music

الاثنين، 1 يناير 2018

شخابيط على جدران الجموح ( العندليب الباكى)

كنت كلما دخلت فى مدار عينيها أرى نفسى طائرا يحب أن ترى طريقته فى الجرى مرحا ، أو فى القفز على النوافذ لاهيا ، أو الطيران على أسطح المنازل بثقة ، أو التنقل بين أفرع الأشجار برشاقة ، وفى سبيل تحقيقى لهذا كنت أركض ولاأريد التوقف أبدا ، وكلما تعثرت فى شيئ ، أنظر إليها ، فإذا ضحكت ضحكتها الرشيقة ، أخجل ثم أتماسك بسرعة لأكمل الجرى أمامها وأعدو ، فإن غابت عن عينى أعود مسرعا إليها ، كنت أحب طريقة حبها للأشياء ، فأحب الأشياء من أجلها ، ولكننى لم أجرؤ يوما أن أصارحها بحبى لها ، فخشيت أن تصدمنى بما يُكره من شعور مناقض ومتباين لإحساسى تجاهها ، ولكننى لم أسأم يوما الغناء حولها ولاأريد أن أكتفى ، فهذه هى إمكاناتى وقدراتى الوحيدة فى التعبير عن إحساسى بها ، وكنت كلما هممت أن أتشجع لأبوح لها بما يكنه قلبى نحوها ، أتذكر ماحدث للعندليب الجميل ذات يوم حيث أبكى الطبيعة كلها بعد أن منحها من قلبه وحبه الشدو والغناء . فأعود إدراجى ، ولست أدرى لماذا تصورت نفسى عندليبا ، ولماذا استهوتنى حكايته رغم ماتنطوى عليها من ألم وجراح ، أى على غير ماكان يستحقه هذا الطائر النبيل الذى كان يمتلك صوتا عذب النبرات .. رخيم الأوتار . دعونى أحكيها لكم ببساطة أو أحكيها لنفسى فلطالما عشت تفاصيلها بمنتهى الدقة شكلا وروحا ، حتى كادت تستغرقنى وهيأت لى نفسى أننى هذا الطائر التعس المعذب الذى راح ضحية الأشواك من أجل إحساسه المفرط للحب رغم عطاءاته المستباحة للجميع كلما صدح بالغناء ، ورغم أن الطبيعة أحبته واستجابت له إلا أنه كان مكدودا حزينا عندما وجد أن غناءه لايصل لمن يريد ، وشعوره المنساب منه راح من بين كفى القدر سدى ، ولكنه فى إصرار لايريد أن يكف عن الغناء ، ربما آثر التضحية واكتفى بعطاءاته  من أجل هدف أسمى حيث رأى العِوض فى إسعاد الأخرين ، فراح يغنى لهم ويسعد لفرحهم ، وكلما خلا بنفسه كان يبكى بكاء مريرا ، إنه أرقى أنواع الحب التى يتجلى فيها معنى إيثار الحياة بهوانها كى يعيش الحب ويبقى بعد أن يغادر صاحبه .




دعونا ندخل فى خضم حياة هذا الطائر ونعيش تفاصيل حياته ، فلكم كان محبا للحياة .. محبا للغناء ، فإذا ماشرع فيه تصمت له الروضة ويسودها السكون صاغية له وحده ، ولكن كان حبه لمن اختاره قلبه أكبر ، إذ عشق وردة ذات رداء أبيض بعد أن رأها فى مواطن كثيرة متألقة فى زهو ، مختالة بجمالها الغض فى غرور ، فأحبها من أول نظرة ووقع فى غرامها حتى امتلك حبها من قلبه امتلاكا .. حبا شديدا كأعنف مايكون الحب ، وأحر مايكون الهيام ، حبا فاق كل قدر ، وجاوز كل حد ، ومن يومها عاش يحدوه الأمل أن يأتى عليه وقت وتحبه ، فتحول بألحانه العذبة لها ، فكانت كلما تغنى بها تسيل له الرقة ، وتذوب له القلوب فتصفى . ولكن طال الأمد ومرت الأيام ولم يشعر منها بنبثة عاطفة أو لفتة حب ، فقال فى نفسه : يالها من دنيا ليس كل مايتمناه القلب فيها