music

الاثنين، 25 سبتمبر 2017

شخابيط على جدران الجموح ( وكانت لصباح حكاية 1 )


لم أتذكر من تفصيلات حياتى حدثا مثلما أتذكر حكاية صباح رغم أن حكايتها غادرت منذ زمن طويل ، أيام كثيرة قد خلت ربما تجاوزت عقودا ، ضاع فيها ماضاع ، ونسيت فيها مانسيت ، ولكن صورة صباح لازالت محفورة فى ذهنى ومنطبعة فى خيالى وكأنها لم تغادره قط . جاءت قصتها فى ظلمة النفس ووسط سكون القلب الذى سهدته حكاية يسرية ، فإذا بى استنشق مرة أخرى نسمات الحب على يديها حينما داعبنى هواها ، وبدأت  شفتى تتحسس أولى قطرات الندى فى وجودها ، فإذا بالأشياء تتبدل فى عينى ، الوحشة لأنس .. والظلمة لنور ، وسرى الحب فى النفس من جديد ، لقد تبدل كل شيئ وتغير ، حتى أصبحت فى غمرة من الهوى ، إننى أحببت هذه المرة ولكن بإحساس مختلف .


ولم أكن فى ذلك الوقت إلا صورة أو انعكاسا لشكل وصفات مئات الصور من هم فى مثل سنى ، ربما اختلفت بعض الشيئ فى تجاربى وتطلعى وتعجلى وخوفى وتخوفى ولكن كان إلى الأسوأ ، إننى وعلى مدار الأيام الماضية كنت أريد أن أغرق الأوهام التى تعيش فى نفسى أوالتى تعيش فيها نفسى ، أريد أن تذوب دموعى الخانقة التى زمتنى كثيرا من وضع الأزمة التي وضعت نفسى فيها دون إرادتى ولازمتنى ، وأبقتنى على حالى . كنت فى هذا الوقت تلميذا فى مدرسة غمرة الإعدادية بشارع بور سعيد قبل أن تنقل لشارع رمسيس ، وعاصرتها أيضا بعد انتقلت ، كنت بنفس صفاتى ولكن على الهيئة التى تناسب عمرى وقتها ، طول القامة والوجه النحيل والعينين اللتين ترقين فى ومضات خاطفة باحثة عن الجديد الذى ينتشلنى ، إلا أننى لاأستطيع تجاوز مايفرضه سنى أن أنزع نفسى من طفولتى وصباى فى لحظة انسجامى مع من أحب ، وهو بالضبط ماأدى إلى فشلى فى علاقتى بيسرية ، وكان ملخص قصتى مع صباح ، حب غير متوافق فى طبيعة الظروف الحياتية لكل منا فضلا عن مسألة الفارق بينى وبينها فى سنوات العمر ، ولكنه هذا هو شأن الحب دائما .. لايرى لايسمع لايتكلم ، ولايعرف كيف يختار ، بل يرمى بسهامه على من يريد بلا ضوابط عقلية ، ويابخت من يقع عليه .. يأتى عنيفا ويهبط مفاجئا ، ولايعرف النمو المتدرج ، بل يأتى كالبرق والصواعق أوالطوفان الهادر على منحدر رقيق .. إننى كنت لاأريد طوفانا ، ولكن كنت أريد فقط أن أتخلص من الهواجس التى كانت تطوقنى ليل نهار ، كنت أريد علاقة بسيطة عابرة تناسب سنى ، أى القليل من المشاعر ، أوالقليل من عاطفة لاتترك فى نفسى إلا ماأنجو به من شذرات نشوى الحب التى كنت أتمنى أن أعيشها فى ذلك الوقت ، أدحض بها القلق والتوتر وخيبة الأمل لتستمر حياتى كما أحب أن تكون . واندهشت من حالى كيف أن المسائل العاطفية والاجتماعية شغلتنى إلى هذا الحد واستحوذت على الجزء الأكبر من تفكيرى وتصرفاتى ، أى أكثر من أى شيئ أخر ، فأحب ماأخافه .. وأقترب من الشيئ الذى أهابه . كانت فكرة أن أعيش قصة عاطفية مثل أصدقائى الذين كانوا ينعمون بها مسيطرة على فكرى وخيالى ولكن تحقيقها على أرض الواقع كان شيئا صعبا للغاية ، لذلك كنت أجد راحة كبيرة فى الخيال والإنغماس فى أحلامى الياقظة حتى تزحزحت الدنيا لى قليلا ودانت فتغيرت من وضع الثبات إلى المواربة ، وأحسست أنها من الممكن أن تصبح يوما فى يدى وتراها عينى مختلفة ، فوجدت نفسى أتحلل نسبيا من بعض خجلى ، ذلك ماتعلمته فى بيتنا ونشأت عليه ، وجاء