music

الأربعاء، 4 ديسمبر 2013

وفاء إيزيس وعودة هاميس ( الجزء الثالث )







بعد إغفاءة جميلة لم تتجاوز سوى سويعات وجدت نفسى أصحو فجأة فى ساعة مبكرة من تلك الليلة فكم كانت الأحداث التى مرت فيها مباغتة ومفاجئة . أحالتنى أحلامى إلى عالم أخر ، كل شيئ فيه أرحب وأوسع من عالم الحقيقة ، الأعصاب مهدهدة ، القاهرة شوارعها فسيحة مليئة بالخضرة .. تنساب منها الجداول الصافية على صوت الموسيقى المنبعثة من كل جانب كالهمسات .. كالأحلام ، وهاميس كامنة فى الخاطر تؤنسنى بهيئتها منتشية سعيدة بهيبتها ، كنت استرق صوتها القادم من عصور الحب المنقرضة حتى استحس الشجن والحنان لتنفجر الحياة أمامى طوفانا من الفرح وارتعاشات اللهفة وهمسات الكلمات المضيئة مرة أخرى ثم أتذكر على خلفية حياتى التى كنت عليها بكل زخمها وثرثراتها التى كانت تلاطمنى وتطمرنى وتلاحقنى من خلف النوافذ المهترئة العتمة فكثيرا ماكنت أحكم إغلاق قوقعة نفسى دون مبرر حتى جاء صدى صوتها من خلف الأحلام يولد الضوء بشمس نضرة تلهو فيها فراشات الأمل الملونة ، وبألوان الطيف الصيفى تتسلل إلى نخاعى لأرى صورتها فأتوق لأحتضانها وتعود السعادة وتقطننى .. وتعود الألوان إلى الدنيا وتهزنى بعد أن كانت سوداء رمادية . شاركتنى  أحلامى بروح مركبة يغمرها ضياء رقيق شفاف وآفاق تنساح إلى آفاق رحبة عبر سحابات صيفية بيضاء تطوف بنا لنتفقد معا كل اشيائى وممتلكاتى الصغيرة .. سحابات مشبعة بقطرات الندى فى الصباح وملتهبة بالوان الشفق فى المساء . إن أكثر مايمكن أن يمتلكه الإنسان فى هذه الدنيا، أمانيه .. أحلامه البسيطة .. ضحكة صافية من القلب ، تتخذ لها منسربا إلى أغوار النفس فترفع من الدخائل حاجزا تلو الأخر تنقشع معه غربة الأيام ووحشتها لأرى الدنيا معها والناس معها والطبيعة معها  نستشرفها معا من نافذتى الصغيرة برؤية جديدة إلى عالم من السحر الخفى أرحب وأجمل وأرقى نرى فيه نقاء قلوبنا واضحة ، لأننا عندما نحب حبا حقيقيا نرى كل شيئ بصدق ووضوح ، واللحظة فيه تساوى عمرا .




مرت أيام وليالى من الرقص على حافة المجهول ، رؤية فتاة جمالها غاية فى الروعة تأتى بغتة وتختفى بغتة درب من دروب الخيال ومدعاة للجنون والهلوسة دون شك وخاصة أنها انبعثت من زمن غابر ، وماتت ليلة عرسها .. ليلة تاريخية اختلطت فيها أهازيخ الفرح بتراتيل الحزن ، ثم عادت أدراجها للحياة وأقضى معها وقتا ثم تختفى  ولم تظهر ، أى منطق يتصورهذا وأى قدرة عقل تتخيل مايريده ويتمناه على هذا النحو .. مطلق العنان وبلاحدود لرجل أقصى ماكان يتمناه من الدنيا ويحلم به هو مايصوره له عقله الباطن دون إسراف فى تخيل المراة التى ستُنهى عذابه .. المرأة المثالية التى ستُعيد اتزانه ، المرأة التى تتغلغل فى النفس والجسد كالإدمان لعقار مخدر ، فإذا به يجد نفسه وجها لوجه مع إمرأة أسطورية سرمدية لها القدرة على الظهور والاختفاء فى أى وقت تشاء وفى أى مكان تريد ، تتحاور وتتجاذب أطراف الحديث بحنكة واقتدار .. وتسهب بطلاقة لسان وطلاوة كلام دون حدود ، تنم عن ثقافة حضارية عالية المنشأ ، ربما دفعنى هذا إلى رغبة قوية إلى القراءة بتوسع فى كتب تاريخ الفراعنة واقتفاء آثارهم فى محاولة جادة لاستقصاء أخبارهم ونوادرهم ومآثرهم وأيامهم فى الحياة والحب حتى أقف على حقيقة وضع هاميس وكيفية تأهيلها اكاديميا ونفسيا وعقليا وجسديا للمجيئ إلى عالم الحقيقة بعد أن تعلمت لغتنا بلهجاتها العصرية المتفردة فى خمسمائة عام كما زعمت ، كى تأتى وتتواصل مع أناس ليسوا من زمانها وتقيم معهم علاقات ، وهو الأمر الذى أخذ منها مجهودا جبارا كما قالت ، إليس هذا عالما غريبا لايتناسب شكلا وموضوعا مع عالم الإنس .. عالم الحقيقة .. عالمنا .





هكذا أصبح حالى متأرجحا بين المتناقضات ومن حال إلى حال .. من إحساس جميل للشعور بالملل .. أحاول كل يوم إستعادة اتزانى من الهوس الذى كنت أحلم به البارحة أو أفكر فيه اليوم على أنه حلم وانقضى . أصبحت حياتى هكذا مضطربة الخاطر يشوبها الأرق ويساورها القلق الدائم من كل جانب . هل غيابها هو سر هذه اللعنة ، وهذا القلق المفضى لخوف ساحر وجنون من الفكر المتوالى لمجرد رؤية إمراة أرادت أو أريد بها أن تهبط إلى الأرض لاستعادة وجودها وجسدها وحواسها وغرائزها وعمرها الضائع عبر أزمان سحيقة من سطوة الظلم وجبروت العقائد وخرافات الأساطير حتى ضحت بشبابها الغض النضر بسببه ولقيت حتفها فى هوى النيل ، ثم تعود مؤخرا بعد إدراكها أن دنيا واحدة عاشتها لم تكن كافية لاشباعها الأبدى لنور الحب وفهمها للحياة ، أم هى حالة وجدانية جعلتنى أرقبها فى نفسى ، فأراها إمرأة مرحة جميلة تلهو تارة ، أو إمرأة منكسرة تتلمس اللحظات الجميلة التى لم تكن تحلم أن تعيشها تارة أخرى، ربما كان أوقع أن أعرج وأنا فى فراش يقظة هذه الساعات الساهدة قصص الحب الحقيقية التى عشتها فى حياتى مع العذارى فى محاولة إستعادة كل روائع الكلمات وهمهمة الهمسات ورقة وعذوبة النظرات وجمال عناق الأيدى وروعة القبلات ، فقد كانوا كلهن يحملن قلوبا من ماس تشعر وتحس وتنبض بالحياة والحب . أو ألجأ لخيالات من تخيلات وقصص من حكايات وصور من تصورات لكل أسباب السعادة وأشكال الحب بمعادل موضوعى لما يدور بخلجاتى أجُب فيه نفسى المرهقة التواقة . أه من الوحدة وعذابها ، إن اجترار قصص حب رائعة عشتها بحلوها ومرها ومثلت لى يوما  جذوات الغرام المتقدة ، ثم انطفأت وتحطمت مع الأيام على صخرة الحياة ، لاتعدو سوى ذكريات .. مجرد ذكريات كامنة فى الخاطر أحيانا تعطينى إحساسا رائعا استهوى استعادته واستعذابه وأحيانا تشعرنى شعورا قاتلا بالوحدة تثقل كاهلى فافقد معه الإحساس بالسكينة والهدوء ، وأحيانا أخرى استجدى الحنين الموجوع والتمنى المفقود للعودة لترف الذكريات والانغماس فيها مرة أخرى ، ولكن كيف ؟!!! يطول الوقت ولاأجد ردا .