يدركه ، إنها لم تعرنى اهتماما ولم تنظر لى حتى بإشفاق . فتحول غناؤه إلى تغريدات مكتربة والهة ملأ بها الفضاء الفسيح حولها ، لدرجة أن الآفاق البعيدة كانت ترددها حزينة فى تتابع وكأن رجع صوته صدى لترنيمات ذو شجون من حال إحساسه الدفين الذى كان يضمره فى نفسه من تجاهلها الدائم له وعدم إلتفاتها إليه ، حتى أنه عاش على الفُتات يقتات رنوات مسترقة فإذا مارمقته نضَّها فى إسراع دون إبطاء ولاتمهل ، ثم يطير عن المكان بعيدا شائح الوجه ، فما كان له من سبيل سوى هذا الغناء الذى ينطوى على الجزع والجوى ، كأنه أراد به أن يبعث فى زهوها التى كانت تفعله لغيره ذلك الومض المنبعث من قلبه والذى خالط فيه حبه بالأسى ، إذ كان يعتبره الوسيلة الوحيدة التى يستطيع بها أن يعبر عن مكنونات قلبه الحزين ، حتى أجاد فأحسن الغناء لموهبة امتلك مقدراتها فى العزف والأداء ، وعرف بها كيف يستلب آهات ماحوله . بقى على هذا الحال منتظرا معذبا بأمل بئيس يرسل لها نظراته عبر هذه النغمات المنسابة منه حتى ملأها منها ، وأصبح لايرى غيرها ولايريد ، إنه لم يستطع أن يتخلص من السهام الجامحة التى نفذت إلى قلبه ، فهام على وجهه وهجر عشه وأناخ فى مكانها وكرث كل وقته كى يراها أمام عينه فى كل أوقات الليل والنهار ، لدرجة أنه استعذب ألايبيت فى وكره حتى لاتغيب عنه ، كى يراها نائمة فى أحضان الليل كعذراء الربيع الناعمة المدللة ، يرقب كل حركاتها وسكناتها ، كانت غيرته عليها شديدة حتى من أجواء الطبيعة لدرجة أنه كان لايروقه رؤية الندى وهو يرسل أنفاسه إليها قطرات تبعث فى محياها روح الحياة فى الصباح فيحيل كل مافيها إلى عبير يتضوع ، وكان يغار من القمر عندما يرسل شعاعاته الفضية إليها فى المساء عبر السماء نورا مداعبا إياها مرسلا ضحكاته إليها فتتألق وتزدهر أغصانها بهاء وفتنة ، وكان يشتد غيظه أكثر كلما استدار القمر وقبلها وأرسل إليها أنفاس الليل لتهب عليها حتى تتفتح أوراقها وترف أفوافها منتشية فتحيل الليل مسكا وعطرا ، كان يأنف من نسيم الربيع كلما لفحها بدعباته ومحاولاته أن يمسها برفق ويلف ويدور حولها كى تصير مبتهجة نشوانة ، كان لايسره هذا الذى يراه ويهدهد قلبه الثائر ، ويسأل نفسه ويتمنى ماذا أفعل حتى أكون مثل هؤلاء ، واستطيع أن أصل لقلبها ، وأغازلها عشقا وأداعبها حبا ورقة ، ماذا أفعل أكثر من تغريدى لها حتى تستجيب ، فلطالما أرسلت إليها تغريداتى ترنيمات تحمل حبى وأشواقى ، حتى عرفها القاصى والدانى إلا هى ، رغم قدراتى فى تحويل الصمت حولها إلى صدى والسكون إلى كرنفال ، وجعلت للوجود معنى بغنائى وكثرة تحركاتى ومرحى على فروع الأشجار أداعب أغصانها ، فتصدح لها وتجعلها مترنحة راقصة ؟ لماذا لاتشعر بتألق كل هذا أمامها ؟ لماذا لاتتفتح أوراقها أمامى وترف أفوافها كما تفعل مع غيرى ؟ لماذا لاتفرح ولاتنتشى بوجودى ؟ فأنا من أسعى لسعادتها ، وأفرح كلما أرها زهرة يانعة ، مالهذا الغرور الذى جثم عليها فتملكها ونغص علىّ حياتى .