ذلك بفضل محاولاتى المتكررة أن أستفيد من تجارب الحياة والتقرب من الأصدقاء والتعامل مع دنيا الناس ، فاتسعت قليلا حتى أصبحت أفضل مما كانت عليه من ذى قبل ، ورغم كل ذلك لم يخطر ببالى أننى على أبواب أجمل قصة عشتها فى حياتى ، وأن قدمى ستزل فى بحر هائل من الحب ، وأننى سوف امتلك الشجاعة والإقدام ولم أكن قبل ذلك أعرف عنهما شيئا ، بل كنت أخاف من خيالى ، وأن رأسى سيبقى مرتفعا فوق الماء لكى أتمكن من التنفس ومن السباحة رغم أننى لاأعرف فن العوم وأغرق فى شبر ماء ، ولم أتصور أنه لن يفرق معى بعد ذلك النجاة منه ، أو الغرق فيه . وأن ماأدهشنى أكثر أننى تنبهت إلى الكثير من هذه المعانى فى هذه السن المبكرة رغم القيود الشديدة التى فرضت على من فرط حب أمى وحنان أبى لى ، وكلما تمضى السنوات كانت تضيف إلى آرائى الكثير وأفادتنى ، ومهدت القدرة على استمرارية حياتى على النسق الذى كنت أريده ، حتى عرفت وتعلمت من حب النساء الكثير ، وأه من النساء وجبروتهن ، وأه من الحب وسنينه .


فى إحدى المرات التى كنت عائدا فيها من المدرسة ، وبينما كنت أصعد درجات السلم فإذا بى أسمع من خلفى حفيف ثوب يتماوج ، ووقع أقدام تتهادى على مهل كأنه النسيم ، أحسست من مصدر الصوت أنه يتعقبنى حتى اقترب منى ودنا وأصبح لأذنى واضحا ، فألتفت وإذا بى أقف مذهولا مبهورالأنفاس ، فقد رأيت أمامى ولأول مرة صباح .. طالعتنى كشمس سطعت فجأة على بيت قتم ، فأنارته وأعادت له بهاءه القديم ، وكنت وقتها لاأعرف إسمها ، لكن ولابد أن يكون اسمها كذلك ، فهى تشبه فلق الصبح عندما ينشق من ظلمة الليل فيفيض على الكون أولى نسماته ويسبح فى نور ضيائه ، إننى لم أتصور يوما أن أرى أنوثة طاغية بهذا الشكل ، ولاأرى جمالا مفرطا يفصح عن تقاسيم جسم محدد الأبعاد بهذه الدقة ، كان متوسط الطول .. متناسقا ميادا.. قوامه رشيقا ملفوفا .. بشرته شديدة البياض ، عيناها واسعتان سوداوان كعيون المها ، وشعر كستنائى ناعم ألمس .. لامع متهدل على الكتفين منساب على الصدر ، شكلها يفصح عن جمال الخلقة بكل أبعادها القياسية ، وراحت تلوح لعينى إناقة ماكانت ترتديه سروال من حرير ، ورأيت معه الوجه المستدير فاتنا متألقا .. والهدب طويلا ساجيا ذلك ماهدهد قلبى بلفتاته ، رأيت كل ذلك فجأة ورحت أهتف من فرحتى أهكذا بيتنا سيحل عليه من يسكنه وينيره ويجعله بيتا من نور وجنة من فردوس أعلى . كنت حينذاك فى الخامسة عشرة من عمرى ، وكانت صباح تكبرنى بحوالى أعوام ثمانية ، ذلك ماعرفته منها بعد ذلك من خلال مادار بيننا من حوارات . بدأت حكايتى معها من هذا اليوم الذى جاء مصادفة بعد شهور قليلة من زفافها التليد الذى كان وقتها حديث الناس .. أتذكر جيدا هذه الليلة التى كانت أشبه بليالى ألف ليلة وليلة ، نعم لازلت أتذكر كيفية التحضير لها بكل تفاصيلها ، الفرح أقيم فوق سطح بيتنا ، أخذ تجهيزا كان مبالغا فيه جدا فى ذلك الوقت ، مقارنة بمساحته الكبيرة وامتداده المتسع جدا وإطلالته عبر شارعى الظاهر والجيش ، حيث تجاوز الإعداد له ثلاثة أيام بلياليها من تثبيت الأعمدة الخشبية وكسوها بالفروش المزركشة وتزينها بالكهارب الملونة والكراسى الوثيرة والورود التى أحاطت المكان كله ، وأتذكر كيف كان توافد المدعوون يوم الحفل ملفتا للغاية ، رأيتهم يأتون فرادى وجماعات فى تدافع ، كأن أسرابا تجمعت وهمت