 بمرورالأيام والليالى التالية خبُأت جذوة العاطفة التى شغلتنى وسهدت فكرى وفى إحدى هذه الليالى الساهدة اتخذت قرارا حاسما بتصفية حساباتى الذهنية من افكارى الهجيرة وسرابى المنتشر حولى حيث تمددت على السرير واغمضت عينى قليلا ، لاسترجع أنفاسى المتقطعة عبر ضوء شارد متسلل من النافذة بدت بصماته على الجانب الأيسر من وجهى ، بينما تموج بقية الغرفة فى ظلام وصمت يتسرب على سكينة الأشياء ، حسمت أمرى فى هذه الليلة التى لم أنم فيها ولا أشعر برغبة فيه رغم التعب الذى كان يسكن كل جسدى حتى أدركنى الصباح بخيوطه البيضاء الرقيقة الناعمة ، قمت وأخذت حماما باردا كى أحس بانتعاشة تطرد كل إحساسى بالتعب وهذا الأرق الذى ظل مسيطرا وملازما لى وجاثما على صدرى ، وفى لحظات ارتديت ملابسى كعادتى وهممت النزول لعملى ، وقفت فى انتظار السيارة . فجأة وجدتها أمامى ، أحسست بالروع والهلع يعود مرة أخرى، حتى ربطت ماكنت أظنه حلما ظل يطاردنى طيلة الأيام والليالى الفائتة بالذى أراه أمامى الأن حقيقة ، رباه .. إنه ليس حلما بل حقيقة ليس للعقل من سبيل سوى تصديق ماتراه عينى رغم غرابته ، وقبوله رغم خروجه على المألوف . كانت واقفة غير بعيدة عنى .. اجتذبت نظرى من جديد فى محاولة أخيرة لتأكيد إحساسى بأن ماأعيشه حقيقة .. دنوت منها أكثر لاستعادة ملامحها فى تطلع جديد ، وجدت وكأننى أراها لأول مرة قلت لها : أنت الحلم .. أنت هاميس . ردت بابتسامة ولم تتكلم ، بدت اليوم كتحفة رائعة .. إمرأة وهبتها الطبيعة كل ماتبغيه المرأة من جمال الوجه وفتنة الجسد ، أخذت أبحلق فيها وأدقق النظر على شفتيها فتذكرت نعومة أوراق الورد عندما أطبقت عليهما بشفتى فى واحدة من أجمل القُبل فى حياتى وقلت فى نفسى : يالها من إمرأة تُنسى المرء كل شيئ .. الماضى والحاضر والمستقبل .. تجعل الدنيا تتحول فى لحظات إلى غفوة حالمة . دنت منى وقالت : عصام صباح الخير ، ها هل ستظل تنظر لى كثيرا على هذا النحو ؟ ياترى أنسيتنى أم مازلت تذكرنى وكيف حالك وماأخبارك ؟  تقاطرت أحرف الكلمات من شفتى بإرتباك دون تفكير : ليس بأفضل حال إننى كنت انتظرك كل يوم بلهفة وشوق ، أقتل الوقت بالفكر .. والفكر بالحب ، حتى ضاق الوقت بالحب ، كنت أحاول أن أهيئ نفسى لشيئ ما  ، أحيانا أتخيله حلما ، وأحيانا أخرى أتصوره حبا ، كنت أتصورك دائما فى أحلام يقظتى فى حوارات رائعة ذات أبعاد متناهية وأنت ملتصقة بى . ويأتى الغد ، وبعد الغد ، ويكتمل الأسبوع ، ويتوالد الشهر من رحم أخر ، ولازالت أبحث عنك ، تذكرت حديثنا فى اللقاء الوحيد الملتهب الحميم الذى تم بيننا ، عندما تكلمنا وأفضنا وكانت عواطفك الدافئة تسبقك نحوى ، كنت أتخيلك إمرأة جديدة فى كل يوم ، كنت أغفو وأنهض على حبك وماأكثرها ليالى نشبت كلماتك فيها ذاكرتى  .. إننى لم يكن بمقدورى أن أنام أصلا منذ ذهابك ..  فأنت لاتدرين ماذا كان يحدث لى ؟!! . ضحكت على حالى ، وقالت بهدوء : إذن أنت استوعبت وجودى فى حياتك ولكن يبدو أنك أصرفت فى الخيال . قلت لها فى استنكار : ماذا تقصدين ؟ رمقتنى فاحصة ، ثم أطلقت ضحكة قصيرة ساخرة وأجابت : تذكرت شيئا وغابت عنك أشياء ، تذكرت فقط لحظات الحب ونسيت كل الذى قلته لك .. نسيت الإتفاق ، عموما أنا سأبدأ المهمة الأن وأنت معى ، وبالمناسبة أنت الوحيد الذى سيرانى ، فلاأحد سيرانى غيرك ، لأاحد ستقع عيناه علىّ ، ولاتسمعنى آذان .. سواك أنت ، سأبقى لنظرك وحدك .. حبيبة ، برضاك سيصفو قلبك لى أو يتركك وسيأتينى رغما عنك ، وسأظهر لك كما الخيال، سأمشى أمامك أحيانا باتزان .. وأحيانا سأجرى بلا حساب .. وممكن أطير .. سأوشوش فكرك بشقاوتى .. مش هتعرف تسيطر على حركاتى .. ههوسك بجمالى .. وهدلعك بدلالى .. هنسيك حياتك وعذابك ، وصدقنى معايا مش هتعرف بكرة من امبارح ! سكتُ .. لاصوت يعلو على دقات قلبى الذى أخذ يدق فى صدرى بعنف ، ثم ران علينا صمت عميق لبعض من الثوانى ، وأدارت هاميس وجهها نحوى متعجبة صمتى الذى تصورت ألامبرر له : مالك ساكت ليه ، فقلت لها مستهجننا : وهل هذا يعنى أن الناس الأن لاتراك وترانى وأنا أكلمك ، رباه .. أتعلمى ماذا سيظنون ؟ قالت وعلى وجهها الغيظ الشديد المطبق : هذا كل ماهمك فقط ! ثم تنهدت : ماذا يظنون إذن ؟ ياخسارة .. إلى هذا الحد ضايقتك وستكون مجبرا على مرافقتى ؟ قلت لها فى محاولة أفهامها ماالذى سيترتب على هذا الوضع الغريب : لا ياسيدتى الناس ستظن أنى مجنون فقط ، ردت فى استغراب : المفروض أن هذا لايعنيك، لو أحببتنى كما فهمت ، كان لايهمك كل مايقوله الناس ، كل المحبين مجنونون ، ظننتك تحبنى وستكون سعيدا بجنونك بى ، عصام ألست أحبك ومفتونة ومجنونة بك . عدم اكتراثها بما أقصده أصابنى بالغيظ رغم عذوبة وحلاوة وطراوة كلامها . جاءت السيارة التى ستقلنى إلى العمل فقاطعتها : إذن تفضلى الأن ، سأذهب لعملى وسأنتظرك ، أرجو ألاتغيبى عنى طويلا حتى لاأفتقدك ، لأنه سيكون قاسيا علىَّ كثيرا ، قالت : لا ، إننى سأذهب معك ، قلت : معى إلى أين ؟ قالت : معك فى عملك ، رجوتها إننى أريد الذهاب لعملى فى هدوء ، قالت : لاتخف ، لن أخذلك ولن يشعر بى أحد .. أرجوك . اضطررت إلى صعود السيارة وفى خاطرى فداحة الموقف إذا تأزمت الأمور وحدثت نفسى مسترهبا : هل حقا ستلتزم بما قطعته على نفسها ، أم تجعلنى فرجة لزملائى ، ماذا سأفعل وإلى أين سيئول إليه حالى إذا مافعلت مايدور فى ذهنى ، وكيف سيكون التصرف والمفر وقتئذ ؟! أحسست بالعرق يتسلل إلى كل جسدى ، رحت أسب وألعن فى نفسى ، آه لو تلاعبت هاميس بى ونقضت عهدها معى بتصرفات غير لائقة أو غير مسئولة أمام زملائى وهى على حالها لايراها أحد ، أوحتى لو حاولت أن تكلمنى ، كيف سأرد عليها ؟ ولو قمت بالرد ماذا سيقولون عنى ؟! ، عندئذ ستكون الكارثة . لم تمهلنى هاميس كثيرا وبدأت  بالفعل فى التنقل من مكان لآخر ، حتى أستقر بها الحال بالجلوس على تابلوه السيارة عكس أتجاهنا ، تركزت عينى عليها مخافة إحداث أى عمل مفاجئ ، فأنا الأن لاأثق فيما ستفعله ، وبالفعل بدأت تمارس أفعالا فوضوية .. تلامس أذن السائق ثم أخذت تداعب أنفه وتجذب شعره ، بداية الأمر كان شيئا عاديا ، بدأت أحس بضجره وبدأت تصدر منه انفعالات عفوية مهمهما : هو فيه إيه النهاردة ، حاجة تزهق . مافعلته هاميس مع السائق كررته مع بقية ركاب السيارة ، أخذت تتسلى عليهم فردا فردا وتضايقهم ، بدأ الموقف يتأزم وأحسست بأننى مقبل على مشكلات ربما سيكون لها تأثيرها البالغ على تصرفاتى فى هذا اليوم المشحون إذا ماحاولت التدخل ، ولكن اضطررت إليه من كثرة مااحدثته من جلبة ، حاولت بمنتهى الحذر ألا يرانى أحد وأنا أشاور لها خلسة أرجوها الكف عما تفعل ، فوجدت الانظار تتجه لى مستنكره ، سألنى زميلى الجالس بجوارى: ماالذى يحدث اليوم هناك أشياء غريبة تحدث ؟ وأنت تشاورعلى من ؟!  رديت عليه بتلعثم : لا ، أبدا الجو اليوم شديد الحرارة ، ولا أستحمل حتى أنفاسى . عدت إلى نفسى أحدثها : أه إنها مشكلة إذا كانت قد فعلت ذلك فى السيارة ، فماذا ستفعل فى الردهات والطرقات والمكاتب ؟ أشتد غيظى ، ولكن ماذا بوسعى أن أفعل الأن غير أن أترك الأمر للظروف التى ربطتنى بإنسانة فوضوية فجأة ورغما عنى بهذا الشكل ، ثم أعود وأقنع نفسى بأنها إمرأة من النوع الذى يستحق أن يتقبل المرء من أجلها أى شيئ ، جمالها أخاذ ، وملمسها عجيب ، إمرأة غريبة الأطوار .. استثنائية الخلقة ، أظن أنها خلقت من طين لم يسبق أن خلق منه بشر . أراحنى التفكير من مسايرة الوضع ، حتى بلغنا مقصدنا ، فألقت بنفسها من السيارة بقفزة واحدة دون أن تلمس أى سلمة ، ثم سارت بجوارى وأحيانا كانت تسبقنى بخطوة وتنظر لى ، صوتها بدا وكأنه يملأ المكان كله فاستحوذنى وسحرنى بعذوبته .. بهرنى برقته ونعومته ، كنت أتعمد أن ألمس يدها وأملأ عينى من جمالها الذى كان يشدنى نحوها شدا . دلفت إلى المكتب بشعور مغاير ، كيف سأتعامل مع الموقف وأوفق بين حديثى مع زملائى ومع هاميس ؟  كيف أعيد توازن نفسى كلما صدر منها فعل خارق . والحق لم تمهلنى التفكير كثيرا ، ففعلت مافعلته فى السيارة ، لم تترك شيئا يدعو للسأم والضجر والعبث والصخب إلا وفعلته .. فعلت كل ماكنت أخشاه ، ربما عدم اكتراثها .. أو جهلها بهذه الحياة الغريبة عليها ، أو قد تكون هذه هى طبيعتها كما أفهمتنى . كان أصدقائى يلاحظون أننى أنظر فى اتجاه واحد معظم الوقت ثم ألتفت فجأة ، فهم لايعون ولايفهمون أننى كنت اتحدث إليهم ونظراتى ترقب تحركاتها فى المكان وتذهب معها أينما ذهبت ، ويخيل لى لو كانوا يرونها مثلى ماذا سيقولون عن هذا الجسد الممشوق أمامى بكل تفاصيله الفاتنة التى أثْرت به عينى  وخاصة كلما تدنو منى فنظراتى تذهب إليها وتهبط إلى صدرها .. الذى كان يبرز فى إغراء مثير خلف ثوبها الفرعونى واسع الصدر . تباينت انفعالاتى ، كنت أحس وأنا أحدث نفسى عن جمالها الطاغى الذى كان يستوقف نظرى فى كل مرة أنظر فيها إليها برعشة تجتاحنى ، حيث كنت اكتشف كلما نظرت إليها ملمحا جديدا فى جمالها الفطرى الذى لاحدود له . اتنبه فجأة على شقاوتها التى ملأت بها المكان كله بقوة ، كانت لاتكف عن مطاردتى بين لحظة وأخرى ، وأخذت تفعل الأشياء التى كان يراها زملائى غريبة من رد فعلها مثل فتح وغلق الأنوار بصورة متكررة .. كانت مبهورة بمفاتيح الإنارة وأجهزة التكييف والكمبيوتر الموجودة فى المكتب وأيضا المقاعد المتحركة التى كانت تجلس عليها وتلف بها سريعا ، كانت مغرمة بتحريك الأشياء من مكانها ، هنا أيقنت أن هذا اليوم لن يمر بسهولة ، وأيقنت أننى جازفت معها اليوم بما فيه الكفاية ، وأن مشكلات كثيرة قد تلاحقنى لو استمر هذا الوضع وتجاوز أكثر من هذا الحد . أننى أراهن على مجهول لايربطنى به سوى إيمانى الخفى بأن القدر سيمحنى فرصة تواقة لتجربة فريدة ليست كأى تجربة .. قدرغامض لايدانيه قدر ، لإمرأة أقامر بمنتهى القوة على حبها دون تردد أو خوف . وحفاظا على إصرارى وشغفى باستكمال مابدأته مع هاميس قررت أن استأذن من العمل وآخذها من هذا المكان .





