تمنيت الحياة من أجلك وتشبثت بها لذلك جاءت محاولاتى بين الكبح والإنفلات من أجلك أنت وحدك ، لأنك كنت تكمن فيها .. تكمن فى ذاتى كلها ولم أسأل نفسى يوما كيف تسللت إلى حياتى .. كيف تسربت فيها لدرجة أننى كنت أرى الناس بعينيك وأخاطبهم بأسلوبك المنمق البسيط ، لذلك كنت لاأريد لها ألما ، وبقيت وحدى أقاوم وأقاوم وأنا أعلم أنه لافائدة من ذلك .. وكنت أتألم من المرض وأتألم من الحب أيضا ، لأننى أيقنت أن الحب ماهو إلاحالة ألم دائم ولااستطيع أن أرى فى مقاومته سعادة غير تمسكى بالأمل بعد أن ذهبت عنى .. وكان الأمل الوحيد المتبقى لى هو انتظار أوبتك رغم أننى حاولت ابعادك عنى وكم كنت قاسية على قلبى عندما أبى ألايطاوعنى بل ظل يحبك أكثر وأكثر ، قال : لو كان يهمك أمرى إلى هذا الحد ماكنت تركتينى للشكوك تتلاعب بى والظنون تنال من حبى لك ، لاتعلمى كم تعذبت وحياتى ارتبكت بعد أن تركتك ؟ بدت في عينيها نظرات رقيقة تفيض بالعطف والحنو جعلته يشعر كأنه في حلم ، وأجابت في صوت أشبه بالهمس : لقد فعلت ذلك من أجلك ومن أجل حبى لك ، كم كنت أتألم من محاولات البعد عنك ، ولكن كنت أرى أن هذا أفضل من أن يتحول الحب الكبير إلى عطف وشفقة ، بل وأكثر من ذلك فكرت في حالك من بعدى وكيف سيكون ، وخفت عليك من الوحدة ورأيت أن تكرهنى وتنسانى أفضل مائة مرة من أن تعيش وتعانى من الحرمان . كاد هو أن يجن وقال لها ولكن كان من حقى أن أعرف ، فقد تسببتى أنى عشت أسوأ أيام حياتى عندما ساورنى الشك في تصرفاتك ومحاولات بعدك عنى ولم أكن أعرف لماذا ، ولا أعرف بحالتك ، والأغرب أننى لم أجد منك ردا واحدا يمحو ماكنت ارتاب فيه من شكوك سيطرت على عقلى وقلبى ، بالله عليك لم فعلت بى هكذا ! . صمتت ولم تجب وحاولت أن تغير مسار الموضوع فقالت له : تعرف أصعب شيء في الحياة أن تعيش بلا كذب ! نفكر دائما في بعضنا البعض بغير وعي وعلى درب غير معروف ، بعدت عنك ولم أكذب عليك ، إنما أنت كذبت علىّ من أجل شكك في حبى لك .. وشكك في حبى كان يؤلمنى أكثر من ألم المرض ، ولك أن تعلم أننى كنت أبعد عنك وقلبى ينفطر منى ، قال لها : كان بإمكانك أن تخبرينى ، فمن اكتوى بنار الحب يُقدر عذابه ولايتمنى أن يسببه لمن يحبه - قالت : وماذا كان يجدى أن أخبرك وقد تشككت فى حبى لك ولاشيئ يقتل الحب سوى كثرة الشك فيه وسوء الظن به ، قال : لا ياسيدتى .. الحب لم يكن سوى قلبين عطفا على بعضهما البعض وكما يتمنيان أن يعيشا حلاوته عليهما أيضا أن يتقبلا عذابه بكل الرضا ، وأنت تعلمى بمدى حبى لك وشكوكى إنما جاءت من تصرفاتك الغريبة وغير المقبولة التى كانت بلامنطق وأعيانى التفكير ولم أجد أمامى مفرا أو مهربا إلا أن أوالى بقية ماتبقى من فكر  لأستفسر عما غمض علىّ حتى أصل لتفسير مقنع لتقبلها أو أجد لك ولو مبررا واحدا يريحنى ، ومع ذلك لم أصل لشيئ وباءت كل محاولاتى بالفشل حتى تشتت أفكارى وكدت أجن، وكان الأولى أن أكون بجانبك ولاأتركك لحظة واحدة . خيمت على وجهها سحابة معتمة كبتت بها إحساسا بدا