music

السبت، 14 يوليو 2018

شخابيط على جدران الجموح (5)



مابين الحين والحين استعذب استحضار ذكريات البداية ، فالبداية كانت نظرة طويلة ممتدة تولدت من موقف معين ، جاءت بها الأقدار من صدفة جمعتنى بها مع أشخاص أخرين يعرفوا كلانا ، امتدت النظرة وقرأت فيها الكثير ، ثم مالبثت أن تركتنى ووقتها لم أكن أعرف من هى ، وندمت بعد أن غابت وغادرت ، ولا أدرى لماذا وقتها ندمت ، ولكن عرفت بعد ذلك واكتشفت أن هذه النظرة الطويلة شقت صدرى واستقرت بين ضلوعى ، ولم أفعل سوى أنى اكتفيت فقط باسترجاع هذه النظرة بينى وبين نفسى حتى استقرت فى أحلامى الياقظة ، ثم تحولت الأحلام لخيبة أمل فى أن أنول مثلها مرة أخرى ، فكلانا مضى كل فى طريقه ، وقتها لم يكن بمقدورى أن أفعل شيئا حتى أتعرف عليها أو لم أحاول ، أتذكر كم عشت مع تفكيرى العميق أياما لعنت فيها خجلى ألف مرة ، لعبت فيه الأمانى بسيناريوهات كان بإمكانى أن أفعلها وقتئذ وأخطو خطوات جريئة فى كيفية التعارف وكان من السهل جدا أن أتعرف عليها ، ولكن لاجدوى من كل هذا ، فقد حدث أن الجمتنى وحاصرتنى بنظرة ثم مضت ، وعشت من يومها على التمنى ، ولم أكن أتمنى شيئا ويتحقق ، فغالبا أمنياتى تكون أحلاما مفضية لأحلام . حتى جاءت الإنفراجة حينما حدثنى صديقى عنها وأنه يريد أن أتقابل معها فى مكتبه ، ولم أشأ أن أصدق نفسى أنه بالإمكان أن أراها مرة ثانية ، طرت فرحا ولم تسعنى الدنيا ، هل حقا ستتحقق فرحة عمرى ، وبهذه السرعة . عشت لحظات منتظرا طال بها الزمن أرقب الوقت وأعد فيها الثوانى والدقائق والساعات ، ولم أصدق نفسى حتى رأيتها كأشراقة شمس لايستطيع أحد أن يمنعها أو يحجبها ، فرحت بها .. فرحة حقيقية ، أحسست بأننى استرد نفسى من نفسى . ولكن عندما رأيتها سادت بيننا لحظات صمت عجيبة .. ثقيلة .. صمت فيه ارتباك ، وكأن كل منا يبذل مجهودا خرافيا كلما نظر فى وجه الأخر ليحتفظ بابتسامته .. ولكن فى ذات الوقت يتفحصه كأنه يبحث فيه عن سر النظرة الأولى التى جمعتنا ، أو حب ضائع قد غادر حياته ، أو حتى ذكريات قديمة يتلمس عودتها . ورغم أننى وقتها لم أكن متوقفا عند حدود وشكل العلاقة التى أريدها ولاكيف ستبدأ ، ولكن راقنى كثيرا أن أنظر فى عينيها متسعتى الحدقة بنظرة أخرى طويلة لم تحفل حياتى بمثلها قط ، والذى لم أستطع أن أفسره وكنت أتوقف عنده كثيرا أن كل منا يشعر بأنه كان يعرف الأخر فى حياة سابقة ، كأن الأرواح تتقابل قبل الوجوه ، وأن الذى جمعنا هو القدر ، إذ أنه كان ولابد أننا سنتقابل يوما ، كل ذلك زاد من حرصى بأن أجعلها من أولويات احتياجاتى حتى ولو استمر معها فقط دون أن أحدد طبيعة هذه العلاقة . 

كنت حينما أنظر إليها فى المرات القليلة التى جمعتنا أشعر بهذا الذى لاأشعر به إلا وأنا معها ولها ، لايمكننى أن أقول إنها حبيبتى أو صديقتى ، وأظن كل الظن أنها هى أيضا داخلها نفس الإحساس ، كنت أشعر به كلما تلتفت لى .. أشعر بنبض مختلف تحبه ولاتحس به إلا عندما تنظر لى ، شيئ أحسسته وأستشعرته من لغة العيون التى كانت هى الاساس فى التعارف ، ولكن لايمكنها أن تقول إنى حبيبها أو صديقها ، رغم أن مابيننا يصلح أن يكون كذلك ، فعلاقتنا عبارة عن مزيج من كل إحساس جميل وصادق يمكن أن يقرب بين اثنين ، لذا لم يفكر أحدنا توصيف مابيننا أو يبث إحساسه للأخر ، وتركنا لمشاعرنا حرية الحركة ، تنمو وتتشكل كما يروق لها وكما يحلو أن تراه ، فنشأ بينى وبينها نوع من الألفة أو من الصداقة لازالت مستمرة حتى الأن ، وأنا أكذب على نفسى بأن اسميها صداقة ، لقد كنت أعرف أن مابيننا أكثر من مجرد صداقة ، اصطلحت بينى وبين نفسى أن اسميها صداقة عميقة ، ولكنى لم أكن أريد أن أعترف بذلك حتى لاأتعذب أو أخسر ماكسبته ، فاكتفيت فقط بأن عاشت بداخلى .. فى الظل كحلم ، وحلمت ، وتماديت فى أحلامى ، كنت أحس وكأنى لم أعد وحيدا ولامحروما ، ولكنى كنت دائما أشعر بالخوف والرهبة ، مثلما كنت أرتب نفسى وحاجتى إليها التى كانت تزداد على مر الأيام ، وجودها بحياتى محت كل صور اللاتى قد عرفتهن من قبلها لأصبح وحدى أمام عنفوانها فى مجابهة قدرات علاقتى بها التى كانت تأخذ أشكالا مفاجئة ، فتوشك أحيانا أن تكون قصة حب ، لكنها تحول نفسها فجأة إلى مايشبه الصداقة ، وقبل أن أتأكد من ذلك تحول نفسها إلى قصص أخرى متلاحقة لاتحاكى شيئا محددا ، وعندما تبدأ قصة منهن فى السرد عن شيئ محدد ، تحول العلاقة نفسها إلى مايشبه السجايا التى تُحكم النفس فتتقاذفها الأقدار ولاتصل إلى نهاية منطقية ، ولاتقيد نفسها بشكل معين ، أو بإحساس واحد ، ياله من قدر .

القاهرة في يوليو 2018