قمت من مكانى ، فقالت لى فى دهشة : إلى أين أنت ذاهب .. تعال إلى جوارى ، فقلت لها فى صوت خافت : نحن سنذهب من هنا ، فأطلقت ضحكة عالية وقالت : ستنصرف مبكرا ، أنتم غيرنا ، نحن كنا نقدس العمل ولا يمكننا الإنصراف إلا بعد تأديته ، ثم رأيتها ترسل لى قبلة فى الهواء وهى تضحك ، توسلت إليها بأننا لابد من مغادرة هذا المكان فورا وإلا مستقبلى سيضيع و سأحل ضيفا على مستشفى الأمراض النفسية والعقلية بالعباسية ، ووعدتها بأننا سنتنزه فى القاهرة لتشاهدها بعد خمسة آلاف عام ، أومأت برأسها لتبدى موافقة غير مقتنعة بها وخاصة ارتيابها فى رغبتى وإصرارى على الانصراف . غادرنا المكتب ، بل المكان كله .. وخرجنا إلى الطريق .. كان الوقت لازال مبكرا ، فاتجهنا إلى حيث لاأدرى ولاأعرف إلى أى مكان تقودنا أقدامنا إليه ، فقط أريد أن استنشق الهواء بأنفاس عميقة تطرد كل ماحدث منذ الصباح وأنساه .. هذا العذاب من التخفى والممارقة والملاحقة والشد والجذب . خطر ببالى أن انحنى بها من ميدان التحرير إلى كوبرى قصر النيل ومنه للنيل مباشرة ، كانت عيناها زائغتين متلفتتين هنا وهناك ، بدت وقد أذهلتها حركة السيارات بضجيجها المتواصل ، كما بهرتها العمارات الشاهقة بفخامتها ، كانت تقف مدة فى استغراب مشوب بالدهشة تطالع واجهة الفنادق والحدائق والممرات المؤدية لضفة نهر النيل الغربية فى المنطقة المجاورة لكوبرى قصر النيل ، وأيضا حالة الذهول التى بدت عليها عندما رأت الكبارى العلوية التى تعلو المجرى المائى والمتنزهات الحافة بجانبى الكورنيش غربا وشرقا ، وتفريعات الطرق والمداخل العلوية للعائمات النيلية ، بما عليها من مطاعم وملاهي فاخرة ، والتى تكاثرت بشكل ملفت للنظر علي ضفاف نهر النيل فى القاهرة وقد يكون ممتدا بعد ذلك على طول الضفتين ليشمل القاهرة وغيرها من المحافظات التى يمر فيها نهرالنيل ، هممت لأدعوها لنجلس معا فى إحدى هذه العائمات أوعلى ضفاف النيل مباشرة وفقا لرغبتها ، وأغرق فى عالمها الذى لازال كله عالم من خيال وهوس ، وكانت ضحكاتها تملأ المكان حولنا . وفجأة انتفضت بانتفاضة مغايرة مجرد أن وقع نظرها على النيل ، صرخت وانخرطت فى نوبة بكاء هستيرى ، لم أتبين أسبابه بعد فى حينها .






كانت مضطربة الأنفاس .. غاية فى الاضطراب .. مرتعشة اليدين .. حائرة فيما تود أن تقوله ، ولكن صرخاتها كانت تسبق محاولتها للكلام ، نظراتها زائغة محصورة فى اتجاهات النهر الذى بدا شاحبا أمام عينيها ولطالما كانت تراه فى الغابر عظيما ، الأن أحست أنها تقف على أطلاله ، عيناها تلمعان بالدمع ، مالبثت أن تحولت  لقطرات .. لسيل .. لطوفان من الدموع تنسكب باندفاع نحو مياهه لتختلط به وتذوب فيه . بدت ساهمة واجمة تسأل نفسها كيف حولته الأيام هكذا إلى انقاض .. إلى شبح .. إلى شيخ كبير هرمته وهزمته بعد أن كان له حسن مهابة وجمال طلة عاشت بين أحضان شبابه سنوات وسنوات ، حدثت نفسها مزمزمة الفم : يالها من قسوة الأيام . أحسست معاناتها ، أدركت مدى الهوة السحيقة لحال النيل العظيم أبان حياتها وبين النيل الشبح القابع أمامها والذى يعانى الأن من شيخوخته ومرضه  .. يئن من الأصوات الصادرة من أنشطة المنشآت النهرية العائمة ، رائحته تزكم الأنوف من جراء إلقاء الصرف الصناعى والزراعى وصرف هذه المنشأت عليه ، إنها أبشع صورة من صور التعديات الصارخة على نهر بلغ من القدر مكانة رفيعة لدى المصريين القدماء ، فوعوه بفطرتهم وحضارتهم . والصور الأخرى كثيرة لاتقل سوءا من سابقتها .. سلسلة من إشغالات وإهمالات تظهر آثارها فجأة فى غفلة من الزمن والقانون لتعطى انطباعا بعدم وجود تقدير مناسب لمهابته ، علاقة تحتاج إلى مراجعة وإلى تحكيم العقل والضمير إن علاقة الناس بالنيل فى مصر أصبحت وكأنها علاقة غير مشروعة تحمل هموما كثيرة من مخلفات أجيال توالت بعد أن كانت مصر هبة النيل .






نظرت إليها حانيا كأنما أردت مشاركة حالتها بعد أن استوعبتُ موقفها كاملا وخاطبت نفسى هامسا : والله معك كل الحق ياهاميس ، إن هموم النهر أصبحت لاتخفى على أحد ، ونحن جميعا شركاء فى مسئولية هذا العمل غير المسئول الذى يرتكب كل يوم بل كل دقيقة وثانية فى حقه . شعرتْ بأننى أحدق النظر إليها فأشاحت بوجهها عنى لتخفى ضعفها وزاغ بصرها صوب النهر الهزيل وتسمر بحسرة فى مياهه ، وراحت تشرد فى عالم أخر ، فمددت يدى وأدرت وجهها ناحيتى برفق ، فإذا بعيونها لاتكف الدمع .. دموع نازفة ، مر وقت ران فيه الصمت حولنا توقفت عيونى عليها ، أحستْ بلسع نظراتى فانتابتها خجلات ، فشيعتُها عنها احتراما لشرودها ولدموعها ولضعفها الصامت العنيف داخلها وتحركتُ عكس اتجاه النهر . توجست منى خيفة وتوقعت أننى سأطلب منها مغادرة المكان ، .. خفق قلبها ، وازدادت ضرباته ، اقتربت إلى جوارى أكثر ، حتى وقفت بجانبى وكأنها تريد أن تحتمى بى من ضعفها الذى بدأ يسرى فى جسدها كله وتشعر بهزيانه وتستأذننى بأن أبقى معها هنا بعض الوقت . حاولت أن أقنعها بضرورة مغادرة هذا المكان الذى سبب لها كل هذا العذاب والضيق .. ، ولكن كان ردها أسرع من دعوتى لها بالإنصراف ، رد لايحمل كلمات ولكن نظرة بحسرة بمزيد من الدموع ، ثم همست : عصام إننى أحب أن أبقى فى هذا المكان ولاأغادره ، فأنا أهوى النيل وأفتتن بالنظر إليه مهما وصل إليه من حال ، ألست أنت كذلك تحبه مثلما أحبه ، ألم تفتتن به مثل جموع المصريين من أقصى الوادى إلى أدناه ، إننى سأشعر بالراحة لومكثت عنده ، ولكن حدثنى أنت عنه وكيف وصل به الحال هكذا ؟ عصام : ، إننى أريد منك أن تعيش فى عالمى لأننى أحس بغربة عالمك ، وتأكد أنه سيكون أفضل لك ولى ، ستشعر والعظمة تملأ جوانب نفسك ، وتفخر بقوميتك ومصريتك وعندئذ سأكون قريبة منك ، تضمنى إلى صدرك .. وتحتوينى بقلبك ووقتها أتركنى أحلم كما كنت أحلم ولكن من خلالك ، إننى عشت وحيدة فى حياتى ، عشت حياتى كلها مجرد حلم ، فلا أقل من أن أحلم هذه المرة ولكن وأنت معى ، فحياتى كانت وستبقى حلما ، فاجعلنى استرق من الزمن وقتا أرى فيه عالمى من خلالك ، وصدقنى لو قلت لك أن الشعور بالوحدة شيئ مخيف ومفزع .. وأن تظل حبيس أفكارك وحدك منعزلا ، لاتناجيك فى حياتك نفس أخرى شيئ صعب ومقيت، ربما هذا يجعلك تقدر مشاعرى أكثر وتعلم معاناتى ، وعلى كل هى محاولة ، أننى أعلم جيدا أن أخذك لزمانى صعب بالنسبة لك ، لكن دعنى أؤكد لك أنه ليس بأصعب من قسوة زمانك الذى عشت بعضا من وقته معك ، ثق فى كلامى ياعصام ، عموما القرار لك ، وسوف أتقبله راضية ، وسواء إن كنت ستذهب معى لعالمى .. أو أبقى معك فى عالمك ، لايهم ، المهم أن نكون معا .. نذهب إلى عالمنا المتفرد ونحلم ونحلم ونحلم . ثم ران علينا صمت عميق وأشاحت هاميس بوجهها نحو النيل مرة أخرى ، وكان بقايا شعاع الشمس المتجه للمغيب يلقى على جانب وجهها وشعرها الجميل ضوءه الشاحب ، فتبدو كأنها لوحة حزينة رسمها فنان عبقرى .