عليه نظرات مرهقة ، ثم رفعت رأسها فوجد فى عينيها عبرتين وعادت لتقول له فى صوت خافت وكلمات بطيئة متقطعة : تعرف كم كنت أتعذب فى غيابك من شدة أشتياقى إليك ، كنت كل ليلة تمرعلىّ ولم أرك فيها لاأتعذب فقط بل كنت أموت فيها مائة مرة لأنك مجرم عرفت كيف تسرق قلبى منى - قال : لا ، بل مغرم . ضحكت ضحكة كتومة أعقبها نوبات من السعال الجاف الذى أخد يعلو ويهبط بصدرها وبعد ان هدأت همست له في يأس : مغرم هذه أصدقها عليك لأنك كنت تعرف كيف تسلب للعذارى قلوبهن وكنت تعشق حب النساء كعشق احتساءك للقهوة ، وعشقت منهن الكثيرات اللاتى صادفتهن في حياتك وكان لايعنيك سوى إسعاد نفسك فقط ، فكان سهلا عليك طردهن من قلبك وتركهن ، لذلك كان من المنطقى جدا أن تتركنى أنا أيضا عند أول منعطف دون أن تتكبد عنان معرفة الحقيقة ، هل عرفت الأن كم أنت مجرم ، ربما هذه كانت طبيعتك التى كنت عليها قبل أن تعرفنى ، وكم كنت أتمنى بعد أن عرفتنى وأحببتنى أن بصيرتك لحبى لك يكون يقينا بداخلك .. إحساسا موثوق به غير قابل للريبة والتكهن والوهم حتى لاتأخذك الظنون لشكك فيه مثلما أخذتك لدرجة أنك تركتنى وسافرت لبعيد ، كم تمنيت أن يكون لديك الإصرار الكافى أن تدافع عن حبك بشتى الطرق مثلما كنت تدافع فى القضايا الكبيرة المبهمة التى كانت تستعصى على الكثيرين من كثرة الفروض التى كان يغلب عليها الظن والشك والريبة فإذا بك تثبت فيها جدارتك كمحامى له باع كبير فى مرافعاته القيمة التى ميزتك عن أقرانك و تصل فى النهاية إلى الحقيقة وتنتصر لنفسك ولقضاياك .. كنت أتمنى أن تتحرى حقيقة حبى لك وتهتم ومهما كانت تصرفاتى لأنك حتما كنت ستعرفها إذا حاولت ، أما أنا فلم أعشق غيرك ولم أهو سواك . ثم سكتت وهزت رأسها : ولكن ماذا يفيد الأن والعمر يتسرب من بين أصابعى . أومأ رأسه إلى الأرض ربما لايجد مايقوله ولكن همس لها : صدقينى أنا لم أعرف في حياتى غيرك وكل المتسربات اللاتى تتكلمين عنهن مروا في حياتى مر الكرام ولم تكن لصورهن أي أثر فى ذاكرتى ، ولم يدخل قلبى غيرك ولأن صورتك هي التي انطبعت في نفسى انعكست على قلبى وروحى أروع من أن يستطيع كائن في هذه الحياة أن يتخيل جمالها في نفسى مهما بلغ تصوره ، فحرام أن يكون هذا هو تفكيرك ونظرتك لحبى لك لأننى كنت أحاول أن أتلمس مايبرر تصرفاتك فقط ، ولكن أن يصل تفكيرك إلى هذا الحد فحبنا كان لايستحق منك ألا تضيعى لحظة واحدة في غير وصال . لاحظ أن بعض الضيق بدأ يكتنفها ويهدج أنفاسها اللاهثة فأراد أن يخرج بها من هذا الحديث الذى خلق جوا قاتما خانقا لاطائل منه . أراد أن يغير من دفة الكلام ويتحدث معها في أي حديث أخر يسرها . فوجد نفسه قد جلس أمامها وهو يود لو يغرق يديها ورأسها بقبلاته ، أراد أن يشيع جوا من المرح ولحظات من السعادة المستجداة وقال لها : ألا تذكرك القهوة بأجمل لقاءتنا ، قالت له : يبدو إنك تريد أن تداعبنى بقصة القهوة أياها ، إننى أتذكرها جيدا .. أتذكر أجمل مرة استمتعت باحتساء القهوة معك وكانت هي الأخيرة عندما