كان دائم التحدث لنفسه ليشكوها حبه الشديد لها ، ويفضفض معها كثيرا تعلقه بها ، فموجة الحب قد غمرته .. وتيار الهوى قد جرفه فيما جرف حتى صار حبها معششا فى قلبه مستحوذا على تلابيب عقله ، وأنه لم يعد يملك عقلا ليفكر . كان خجولا من فرط جرأتها مع الطبيعة ، وأن قدراته لم تسعفه بأن يبوح لها بما يكنه قلبه تجاهها من حب صادق عفيف ، واعتقد أنها سوف تفهم حبه من نظراته أو من شدو غنائه كلما تثنى مغردا متمايلا فرحا بين أغصانها متنقلا أمامها يمينا ويسارا ، حتى استيأس أن يصل لها ، ووصل به اعتقاده أن شدوه لم يكن سوى التنفيس عن همومه ، والتلطف عن مشاعره ، والتفريج عن إحساساته الرقيقة حتى يتخفف عنه التوتر والقلق والحيرة ، فصادقه كل ما حوله وأحبوه وأحبوا غناءه ، ليتحول كل شيئ إلى عالم أخر يشبه السحر يملأ الكون من حوله عطرا يشعر به كل من كان فى المكان دونها ، فلطالما أخذها الزهو فى تكبر ولم تأب لذلك ولم تفهم بل ولم تحاول أن تنظر إليه البته ، ولكن الأمل جعله ألا يصدق الواقع ودعاه ألايكف عن ملاحقتها منتظرا أن تحين الفرصة للإنفراد بها وإظهار إعجابه الشديد لها ورغبته الملحة فى أن تحس بمشاعره ، وقال فى نفسه : ربما الجرأة تفيد وتشعر بى . وفى ذات يوم قرر أن يستجمع كل قواه ويصارحها بحبه ، وعندما طالب مخاطبتها كى يبوح لها بعواطفه تلاحقت أنفاسه اضطراباً وهو يرجوها أن تحس به ، وما أن فرغ من حديثه معها حتى صدمته و أنفجرت فيه غيظاً ، بل كانت قاسية معه أشد القسوة ، عنيفة فى صدها له ورفضها لمشاعره أشد مايكون العنف ، وقالت له أنا لاأحبك ألاتفهم ، إننى مللت كثيراً من مطارداتك السفيهة . لم ينبس الطائر بكلمة وعاد إلى وكره حزينا ، ولم يُغمض له جفن فى تلك الليلة ، وقطع على نفسه عهدا بأن يتركها وشأنها ، ولكن من فرط الحنين وماأحتواه قلبه من عواطف متأججة ، كف نفسه عن الغناء واكتفى بأن يسترق النظر إليها خلسة من بعيد بلا هدف كى يرضى نفسه وقلبه ولاينتظر منها شيئا بل كان يتوارى بين أوراق الشجر ويتجنب أن تنظر حولها فتراه .



أما هى لم تأب بأنها حطمت قلبا أحبها ، ولم يحرك مشاعرها الساكنة البغيضة إلا مصارحة إحدى صويحباتها من المقربات إليها بأنها تحب هذا العندليب وأرادت أن تعرف منها ماالذى كانت تفعله حتى أحبها كل هذا الحب السخى ، وماالذى ينبغى عليها أن تقوم به حتى تصل إليه كى يحس بمشاعرها الفياضة تجاهه وتنعم بوصاله . فما كان للوردة البيضاء أن استشاطت غيظا وحنقت عليها عزة نفسها واعتملت فى صدرها الغيرة حيث قالت لها : إنه يحبنى أنا ألم تعرفين أنه اعترف بحبه لى من قبل . فما كان من صديقتها أن قاطعتها  فى حدة وحزم : ولكنك رفضتى حبه لك ، إذن لاتثريب عليه اليوم إن يبادلنى حبا بحب ، وعشقا بعشق وسأعوضه عن مافعلتيه معه ، وليس لك الحق الأن أن تتحدثين عنه وقد أهنت مشاعره أمامنا ، لذلك سأحاول أن أعوضه عن كل هذه الإساءات البالغة وازدرائك له واستخفافك به وسأجعله أسعد طائر فى الكون . نظرت إليها فى تحد وقد وصل بها أوج الغرور إلى منتهاه وأرادت فى تعالى أن تجعل صاحبتها عبرة لباقى صويحباتها ليشهدن بأنفسهن تفوق جمالها عليها وأن تثبت لهن أن هذا الطائر مازال يحبها هى فقط من أجل جمالها الذى لامثيل له ، فهو من جاءها يوما يرجو مودتها وأسرَّ لها بمدى حبه الذى لايعرفه أى كائن فى الوجود حتى البشر .. وهو من تمنى منها يوما مجرد إشارة أو لفتة أو رنوة من رمقة عين . ثم استطردت : ورغم أنه الطائر المعروف لدى الطبيعة الخلابة بعندليب الشرق لجمال صوته وعذوبة غنائه ، إلا أنها أيضا تُعد أجمل مافى الروضة قاطبة ، فإذا تغنى .. تغنى لى فقط بألحان رومانسية ، فما له إلا أن ينثر من حولى الفتنة ويبعث فىّ الدلال . كانت تتحدث فى تكبر ، لاتأبه بمشاعر الغير ولاترى إلا نفسها فقط ، تتعامل معهن فى غطرسة متباهية مختالة لاتكل ولاتمل من انها تقول لهن أنه يفعل كل ذلك من أجلها .. ولها وحدها دون أن تشير من قريب أو بعيد احترامها لمشاعره التى غلبته وحاول أن يبديها لها لتحس به . كن ينكرن عليها أنانيتها وغرورها وتعاليها ويقلن لها كفى عن نفسك هذه البجاجة . فتحدتهن أمام الجميع ، وتراهنت عليه وأرسلت فى طلبه بعد أن أكلها الغيظ وأضمرت فى نفسها شيئا لصديقتها نكاية بها لتأكدها من أنها حاولت أن تصل إليه ولم تفلح ، وسعيت وراءه شغفا وحبا له ولم تنل منه حتى ولو نظرة واحدة . بأنها ستجعل الجميع يشهد مدى حب هذا الطائر لها فى تباه وأنفة ، وبأنها ستأمره أن يفعل شيئا أمامهم يصعب تنفيذه ، أرادت أن تسخر من صديقتها ومنه وتجعل من حبه لها مسلاة للقريبات منها حتى تكيدها ، فدعت الكل ليروا بأنفسهم ماذا ستفعل بهذا الأبله الذى هام فى حبها صبابة وتجعله مادة سخية تندرا عليهن ونكاية لمزاحهن لها كى ترضى غرورها أمامهن ، وتثبت للجميع مكانتها وجمالها الفائق وأنها تستحق أن تكون ملكة عليهن وأن الطائر لم ولن يحب غيرها ، ثم دعت الجميع وجعلت صويحباتها المحظيات الأقرب منزلة لها على مقربة منه يسترقن النظر إليه ويضعن أكفهن على أفواههن خشية أن تفلت منهن الضحكات التى كانت تعتمل فى صدورهن لمعرفتهن مسبقا بالمكيدة التى دبرتها له .