للدخول فى مظاهرة سلمية ، كان معظمهم من كبار مَعلمى الجزارة بالحسنية وباب الشعرية والجمالية والدرب الأحمر والقلعة والسيدة زينب وأصفياء البلد من مسئولى الدولة وخاصة رجال القضاء والشرطة ذلك مايؤكد سطوتهم الدائمة والغلبة التى كثيرا ماتدان لهم . إننى لم أر حفلا بهذا الشكل من قبل ، ولم تشهد عيناى مايماثله بهاء وفتنة وثراء ، طالت ساعاته وأمتد إلى الهزيع الأخير من الليل بين مرح وطرب ورقص ، أحياه من الفنانين والفنانات ذائعى الصيت ومن ذوات الشهرة فى ذلك الوقت محمد عبد المطلب وشفيق جلال ومحمد رشدى ، والراقصة سهير زكى ، ولم أكن أصدق أن هذه الراقصة التى تظهر فى الأفلام وفى التليفزيون العربى أن تأتى إلى بيتنا العتيق وتصعد كل درجاته الطويلة حتى ترقص على سطحه فى فرح بلدى لولا أن رأيتها بعين رأسى ، ولكنها جاءت ورقصت وفعلت كل شيئ واستطاعت أن تسلب عقول كل من شاهدوها وتلهب قلوبهم وتلهو بعيون كل الشباب والرجال الذين راحوا يتمايلون معها من فرط شرب البيرة التى اكتظت صناديقها الكثيرة خلف الشادر ، وقد تعلقت عيونهم بجسدها شبه العارى وهو يلتف ويتمايل حين تغدو وتروح على خشبة المسرح على أنغام موسيقى أنت عمرى لمحمد عبد الوهاب . إننى أتذكر كل ماحدث فى تلك الليلة وكأنه كان بالأمس القريب ، ولكن لم يشأ حظى إن أرى صباح فيها ولم أتبين شكلها وسط هذه الجموع وتلك الحشود الذى اكتظ بهم السطح ، رغم أنها كانت العروس وصاحبة فرحة هذه الليلة ، لذلك كانت دهشتى وانبهارى بها عندما رأيتها لأول مرة فى ذلك اليوم . بعد ذلك كانت لقاءاتنا عابرة إن شاءت لها الصدفة أن نلتقيا ، كنت كلما أراها أشعر براحة شديدة فيها صفاء نفس وهدهدة روح ، وكأن القدر أراد أن يعوضنى عن خروجى من تجربتى القاسية والمخيبة للأمال مع يسرية بعد أن تركتنى وأعرضت . جاءت وكأنما القدر بعث بها كى يبدد بها أطيافا من المشاعر المضطربة التى كانت تحكمنى فى ذلك الوقت ، مع إنى لم أفعل شيئا يذكر سوى النظر إليها ومتابعتها فقط ، ولكنى شغوفا بها لدرجة أننى كنت أعرف وقع أقدامها وزحف خطاويها كلما كانت تمر من أمام باب شقتنا وهى صاعدة درجات السلم فى طريقها إلى السطح ، مثلما كنت أعرف من وجهها كل شيئ ، فترنو نفسى لها وترق وهى تتبختر أمامى فى استحياء حتى أن قلبى الصغير يكاد ينخلع منى عند كل مرة ويسقط إلى أخمص قدمى ، وكان أكثر مايعجبنى فيها أنها مثلى قليلة الكلام ، لم تكن تأتيها الكلمات إلا على مهل ، ولكن كانت تسترق النظرات ، كانت لها عينان تفعلان بهما كل شيئ ، إنها تعرف كيف تسلب إرادة أى إنسان مهما عظم شأنه ومهما تجلت قدراته . الشيئ الوحيد الذى كان ينغص علىّ حياتى أنها كانت متزوجة وليس من أى أحد ، بل من فتحى الجزار ابن المعلم الكبير الحاج صالح ، ومع ذلك كنت أحاول أن أتناسى ذلك وهى أمامى ، فأمنى نفسى وأنا أرسم دنياى الجديدة وهى معى وأصور حياتى كلها فى وجودها خطوطا وألوانا من فرط ارتباطى بكل شيئ فيها ، وجهها وقوامها وابتساماتها .. وأه من ابتساماتها التى أصبحت أسيرا لها وجعلتنى أغفل بها عن الحقيقة المرة وأنشد المستحيل ، إنه الارتباط النفسى بالشيئ الذى يجعل المرء ينسى كل الدنيا ومافيها حتى إسمه ويقدم الغالى والنفيس من أجل الإبقاء عليه والحفاظ على قيمته ليراه وقد انعكس على حياته سعادة وهنأة قد تأتيان مرة فى العمر ولاتتكرران .