كنا نسير بالسيارة وجنحت إلى جانب الطريق ووقفت فجأة ثم قلت لى : ألا تحبين أن نحتسيا فنجانين من القهوة الأن فقلت لك نعم ، وهممت أن تتركنى فى السيارة لتذهب وتحضر لنا القهوة وقلت لى : إذن عليك أن تنتظرينى هنا حتى أحضر فنجانين من القهوة الساخنة ، وقلت لك : لا بل سأحضر معك . ضحك باستمتاع ورد عليها : نعم يومها كانت السماء غائمة فقلت لك ولكن السماء قد تمطر ، فقلت لى بل سيكون ذلك ممتعا هيا بنا . ومشينا معا تحت رخات من المطر الخفيف ولاهينا مثل الأطفال الذين يعشقون اللعب تحت المطر . تساقط المطر والقهوة في يدينا جعلنا في عالم أخر ، عالم خيالي ساحر .. عالم شاعري ملىء بالحب والعشق ، أتذكر أنه دار بيننا حديث لطيف جدا حيث تحدثنا في أمور كثيرة وزاد حديثنا عن الزواج والعائلة والأولاد ، حتى انتهى الأمر بقبوله كفكرة ، ثم تم تأكيده وتحديده كأمر واجب لترجمة حبنا .. كان هذا الحديث هو أجمل ماتحدثنا فيه معا .. فيه متعة جاذبة عن قيمة الحب وخاصة أنه جاء مع احتسائنا للقهوة ورذاذ المطر فارتبط جمال هذا اليوم لدينا بأمانينا الحلوة وحب القهوة . ضحكت ثم قالت له : بلى فقد جاءت رائحتها في أنفى الأن ، فقال لها : ولاتحلو رائحتها ولا مذاقها إلا في وجودك ، إنها كانت تذكرنى بك في الأيام التي غبت فيها عنك وكنت أجد فيها السلوى وكانت كلما احتسيتها تخيلتك وأنت جالسة أمامى حتى استشعر طعمها في فمى ، فلا أجد سوى الحنين يجرفنى إليك من شدة الإشتياق ، فكنت أتذكر لقاءاتنا سواء في المكتب أو في الكافيه الذى اعتدنا جلوسنا فيه . سكت برهة عندما قاطعته فجأة وبادرته : مارأيك أن أطلب لك فنجانا من القهوة الذى تحبه الأن ، ولكنه واصل كلامه فى استمتاع قال لها : كنت احتسى القهوة ولم أكن مغرما بها إلا بعد أحببتيها من أجلى وأنت لاتحبينها ، ابتسمت ثم قالت له : نعم معك أحببت الدنيا كلها ولم اتناولها إلا من أجلك ولكننى الأن لم أعد استطيع ، منعنى الطبيب من احتسائها . صمتت وكأنها تفكر في أمر ثم قالت له : استأذنك في استدعاء الممرضة ، وقبل أن يهم لاستدعائها تصادف دخولها عليهما مبتسمة وكأنها كانت تسمع مادار بينهما من حديث ، تسللت بهدوء كى تجرى لها قياس ضغط الدم ونبضات القلب ، فطلبت منها ان تحضر فنجانا من القهوة ليس من البوفيه ولكن من ستاربكس ركن القهوة الموجود بردهة المشفى ، واصلا حديثهما بامتع مايكون الحديث حتى جاءت القهوة برائحتها الزكية فاغمضت عينيها وقالت له : اتفضل قهوتك ويكفينى أن استمتع معك بأننى سأشتم رائحتها فقط التى عبقت بالمكان كله ، وكم أنا حزينة أنى منعت من احتسائها . كان ينظر إليها وهو يرتشف فنجان القهوة ويتأملها في صمت ثم ينظر إلى عينيها الجميلتين اللتان كلما كان ينظر فيهما تشرق له الدنيا وتبتهج ، أخذت تنظر له وعيناها لاترتد طرفهما عنه إلا وفى العين بعض الدموع .. نظراتها الشاحبة ترسلان له كلاما صامتا وراءه أحاسيس متباينة هي التي هزت أعصابه هزا عنيفا ، فالنظرة بدت ساهمة واجمة حزينة كأنها نظرة الوداع . 