واصلت هاميس حديثها مرة أخرى ، تبدو وكأنما تريد التغلب على أحزانها بأن تستأثر بالحديث كله وحدها .. تشغل به نفسها .. من دونى ، للدرجة التى ظننت أنها لاتريد أن تفرغ من حديثها الفضفاض عن العالم الذى تتمناه وتحلم به .. حياة وردية فى دنيا كلها رومانسية خالصة ، لهذا اكتفيت بالنظر لتعبيرات وجهها الغارب مع شمس الأصيل بقسماته الجميلة وقد تحول مابين الصمت والحيرة والدهشة ومواصلة الحديث ، كان التقلب مابين الحدة والعذوبة سمة حديثها ، كانت عندما تتعب من الكلام تصمت ، وعندما تصمت أعرف أنها عادت من جديد للشرود فى عالمها الأخرتسترجع ذكريات ماضيها أيام مجد النيل عندما ارتمت بين أحضانه وعايشت عنفوان شبابه . فتتكلم عيناها اللامعتان بدموع منحدرة من أهداب مرتعشة ، تسقط  كحبات اللؤلؤ . اعطتنى ظهرها قاصدة وابتعدت عنى خطوات حتى كدت لاأرى منها سوى هالة شعرها الناعم الأسود الكثيف الذى بالغ فى استرساله إلى أسفل الظهر، أقتربت منها  ومددت يدى وأدرت وجهها ناحيتى ، فرأيت مزيدا من الدموع ، فربت عليها حانيا ، وسألت نفسى مجددا : ماذا بوسعى أن أفعله لها وأنا من زمن وهى من زمن أخر؟ ، فتنبهتْ ومدت أناملها ومسحت دموعها ثم حاولت رسم ابتسامة .. وعاودت التطلع إلىّ فى حنان وقد توردت خدود وجهها وافترت شفتاها بانفراجة عن ابتسامة عذبة .. مدت ذراعيها تريد أن تجذبنى إلى جانبها ، وجدت نفسى أنساق لحيث تريد .. جلسنا ملتصقين ثم اعتدلت فجأة وألقت نفسها فى صدرى وراحت تحضننى بعمق ، اختلطت المشاعر المتباينة وانصهرت وتهنا ، أحسست بأصابعها تعبث فى شعرى وبشفتيها تتسللان إلى جبينى وعينى ثم شفتيى بدفء، وغمرتنى بموجه حنان عارمة .. جارفة أثارت فى نفسى شجنا غريبا ومحيرا ، ربما لدفء وشفافية وعذوبة ذكرى هاجعة حلت بى طالما طاقت لها نفسى .. ربما لانشغالى بجمال حزنها الذى ارتسم على وجنتيها من عتبات ذلك الحزن الدفين الغامض التى أضمرته بداخلها .. وربما لما أشعر به من عاطفة تجاهها حيث أعتملت فى نفسى أحاسيس ووجدانات . أخذت الألفاظ تنساب من شفتيى هامسة وكأنما أحدث نفسى : هاميس إننى أريد أن أتكلم ولكننى لاأعرف كيف أبدأ .. ولاأدرى كيف أفسر الشعور الذى طغا على قلبى بهذا العنفوان مذ رأيتك أول مرة ، ولكننى أستطيع أن أؤكد لك أن حزنك ملأ نفسى بأنواع من الاحاسيس غريبة وبعيدة لاأستطيع وصفها ، إحساس من الحزن يشبه إلى حد كبير ماعانيته وملأ قلبى وغرقت فيه بعد أن اختفيت عنى فجأة ، تحول الأن إلى احساس رائع بالسعادة الغامرة والسرور والفخر والنشوة عندما رأيتك بعد طول غياب رغم ماسببتينه لى من حرج بالغ صباح اليوم ، هل تستطعين أن تدلينى على سر هذا التحول الغريب ، قالت فى غبطة وقد افترت عن ابتسامة أخرى ازاحت بها ماتبقى من أحزانها : المعانى التى تملأ قلبك هى نفسها التى ملأت قلبى ، إنك تتكلم وكأنك توصف إحساسى أنا ، أليس هذا هو التجاذب الروحى والنفسى كما تقولون ؟! ، قلت لها : نعم ولكن التجاذب بالقلوب وليست بالمعانى ، قالت : وهل يمكن أن تتجاذب القلوب بلا معانى ؟ قلت لها : لاأدرى قالت : بل المعانى ياحبيبى ، يبدو أن إحساسك الغريب بالتحول النفسى واضطراب الخاطر باللاشعورعندك جاء نتيجة التباين المكانى والزمانى الذى يفصلنا عن بعضنا البعض ، إختلاف الأجواء جعلك تشعر بالغرابة والغموض والغربة ، عصام ، الأشياء عندما نحس بها وتكون غامضة ولانجد لها معانى ، ستجدها لو أمعنت فى البحث عنها فإذا ماتجمعت انسجمت .. وإذا ماتكاملت صارت لها معنى .. وستتحول لصورة واضحة ، ومن أجل أن تعرفها جيدا وتستوعبها أكثر كان يتعين عليك أن تتأملها من بعد وترقبها عن كثب وترتبها ترتيبا منطقيا ، حتى تصل بنفسك إلى نتيجة مُرضية تشعر من خلالها بألفة وجودى فى حياتك وعندئذ كنت ستتغلب على حالة الاغتراب النفسى التى عشتها وحيرتك ، ولكنت استطعت تقليص المساحات الشاسعة بيننا ، فوجودى فى حياتك كانت من الأشياء الغريبة والغامضة التى رأيتها أنت بلا معنى ، مجيئى لك واختفائى فجأة واجترارك فى فكر مجهول لاتعرفه فى حياتك أيضا ليس له منطق ولامعنى ، ولكن له تفسيره ومنطقيته عندنا ، أمأ إحساسك بالسعادة والسرور والفخر إنما جاء متعلقا بشئ تعرفه .. حسه قلبك ووعيه عقلك ، إنه عبير الحب ذلك ما كنت تهفو إليه نفسك وتحيى به أفكارك المنطقية وملأت به جوانحك كما ملأ جوانب نفسى ، فكلانا يضم بين جوانحه معان واحدة للحب ، ولكن فى ظروف مختلفة ، فالقلوب نفسها ليست إلا معانى يمكن أن يفسر بها الإنسان مشاعره ، هاعرفت معنى تجاذب القلوب وقيمة المعانى فى الحب ، وكيف يستطيع الإنسان أن يحقق به ذاته ويجعله هدفا أسمى له ولكل من حوله . قلت لها : هاميس متى كان للحب معنى فهو كان ولايزال وسيظل نسبيا  ، فالحب ماهو إلا حالة وجدانية نعيشها بلا اختيار ولاعقل ولاتخطيط ولاتدبير ولامنطق ولايخضع لأى شيئ ، بل نترك أنفسنا معه على سجيتنا ، قالت : لن نختلف كثيرا فى تعريفاته ، المهم هو إحساسنا به ، وعلى كل هذه مسئوليتى ، أنا من سبب لك هذا الإحساس المتناقض ، لأنى أنا التى هبطت عليك فجأة  .. وتركتك فجأة .. وأنا التى اختارتك من بين ألوف البشر ، أعذرنى ياعصام ، سأحكى لك الأن مالم يكن فى نيتى أن أحكيه لك مادمنا وصلنا إلى هذا المنعطف من المصارحة ، قلت : ها أنا ذا مصغ إليك ، قالت : مذ أن قابلتك ، ذهبت حيث أقيم وغفوت .. ولا أدرى ماذا حدث بعد ذلك ، وكم من الوقت مر .. ساعات .. أيام .. شهور ، وسألت نفسى عندما صحوت هل كنت أحلم أم أننى انتقلت بالفعل بجسدى إلى عالم أخر جديد ، ظننته فى بداية الأمر حلما ، واختلطت الحقيقة معى بالحلم فى عقلى وخيالى ، واستمعت جيدا عن قصص كثيرة أعقبت حياتى تتحدث عن الوفاء والحب والأمل حتى تمنيت أن أعيش إحداها ، ثم عرفت أننى كنت أخر عروس للنيل ، وبعدها كانوا يزوجونه تمثالا على هيئة عروس ، فتحسرت على ماآلت إليه أحوالى ، ولاتتعجب أن قلت لك إننى مع نفسى حلمت كثيرا بترك زمانى لأنى عانيت فيه الوحدة والقسوة والقهر والجبروت وتمنيت أن أعيش أو حتى أحلم بإنسان لاوجود له ، وبزمن جديد لم يطوه الفناء بعد حتى ولو كان محفوفا بالمخاطر ، كى أتخلص من بقايا ضعفى الذى أضاعنى وعلق بحياتى حتى الأن ، حلمت أن أتحرر منه ، وأعيش حياتى مع إنسان أفهمه ويفهمنى ، إنسان من بنى جنسى ، وليكن النيل أبا حنونا وليس زوجا لى ، فهو عاشق للمحبين ومصدرإلهام للشعراء وملاذ للمعذبين ، هو هبة الله فى أرضه وهبه لنا نحن المصريين لنعيش على ضفافه وننهم من خيراته بقوة وعدل رب السموات والأراضين ، ونأخذ منه العبر وقيم الحياة ونورثها لأبنائنا . انتفضت ثم عرفت أننى رأيتك بالفعل ووجدتنى ذاهبة إليك بعد أن أخذت إذنا بذلك ، سعيت إليك بقدمى هاتين ، أحسست عندما رأيتك بأننى أتنسم معك أجواء جديدة ، رحبة تختلف عن الجو الذى عشته من قبل ، هل عرفت لماذا أهوى هذا المكان ، ولماذا أحببت أن تكون معى ، لأنه ليس لى غيره ولاغيرك ، هنا أشعر بقدرتى على تحرير نفسى من قيود نفسى ومن ضعفى ، هنا أحس بقيمة وجودى وبكل مايمكن أن يمتلكه الإنسان من ممكنات السمو والرفعة ، ومعك وجدت نفسى وفكرت أن أضع يدى فى يدك ونمضى معا نحقق الأمل المنشود فى الحب والسلام ، ونضيف مجدا لسجل انجازاتنا التليدة ، فقلت لها : أى مجد هذا الذى تبحثين عنه ، قالت مجد الإنسان المصرى الأصيل بتعظيم قيمه بالحب وإرساء مبدأى العدل والمساواة وتأصيلهما بتحقيق السلام ليبقى قويا على أرضه محافظا على مبادئه ، وتبقى من الأعمال العظيمة كالتى تركناه لكم ، مجد النيل والأهرام مثلا ، أليس عظيما ان يقف الهرم شاهد عصر يتحدى الزمن على مر السنين والأجيال ، ولكننى تحسرت على ماوصل إليه النيل من حال ، وهو شريان الحياة ونبضها ، فقد صدمنى صدمة حقيقية عنيفة عندما فوجئت بما وصل إليه من حالة متدنية وما آل إليه من تدهور ضاعت معه هيبته بشكل لم أتصوره .. النيل الذى كان عشقى الأبدى ، بل عشق أجدادك المصريين ، لم أكن أتصور أن أراه أطلالا بهذ الشكل ، لهذا لم اتمالك نفسى فبكيت فيه عمرى الذى ضاع فداء له . تأملت حديثها بحيرة ودهشة . إننى لم أفهم شيئا مما تقول . ثم استطردت الحديث : عصام دعك من كل هذا ، لسنا الأن فى مجال عرض نظرة فلسفية لماهية الحب والهجر، ولن نضيع وقتنا فيه ، فالحديث عنه يقلل من قيمته ، ، بل دعنا فقط نستشعره فى قلوبنا ويسرى فى أبداننا كأكسير الحياة ، دع إحاسيسنا هى من تفرض نفسها بقوة وتعبر عن حالها،  ، ولا يهم بعد ذلك من يجذبنا لبعض القلوب أم المعانى ، فالحب أفضل من يفصح عن ذاته ، قلت: نعم ، أعذرينى ياهاميس ربما هذا الاحساس جاء من خضم الليالى الساهدة التى انتظرتك فيها طويلا ، لاأعرف لك فيها مكانا أوعنوانا ، قاطعتنى هامسة : سأعوضك عن كل ماسببته لك وسأفهمك من أفكارك ، وسأتفانى فى إسعادك ، ربما يتضمن الحب المقدرة على قراءة الأفكار .