تنبهت فيما تنبهت لرومانسياتها المنفردة رغما عن طبيعة من تعيش بينهم .. رومانسيات بنت البلد البسيطة ، لاتعرف إلا ماتسره بداخلها وتحلم به مع نفسها ، فكان أقصى ماتسمح به حدود فكرها وقيود حياتها الزوجية وقبلها العزلة فى بيت أبيها هو انفراج نافذة حجرة نومها المطلة على شارع الشيخ القويسنى قليلا لتطل من ورائها لترى الحياة من دنياها الضيقة الصغيرة ، وكنت قبل ذلك لم أر هذه النافذة تُفتح قط ، فكانت الإماءة الأولى ، كما تنبهت أيضا أن باب شقتها كان ينفرج قليلا بمنتهى الحذر أثناء صعودى السلم ، وكأن فتحها إياه جاء مصادفة لأى سبب ما ، كأنها ستقوم بنظافة عتبته ، أو أنها ستضع سلة المهملات خارج الشقة ، فكانت الإماءة الأخرى ، كانت نفسى تحدثنى فى كل مرة أثناء مرورى من أمامها أن أقف وأطيل إليها النظر وخاصة أنها واقفة بملابس المنزل التى تبدو فيها أكثر من رائعة ، تنظر لى ساهمة تعلو شفتاها ابتسامة خفيفة مشجعة أن أفعل ، ولكنى كنت أمضى مسرعا خوفا من أن يرانى أحد ، كانت هاتان الإماءاتان المعبرتان ماهى إلا إدراكات لقدوم حالة جاءت بوادرها فى هذه الومضات العابرة المحفوفة بالنظرات الصامتة التى تضمر كلاما كثيرا يريد أن ينطق ، إلا من ابتسامات كانت تبثها لى بسخاء عبر ثغرها المتلألئ من نور ، ومداعبات من بعيد ، وأحيانا أخرى كانت تحاول وهى صاعدة للسطح أن تقترب منى وتمسح بيدها على شعرى وتغوص بأناملها فيه . مضت أيام وأنا فى غاية السعادة مع أنى لم أفعل شيئا ولكنى سعيد ، لم أحقق أية خطوة إلى الأمام فى أى شيئ ولكنى مبسوط ، إننى لم أفعل شيئا يذكر سوى مداومة النظر إليها وبشغف ، ربما لاحظت هى ذلك واعتبرته اهتماما بها مما دفعها أن تتجرأ وتغافل حماتها وتفتح باب شقتها وتصنع لنفسها فرصة ، كأن نظراتى التى تكالبت على وجهها وعينيها على مر الأيام الماضية أدهشتها وخلقت بداخلها هذه الجرأة الطارئة فبدت وكأنها تقول لى بعينيها : لم تنظر لى هكذا ولاتتكلم ؟!!! . إنها أرادت أن تسمع منى كلاما يفسر لها نظراتى إليها ، ويزيل عنها إبهاما تتوقع دوافعه المقنعة ، كى تمحو به رهبة بداية اللقاءات وإجراء الحوارات ، إنها فعلت وكأن لديها إصرارا أن أتجرأ مثلها وأبادلها حلو الحديث ، غيرأننى لازلت باقيا على حالى مضرج الوجنتين خجلا مترددا . فكرها هداها أن تتحين فرصة ربما لاتسنح بسهولة من كثرة المحاولات المتكررة للتضييق عليها ، حتى جعلت لسانها يتأوه وينطق آهة خفيفة صادرة من خلف أبواب الترقب والخوف تارة ، ومن الخجل والكسوف تارة أخرى ، سمعتها كأنها آتية على جناح الأثير ، فكانت كلمات أشبه بصوت الهمس : أنت عامل إيه ياميمى واحشنى جدا ، أنا عاوزاك ، ياريتك تسبقنى إلى السطح . ولم أشأ أن أرد عليها ، ربما تفاجأت منها بالكلمات التى تزرع الحب فى القلوب عنوة ، وربما توقفت عند نطقها لأسمى لأول مرة ، وأنا الذى كنت أخجل منه كثيرا ولاأدرى سببا لاختيار أمى له عندما أطلقته علىّ ولم أعترض عليه يوما ولم أقبله ، ولكن بعد أن سمعته يُنطق من بين شفتى صباح قبلته بل وأحببته ، لقد جذبنى فى صوتها نبراته الجميلة التي تشبه ترنيمات الشحرور ، كنت لأول مرة أسمعه ، وصوت المرأة مثل أعضاء الجسم تماما .. مثل شفتيها وساقيها ونهديها وعينيها ، ولكن صوت صباح كان يضم كل هذه المجموعة إذ راح ينساب فى أذنى أنغاما تصدح ومِسكا يتضوع ، لدرجة أننى بمجرد أن سمعته ، أحسست مافيه من لمسة الحنان ورقة النسيم ، ونقاء الهمس ، ونعومة أوراق الورد وصفاء الحب ، وشيئ يريد ألا تغادر حتى تسمع صدى تناغم ألحانه وتجلياته ، كأنه عزف على أوتار الليل ، شارك فيه كل آلات الموسيقى التى عرفت طريقها للكون بألحان أقرب إلى الخيال ، فيبدو كصوت أمواج البحر اللاهية الفرحة حين تداعب صخور الشاطئ بأعذب الألحان وأشجاها ، لايستطيع المرء مقاومة سماعه . وإن كان صوتها جميلا إلى هذا الحد إلا أن كلامها أجمل وأفصح تعبيرا عن مفاتن أنوثتها ومقاصد نياتها ، إنه يشبه فلسفة الحب عندما تسهب فيه وتسترسل ، كأنك تسمع نشيج الليل فى هدوئه وروعته . 


كانت هذه هى المرة الأولى التى اسمع فيها صوتها ومنها بدأنا الكلام . فكان أول تصريح لها بأنها سوف تصعد للسطح من أجلى ، واعتبرت هذا وعدا . ولست أدرى لماذا طربت لهذا الوعد واعتبرته ميعادا وفرحت يومها به فرحا شديدا وسبقتها صاعدا للسطح مباشرة بخطوات تسابق الريح دون أن أمر على شقتنا ، وفى نشوى وقفت على السور منتظرا ، حتى جاءت تتهادى فى تبختر وخيلاء ، كنت مبتهجا مسرورا ، تغمرنى سعادة مابعدها سعادة  بما أفاء الله على من نعيم الوصال الذى لم أكن أحلم به يوما . فى بداية الأمر بدت صامتة  كاسفة الوجه خجلى ، ورغم اضطرابها من الحياء إلا أن بدت بطلعة فاتنة ، وجه أبيض مكتسب  لحمرة  ، يحلو له عند الأصيل الذى جاء وقته مصادفة أن يتطاول على الشفق وينظر إلى حمرته مبتسما . فى البداية دار حوار محدود تحكمه بيننا مسافة تباعد ، ثم رويدا رويدا جلست وأجلستنى إلى جوارها ، جاء الكلام بتأن وروية وتؤدة وكأننا نغوص فى الحنجرة وننتزعه منها عنوة ، فكثيرا ماكان الصمت يكتنف كل شيئ حولنا  من فرط حساسية الموقف ، فلم نستقر فيه على حديث ولم نتكلم فى موضوع محدد ، بل كانت الكلمات منمقة للغاية تُسترسل من كلانا بلاهدف ودون أن تفضى إلى معنى ، ولكن كل حرف ينطق كأنه يُوزن على ميزان حساس . وسرعان ماانتهت جلستنا الأولى التى لم تأخذ وقتا طويلا لم أتبين منها ماكانت تريده ، ولكنها