music

الثلاثاء، 19 ديسمبر 2023

هاجس فى صدرى

 

النفس البشرية لها أغوار ، وعالم النفوس .. عالم كبير لانعلم عنه شيئا .. ولانستطيع معرفةحتى مجرد القشور منه ، لتبق للنفس أسرارها لايعلمها ولايدركها سوى الذى خلقها .. الله سبحانه وتعالى .. هو وحده الذى يعلم مستقرها ومستودعهاومثواها . لكن التجارب الحياتيةعلمتنا أن النفوس لها تصنيفات  كثيرة ، ربما قابلنا القليل منها  أو معظمها ، فهناك نفوس طيبة من طبيعتها أن تتجاذب  ، ونفوس شريرة حاقدة من طبيعتها التنافر والتناحر، وهناك نفوس الأنا عندها عالية، وهناك نفوس لاتعرف إلا الدنو والحقارة ، وطبيعة النفوس إما نارية أوترابية أوهوائية أومائية لها من طبيعة الأرض والهواء  و الماء .. أى إنهاتعيش بطبائعها هذه ..  تعرف ،  وتعاني، وتتذكر  ولديها رغبات  .. تحكمها مكتسبات كثيرة  من الحياة ،  أهمها التربية الناشئة والأسرة الحاضنة ،  إنه عالم يموج فى بعضه البعض .. ولكنه لم يكن فوضاويا بل تحكمه قبضة الله وإرادته وقدرته فى توجيه هذه  النفوس إما شقية أو سعيدة . إننى لازلت حتى اليوم أقع فى أخطاء فى تقدير نفوس الناس رغم ماعشته ووعيته من الحياة ، ربما يرجع ذلك أن هناك عوامل تحكمت فى تربيتى ونشأتى فى منـزل كان الأب والأم فيه شديدى الخوف علي فأصبحت بالنسبة لمن حولى كأنى أعيش فى سياج يفصلنى عن عالمهم . إننى لم أعرف فى حياتى كنهة المرأة إلاامرأة واحدة هى أمى ولا شكيمة الرجل إلا رجل واحد فقط هو أبى .. أمى لا تعرف ماأفكر فيه فى هذه السن ، ولايهمها أننى فى سن بدأ ت فيه مظاهر التبدل والتغيير ، وأننى مع الوقت سوف أنشغل بمن حولى ،  إنها لم تع  أننى أصبحت جزء اممن ماحولى  وسيكون لى  زملاء دراسة  و أصدقاء من أولاد الجيران وفى الشارع وبعد ذلك فى العمل ، وأنه من المؤكد ستتكون لى رؤيةللدنيا والناس تناسب عمر كل مرحلة أحياها ، لم تعرف أمى كل ذلك ، فقط كانت ترانى الصغير الذى سيبقى عندها صغيرا حملته فى بطنها ، ثم ولدته ليأكل ويشرب وينام ويلبس فقط . وأن خوفها الدائم على حياتى كانت تراها فى تلك الحماية التى يجب أن توفرها لى كى تقينى من شرور الدنيا وشرور الناس .  أما أبى دأب كلما كبرت  أن يبث فى أذنى عبارات دامغة يجب ألا أنساها ولايسمح لى أن اتجاوزها  " خلى بالك من نفسك " "وأوعى لنفسك " و" عيب إنك تتكلم مع البنات " كانت عباراته حاذقة بثت فى نفسى الخوف  الذى ارتبط بكل شيئ بعد ذلك في حياتى ، لذلك عشت فى وجود حدود لكل شيئ ، وكلما كبرت كبرت معى مشاكلى ومنها رهبة التحدث إلى الناس وخاصة الفتيات ، فكنت لاأعرف حدودى ولاحدود الأخرين ، إن الخوف العام جعلنى أتوارى من كل الذى أحبه ولاأعرفه ، فنشأت على فكرة الخوف وعندما بدأت أكبر وجدت صعوبة بالغة فى تجاوز هذا السياج الذى تحول مع الأيام إلى جدار  أخذ فى العلو