خيم الليل بخيوطه على المكان ، الذى بدا وكأنه عالم من السحر ، الأنوار مبهرة تطوق عنق الليل .. تخطف الأضواء فيه العيون .. أضواء ارتسمت على مياه النيل بألوانها المختلفة ، جعلت من النيل لؤلؤة تنبعث منها الألوان من حيث لاتدرى ، الزحام شديد .. موسيقى تنبعث من كل العائمات ، كان يملؤنى إحساس لايوصف يحتاج إلى هزة عنيفة من الجذور حتى تتساقط عنى همومى وإحساسى بالوحدة ، كنت أحدث نفسى : ماذا تريد بعد ذلك وهاهى هاميس أمامك بكل عنفوان جمالها ومافيها من سحر أخاذ بل هى ماكنت تبحث عنها طيلة أيام حياتك ، الأن هى ملتصقة بك وبين يديك . كنت فى حيرة شديدة من حقيقة عاطفتى نحوها ، لكنى كنت أجد سعادة عند رؤيتها لاتقدر .. وكنت وأنا أقف أمامها أتأمل وجهها الجميل وعينيها الفاتنتين أنسى الدنيا ومن فيها . قضينا ساعات على هذه الحالة مرت وكأنها لحظات .. لحظات سعيدة امتزج فيها الحب بالضحك بالحزن بالدموع ، ثم افترقنا على موعد باللقاء ، اختفت هاميس من أمامى فجأة ، ومضيت وحدى أضرب فى الطرقات الهادئة بعد أن تجاوز من الليل منتصفه ، وأنا أشعر براحة نفسية عميقة ، ووجدتنى أخطو بلا وعى ، وقد هبت علىّ نسمات اللحظات الجميلة المشيعة بكل الحنين والحب الذى ملأ قلبى واستحوذ على كل تلابيب عقلى مع من قاسمتنى الشعور بخفقان القلب والتفكير بعمق ونشوة التخيلات .. مع المرأة التى هزتنى بجمالها الذى لايوصف ، فالجمال الحقيقى لاتصفه ملامح ولا قياسات ، أدركت لحظتها أننى أستقبل تجربة الحب الأولى فى حياتى مع هاميس بترحاب القلب الشغوف ، وجم المواقف الدافئة التى لازلت أحس بنشوتها تلامس خيالى وتشع فى كيانى سعادة تغمرنى غمرا ، لأعيد على نفسى السؤال ، هل قلبى هو الذى دق على عقلى ليتجاذب مع من يحب ، أم المعانى هى التى تتجاذب ؟ أم هذه سفسطة ونظريات فلسفية كما قالت هاميس .. لايهم ، إنما من المؤكد والذى أعرفه أننى الأن أنا أحب .. فقط أحب ، وبعد ذلك لاشيئ يهم .





عدت إلى بيتى متأثرا ولدى إحساس بأن ثمة شيئ ما ينقصنى . دخلت شقتى ومنها دلفت إلى حجرتى ، لأفاجأ بهاميس نائمة على السرير ، كادت الفرحة أن تقتلنى ، فوقفت بشغف أتأملها من خلال مويجات النور البدرية وشعاعات النجوم الساحرة التى كانت تتسلل من بين اغصان الشجرة الكبيرة المائلة على النافذة المفتوحة فملأت أرجاء الحجرة بنور متسلل خافت متراقص بفعل الستارة التى كانت تلوحها نسمات الهواء الخفيفة الهابة بين الحين والحين ، كانت غارقة فى ثبات عميق ، وقد غطت جزءا من وجهها وذراعيها ، وبدا الجزء الأخر من الوجه الخمرى الجميل وكأن النوم قد أكسبه طفرات من إبداع الطبيعة الساحرة وارتسامات الجمال الخفية ، ومن أسفل الغطاء الخفيف الذى كانت تلتحف به بدت أحدى ساقيها عارية .. مليئة وملفوفة ، إمرأة ناضجة بنضوج حضارتها .. قويمة بقوام ورشاقة وشموخ رسوماتها على جُدر معبدها ، كإنها قصة مرمرية وليست حقيقة . خشيت أن تفتح عينيها فجأة فتجدنى أبحلق فيها ، مشيت على أطراف قدمى ورحت أغطى جسدها كله وتركتها حتى لاأزعجها كى تنعم بنوم هادئ وعميق ، جلست على الكرسى الهزاز الموجود فى التراس باسترخاء استرجع أحداث اليوم وكل ماتم فيه وأنا فى قمة سعادتى ، فتحت الكاسيت على غنوة حليم " بأمر الحب " وكانت كلماتها متمشية مع عواطفى الجائشة ، وقلبى الذى يدق فى صدرى مع سحر نغمات الغنوة ، كنت أردد كلماتها التى تقطر عذوبة وحبا وحنانا ، أفكر فى الحب الذى يحيل البيد الجرداء إلى جنة خضراء ويجعل الدنيا كرنفالا من ألوان متوهجة ربيعية خالصة . ودون أن أدرى فاجأتى هاميس بوقوفها أمامى تنظر إلىّ وأنا سارح فى أحلامى ، بدا وجهها عجيبا بخصلة الشعر المتهدلة على جبينها وعيناها اللامعتان تبرقان من وراء أهدابها السوداء الطويلة بنظرة ساهمة الجمتنى ، ثم جلست أمامى على ركبتيها وطوقت عنقى بكلتا يديها وألقت برأسها فوق كتفى ثم على صدرى ، وامتزجت الاحاسيس بالعناق .. بالقبلات بالكلمات بالغناء ، ورحت أغنى مع حليم : " بأمر الحب أفتح للهوى وسلم .. بأمر الحب أفتح قلبك .. أتكلم ، بلاش نهرب .. بلاش نتعب ، تعالى نحب ونسلم بأمر الحب . حياتى .. دنيتى .. عمرى ، بأمر الحب مش أمرى ، بحبك حب ماحدش قبلنا عرفه ولاصادفه .. بحبك حب مش قادر على وصفه وأنا شايفه .. بنظرة شوق بتنهيده .. بدنيا كلها جديدة .. ونجمة مسكتها بإيدى وكانت فى الفضا بعيدة .. وشيئ فى الليل بيتوهنى .. وشيئ فى عنيك بيندهنى .. حرام نسكت على قلوبنا حرام الشوق يدوبنا .. بلاش نهرب .. بلاش نتعب ، تعالى نحب ونسلم بأمر الحب " . وسمعتها لأول مرة تنشد وتبادلنى الغناء بغنوة لشادية : حبيبى الحب روحه فى دمنا ، مهما افترقنا يلمنا ، ومهما طوّل بُعدنا ، هيشدنا ويضمنا ، ومهما كان .. ومهما يبعدنا الزمان ولا المكان ، لازم مسيرنا لبعضنا .. لبعضنا . وغفونا ونحن على هذه الحالة ، بعد أن توقف بنا الزمن ، وانحدرنا مع احلامنا .. منطلقين فوق أعين الناس .. إلى أبعد نقطة فى الكون .. متجاوزين حدود الزمان ..  سابحين فى عالم من السحر الخفى .. عالم لانرى فيه سوى نقاء قلوبنا وقد تمكن الحب من إحكام خلجاتها .. عالم يضم جوانحنا ضما ، بآمال رحبة جميلة .. بروح تواقة جديدة .. بحياة لانعرف أبعادها بعد ، ولكن نعرف فقط أننا منغمسون فى الحب ، وآه من الحب وأفعاله.


                                            


       وإلى اللقاء مع الجزء الرابع


القاهرة فى ديسمبر 2013
         مع خالص تحياتى : عصـــــام





الخميس، 30 مايو 2013

وفاء إيزيس وعودة هاميس ( الجزء الثانى )


كانت أيام الربيع الأولى تتسلل فى نعومة ورقة وحنان ، أيام فى حياتى لاتنسى .. أقبلت وأقبل معها إحساسى بأطيب ألوان السعادة والهناء والحب ،لاأدرى كيف ذهبت بعيدا مع أحلامى ، ولكن مافوجئت به فى تلك الليلة الموعودة ، جعلنى أظن أننى أسرفت فى الخيال ، إن الإسراف آفة حياتى ، ولكن هوس الدأب على اقتفاء كل أثر لإيزيس جليلة القدر .. وفية الخلود .. والتى قهرت الموت بمشاعرها القوية تجاه ماأحبت بمنح لامتناهى مطلق الحدود .. وأعطت فكان العطاء الذى بلغ المدى دون مقابل ، جعلنى أكثر تشوقا لمعرفة المزيد عن الكائن العجيب أوزوريس رب العدالة فى الحضارة الفرعونية وربما غيره من أساطير ، إذ ما الذى حفزها على مواجهة الخطر بالحب ، والحب بالموت والموت بالتحدى ، آه من الأساطير وماتبدعه الأساطير . مر وقت من تلك الليلة وأنا جالس فى مكانى فى أوج الصحوة والنشوى واليقظة ، كأننى أخشى النوم أن يدنو منى ، وأنا فى الهزيع الأخير من الليل.