صافحتنى بحرارة وأخذت تربت بكف يدها على ظهرى وبأناملها تداعب شعر رأسى وتغوص فيها برفق ، ثم رأيتها تلتفت خلفها وهى تنصرف من أمامى كأنها أحست بوقع نظراتى على جسدها الملفوف فى ثوبه الحريرى كأنه بلا ثوب يحجبه عن العيون وتلاقت نظراتنا ، فلمحت على شفتيها ابتسامة ماكرة ثم مضت فى خطوات وئيدة ، ومعها انصرف قلبى مودع الجمال العف لينطلق من الفرحة كطفل يلهو فى الطرقات بزهو وسرور ، إننى لاأريد للطريق أن ينتهى وقد بدت الحياة لذيذة ممتعة ، أجوب الأماكن العامة غير مصدق ماتم . قضيت هذه الليلة وكل الأيام والليالى التاليات مبتهجا انتظر مطلع الشمس حتى أراها من جديد ، كنت أنام وأنا أفكر فيها ، حتى أغفو فأجدنى أحلم بها ، ثم أصحو على صورتها وهى تداعب جفونى ، إننى أصبحت أحفظها كما لو كانت قصيدة جميلة ، حركاتها وسكناتها ، خطواتها وهى صاعدة إلى السطح وبقاؤها فيه ، وطوافها الذى كان بلا مقصد ولاهدف وخاصة بعد انتهاء مهمتها من الصعود بحجة نشر الملابس وفراغها منه . كنت كلما أصعد إليها أرى فى وجهها تهلل الفرحة ، ومع تطورالعلاقة توالت اللقاءات ووجد الكلام طريقه إلينا ، وتعرفنا على بعض أكثر ، وعشنا فى الأيام التاليات نشوى غريبة وكأننا فى غمرة الهوى سكارى ، وفى ذات مرة تقدمت منى وصافحتنى بيد مولهة الأنامل واستطاعت بمهارة أن تقلص كل مسافات التباعد بيننا تماما ، رغم أننا لم نفض لبعضنا البعض مايفيد ذلك الحنين الذى يومض قلبينا وينيرهما بهذا الشكل ، ولكننى كنت أحس بأن خيطا رفيعا لايكاد يُرى أصبح يعقد بيننا ، ويربطنى بها حتى تعلقت بها إلى هذا الحد المفرط ، وكثيرا ماكنت أفكر فى طبيعة هذه العلاقة التى أخذت هذا المنحى من إحساس فياض وشعور جارف كأنه الحب ،  دون أن نتكلم صراحة بما يبرر وجوده ورومانسياته . فهل هذا هو الحب أم مجرد نزوة أو حب استطلاع أو علاقة عابرة أرادت بها الهروب بمشكلاتها حتى تُنسيها ماينغص عليها حياتها ، أو أنها تريد أن تجرب الشعور بالأمومة وأنها تنظر لى على ماتتمنى أن تلده وتراه مثلى ؟ كنت أجادل نفسى كثيرا وأحتار وأقول فى نفسى : ربما .. يجوز .. لاأدرى ، إننى حقيقة لاأعرف تحديد ماأحسه نحوها أو ماتحسه هى نحوى ، ثم أعود وأقول لنفسى : إن لم يكن هذا حبا ، فما هو الحب إذن ، وماهى أشكاله وكيف السبيل إليه ؟ . إننى لازلت على ترددى بل وزاد إلى خوف وريبة من حدوث أية مشاكل قد تعصف بى وبها وتهدد حياتها مع زوجها ، وتعقد الأمور مع أهلى وأسرة زوجها التى كنا نعمل لها ألف حساب ، فدائما ماكنا نسمع عن تعاركهم مع الجيران على أتفه الأسباب ، وعنفهم فى معالجة المشكلات ، فالسكين عندهم يسبق كلامهم بحكم العادة التى تفرضها طبيعة عملهم بمهنة الجزارة .