كلما تجاوز ت مرحلة من مراحل حياتى  . أتذكر عندما كنت مراهقا وأصبح لى أصدقاء لم يكن من بينهم فتاة ،  إننى لم أفكر يوما أن أتكلم مع أى فتاة فى حين أن أصدقائى كانت أحاديثهم كلها عن حب الفتيات وكنت الوحيد الذى لايتكلم ولايستطيع أن يتكلم ، مازلت أتذكر كيف كانوا يتبارون فى حب فتاة واحدة .. بنت الجيران التى كانت تسكن فى منـزل مقابل لمنـزلنا بحى الظاهر  كانت على قدر كبير من الجمال ولكنها لم تعر لأى منهم  أى اهتمام وشغلت نفسها بى ،  وعرفت ذلك من المحاولات التى أرادت  بها أن تلفت نظرى فى رغبتها أن تتكلم معى كلما كانت الظروف تسمح ويتصادف مرورنا فى الشارع  وجاء وجهى فى وجهها ، كنت ألاحظ  ذلك  وكنت فى كل مرة أبر ر لنفسى أنه ليس من المعقول أن تترك هؤلاء  الذين يحبونها وتنظر لشخص مثلى لايعرف كيف يتعامل مع الجنس الأخر ، حتى حانت الفرصة وتحديدا لاأتذكر كيف جاءت ، ولكنها جاءت وتواعدنا وعند المقابلة لاحظت توترى الشديد ولم أعرف مجاراتها فى الفكر أو الكلام .. كانت لبقة .. شديدة الفطنة والذكاء  ، لم تبذل مجهودا كبيرا فى أن تعرف أننى لست الشخص التى كانت ترغب فيه ، بل وجدتنى  شخصا أخر يفقد الكثير من جاذبية الشخصية التى كانت تفكر فيها و تمنى نفسها أن تجدها فى شخصى ، إنها لم تجد غيرالهيئة التى كانت تراها وأعجبت بها فقط  طول القامة و الوجه المنبسط بقسماته التى كانت تنطق بكل مايريح أى شخص ، فضلا عن ماعُرف عنى من أدب جم ودماثة خلق ، وهى أشياء كانت تعرفها قبل أن نتقابل ، لذلك لم تهتم بكل هذه التفاصيل ، أنه  لم يعجبها خجلى  ولاتوترى الذى جاء بلا مبرر ، ولا بوضع الصمت الذى كنت عليه حيث لم أنطق بحرف واحد ، رغم أننى حاولت جاهدا أن أنتزع الكلمات من بين شفتى ولكنى لم أوفق ،  وحاولت أن أرفع رأسى المنتكسة فى الأرض من الخجل وأن التفت يمنة أو يسرة  ولكنى لم أعرف ، حاولت أن أتابع كلامها الذى يحرك أى ساكن ولكن لم يحدث ، وحاولت أن انظر فى عينيها الجميلتين  الموجهتين تجاه وجهى كالسهم وهى تتحدث بمنتهى الطلاقة ولكن لم أستطع . إنها وجدتنى لاأعرف شيئا فى زمن كل شيئ فيه معروف وواضح ، زمن الكل فيه يفكر .. الكل فيه يعى ماحوله ، الكل فيه يريد أن يعرف . فالذى يعرف هو الذى يبحث ، والذى يعرف هو الذى يقدر قيمة المشاعر والاحاسيس ، والذى يعرف هو الذى يتأمل ويشتاق ويحن ويحب ويكره ، أما بالنسبة لى فكل هذه الكلمات لامعنى لها عندى لأنى لاأملك معرفتها ، ولاأملك كل ماكنت أحبه وأريده .. فرغباتى معطلة ولست فى حاجة إلى أن أقول أو أفعل..فكيف أجد الحب وكيف أعرف الكراهية حتى أفرق بينهما . إن الكلمات التى لها معنى عندى هى التى تربيت عليها  من توجهات  أبى وتعليمات أمى .. هى التى كنت أعيها فقط وأوجه لها كل اهتماماتى دون تفكير ودون معرفة مخزاها وهكذا تعلمت وتربيت 