أما هو لم يكن أبدا يصدق أنها أرسلت فى استدعائه حتى جاء بخفى حنين وفى ترقب مضطربا يسأل نفسه ياتُرى ماذا تريد منى بعد أن نهرتنى وصارحتنى بأنها لاتحبنى ؟! ، وظل منتظرا مترددا يريد أن يغادر بعد أن وسوست له نفسه وقالت له : لعلها رأتك وأنت تتابعها من بعيد وتريد أن تجرحك مرة أخرى أمض من هنا فهى لاتحبك . وعندما همّ للنزوح أطلت عليه فى كامل زينتها باسمة وبتغنج نادته ، فرك عينيه اللتين أعياهما طول السهر وطول الانتظار ولم يصدق مايراه وظن فى نفسه أن رؤية عينه قد خانته وأنه لم يعد يقوى حتى على النظر إليها ، ولم يتوقع يوما أن تفاجئه وتقول له :  لئن وجدتنى مثلما تريد وأحببتك حبا شديدا ، فهل هذا يسعدك ويروقك ؟ فقال لها : نعم وكانت هذه هى أمنية حياتى ، قالت : إذن لابد أن تبدى استعدادا لعمل أى شيئ يسعدنى حتى أشعر بوجودك ويجعلنى أحبك ، فهل لديك القدرة على ذلك ؟ . قال لها : أليس غنائى دليلا على حبى لك . قالت : الغناء لايكفى فأنت تغنى للطبيعة كلها وليس لى فقط ولك معجبون كثيرون ومعجبات ، إننى أريد منك أن تثبت لى حبك بأن تعمل شيئا من أجلى أنا وحدى  . قال لها : إذن تمنى علىّ . قالت : أن تفعل شيئا يبدل ردائى من اللون الأبيض إلى الأحمر ، وعندما يصبح كذلك تكون قد وفيت ماأريده ويومها لك ماشئت وتكون قد ملكت قلبى مدى الحياة . رد عليها : وكيف السبيل لذلك ، قالت : هذه هى مهمتك ونجاحك فيها هو طريقك الوحيد إلى قلبى . فرح فرحا شديدا وراح يفكر فى كل الطرق التى تمكنه من أن يحقق به مطلبها ، ولم يع أنها تستدرجه كى تسخر منه ، ولم يفكر أنها تستبيح كرامته وتتلاعب بفيض مشاعره أمام روضة المكان بكل مظاهرها بحيلة رخيصة . أخذ يفكر ويفكر حتى أسهب فى التفكير ولم يهتد إلى أى سبب منطقى ومقنع يجعل العقل يصدق أن هناك قدرة على تحويل اللون الأبيض إلى أحمر غير قدرة الله سبحانه وتعالى ، وأن زمن المعجزات قد ولى وذهب ، إلا أن قلبه أخيرا هداه بأنه هو من سيقوم بهذه المهمة الصعبة ، أى أنه يقوم بجرح نفسه ثم يطوف حولها بجناحيه كى ينشر دمه عليها فتتحول إلى اللون الأحمر . ولم يمهل نفسه فرصة للتفكير حتى يتراجع ولم يأبه بأن حياته قد تساوى ماسيُقدم عليه ، بل فعل وبإقدام بلا تردد ودونما النظر إلى العواقب ، راح وحط نفسه على أعلى وأكبر شوكة فى غصنها المستقوى بجبروتها ، تلك الشوكة التى طالما كان يراها ويتفاداها عندما كان يطير فوقها وحولها مرحا ، الأن يحط نفسه عليها قاصدا إياها حتى استقرت فى قلبه وجرحته جرحا غائرا نزف على أثره نزفا شديدا ، ثم بدأ فى انتزاع نفسه منها بصعوبة بالغة وبخطوات ثقيلة اهتزت فيها محاولاته لإعتلاء الغصن من أسفله إلى أعلاه وثبا ، إذ أنه تعسر كثيرا لبلوغ مكانها ، خارت خلالها كل قواه وخانته ليسقط أثناء طيرانه الواهن أكثر من مرة .