كان إحساسى يقول أنه الحب وأبرر لنفسى أن الخجل والحرج والإرتباك هى ماكانت تقف حائلا دون التصريح به والخوض فيه ، لذلك كنت أخاف أن تأتى عليه لحظة ويمضى ، وكان هذا الإحساس يغلظ عندى كلما تفاجأت بالنافذة مغلقة وأتيقن أنها ليست بالمنزل ، وقتئذ أشعر بالضيق يطبق على صدرى ، وأن هناك مايهدد هذه الهنأة وتلك النشوة الغامرة وينغص علىّ حياتى ، فيتملكنى الحزن وتسيطر علىّ الحيرة وأحس بقسوة الدنيا ، وأشعر كما لو أن البيت حل عليه الظلام فجأة وأخذته الوحشة والإكفهرار . كنت أزداد اضطرابا كلما طالت فترة اختفائها دون أن تخبرنى مسبقا عن السبب ، وخاصة أن خروجها المفاجئ كان لايطمئننى ، فما أكثر ماكانت تترك المنزل غاضبة بسبب جود خلافات محتدمة ومشكلات مستمرة مع زوجها لعدم وجود تفاهم وتجانس بينهما ، أومنغصات منزلية تحدث يوميا مع حماتها كانت تحكيها لى وتفضفض عنها معى لإزاحتها من فوق صدرها المجثم وفكرها المؤرق . كنت أشعر كلما كانت تختفى ولاتظهر ويطول غيابها أن وراء ذلك مشكلة كبيرة ، فكانت مسافة التباعد عندى تمر كالدهر وأبقى على حالى مدرجا بالقلق والحيرة تتقاذفنى فيه الأمانى ويأخذنى الحنين إلى آفاق من الفكر تتلقفنى فيه أحلام اليقظة إلى حد الإفراط ، فأتوهم أن أقداما رشيقة قد صعدت السلم ورائى .. أو صوت كالهمس يسرى فى أذنى ، إننى أتوهم ماأتمناه وأسعد به ، حتى وصلت لمرحلة لم أعد أثق فيها بحواسى ، وأصبحت لاأفرق بين الحقيقة والخيال .. أو بين الخيال والوهم ، وأقع فريسة لأفكارى ، ولكن كنت أعذر نفسى إنها أول مرة أحس فيها مع إنسانة بمعنى الحب إلى هذا الحد ، ولم أكن قبل ذلك أعرفه ، ولاأعرف معنى أنى أحبها ، أو أنها تحبنى ، احساس مرهف لم يكن مر بحياتى ألبته . هكذا أبقى على حالى منتظرا فما سبيل أمامى سوى الانتظار حتى تعود كإشراقة الشمس فى الأفق البعيد وأراها من جديد أحس وقتها أن الروح التى سحبت منى عنوة ترد لى مرة أخرى بقسوة ، فرحة لايستطيع جسمى تحملها ، حيث يتهلل وجهى من شدة الفرح مرحبا .. ويأخذنى ولع الحب بالحنين ويدفعنى إليها ، فأجدنى انساق وراءها بلا عقل ولاتفكير ، وكأن شيئا يجذبنى إليها بقوة ، لايريد أن يبعدنى عنها ، ولا عن قلبها ، ولا عن عينيها ، ولاعن أذنيها ، ولاعن يديها . يريد أن أكون مشدودا بها بحبل من مطاط إذا ابتعدت عنى أرتديت إليها بكل عنف والتصقت بها . إننى أريد فقط أن أكون جزءا منها أوهى جزء منى ، أو يصير كلانا جسدا واحدا بقلبين . فهمت صباح بفطنتها تلك الفرحة الناجزة التى أبدو عليها عندما تذهب عند أهلها وتغيب ثم تعود ، فكانت تؤكد لى أن عودتها ليست بسبب التصالح مع زوجها الذى لاتحبه ولاتريده ولاتتمنى يوما أن تراه أو تعيش فى بيته ، ولكن لإحساسها بالغربة فى عدم وجودى أمام عينيها والحنين الذى يقسو عليها ، والأشواق التى تباغتها وتقف حائلة دون أن ترانى ، عندئذ تشعر بانكسارات العشق وغياب الحبيب فتتملكها عاصفة قوية تريد أن تجرفها لبيتها حتى ولو عادت من تلقاء نفسها دون أن يذهب إليها زوجها ويصالحها ، فكم هى عاشت إحساس الغربة فى غيابى ، وتريد أن تخبرنى بأسباب بعدها عنى حتى لاأقسو عليها وأظلمها . كنت أشعر حينما تعود أنها تضغط بكل عنفوان أنوثتها ، وتغدق بحنيتها ماتفاجئنى به من عاطفة مشبوبة حتى أصبحت عيونى لاترى غيرها ، فكانت كما النسيم الذى يقبل على الجنان مع كل طلعة ربيع جديد .
                              وإلى ملتقى أخر مع الجزء الثانى



مع خالص تحيات : عصام    
القاهرة فى سبتمبرعام 2017