إننى عرفت فيما بعد أن الحب هو أن تنشغل بشخص يعجبك ، وأن الكراهية ألا تنشغل بشخص لايعجبك ، وأن الحب والكراهية متشابهان ، فكلاهما انشغال بأن تفكر فى شخص أخر غيرك وغير أمك وأبيك وغير الذين يعيشون فى محيط حياتك ، وبعد ذلك المعنى هو الذى يختار الشكل المناسب  من مشاعر وأحاسيس تجاهه بأى منهما ، هذا الشكل  وقتها  كنت أجهله ولم أجد له مايناسبه بداخلى من معنى . لذلك جاءت خسارة  أول علاقة بسبب الوحدة والعزلة و الانقطاع عن العالم من حولى حتى أصبح الخوف يطاردنى فى حياتى و ملازما لى ، ومن ثم حرمت نفسى من تكرار التجربة لفترة  ، كان لابد فيها  أن أهرب .. لابد أن أنسى هذا الماضى الذى فرض على فرضا .. لابد أن أهرب من هذا الفراغ المخيف  الذى ألمسه فى المنـزل وفى الشارع وفى نفسى وفى حواسى وعواطفى  . ولما كبرت فى مرحلة أخرى من مراحل حياتى وأصبحت شابا يافعا كنا قد انتقلنا لحى مدينة نصر ، وكان الحى الجديد مازال بكرا يختلف كثيرا عن حى الظاهر الذى شاهد طفولتى ، فكان علي أن انتهج نهجا جديدا فى حياتى ،  وأن أنسى الخوف وأحارب الخجل بكل قوة ، لذلك وجدت  فى نفسى مايلح علي أن أعاود فكرة مجانسة الفتيات والحديث معهن وأكسر ذلك الحاجز الذى حجبنى عنهن زمنا، ووجدت تشجيعا من أصدقائى الجدد عندما صارحتهم بإعجابى بفتاة جميلة بعد أن لاحظت أنها تبادلنى بعض النظرات المشجعة وابتسامات خفيفة ظننت أن وراءها مقصد فخفق لها قلبى أو هكذا كنت أرى ، فى بادئ الأمر لم يصدقوا ماسمعوا ولتشجيعى أشاروا على أن أتجرأ وأكلمها ، وبالفعل فى اليوم التالى تتبعت خطواتها التى جاءت على مهل ، وحاولت جاهدا أن استلقط بعض الكلمات الإعجاب لأغازلها بها، رغم أنى وجدت صعوبة بالغة من فرط حيائى ولعدم معرفتى بعبارات الغزل من الأساس ولكنى مع إصرارى فى المحاولة لانت بعض كلمات الغزل على شفتى وهممت أن أفعل حتى فوجئت بها تلتف وراءها بوجه عابث مكفهر موجهة لى كلمات احبطتنى تماما : أنت عاوز منى إيه وليه ماشى ورائى ، من فضلك لاتحاول أن تكلمنى مرة أخرى . تسمرت قدماى وتمنيت أن تنشق الأرض وتبلعنى ولا أعيش هذه اللحظة القاسية . كانت الصدمة قوية جعلتنى ألزم المنـزل أياما تركت فيه أصدقائى الذين بدأوا يبحثون عنى وعن أسباب غيابى رغم توقعهم للذى حدث ، وعندما حكيت لهم وعلموا به انتابتهم نوبات من الضحك الذى أثارت تحفظى ، وقالوا لى ماهى لازم تعمل كده فى الأول ألم تسمع عن شيئ اسمه دلال  البنات ، كان لازم تدلل عليك شوية علشان تشوف مدى إصرارك على مغازلتها والحديث معها لتتأكد من معزتها عندك ، فالفتيات يحببن الشاب الجرئ ولايملن للشاب الخجول ، ولو كنت حاولت مرة أخرى لوجدت الأمر مختلفا وكانت ستتكلم معك ، وبالمناسبة لاحظنا فى الأيام التى غبت فيها أنها كانت دائمة التواجد فى المكان الذى كانت تراك فيه ، رأيناها تتلفت حولها وكأن عينيها تبحثان عنك . كلامهم لم يجد له صدى فى نفسى ولم أقف عنده طويلا إذ قررت أن أنصرف عنها وفعلت ، بل وانصرفت أيضا عن فكرة العلاقة مع الفتيات  نهائيا وعن أى محاولة فى الحديث عنهن  مع أصدقائى للدرجة التى جعلتهم يرون أنها أصبحت تمثل عقدة كبيرة عندى . فكروا فى طريقة يعيدوا بها اتزانى النفسى وأن يبثوا فى نفسى الجرأة والشجاعة فى التحدث مع الفتيات حتى دبروا لى أمرا لم أكن أعلم بحقيقته إلا فيما بعد ، حيث رتبوا لى موعدا بالإتفاق مع من هو أكثرهم خبرة فى معرفة دروب الفتيات وخير مايستعينون به فى هذه الأمور .. صديق اشتهر بوسامته وكثرة صديقاته ، ولاتكاد تخلو محادثاته من عشرات الفتيات الساحرات .اتفقوا معه أن يقنع إحداهن بلقائى على أن تكون بارعة الحسن وخبيرة بالنفوس .. داهية ماكرة ، تستطيع أن تعيد الثقة فى نفسى . حددوا يوما قابلته فيه لنذهب معا كعادتنا إلى مصر الجديدة بسيارته ، فمصر الجديدة وقتئذ كانت قبلتنا الدائمة ، و فى أثناء الطريق توقف فجأة عند كلية بنات عين شمس ، وشاور لفتاتين فى قمة الأناقة والجمال ، واستغربت أنهما استجابا له وتحركا فى اتجاه السيارة بهذه السهولة والسرعة ، ثم أشار لهما بالركوب فركبا بالكرسى الخلفى دون التلفظ بأى كلام ، وما أن تجاوز بعض الخطوات حتى توقف بالسيارة مرة أخرى وقال لى أنـزل واركب فى الكرسى الخلفى  ، وفهمت أن واحدة منهما ستجلس مكانى وأنا سأجلس مع الأخرى  فى المقعد الخلفى ، وفعلت وأنا فى حالة من الذهول فهذه أول مرة أتعرض لمثل هذا الموقف الغريب وتعجبت كيف وقع أختيار ه على واحدة منهما دون الأخرى وكيف استجابت هى لهذا الاختيار القصرى التى لاحيلة لها فيه . بدأ يتحرك بالسيارة فى اتجاه شارع الحجاز ، وتعجبت أكثر لطريقة حديثه مع الفتاة إنه يبدو وكأنه يعرفها فى معرفة سابقة ،  وشغلنى حواره معها الذى جاء سلسا ميسرا  يحمل عبارات الإعجاب التى بها رقة وطلاوة وصوته ذا رنة غريبة مما جعلنى أسرح معهما متابعا  ، وبينما أنا فى أثناء انشغالى تعجبت الفتاة الأخرى التى تجلس بجوارى  على سكوتى وأنى لم انبس ببنت شفة حتى ولو بكلمة من كلمات المجاملة التى تقال فى مثل هذه المواقف المحرجة وزادها عجبا أن ترى وتسمع صاحبنا يمطر الفتاة الأخرى بكلمات من الغزل الصريح  مما زاد الطين بلة ، وأصبح الموقف أكثر تعقيدا وحرجا لى  وهى ترانى وكأن لسانى أنعقد ، وعندما أحست بأنه لاأمل فى أننى أتكلم بدأت هى بالكلام وسألتنى : أنت طالب .