خرجت من صمتها فجأة وقالت له :إن رحلت عنك فتأكد أنى فعلت مابوسعى لأبقى ، ياترى ماذا ستفعل من بعدى ، هل ستذكرنى أم الأيام ستأخذك في دوامتها وتنسانى ، طلبى الأخير الذى أطلبه منك أن أظل عالقة بقلبك كبقايا وصال وألا تنسانى متى امتد بك العمر ، عش حياتك كما تريد ولكن حافظ على وجودى بداخلك وعهدى بك وبحبنا وأن تزورنى ، ثم أغمضت عينيها بأخر ماتكلمت به : خلى بالك من نفسك . المشهد ألجمه ولم يستطع الرد عليها ، تسمرت نظراته على عينيها المغمضتين اللتين كان يستمد منهما كل حب وحنان . ظلت عيناه شاخصتين على وجهها يتابع أنفاسها صعودا وهبوطا ، وفجأة أحس باضطرابها اضطرابا عنيفا وأنها بدأت تفقد القدرة على الحركة حتى أصيبت بإغماءة مفاجئة ، اقترب منها أكثر شبك أصابعه بأصابعها فأحس بخيوط المرض اللعينة تسحب عمرها الجميل من جسدها ويسربه منها ، رفع يديها إلى صدره واحتضنهما بقسوة وكأنه يحضن الدنيا بين ضلوعه ، لم يشأ أن يتركهما خشية من أنها تكون هذه اللمسة الحانية هى الأخيرة وأنه سيفقدها إلى الأبد ، فجعلهما في قبضته وأمسك بهما وأخذ يستنشق عبيرها ، أحس فى الدقائق التالية أن حالتها بدأت تزداد سوءا وامتنعت عن الكلام ، نبضها ضعف ، تنفسها أصبح بطيئا يتصبب منها العرق من فوق جبينها بغزارة ، سارع في الإتصال بالطبيب المكلف برعايتها الذى جاء مسرعا ، ثم استدعى طاقما طبيا كبيرا من الأطباء والممرضات فالحالة عادت متأخرة للغاية ، انشغل الطاقم الطبي في حركة واسعة في نطاق الحجرة الضيقة فبدت أشبه بخلية النحل الكل فيها يقوم بواجبه المحدد فى محاولات أخيرة دءوبة يائسة ، وعندما توقف قلبها فجأة وحال دون وصول الأكسجين إلى دماغها الذي توقف كذلك استخدم الفريق الطبي جهاز إنعاش القلب عن طريق الصدمات الكهربائة لتنشيط القلب التي خبت نبضاته وهو يصارع الموت في لحظات الرمق الأخير ، وأصبح هذا القلب الذى يحمل أرق المشاعر على وشك مفارقة الحياة . كاد يختنق ألما وهو يراقب الموقف عن كثب غير مصدق مايدور حوله ، وعندما حاول الاقتراب منها وصل إليها بشق الأنفس فوجدها تذوى حتى ذاب جسدها الهزيل .. اعتصر قلبه وهو يرى المرض يفترسها وشعر بمرارة وأنه لم يعد يحتمل أن يرى المزيد من قسوته وهو ينال منها أكثر مما نال حتى