كان يريد أن يسابق الزمن قبل أن يوهن أكثر ويداهمه الموت ولايبلغ علوها ، الوجوم ساد الجميع وهم يرونه يجاهد جهادا مريرا ليسابق الموت قبل أن يدركه صابرا محتسبا ، رابط الجأش فى جلد ، متحاملا على نفسه فى صلابة حتى بلغ علوها بشق الأنفس وارتمى على خدود أوراقها وأخذ فى ضعف ووهن يعتصر دماءه الشفيفة ويقطرها على لحاها حتى تخضبت بها . احتشدت قطرات العرق على جبينه بعد أن تفصدت ونطق والدموع تتساقط من عينيه الغائرتين وقال لها بصوت مختنق انتزعه من حلقه انتزاعا : ها آنذا قد فعلت ، عشت حياتى كلها أفكر فقط فى كيفية إسعادك ، وعندما طلبتى ماطلبتيه منى ، حاولت إدراكه بأى ثمن ، نسيت كل ماحولى .. نسيت حتى نفسى وأنكرت ذاتى وعزمت أن أقدمه من دمى ، لأنك كنت عندى أغلى منه ، وكان يكفينى فقط أن أرى ضحكة صافية من قلبك ، وكان يسعدنى فقط أن أرى زهو الحياة فيك حتى أسعد أنا بحياتى حتى ولو للحظات ولايهمنى بعد ذلك إن كنت سأعيش أو أموت ، تلك ماكنت أرنو إليه وأتمناه ولها شُغل قلبى وبصرت عينى طربا للنفس وغلبنى الهوى والشوق اللذان كان يهويان ربيع أوراقك ، حتى صرت بحبى لك ضحية لأشواكك . ثم تسبلت عيناه وتسمرت فى جحوظ . فأدركت الوردة مدى حب هذا الطائر لها ، وعرفت ولأول مرة معنى الحب الحقيقى إذ لم تكن تعرفه من قبل ، بل وعرفت معنى وقيمة التضحية من أجل إسعاد الحبيب ، وهى التى لم تتنبه يوما أن هذا العندليب كان هو الحبيب ، ولكن ماذا يفيد الأن بعد فوات الوقت والأوان ، لقد مرقت أنفاسه المتهدجة التى كانت تجاهد بصعوبة بالغة اللحظات الأخيرة حتى انسربت منه الحياة ومات ، وآسفاه عليه وهو ينظر إليها باكيا حين كان يلفظ أنفاسه الأخيرة بنظرة الرمق الأخير ليسقط من أعلى الفرع الذى دأب الغناء عليه بأعذب الألحان . كانوا يتابعون جسده النحيل أثناء سقوطه وهو يتهاوى أمامهم فى ذهول حتى أستقر طريح الأرض وإلى الأبد فى موقف مهيب مروع ، كانت الدهشة عنوانا لكل الروضة التى راحت تشيعه وقد تملكتها نوبة بكاء مريرة ، كانت أكثرهن تأثرا صويحباتها اللاتى جئن ليسخرن منه ويضحكن عليه فماكان منهن أن أبكياه بحرقة من وخز ضميرهن وأخذن فى التسرب من حولها واحدة تلو الأخرى ، أما الأغصان هى من كانت أكثرهن حزنا وألما عليه حيث أرخت سدولها نحو الأرض منتكسة وكأنها تريد أن تضمه وتعانقه كما كان يسعدها بمداعباته لها ومرحه عليها ، الشمس توارت وراء الأفق حزنا عليه فلكم أطربها صوته وهى تتابع تحركاته تحت سمائها لاهيا مغردا مرحا ، فكانت تغدق عليه بأشعتها الدافئة وترسلها إليه ليزداد تألقا وتلألُؤا ، والطير .. كل الطير تجمعت على الأرض منكسة الأجنحة يعتصرها ألم الفراق وهى تواريه الثَّرَى ، النهر ساهم واجم من الحزن حتى ركدت مياهه وأسنت ، الورود والأزهار منغضة أوراقها ومنكسة على أغصانها تعتصرها ريح الحزن اعتصارا .. حقا لقد حزنت الطبيعة واكتأب الكون كله عليه .