قلت لها : نعم .

قالت : أقصد أنت طالب فى الجامعة .

قلت لها : نعم أنت شايفه حاجة غير كده .

قالت : لا أبدا أصل شكلك بيديك أصغر من سنك ، وياترى بقى أنت من أى جامعة.

قلت : جامعة القاهرة . 

قالت : فى كلية إيه  .

قلت لها : كلية دار العلوم . 

قالت لى : وشاطر بقى على كده .

قلت لها : بيقولوا كده .

قالت : وياترى لك أصدقاء بنات ، يعنى بتعرف تكلم بنات .   

قلت لها : يعنى . 

قالت لى بحده وكأنها سئمت من ردودى المقتضبة : يعنى إيه . 

قلت لها : يعنى لى مجموعة من الأصدقاء وأكيد من بينهم بنات . 

قالت : طيب بتقول يعنى ليه ؟ ! ماأنت بتعرف تتكلم أهه  

قلت لها : ولاحاجة أنا حاسس إنى بتكلم أى كلام .

قالت : يبدو ذلك  . وبدأت تضع يدها على يدى وأنا اسحبها من تحتها ، فنظرت لى نظرة غريبة.. نظرة جائعة نهمة وقالت : هو أنت ماسمعتش عن حاجة اسمها الحب  .

اصابنى الوجوم ولم أنبس بكلمة ، وبعد لحظة شاردة قلت لها : لا ماعرفش ..لسه ماقبلتوش . 

بدت عليها علامات التعجب وقالت شاهقة : ياخبر  أزاى وأنت شاب  أهه وبقيت فى الجامعة ومتعرفش تحب . 

قلت لها : قدرى كده  ، ومش بالضرورة كل اللى بيدخل الجامعة لازم يحب .

ثم بدأت تقرب وجهها من وجهى  وقالت بما يشبه الهمس : يعنى متعرفش أيه بوسة .

قلت لها : لا الحقيقة مجربتهاش لسه . 

قالت لى : طيب قرب وجهك منى وأنا أعرفها لك  بس متخدش علي كده .