فجأة قفزت أمامى فتاة مشرقة الطلعة .. فائقة الجمال تسدل عليها ثوبا من الحرير الشفاف أبيضا ناصعا  ، ذات قوام متناسق رشيق ، وقفت أمامى بدمها وشحمها وجسدها ، ولاأبالغ إن قلت عن إحساسى فى هذه اللحظات بأنه لايوصف ، حيث تسارعت دقات قلبى وارتعدت مفاصلى وغطى العرق جسدى .. عرق بارد ، واحسست بدوار غريب ، ودار بعقلى ألاف الأفكار التى تنكر ماأراه أمامى جليا واضحا ، أحاول التركيز فى البريق المنبعث من مقلتيها الواسعتين السوداوين الكحيلتين ذات الأهداب الطويلة ، ولكننى لم أستطع الصمود فى مداومة النظر إليهما ، فنورهما مبهران وساطعان للغاية لدرجة أنه يكاد أن يخطف البصر ، فتولت يدى فرك عينى أكثر من مرة فى محاولة استعادة ماأراه من نور وتوالى المشاهد الغريبة التى تحدث الآن ، طلعتها كنورعينيها مبهر ساحر كلما لامس نسيم السحر ثوبها تطاير حولها ، وبدت بطلعتها وثوبها أشبه بالنور الهادئ الجميل ، طلعة تشرق معها الحياة بصفوها وعذوبتها ، كأنها ملاك جميل مرسوم بريشة ليوناردودافنشى على أسقف الكنائس . قاطعت سكون ورهبة اللحظة نابسة بأول كلمات : أنا هاميس ، ألم تسمع عنى ، أنا قصة فرعونية فيها موسيقى معبدية وشعر وطقوس ، حياتى من الزمن السحيق .. عالم من الأطلال الذى يكتنفه الغموض الأسطورى ، كم تمنيت هذه اللحظة . ثم خرجت من فمها آهة خفيفة وهى تنظر صوبى : أخيرا أصبح الحلم حقيقة .. لقد أمسكت أحلامى بيدى .. ملكتها بالحقيقة ، لقد عشت مع توالى الأيام وانقضاء الليالى أتنسم الماضى الذى أنا جزء منه .. أملأ به قلبى وعقلى بمعانى الخلود ذاك الذى عشته ، ومع كل بسمة فجر جديد أطلق خيالى أتخيل هذه اللحظة ، من سأقابل وكيف سأرى وماذا سيواجهنى به القدر ؟!! الأن اكتملت الصورة أمامى ورأيتك ، أحدثك وتحدثنى . حاولت أن أتجاوز بسرعة لحظات الشرود الأولى التى تكلمت فيها ولم أسمعها بسؤال محدد: من أنت ؟ قالت وهى ترنو إلى بنظرات حانية : بعد كل ماقلته لك ألم تعرفنى بعد ؟! ، لقد قلت لك اسمى منذ لحظة واحدة ، قلت لها :آسف لم أسمعك . ردت فى غبطة وبنظرات كسيرة : أنا هاميس ، قلت لها بدهشة : هاميس من ؟! قلبت شفتيها بامتعاض وكأن لسان حالها يقول من هذا المجهول الذى لايعرف جميلة الجميلات . تصورت أن التاريخ أنصفها وكل الأجيال تعرفها مثل إيزيس ، أومأت برأسها متعجبة وقالت : ألم تسمع بعد عن عروس النيل التى أتُخذت قربانا للنيل كى يصفو ويهدأ ، ويكون أكثر وداعة ورقة ، فلا يفيض فيضانا مدمرا يجتاح به القرى والمدن فى ثورة عارمة ، هل تذكرتنى ، إناهاميس .. أنا آخر عروس للنيل يابن مصر الحديثة . بدت وكأنما قرأت ماتولد فى خاطرى بأننى لاأصدق ماتراه عينى وأننى لازلت على حالى  مضرجا بالتوتر الشديد .. تهيلنى الأفكار وجو الأساطير .



فى هذه الأثناء تذكرت فجأة قصص وحكايات نداهة الحقول أو سيدة الترع والمستنقعات وما كان ينسجه عنها خيال أقاربنا فى الريف كلما حللت أنا ووالدتى ضيوفا عليهم عندما كنت صغيرا، كنت استمع بإنصات لرواياتهم التى لاحصر لها ورسخت فى العقلين الظاهر والباطن خلال الطفولة لم نتبين بعد وإلى الأن  مدى صدقها أوصحتها ، فقد كان يروى عنها أنها امرأة تتمتع بجمال ساحر يخطف القلوب ويخلب الألباب .. غريبة كالسراب قريبة بعيدة ، تمشى على الأرض والماء ، تتسع عيناها وتنفرج شفتاها بلا إرادة ، صوتها له رجع صدى وضحكاتها تسمع له دوى بسحر الليل يأخذك ويرهبك فى آن واحد ، بإمكانها أن تظهر بالشكل الذى تريده وفى السن التى تختارها ، كما يمكنها أيضا تغيير حجمها . لها قوة خارقة باستطاعتها أن تخترق الحوائط بسرعة البرق مستخدمة حيل الأنثى وفتنتها الذكية التى كانت تفلح جيدا فى استخدامها فى إغواء الرجال ، وكان ديدنها الظهور في الليالى المظلمة لاعتراض سبيلهم ، لاتنادى ولايسُمع لها صوت إلا فى الأماكن الواسعة الخالية من المارة وخاصة على ضفتى الترع والحقول ، نداؤها غالبا يكون للشخص التى تريده فينجذب لها مندفعا متتبعا النداء دون إرادة منه تحت طائلة جمالها الطاغى وتأثير سحر نداءاتها إلى أن يصل إليها ، ثم اختلفت الروايات فى شأن مصيره قيل أنه تحدث له هلاوس وتطورات نفسية فيبدأ فى التحدث مع نفسه ويأخذ فى التردد على الحقول كثيرا قاصدا المكان الذى قابلته فيه أول مرة ، وقد ينتهى به الحال بالجنون أو أن يختفى لفترة أو فترات .. يصعب تعقبه فيها أو معرفة أين يختبأ وقد يجدونه ميتا، وقيل لو صادفه وأحبته يمكنها أن تتعايش معه فى نور الظل دون الشمس أو تأخذه معها إلى عالمها السفلى وتتزوج منه . إننى لازلت فى حيرة وخوف مشوبين بالحذر الشديد أربط ماأراه أمامى بكل مايدور فى ذهنى الأن من الأساطير الشعبية والفرعونية ، ربما كان اهتماماتى بحضارة مصرالقديمة هى السبب فيما أبدو عليه الأن من هوس ، حيث كنت دؤوبا فى سماع القصص والروايات وقراءة الكثير من كتب السير والحكايات والزيارات الكثيرة والمتكررة للمتاحف والمعابد عن ماخلفته الحياة المتحضرة فى مصر من آثار اجتماعية واقتصادية وسياسية بفلسفتها الصعبة المعقدة والغريبة  ولكن ما أشاهده الأن أمر أغرب مما يتصوره الخيال حقا ، أن أجد نفسى أمام إنسانة لاأعرف عما إذا كانت هى النداهة أم  إمرأة المستنقعات أم إمرأة قادمة من العمق .. من الزمن البعيد ومرت عليها كل هذه العقود الكثيرة ، إننى أجد نفسى مخترقا تماما وسط  تلك الحواديت والحكايات ، لتتصاعد فكرة ملحة أهذا حقيقى أم خيال أم أنا فى حلم أم أواجه خطرا؟ ، رباه إننى أراها بعين رأسى . قاطعت ذهولى للمرة الثانية بعد أن تركتنى مستغرقا لفترة كى استوعب الموقف كاملا : إننى آتية من حيث انتهى تفكيرك .. أنا هاميس ، أسطورة أخرى من عالم الأساطير .. جئت من العالم الأخر .. أوفدتنى الآلهة أتون برسالة معبرة عن نشرالحب والسلام ، فقلت لها : لمن هذه الرسالة بالضبط ؟ قالت : إليكم ، قلت : إذن لماذا أنا تحديدا ، قالت : أنت من قادنى الشوق إليك ، وأنت مصرى موصول بجذورك .. ولا حياة لشجرة بلا جذور ، ونحن جذورك وأنت نبتها الطيب . أعجبنى لغة حوارها المنطقى المقنع والمذهل رغم غرابته ، وكان سببا كافيا كى يهدأ روعى وتذهب حالة الهلع التى كنت عليها وخاصة أنها لم تكن نداهة ولم تأت من الحقول ولم أسمع لها صوتا إلا عندما تكلمت معى بكل سعة صدر وهدوء . بدأت أستوعب الموقف واستعيد حواسى واتزانى وزادت صورتها التى بدت عليها والتى جاءت متوافقة مع روعة الجمال الذى فاق كل خيال بتقاطيعها الجميلة وبشرتها الصافية من التخلص نهائيا من حالة الصدمة التى خلفها التباين الشديد من عاملى الزمان والمكان ، حيث بدت عيناها واسعتان فيهما صفاء ، شعرها ذهبى طويل ، أنفها متقن دقيق ، وشفتاها متفتحتان ممتلئتان ، صوتها كله أنوثة ، طلعتها مبهرة ، قوامها مستو ، ملابسها حريرية شفافة مرصعة بالحلى الذهبية ، يعلو رأسها تاج مرصع بالأحجار الكريمة ، حتى تصورت أنها أجمل فتاة وقع عليها بصرى . هتفت متمنعة وعيناها اللامعتان تقتحمان كل شيئ فى وجهى ، فقرأت بحس الأنثى ماكنت مستغرقا فيه من فكر .. أحست بشيئ من الارتياح يجتاح قلبى وعقلى ، أغمضت عينيها ، أخذت نفسا عميقا ، هزت رأسها فى اتجاه واحد حتى لاتحول نظراتها عنى ، ووجهت لى الحديث : عصام تعرف أنا التى اخترتك من بين ألوف البشر كى ترافقنى فى مهمتى . أصابتنى الدهشة لمعرفتها اسمى ، ولكنها لم تمهلنى فرصة أن أسألها عن كيفية معرفته . فجأة همت من مكانها واتجهت حيث أجلس ودست جسدها الرقيق إلى جانبى على المقعد ، وأحاطت كتفى بذراعها ، وتوالى حديثها فى صوت عذب وهى ترمق وجهى فى شغف : أتعلم كيف أخترتك وكيف عرفت اسمك ؟ قلت لها بعد أن استدرت إليها متلهفا الإجابة : كيف ؟ قالت : الصدفة وحدها هى التى قادتنى إليك بعد أن تتبعت أصول أسرتك من جذورها مذ عرفت أننى سآتى إلى عالمكم .. فلامست طيفك .. همت على وجهى ورأيتك أكثر من مرة دون أن ترانى .. أعجبتنى إبتسامتك الجذابة ونظراتك التى تشع حبا وحنانا لكل جيرانك وأحبابك ، تماما كما كنت أراها على وجه حبيبى " ميرى " بطبيعته السمحاء ونقاء سريرته .. هل يضايقك هذا ، قلت لها فى حنان قد أنسانى رهبة اللقاء وغرابته : أبدا أنا سعيد برأيك رغم أن جرأتك اخجلتنى، ولكن من هو " ميرى " هذا ، قالت : ميرى كان خطيبى قبل اختيارى للزيجة المقدسة .