أما الوردة مخضبة الدماء بدت وقد تملكها الذهول ، ثم مالت لتنظر إلى معشوقها الذى ذهب وراح ولم يمهله القدر أن ينتظر حتى يسمعها ، ربما كان سيسمع ماكان يتمنى أن يسمعه طول حياته ويسعده ، ولكن ماذا تفيد كلمات الندم وهى لن تراه بعد الأن . وراحت تبكيه وتلعن نفسها وتلعن غصنها المستقوى بشوكاته فى غرور ، ثم راحت تتذكر وتسترجع كيف فعلت به مافعلته ،  وكيف استهانت بحبه وهو الذى أعزها وحاول كثيرا أن يسعدها ؟ كيف ستواجه الأيام بدونه بعد أن وقع حبه فى قلبها ؟ كيف لاترى ابتسامته الحلوة التى كان يقابلها بها .. كيف ستغيب عنها نظرة الحنان التى كانت تشع من عينيه الرقيقتين التى لو نفذت لأى قلب تصهره . كيف كانت لاتشعر بكل هذا .. كيف كانت لاترى هذا الذى تراه ولم تكن قبل ذلك تراه ، كأنها كانت فى ظلمة وانفتحت أمامها فجأة طاقة من نور أمام عينيها .. نور يخطف البصر ، ولكنه خطف الحب أيضا . نظرت إليه وهى تستعيد لحظة احساسها بأنامله الرقيقة وهو يفترش دماءه على أوراقها ثم يوزعها بجناحيه الهزيلين وهو يلبى لها أول ماطلبته منه ، وأخر مايمكن أن يقدمه لها ، تذكرت وندمت كيف أقدمت على لعبة رخيصة ثمنها كان باهظا .. كلفته حياته . ولكن ماذا يفيد كل هذا الأن ، بعد أن ذهب الحب وذهب صاحبه ، ولم يعد لها فى الدنيا من يخاف عليها ، من يؤثر نفسه من أجل إسعادها . ساد الصمت من حولها .. صمت أليم موجع ، بعد أن انفض من حولها الرفيقات اللاتى جئن من أجل امتهانه ، ألمهن المنظر وتساقطن من حولها كما تتساقط أوراق الشجر فى الخريف لينحصر المشهد عليها وحدها ، أصبحت هى الأخرى صامتة كاشفة لما آلت إليه بعد أن انفضت من حولها كل ابتهاجات الطبيعة فلم تعد تطارحها بعد نسمات الأصيل العابرة غرامها ، أو تبث لها نسمات الليل المنطلقة هواها بأفراحها وسرورها حينما تذهب إليها كل مساء وترنح بغصنها المياد يمينا ويسارا . إنها لم تجد سوى الدموع والوحدة بديلا ، واصلت انتحابها بحرقة حيث انسابت منها دموع ساخنة هاطلة طالت خدود أوراقها ، انسابت حتى شفتيها ، لم تستطع أن تكبح جماح دموعها ، تركتها تنساب بغزارة لمشهد سيظل محفورا فى ذاكرتها وهو يقفز فجأة من أمامها وفى سرعة ليلقى بنفسه على الشوكة الكبيرة التى نزفته بشدة ، إنها لن تنسى أبدا وهو يتلفت لها شاحب اللون ، زائغ العينين ، ولن تنسى مشهده وهو يموت ولم يشأ أن يقول لها شيئا ، ولماذا أقدم على ذلك . ربما أثر الموت عن الحياة بعد أن شعر بأنه لاقيمة لحياة بلا حب ، وربما رأى أن الموت أفضل عنده من حياة خذلته وكسرت بخاطره ، وفضل أن يصبح مجرد ذكرى عن حياة ألمته لتنعكس نورها فى عيون من أحبها نارا تحرق جوارحها وتحيل كيانها إلى مايشبه الرماد الذى صار منه ، فلا تعيش بعده فى هنأة أو تموت مثله شامخة على شوكة الرفعة والخلود من أجل الحب ، لأنها لم ولن تعرفه .