قلت لها : أزاى يعنى ، دا أنا يادوب عارفك من خمس دقائق بس ،  واللى أعرفه إن القبلة لاتكون إلا للمحبين فقط  اللى ارتبطوا ببعض وتآلفوا مع بعض  ومر عليهم وقت عرفوا فيه  ايه هو الاحساس اللى بينهم .

قالت لى : طيب منا بحبك أهه  .

قلت لها : أزاى  . 

قالت : هو مافيش حاجة اسمها حب من أول نظرة . 

قلت لها : نعم قرأت  عنه فى رواية الوسادة الخالية لإحسان عبد القدوس  بس فى نهاية القصة قال إن ده مجرد وهم كبير  ومافيش حاجة اسمها حب من أول نظرة . 

قالت لى : إحسان عبد القدوس غلطان  ، أنا بس اللى أقول لك إن فيه حب من أول نظرة ولا لا ، وهخليك تعرفه دلوقتى حالا .

ثم تورد وجهها وافترت شفتاها عن ابتسامة فيها تلميحات جامحة ومدت ذراعها تريد أن تجذبنى إلى جانبها فتخلصت منها بلطف وظللت جالسا فى مكانى  وقلت لها : بس أنا مش عاوز  .

امتقع وجهها فجأة وتغيرت ملامح الغنج التى كان عليه وتحول لحنق وامتعاض وبدت ثائرة  وقالت لى كلاما لازلت أذكره جيدا حتى الأن كعلامة سيئة لموقف غريب : أنت واضح عليك إن أمك بتخاف عليك وأخرك إنها بتشربك اللبن وتنيمك. هنا شعرت بإهانة .. إهانة من هذه الساقطة كيف سمحت لنفسها أن تتكلم معى بهذه الطريقة وأن تتفوه بكلمة أمى ، شعرت وقتها بأن كلامها كان كالسهم المارق الذى انطلق من فاها ليحدث انفجارا دوى فى أذنى  ، انتفضت ورفعت رأسى أنظر إلى صديقى فإذا بالفتاة الأخرى مندسة فى أحضانه ، ناديت عليه فنظر لى مبتسما وكأنه ينظر لأطياف لايراها.. شارد النظرات  تائه الفكر ، يبدو أنه قد ثمل تماما من نشوة القبلات التى انغمس فى حلاوتها ونسى معها الدنيا وما فيها ، عاودت النداء عليه بصوت  محتدكريب : من فضلك يامجدى توقف ونزلنى هنا حالا . تملكته الدهشة وهو يحاول أن يخرج نفسه من جو الهيام الذى يعيشه وبصعوبة كان ينطق : طيب ماتستنى شوية . ولكن لما أحس بأن  ردى أسرع من طلقات الرصاص على مسمعه وأنا أقول له : من فضلك لازم أنزل حالا  . بدأ يستعيد اتزانه فوجد وجهى متجهما عابثا ووجد فى ردى الإصرار على النـزول من السيارة : أرجوك توقف فورا ونزلنى هنا . تغيرت ملامح وجه صديقى وفوجئت به يوقف السيارة فجأة وقال للفتاة التى كانت فى أحضانه منذ برهة : اتفضلى أنـزلى أنت وصديقتك ياأولاد .......  . أصابتنى الدهشة كيف تحول صديقى فى لحظات من العاشق الماجن إلى هذا الوجه العابس وينهرها، وسألته هذا السؤال الذى بالفعل أعيانى عندما سألته لنفسى ، قال لى : لأنك أنت صديقى لايمكن أن أعوضك إنما هن فتيات ساقطات أصطاد منهن كل يوم من الطريق مثلما أريد ، أصابنى الوجوم وشردت للحظات كنت فيها صامتا وناقما من نفسى ومن صديقى ومن كل الدنيا ، كيف يأتى ذكر أمى التى كانت مثالا للفضيلة والحب والتضحية فى هذا المقام  الوضيع ومع من ! مع ساقطة ليتنى صفعت وجهها حتى أستريح 