مازلت على قدر الموقف ازداد مهابة يكتنفه الغموض كلما تطورالحديث الذى كان مزيجا من المشاعر المضطربة والرومانسية الإسطورية التى كانت تحاكى التاريخ فى زمن الحب ، فقلت لها : الزيجة المقدسة !! وميرى ، ماهذا ومن ذاك ؟!! وماعلاقتى أنا بهما ، فأنا لست حبيبك ولا أنا ميرى ، إذن كيف شعرتى بى منذ أول لحظة ؟ لاأخفى عليك إننى لازلت مستغربا لوجودك هنا الأن وافصاحك عن مشاعرك بهذه السرعة ، فقالت فى رقة : لاتستغرب ، سأحكى لك قصتى ، لكن لك أن تعرف أننى صادقة معك فى كل كلمة قلتها لك وكل كلمة سأقولها بعد ذلك .. أنت فعلا تشبه "ميرى" إلى حد كبير.. شبه لايتصوره عقل لدرجة أننى ظننتك إياه ، ولكنك لاتعرف مقدار حبى له ، إننى كنت أحبه كثيرا .. حبا شديدا كدت من جنونى إليه أن أعشق الحب والحياة من أجله ، ولكن فرقتنا الأيام مذ إختيارى عروسا للنيل ، وهى مهمة كهنوتية وشرف لايدانيه شرف لبنت مثلى أن يتم اختيارها لهذه الزيجة المقدسة التى تنشر الرخاء وتجدد العهد لملكوت أتون ، وكانوا مذ اختيارى ينادونني .. حلم النهر .. العروس .. الأميرة ،لأننى كنت أجمل فتاة على أرض مصر وقتئذ .. وأى فخر ، تصور كيف تمت إقامة ليلة عرسى ، كانت بدايتها هناك في المعبد الكبير ، حيث أقام الكهنة المراسم ، كانوايتمتمون أناشيد من صحائف البردى ويدقون الطبول، ثم يتوجونني برأس أفعى عيناها ياقوتتان رمز الرفعة والشموخ والخلود ، وكانوايضعون بيدى صولجانا بمفتاح النيل لايمنح إلا لمن يتقلدون هذا الشرف العظيم .. وليس لغيرعرائس النيل ، كنت أبدو فى أبهى زينة وأجمل ثياب تم تطريزه بالزمرد والياقوت والرقائق الذهبية ، ثم تمت بعد ذلك مراسم زفافى فى احتفالية كبيرة مدت لها الولائم على ضفتى النهر ، والنيل نفسه كان فى هذا اليوم مزهوا تفترش صفحته أزهار اللوتس وورد النيل ، كان يمر بين حشود فرعون الذين جاءوا يباركون العرس ويرسلون التمائم صوبه تبركا وكرامة له ، إننى لازلت اسمع صوت أهلى وهم يقولون لى : " إن النهر عطوف .. حنون ستشعرين بدفء أبدى يسرى فى قلبك وجسدك حالما يطبق عليك بجناحيه " هذا آخر ماسمعته من كلمات بعدها دقت الطبول دقاتها السريعة مدوية فى الآفاق معلنة عن قرب زفافى التليد ، قصة العشق الأبدى ، ثم مررت وحدى فى لحظة صمت رهيبة ، بعد أن جاوزت الحشود وعَبارات ميرى التى كنت أرمقها عن بعد وسط هذه الحشود الغفيرة .. أغرقتنى قبل أن أغرق فى مياه النيل .. كفت الطبول عن قرعها وصمت الجميع ، وحانت اللحظة عند وقوفى على حافة النهر انظر للماء وهو يحاسرنى ووقف خلفى اثنان من كهنة آتون ، ثم رحت اتمتم بكلمات حفظتها عن ظهر قلب فى المعبد الكبير :  " كم تمنيت أن أحلق فى آفاقك ، وأفرغ نفسى فى سطوحك ، سيكون دارى بألف دار فى دروبك ، سألقى بنفسى فى لجتك ، أقتلع الخوف من أهداب عيونى ، وأغرس فى قلبى عشق هواك ، فلتكن لى حبيبا ووديعا وأنيسا ، وليكن تيارك هادئا حنونا ، وفيضانك قلاعا وحصونا " . ثم دفعنى الكاهنان من خلفى وأصبحت الحلم .. الحبيبة .. العشيقة ، وأى فخر تتمناه الكثريات من بنات مصر ، فأنا كنت فى ذلك اليوم الأميرة المتوجة .




والحق كان كلامها جميلا رائعا حينما تكلمت بكل فخر عن عشقها المنحدر للموت والحب الذى ارتقى للخلود لآخر عروس للنيل ، لأنها أحبت حبا صادقا ، وضحت به من أجل حب أسمى .. حب أعظم ، حبها لبلدها ، وحبها لمن أحبتهم ، أو هكذا كانت المعتقدات والطقوس والتقاليد التى كان يتم بها إرضاء النيل العظيم رمز الخصوبة والنماء وفاء لعطائه المهيب وإرضاء لغضبته ، فجعلت جسدها فداء .. وقلبها نورا .. وروحها أملا فى فيض الخير وإثراء هذا النماء ، ورجع الروع وآلالام عن ربوع مصر من أدناها لأقصاها ، فتحولت من مجرد أنثى جميلة .. إلى رمز يعلوه الرفعة والشموخ ، عاش عبر عصور تليدة ، يسجل صفحاته ، تاريخ أمة محفورا على نقش الحجر ولايزال يقام كل عام احتفالية يوم وفاء النيل التى تنتهى بإلقاء تمثال من الحجر رمزا وفداء لبنت مصر الغالية لتظل حكايتها ملئ الاسماع ، ويعرف العالم كله وفاء المرأة المصرية القديمة ، وحرصها الشديد على أسرتها الصغيرة ، وأسرتها الكبيرة أيضا .. مصر ، إنها جاءت مادام التاريخ ممتدا ، وسيمتد صفحاته ، لتعمق معنى الوفاء فى نفوس البشر ، جاءت من العالم الأخر لتغير حياتنا التى غاب عنها الحب ، وغاب عنها لحظة صدق وهان على أنفسنا وقع الضمير. كانت تستغرقنى بنظراتها وأنا فى انشغالى عنها بتصورى اللامحدود لكلامها الجميل الراقى ولواقعية وجودها الذى مازلت استغربه الأن وعن سبب مجيئها وسر اختيارها لى أنا بالذات . مدت يدها تمسح على شعرى فى حنان ، وأراحت رأسها على كتفى ثم تسللت بيدها من تحت القميص وأخذت تمسح بخفة على صدرى أحسست معه بضغطة أناملها ، ورفعت لى وجهها ، ونظرت لى بعينين تكاد تطبق أهدابهما وتغمضهما .. مشعين بعاطفة جموحة ، ثم الصقت خدها المتورد الناعم بخدى .. وفجأة قبلتنى بأنفاس سريعة شاهقة ودقات قلب متلاحقة نافرة  .. قبلة عارمة لم تنج شفتاى من آثارها حيث فتحت فمها والتهمتهما فى جوع وظمأ غريبين ، أحسسته بشوق وعمر كل هذه السنين الطوال .. فبادلتها القبلة بقبلات ، ارتجفت لها يداى .. وانتفض لها قلبى بدقات سريعة لاهثة ، أحسست وكأنما نار تسرى فى جسدى كله .. أضرمت كل حواسى ، وانصهرت به مشاعرى وأتقد منه فؤادى .. فغمرتنى أحاسيس متباينة .. حارة متدفقة كدقات وخفقان قلبها .. باردة مرتعشة كأهدابها التى أخذت تطبق جفونهما فى حنان دافء ، أما شفتاى حيث موضع القبلة لم أشعر سوى تنميل غريب أفقدنى بعد ذلك الإحساس بهما ، تماما كحقنة التخدير التى يعطيها طبيب الأسنان عند خلع جذور ضرس .. أحسست أنها خلعت قلبى من جذوره .