وانتهت قصة العندليب التى احتوتنى بمفرداتها الحزينة .. هذه القصة أبكتنى وتركت فى نفسى شجونا سيطرت على كل مشاعرى وحواسى لدرجة أن هذا المسكين لازمنى من شدة تأثيرى به حتى وجدت نفسى فيه .. لدرجة أنه كان  دوما يفاجئنى  بصدى صوته آتيا من الأفق البعيد بين الحين والحين.. آتيا مع الرياح كلما هبت فكانت تحمل نغماته وتملأ بها الكون صداه ،  آتيا كلما سكن الليل هدأته فينبعث غناؤه  ويسرى بين الخمائل كهمس الحائرين، وألحانه لازالت تتردد فى أعماقى  كلما ضاقت بى الدنيا ، كنت أتصور أنى أسمعها ولكن ما كانت هناك نغمات ولاغناء ولا ألحان ، بل هى أحزان وشجون  اختزنتها نفسى .. وشائج خفاقة من الهموم التفت .. تداخلت .. تشابكت فى مواجهة الطوفان والضياع . . طوفان الفكر  ، وضياع الأمل .. أمل الوصول إلى ماتتمناه النفس وتستعذبه  بعد أن ظلت تبحث عنه عمرا ولم تجده . كأن مرضا أصاب الدنيا .. أصابها فى مقتل لتصبح  فى حالة من الجدب .. تذوى وتجف وتتساقط ، إنه إعلان عن بداية الخريف والليل الطويل فى عز الربيع  ، فتجد نظرات الناس ليس فيها ود ولاحب ولارحمة، لايبالون ولايهتمون ولاشيئ يثيرهم سوى البحث عن العطايا ،  والأخذ دون رد ،  وأنانية المشاعر التى ارتبطت بالأشياء والمصالح والمكاسب . فعندما تنتهى المشاعر  ثق إنك أصبحت وحيدا فى حالة لايستطيع الإنسان أن يكون وحيدا، و لايستطيع أن يطيق الأخرين .. إذن فهو هارب .. هارب من الدنيا  و الأيام .. هارب حتى من نفسه  ومن الأخرين ، والهروب هو جمود بداخلك غير قابل لوجود بدائل ،  وبلادة فى حسك لاتستطيع  مواجهة أحد ولاتريد ،  وانزواء فى خارجك يفصلك عن الناس حتى ولو كنت بينهم ، ويجعلك ألا تفيق منها ولاتعود لنفسك إلا فى حالة وحيدة فقط .. حالة انفرادك بنفسك دون أية مؤثرات ، وهى حالة تجدها إذا مرضت مثلا ، إننا عندما نمرض نشعر بحالة من انعدام الوزن و فداحة الوحدة ، ولكن فى الوقت نفسه نجد أنفسنا منساقين للتأمل فى كل شيئ حولنا ، مرضك يعطيك فرصة التذكر بأن الحياة ليست جريا ولاهربا .. ولا كراهة ولاعزلة ، وأن عملية الكر والفر فى الحياة عملية اقتضتها الطبيعة وأبسط  بكثير مما كنا نظن .. وليست عملية استاتيكية فيها جمود وسكون وعدم رغبة فى عمل أى شيئ . سترى كل ذلك بكل وضوح وكأنك وراء حاجز زجاجى يفصلك عن كل العوامل الخارجية ..كأن المرض يعطيك فرصة لمصالحة نفسك ويأتى عليك وقت تريد أن تكسر هذا الحاجز الزجاجى وأن تتذوق الأشياء بطعم أخر  وأنه بإمكانك أن ترفع هامتك لعنان السماء وتفتح يديك وتضمها على منابع الحياة بفكر جديد تعانق به نفسك .. ويكفى فقط أنك أعطيت نفسك الفرصة فى أن  تفكر فى نفسك بشكل مختلف لترى كيف أصبحت فى عيون الأخرين ، ولايهم بعد ذلك أن تغوص فى نفوسهم ، لأن النفوس لايعرفها ولايملكها سوى صاحبها فقط .. الله عز وجل ، ولك أن تعرف أنه  مهما فعلت ومهما اجتهدت فإنك لن ترضى كل الناس .. ومهما كانت تصرفاتك تلقائية وبسيطة فهي تصرفات وراؤها مقصد وأهداف عند بعض الناس .. ومهما كانت نيتك سليمة وقلبك شفافا ومتصالحا دائما مع نفسك   وأن وقوفك بجانب الناس هو بدافع حب الخير لهم فهو حب للظهور عند بعض الناس وأنك لم تكن كذلك ، ورغم وضوح تعاملاتك  الإنسانية فإنهم يرون أنك تتعامل من وراء قناع وأنك تبدى شيئا وتخفى  أشياء  ،  وبالتالى فأنت شخص غير مرغوب فيه  ! . لذلك فأنت فى حاجة أن تتقبل فكرة إنه ليس كل الناس تحب أن تعرفك على حقيقتك مهما حاولت . فأهدأ وارتاح وكن على طبيعتك وتأكد إن الناس ترى بعين طبعها ، وعين حالها التي هى عليها. إننى عندما أردت أن أكتب عن كل هذا وعن كل