بدأت الحياة تنسحب منها رويدا رويدا ، لم يعد يستطيع أن يرى مايراه وكأن إحساسه تجمد ورؤيته لكل شيئ أمامه تحولت لجمادات وأصبحت لونها رماديا حينما حان المشهد الأخير من حياتها ورأه بعين رأسه وشاهد حبه .. الصرح الكبير وهو يهدم أمام عينه ولم يستطع أن يفعل شيئا . شهدت الحجرة حالة من الهرج والمرج إثر المحاولات المستميتة الأخيرة من جانب الطاقم الطبى كى يعود للقلب نبضاته ولكنه توقف .. استسلمت لقدرها المحتوم وتوقفت معه الحركة الهادرة ثم جاء سكون قاتم ، وبدأ الطاقم الطبي في الانصراف معلنا الخبر اللعين : البقاء لله . فجأة سكت القلب الخفاق وتوقف إلى الأبد .. القلب المفعم بالحب صار مجرد جسد مسجى يرقد بسلام ، بدت وكأنها نائمة هادئة تحلم بالغد الذى رسماه معا ولم تظفر فيه بالهنأة التي كانت تحلم بها ، عاشت حياتها من معاناة إلى معاناة حتى نالت منها الأيام ، ولما جاءت السعادة لتدق بابها فاجأها المرض اللعين وكشر على أنايبه وأخذ ينهش في جسدها الرقيق .. ومع المرض ضاع حلم حياتها وانكسرت فيها أمانيها وفنيت ، على أن كل ماجنته من أيام حياتها القصيرة أنها سلبتها من المر مرارته ، ومن السيئ سوءته وألمه ، حتى حبها الوحيد استكثرته على نفسها وضحت به من أجل من أحبت .. فأجبرت نفسها واختارت راضية البعاد عنه وهى كانت في أشد الاحتياج إليه .. أن يضمها إلى صدره ويشعرها بالحنو والأمان . انخرط مجهشا فى بكاء مستمر فيه مرارة ، وراح يندب حظه ويقول في نفسه : كم هو مفجع أن يشحب الوجه الذى منحنى أشرف وأجمل عاطفة ، وأن تغادر الروح جسدها الطاهر الذى بات يشرف على الفناء ويذبل ، هذا الجسد الذى كان يتمنى أن يضيئ لى بيتى بكل أسباب الهنأة والسعادة ، ولكم تمنت أن تلد لى أطفالا لتملأه بهم حياتنا بالحيوية والحنان والحب . راح ينظر فى وجهها نظرة الوداع الأخيرة ، فإذا به يراه مبتسما مستديرا مبللا بالعرق ، اقترب منها وانحنى يقبل جبينها .. دموعه كانت تنحدر من عينيه بعنف .. أنات صدره صرخات تشرق من حنجرته ، صرخاته مدوية لايسمعها إلا أعماقه . إن قلبها الذى توقف عن عطاءات المنح ، أحس وكأنه يخفق بنبضاته .. يعلو فى صدره ويهبط  فى صدرها ، قد امتلكت عليه قلبه وأطبقت عليه ثم غادرت ، وذهبت في طريق لاعودة منه .