ماأغرب وأحلى قبلة تذوقتها فى حياتى جعلتنى أشعر بدوار لذيذ طار بى إلى متع لم أكن أتصور أن العالم يختزن مثلها لدرجة أننى كدت أفقد وعيى ، وجعلتنى أحس بأننى لم أُقبل قط بمثل هذه القبلة ، فى عذوبتها وقوتها وحرارتها . وماكدت أتنبه حتى قلت لها هامسا وقلبى ينتفض من صدرى : لم فعلت هذا ياهاميس ؟ قالت : لأنى أحببتك .. ألا تصدق أننى أحببتك ، قلت : بعد هذه القبلة أصدق كل شيئ ، لكن ألا تخافين أن الحب قد يُذهب العقل وحتما سيؤثر على السبب الذى جئتين من أجله ، قالت :إذن أنت لم تصدق ماقلته لك أننا نفعل كل شيئ بالحب ، وسبب مجيئى هو الحب ، والرسالة التى احملها مضمونها من كلمتين الحب والسلام ، إذن الحب من صميم مهمتى ، ولكن حبى لك جاء مختلفا ، ولم أتصوره ، إننى منذ أن وقع نظرى عليك أحببتك ، لقد تذكرت بك خطيبى ، وعاودت أنت كل حنين الماضى وأشعلته فى قلبى وفى صدرى من جديد .. نارا اضرمت كل حواسى ومشاعرى ، لقد سلبتنى رباطة جأشى .. سلبتنى كبريائى .. سلبتنى وقارى المخلد باعتبارى زوجة النيل ، ألا تعلم أن أهلى يعلمون مدى عاطفتى وهو سبب اختيارى لهذه المهمة ، ولكن حذرونى من الوقوع فيه ، وقالوا ليس لك أن تحبى ، إنك موفودة لمهمة رسمية فقط ، ولكنى أحببت ووقعت فى الحب من أول لحظة .. من أول نظرة .. حبا رومانتيكيا .. رومانسيا خالصا ، قل عنه ماتشاء بلغتكم ، ولكنه قدر .. إنه قدرى و قدرك ، فقلت لها متعجبا : كيف ؟ قالت : كنت على موعد بإنجاز مهمتى منذ أكثر من خمسمائة عام ، ولكننى وجدت من الصعوبة أن أتفاهم مع أحد بعد أن قضوا على لغتنا التى لم تعد مألوفة لديكم ، فقررت أن أتعلم لغتكم مما استغرق وقتا طويلا ، فكان النصيب أننى جئت فى زمنك ، كأننا على موعد مع القدر . ثم أكملت دون أن تنتظر إجابة منى : عصام ألا تصدق أننى جدتك ، ألا تتصور أن عمرى الأن أكثر من خمسة ألاف عام ، عشته أعانى الحرمان .. حرمان الحب ، كنت من أسرة صغيرة .. فقيرة ، لكننا كنا نحيا بالحب ، لانعرف غيره ، نحب مصر ونهبها أرواحنا ، كنا نعرف قيمة الحياة على أرضها ، ونعرف مهابة النيل العظيم وقدرته على سريان الحياة ونمائه فى شرايين الوادى ، ولهذا كان عصرى .. قمة ازدهار الحضارة ، ولقد سجلت ملامحها فى مقبرتى بعد أن أصبحت الأميرة الحالمة .. الضائعة فى هوى النيل ، فكم كانت الأضواء ترتعش بين أهدابى فى صورتى على صفحة مياهه ، وكم احتضننى طيفه بابتساماته الوردية وأحلامه العذرية ووشوشته لنسماته الربيعية ، كله ستجده مسجلا على جدران مقبرتى ، وطبعا أنا ادعوك لزيارتى فيها .







لم أعلق فأكملت : بعد وفاتى عرفت أن بعضا من أهلى نزحوا البحر وعبروه ، وعرفوا اليونانيين ، واندمجوا معهم ، وتناسلوا وانتشرت حضارتنا فى الغرب ، ولكن بقى أن تعرف الفرق الشاسع والكبير بين أجدادك القدماء المصريين الفراعنة واليونانيين حيث كانت تروعهم الحقوق التي كانت تتمتع بها المرأة المصرية فى ظل حماية الرجل الذى كان يعرف قدرها ويعلم أهمية هذا المنح . وربما كان الروع وعدم الفهم يعودان للتباين الشديد بين الحضارات ، وهو نفسه ماكان يثير حفيظة اليونانيين والرومان ويجعلهم يشيعون عن المرأة المصرية أنها متحررة جنسيا أو خليعة أو مشاكسة ، وإنما الواقع يؤكد تخلفهم ورجعيتهم ، ولك أن تفخر بأننا كنا أول من عرف مذ عهد أخناتون المدينة الدينية ، أو المدينة الفاضلة كما سماها اليونانيون ونسبوها لأنفسهم ، هليوبوليس أقدم وأهم عاصمة دينية فى التاريخ والتى ظلت منارة للمعرفة حتى الفتح الاسلامى ، وهليوبوليس هذه تعلم فيها أفلاطون صاحب المدينة الفاضلة وهيرودوت صاحب أشهر مقولة قيلت عن مصر عبر تاريخها الطويل " مصر هبة النيل " ، كما تعلم فيها المئات من الفرس والروم ، هى أيضا نفس المدينة التى اسميتموها بعد ذلك بعين شمس . ثم أردفت متساءلة : لكن لماذا تخليتم عن ماوصلنا إليه من ريادة ؟ لماذا تاهت خطواتكم وتعثرت أقدامكم فى التاريخ ؟ إننا أكثر منكم غيرة لأننا كنا نعرف الحب .. ونعرف معنى الوفاء ، كانت حياتنا قائمة على التعاون والود ، والحضارة علمتنا معنى العيش فى سلام وأمان . والحق لم أجد  كلمات تسعفنى فى الرد .. فأكملت : صحيح أن التاريخ لا يعيد نفسه ، وأن الحياة دائما عبارة عن طفرات تصنع أجيالا ، ورغم غياب روح الحضارة عنكم إلا أنها كامنة فيكم ، تحتاج فقط لعزم وفهم ووضوح و جلد وقوة والأهم من كل هذا .. تحتاج للحب .. للحب .. للحب ، من أجل ذلك جئت ـ كما قلت لك ـ برسالة من كبيرنا أخيتاتون يحذركم فيه الضياع والوهن الذى أصبح يهدد حياتكم .. ضياع موروثنا لكم الذى بنيناه بالعرق والجهد فى سنين طوال واكتفيتم فقط بتعليق اخطائكم على مقولة " لعنة الفراعنة " على خلاف الحقيقية بعد أن نبشتم فى قبورنا وأضعتم الكثير من كنوزها وتهريبها خارج البلاد ، ومثلتم بجثثنا بدلا من الحفاظ عليها ، هل عرفت الأن سبب تواجدى ، أم لازال الأمر غامضا عليك ؟ ، بقى أن تعرف حقيقة واحدة أننى أحببتك .. حبا حقيقيا ، حبا خالصا لك وليس لـ" ميرى " ، ولاتسألنى بعد ذلك متى وكيف تم ذلك ، فالحب هو الحب .. نسبى .. ليس له معايير .. وليس له أرض أو وطن أو عنوان ، ولاتعرف حدوده زمانا ولا مكانا ، ولايعترف بالأعمار وحساب السنين ، فالحب لحظة .. قد تأتى أو لاتأتى ، فإن جاءت كانت بسنين العمر كله ، وميرى كان الماضى الذى انطوى وذهب منى وأنت الحاضر الذى أصبحت أهواه وأرنو إليه ، فكم انتظرتك عبر سنين طويلة ذقت فيها طعم الحرمان وبات قلبى فى حاجة كبيرة أن ينشب حبك مخالبه الحاذقة فى المساحات الكبيرة الفارغة فيه لتزرع فيها ورود الأمل وأعواد الحياة الخضرة من جديد . اختفت هاميس من أمامى كما لو أنها تبخرت بغتة فى الهواء .. بل تلاشت ، لم أعد أراها ، ياترى أهذا كان حلما وأفقت منه ، أم كان وهما تخيلته من نسج خيالى الذى يتلاعب بى أحيانا ، كيف تكون هذه الإنسانة جدتى وأقبلها هذه القبلة العارمة ، التى أحسستنى بأننى لم أقبل شفتين فحسب ، بل أدخلتنى عالما من الدفء محلى بالسكر ومكسوا بقطرات الندى ومحاطا برحيق الأزهار .. أحسستنى بروعة الحب .




إنه الحب ، ذلك الزائر الذى طالما كنت انتظره ، الأن قادنى قلبى لهزته ، فكم من سنين طوال تمنيت أن يفتح لى أبوابه ، الأن جاءنى وبأغرب طريقة لم أكن أتصورها ، جاءنى كما كنت أهوى أن يأتى به بسخاء العطايا .. وبفيض المشاعر وبلوغ قمة الأحاسيس .. بأن أحب فأعطى قلبى لمن يهواه ، وأن تكون هى بنفس قدر العطاء تحبنى فتهبنى قلبها ، ليغمر القلبين حبا بلا وهم ولا خوف ولامبالغة فيتحابا ، حبا حانيا ملونا بجميع ألوان الطيف .. فيه الخيال والحقيقة .. فيه الروح والجسد ، حبا يشبه قوس القزح وقد تحول إلى تاج من نور يستقر على قلبينا ويستشعراه  فى كل شيئ خلقه الله لنا من آلاء ونعم وملكات حيث يكمل بعضها بعضا ، وكأنما خلقت عند كل منا لينعم به الأخر ، كنت استعذب صوتها الناعم الجميل وكأن الله خلقه لأذنى ، كانت تحب طول قامتى حيث كانت تراه فى فتى أحلامها ، كنت أحب قراءة الشعر وأتمعنن فى ألفاظه وحواشيه فوجدتها شاعرة تجيد انتقاء الألفاظ واختيار العبارات بمنتهى الدقة والحرفية ، فكنت استعذبه وأحبه وأجد نفسى فيه . كانت لفطنتها الكبيرة وشفافيتها العالية أن تقرأنى من كتاباتى ورسوماتى التى كنت أجيد استخدام الرمزيات والحيل الفنية فيها ، فكانت تتسلل وراء كل إخفاء ، وتصل إلى كل مكنونات أفكارى سواء فى مداد الكلمات على صفحات الأوراق أو ماوراء ريشة الألوان فلاأحد يصل إليها إلا هى ، كانت تمتلك فراسة عالية بجانب ثقافتها فى الأدب وحبها للفنون ، فكانت تلتقطنى من كلماتى ، وبين السطور تصل للذى أحبه والذى أريده  ، كما كانت تعرف كيف تفصل فى فك رتوش الألوان رغم شدة مزجها وجمال تناسقها . كل شيئ جاءنى كما كنت أتمنى أن أجده وأتصوره وأرنو إليه فى شخصية المحبوبة ، نعم لقد أحببتها وأحبتنى ، تعانقنا .. تهامسنا .. تلامسنا ، يالها من لحظات جميلة جعلتنى أعيد السؤال على فكرى مرة أخرى ، هل حبى لها حبا حقيقيا بالفعل ؟ وهل يمكن التعبير عنه بهذه السرعة وفى هذه اللحظات القصيرة فحسب ؟ وهل يستطيع أن يصمد أمام الظروف الصعبة الذى ولد فيه وهل سيتجاوز عاملى الزمان والمكان ؟ إننى لازلت أشعر أثار قبلتها مطبوعا على شفتى ، ولازلت أحس هذا التنميل ، ولازال خيالى يستعيد صورة فمها ذى الشفتين المكتظتين المملؤتين باستدارته الغريبة وهو يلتقم شفتاى كأنما يريد أن يلتهمهما من جديد . عدت من إحساسى ، برغبة قوية لنوم عميق .. تمددت على فراشى ، جذبت غطائى ، وأخذت أستعيد ماحدث حتى غلبنى النوم .. وكان أخر ماشعرت به قبل أن استغرق فيه ، أحساسى بسعادة رائعة من شفتين ناعمتين كأوراق الورد أطبقا على شفتاى فأحالنى نومى إلى سعادة خالصة .







                               وإلى ملتقى آخر فى الجزء الثالث
    

القاهرة فى يونيه 2013                                 مع تحيــــــــــــات ، عصـــــــــام