مايدور فى ذهنى وجدتها فى عقلى مجرد شخابيط لاتستحق كل هذا العناء  لأن الحياة تسير وفق قوانين محددة وأنت جزء من هذه القوانين تخضع لها بلا ترتيب وتسير عليها بلا اختيار . لذلك فكرت وعدلت عن الكتابة الصريحة لأنها ستكون بلا معنى وتفاصيلها لاتهم أحد ، والتجأت إلى كتابة الرمز فى هذه القصة تحديدا لخصت فيها كل المعاناة التى واجهتنى على مدار الأيام وأصبحت فى عقلى عبارة عن شخابيط وفى قلبى جموح  ، لكى أخرج من عباءة الرتابة فى الحديث عن النفس وأن أكتب عنها بطلاقة فى مساحة أرحب وأوسع ، لذلك وجدت أن محتوى هذه القصة أفضل ماكتبت تحت عنوان " شخابيط على جدران الجموح " بالمعنى الذى أقصده وأرمى إليه ،  فالجموح انقياد  وراء عاطفة يصعب الرجوع منها أو الارتداد عنها.. عاطفة تضمرها النفس بإملاءات الخاطر  حتى تستنـزفها فى فكر لاطائل منه ،  ثم تجهز عليها  وتحبطها وتكبتها إحكاما وجبرا  تحت وطأة الأسر . تلك الهالات من الفكر  العاطفى المضطرب  .. بأن تكون أسير الهوى وتعانى من ويلاته . لذلك عندما وصلت لنهاية القصة وجدتها محيرة ولم أجد لهذا الطائر التعس نهاية منطقية أفضل من تلك النهاية الفاجعة ، لأننى لم أجد أية بوادر مشجعة فى وجود بدائل أخرى مقنعة حتى تكون النهاية سعيدة .. فليست كل النهايات  سعيدة ، وموت الطائر هنا إنما جاء من انتكاس المشاعر   التى تلاشت مع تعاقب الزمن وتداول الأيام  حتى أضحت لاوجود لها فى عالم الكثيرين من البشر ، لتبقى مجرد فكرة فقط  فى خاطر من لازالت لديهم بقايا مشاعر وأحاسيس . لقد عانيت على مدار سنوات عمرى وأنا أبحث عن أي قيمة للحب فى نفوس الناس  تحقق فى نفسى السعادة التى كنت أتمناها ولكن لم أجدها .. إننى أقصد هنا الحب الحقيقى  الذى لايعرف بعد ارتباط المصالح .. ولايعرف سوى احترام المشاعر   الصادقة وتقديرها فى النفوس . لئن كانت المشاعر الصادقة هى القيمة الوحيدة التى يظل الانسان  يبحث عنها كل يوم وليلة ، ولكن فى هذا العصر جفت منابعها وأصبحت من نوادر الحياة  أمام عنفوان كل ماهو مادى حتى ضغطت وتركت بصمتها بكل أسف على طبيعة حياة الكثيرين فتجافت مشاعرهم وتجمدت أحاسيسهم وقست ، فضاعت هذه القيمة ولم تجد لها منسربا فى نفوسهم ، هكذا صارت طبيعة الحياة والناس .. لتظل القلة من البقية الباقية من لديهم مشاعر وأحاسيس يعانون التفرد والوحدة والإنزواء ولامفر أمامهم غير الحياة البديلة بالوهم والتخيلات . أعترف أنى عشت فيها كثيرا ، كانت أحيانا تلح علىّ بالاكتفاء بهذا القدر ، وأحيانا أخرى تود أن تستكمله فى نفسى بشغف .. فى أحلام اليقظة أو فى الأحلام الحقيقية ، أو بالتمنى ، أو فى وهم الحب ، أو فى الوهم ذاته ، الوهْم  الذى طالما عشنا فيه  حتى أصبح ملازما لحياتنا وكنا نظن أنه يغتال الملل والحقيقة أنه لم يكن كذلك  ، لذلك جاءت محاولاتنا المستمرة فى  التغلب عليه بالإنشغال أوالإلهاء ، أو بعمل أى شيئ يضيّع الوقت .. بالسهر الطويل ، أوالنوم الطويل ، أوالإنتظار الطويل ، فكثيرا ماكنا نخدع أنفسنا بألا نعيش فيه ، أو نريد أن ننسى أننا نعيش فيه، والحقيقة أنه  معشعش فى حياتنا وملازما لها . لذلك اهتديت أن الكتابة كانت أفضل وسيلة للتخلص من الأوهام ومن الملل  حتى ولو كانت هذه الشخابيط التى احتشدت فى عقلى فملأته ،  وانتشرت على حوائط  قلبى فجاوزته ، ثم علت وارتفعت لتشكل من همومى وأوجاعى جدارا فولاذيا شاهقا .. ضخما وسميكا .. جدارا يفصلنى عن الوهم حتى انساه  ويحجبنى عن الملل حتى استريح ، إننى سأكتب  حتى ولو لم تكن هناك راحة ، أو فائدة من الكتابة .

مع خالص تحياتى : عصام

القاهرة فى يناير 2018