كان هذا اليوم فاصلا .. يوم تحول بالنسبة لى أخذت فيه على نفسى عهدا بأن أحاول كسر هذا الحاجز الذى أقاماه أمى وأبى ،  وأفعل كل مايطرينى أن أفعله ويلذ لى أن أراه ، ويجعل عقلى الذى تبلد أن يفك قيوده بعد أن ران عليه البؤس كما يفعل الصدأ بالحديد يطمس معالمه ويشل تفكيره ، سأرجع وأفكر من جديد .. تفكيرا حلوا جميلا مستقيما متزنا فيه مايطمئن النفس ويبهجها ويصور له الأمال العذاب فى صورة جميلة يحيطها أطار مزخرف  من الأمانى التى كنت لاأعرفها وأصبحت أعرفها ، سأفعل ذلك فى الحدود التى تربيت عليها من قيم وشيم وأخلاق ،  وبالفعل بدأت أتقرب من الفتيات ومن السيدات  شيئا فشيئ ،  ووجدت أنه أمرا كان لايستحق كل هذا العناء  ، ووصلت إلى درجة كنت أتخير فيها من النساء مايروق لى منهن ، فكانت كل النساء اللاتى عرفتهن فى حياتى ، أجملهن  شكلا وروحا ، وأرقهن قولا ، وأسبقهن فى محاولة الوصول إلى قلبى ، وأحرصهن على إسعادى ، وتعجبت بعد ذلك من حالى إننى حتى الأن ومع كل هذه العلاقات  لم أشعر بالحب ، أننى كنت اكتشف مع كل علاقة جديدة  أنها كانت مجرد محاولة فى البحث عنه وفى النهاية لاألقاه ، فالعلاقة التى تفتر بعد صخب لم تكن حبا بل يمكن أن نسميها مودة أواحترام فقط ، إلا أننى عشت فترات طويلة أنعم بهذا الشعور الجميل رغم غرابته بالنسبة للرفيقات اللاتى كن يتساقطن من حولى كما تتساقط أوراق الشجر ، وكنت أسأل نفسى فى كل مرة قلبى يطرد فيها ساكنته إن لم يكن هذا حبا فما هو الحب ؟! أننى كنت أحلم فى أن أقابله يوما وأمنى نفسى أن أعيش فيه ، ولكن يبدو أن حظوظى معه ألا أعرفه بعد ، لذلك جاءت كل علاقاتى التى نشأت بينى وبينهن هى علاقة مودة وصداقة حقيقية . حتى عرفت مع مرور الأيام أنه لم يكن بوسعى أن أفعل أكثر من  تحويل الخوف الذى كان بداخلى إلى احترام ، لذلك توقف شكل علاقتى معهن ومع كل الناس عند حدود الإحترام والتقدير ، ولكن أصبح لدي ملكات وعرفت مع نفسى مقدار نفسى وعرفت أيضا مقدارى عند الأخرين ،  ومع من استطيع أن أتعامل وأصادق و أتكلم.. ومع من لاأستطيع . وعرفت أخيرا معنى خوف أمى وحرص أبى ، بأنه  كان شيئا مهما وعظيما ، وأن السياج الذي أحاطانى به كان ضروريا ، عرفت قيمته الأن بعد أن كبرت وتعلمت من الحياة الكثير ، تعلمت أن النفوس على اختلافها سر من أسرار الخلق  تدور فى فلك الدنيا : أسوياء ومرضى .. أنقياء و حقدة . وفى علم الفلك ربط النفس بطبيعة الأرض ووقت الميلاد وتوافقها مع المجرات والنجوم التى تحدد وإلى حد بعيد الأشياء التى تسعدنا والأشياء التى لاتبعث فى نفوسنا الراحة ، إنها أصعب رحلة للإنسان أن يقوم بها .. رحلة البحث عن الذات .. موقعك مع كل مايمكن أن يصادف حياتك من ناس ومواقف .لقد جاء اليوم الذى استطعت فيه التحكم فى شكل العلاقة مع الناس ولكنى مازلت أتخوف من نفوسها.

القاهرة فى ديسمبر 2023     

مع تحيات : محمد عصام



هناك تعليق واحد:

  1. قرأت وتعلق عقلي بما قرأت من مشاعر وأحاسيس وكأن شريط الزمن يرجع بي من جديد في طريقة تربية الأسر المصرية للفتيان والفتيات وشعرت في كلماتك برواية من روايات إحسان عبد القدوس ولكنها لم تكتمل بعد وشعرت بفلسفة دكتور مصطفي محمود ولمحاته العلمية نحو أسرار الذات ولكني كذلك أحسست بأن هناك قصة لم تكتمل في حياتك وهذه الكتابة بداية لا كتمالها ذكرتني برواية أنا حرة والوسادة الخالية وكتابات الزمن الجميل لذلك أرجو أن تكمل هذه المقطوعة لتتحول إلي جسد حي ينشر السحر أينما يقرأ دام قلمك .

    ردحذف