 
خرج من حجرتها فوجد أهلها يبكون حيث صدمهم الخبر وروعهم ، أخذ يتفحص وجوههم الذى لايعرف الكثير منهم حتى وقعت عيناه على صديقه فوجده يبكى ، وحينما نظر إليه وجده يقبل عليه ثم ربت على ظهره ، وأسر له هامسا والدموع تتدفق من عينيه : لم يكن في استطاعتى أن أخبرك بأكثر مما قلته لك بعد أن عاهدتها عهدا على عدم تسريب أى معلومة عن حالتها ، وكم كان صعبا ألا أخبرك وأنا أرى حالتها تسوء يوما بعد يوم ، حتى جاء اتصالك كفرجة لى ، بأن أعطيك مجرد إشارة دون أن أخبرك بحالتها تنفيذا لهذا الوعد ، إذ كان هذا مطلبا أخيرا أحكمت به علينا بألا نبلغك بأى شيئ عنها ، ولكن بعد أن انتهى الوعد وذهبت صاحبته استطيع أن أخبرك الأن بكل شيئ ، إنها علمت بمرضها بعد أن أحبتك ، وعرفت أيضا أنه لايرجى شفاؤه ، كانت موقنة أن أيامها في الدنيا قصيرة الأجل ، فوجدت أن تزهدك في نفسها وتصدك حتى لاتتعلق بها فتترك في نفسك بعد ذلك فراغا يؤلمك ، إنه لم يكن يسعدها شيئا قدر أن تتحدث عنك وعن الأيام الجميلة التى عاشتها معك وفى كنفك ، وأن احساسها بحبك الفياض كان يغمرها غمرا ، كانت تخبرنى أن أكثر ماكان يؤلمها أنها كانت تجبر نفسها على صدك والإعراض عنك متعمدة ، وكانت تشفق عليك وأنت في حيرة مابين الإعراض والشك ، شاءت ألا تكتب لك لقناعتها أن هذا هو الأفضل لكبح شوقها نحوك ولتخفيف حبك عنها ، لأنها كانت تكره اندفاعك في حبك خوفا على إحساسك عندما تكتشف أنك تجرى وراء سراب خلاب أو أمل كاذب ، كانت لاتتمنى شيئا في الدنيا مثل رؤيتك والجلوس إلى جوارك وسماع أحاديثك التي كانت ترى فيها متعة كبيرة ، ولكنها عندما أشرفت على النهاية أحست بالندم وتمنت لو أنها لم تصدك لكانت استمتعت حتى ولو بجزء قصير مما سيتبقى من حياتها . إننى اكتفيت أن أخبرك أنها بالمشفى عندما ألحيت إلحاحا شديدا في سؤالك عنها وأنت بالخارج وكم تمنيت أن تعود فى أسرع وقت حتى تراك كما تمنت ، وقد شاء الله أن تراك وتكون أخر كلماتها فى الدنيا معك . صمت إلا من دموعه التي انصبت من عينيه كصيب المطر حتى غلبته وفاضت على خديه وطالت شفتيه فأغرقتهما ، كما أغرقت معها ماكان يريد أن يقول ، ولم يشأ أن يرد عليه فليس هناك فائدة من الكلام ، وأن الحياة لم تعد تستحق كل هذا العناء ولاتستحق أى شيئ على الإطلاق ، لقد هانت عليه حياته التى كان يظنها مضيئة ولكنه اكتشف أخيرا أنها لم تكن سوى سراب خادع يبرق فجأة ويلمع في السماء ثم سرعان مايتلاشى ، إذ أن الأمل الذى كان يلهث وراءه تبعثر منه وتشتت وماعليه إلا أن يلملمه في حسرة ، فالحياة لم تعد حياة بعد أن ذهبت من كانت تمنحه الحياة . خرج من المكان كله يستعين على الشقاء بشقاء مثله ، فما عاد له من الدنيا غيره ، وأن أمانيه كلها أصبحت فانية بعد أن جف نبعها ونضب فأصابها ماأصاب صاحبته التى كانت تملأ عليه دنياه ، فقد بدأ يشعر أنها تذوى به ، وأصبح الظلام يحيطه من كل جانب حالكا ، ليتوهم إنه مازال يبصرها بعين بصيرته وكأنها مازالت واقفة أمامه تنظر إليه بعينيها الرائقتان الجميلتان ، تمنى أن يحتويها بصره فترة أطول ، فوجهها كان من النوع الذى كلما تكرر النظر إليه زادت الرغبة في تأمله دون اكتشاف مايميزه .. إنه في حاجة للنظر إليه أكثر وأكثر ، ليفيق على الحقيقة المرة ، ولكنه تنبه أنها تركت بداخله روحا جميلة وبقايا رشفات من قهوة لم يرتشف منها سوى القليل ، فوجد نفسه أنه لم يعد بحاجة إليها .. وأيقن أنه لن يتذوقها بعد اليوم . 

من خالص تحياتى : عصام                 

القاهرة في : أكتوبر عام 2022