music

الخميس، 26 أكتوبر 2017

شخابيط على جدران الجموح ( وكانت لصباح حكاية 2 )

كان جمالها البارع أخاذا ورائعا ، ودلاله يذهل كل فكر ، حتى إذا غابت واختفت يشغلنى فكرى ويحبطنى فأشعر بفقد الدنيا وراحة البال ، إننى لم استيقظ يوما دون أن تكون أول أفكارى ، ولم أنم ليلة دون أن تكون صورتها أخر صورة يطبق عليها جفناى ، ولكم تألمت وتعذبت فى غيابها الكثير ، فلاشيئ يهم عندى أكثر منها ، حتى أننى لم أشأ أن أحكى عنها لأصدقائى أو على الأقل المقربين منهم خوفا عليها ، وطويت صدرى على حبى فى صمت ، يكفينى أننى بدأت اتحسس أولى قطراته على يدها وهى تنزل على قلبى بردا وسلاما ، ولكن الظنون كانت تغلبنى أحيانا إذا ماطال غيابها وتذهب للبعيد الذى لاتتمناه النفس لدرجة أننى لاأصدق أنه من الممكن أن أعيش بدونها ، وأحيانا أخرى أتشكك فى حبها وأقول فى نفسى هل تحبنى حقا أم مجرد أوهام أمنى بها نفسى والحقيقة غير ذلك ؟ ، ياترى هل عرفت أنى أحبها ؟ هل رأت فى عينى ألسنة اللهيب المتقد فى قلبى ووجدانى ؟ هل أحست بارتعاشتى واضطرابى كلما سكنت صدرها ؟ . لاريب أنها لاتعلم شيئا عن كل هذا الذى أعيشه الأن ، ولايهمها إن كان يؤرقنى غيابها أم لا ، بل ومن المؤكد أيضا أنها كانت تمضى وتذهب لحالها وتنسانى وتعيش حياتها وسط أهلها هادئة مستقرة وسعيدة فهى تجد نفسها بينهم وخاصة أنها دائما ماكانت تحكى لى باستفاضة عن حبها لأهلها وصديقاتها ومعارفها وعشقها للمكان الذى تربت فيه . ولكن كانت تخلف كل ظنونى بمجرد أن تظهر مرة أخرى ، حيث تقبل على فرِحة وأرى فى عينها ذلك الومض الذى يخطف البصر ويخفق القلب وتغمرنى إشراقاتها ، فأنسى ماكنت أفكر فيه وكأنه لم يخطر ببالى البته ، ويخطف الحنين الخوف ويتبدل الشك لطمأنينة وتتحول الريبة لشغف ويرسل الحب دفقاته لقلبى من جديد فتتسارع دقاته مرة أخرى ويسبقنى لاستقبالها ، وكم كان يسرنى أنها كانت تحيينى فى حرارة وتصافحنى فى شوق كأنها لم ترنى منذ زمن بعيد . تحضننى بعينها وتمسك يدى وتقبض عليها بكلتا يديها وتجلسنى بجوارها بجانب السور نستمتع بدفئ الشمس العارية فى الأفق وتتحدث إلى وأنا اسمعها فى صمت متشوقا ، كنت أخشى أن أتحدث فأحرم آذانى من صوتها الملائكى الذى كنت محروما من سماعه ليسكب فيها أنغاما تبعث فى مكامن النفس وهجا ، وفى خلجات الروح ابتهاجا . 



كان يحدث ذلك فى كل لقاءاتى التى تأتى بعد طول غياب ، حيث أرى الشوق فى نظرة عينيها اللتين تشع منهما الفتنة والإغراء ، ولمسة يدها عندما تشد على يدى بلهفة الرقة والحنان ، فلامنتهى لهما حتى يذوب قلبى وينصهر . وفى ذات مرة صافحتنى فى حرارة شبيبة انتفضت لها وبلعت ريقى بصعوبة ، وانتظرت حتى تسحب يدها من يدى ، ولكنها لم تفعل ولم تقل شيئا ، وبعد هنيهة تركت يدى وتأبطت ذراعى ، ثم التفتت وطوقت رقبتى بذراعيها حتى دنا وجهها من وجهى تماما وكدت أحس بتتابع أنفاسها ، كنت انظر إليه بافتتان مذهولا حتى كشفت عينى عن رقة لم أرها من قبل ، كانت هذه أول مرة أتأمل فيها وجه إمرأة عن قرب ،  كنت أحدق فيه بدقة وحاولت أن أطيل النظر قدر الإمكان حتى أملأ عينى بنصيب وافر من تقاطيعه وملامحه وقسماته ، ولكن نظراتها فى عينى كانت فى جرأتها كالسهام النافذة ، فكنت أول من يحول بصره أولا ، حيث خفضت وجهى ولم أجرؤ على مداومة النظر فى مدارهما ، لم تستطع عينى الصمود أمام تأثير هذه الجاذبية الشديدة لعينها ، فكان الهروب أسلم وسيلة من عين تقرأ كل ماأحاول أن أخفيه ، إننى لم أكن أعرف بمثل جاذبية صباح الخاطفة ، وفتنة أنوثتها الخلابة ، وصخب الشباب الهادر التى كانت مقبلة عليه بحرارة وتدفق ، وقلت لنفسى اللهم أمد فى عمر هذا النعيم وقتا وسعة وطولة بال . نظرت إلى وجهى بعينها الجميلة وراحت تحاصره بنظرات الإعجاب وتتأمله : وحشتنى أوى ، ولم أدر حتى الأن هل رددت عليها هذه التحية أم لا ، لأن الفرحة التى احسست بها فى هذا الوقت غمرتنى حتى فاضت علىّ ، وانستنى كل ماعداها ، مازال صوتها الجميل يؤثرنى بأنوثته الهائلة الكاسحة.





دأبت صباح أن تسرق نفسها من مسئولياتها المنزلية كل يوم وتصعد إلى السطح بحجة نشر الملابس المغسولة كى تأخذ نصيبها الوافر من الهواء وأشعة الشمس ، والحقيقة التى لايعرفها غيرى إنها تريد أن ترانى وتجلس معى وتفتح لى قلبها وتحدثنى عن نفسها وعن حياتها الثقيلة المملة التى أصبحت تعيشها منذ أن تزوجت وتسير فيها على وتيرة واحدة . كنا نتحدث كعادتنا ونحن وقوف متكئين على السور ، وبعد هنيهة نجلس على الأريكة الصغيرة التى كانت بجواره إذا ماشعرنا أننا فى وضع يرانا فيه الناس ، كنا نريد أن نعيش فى دنيا غير دنيا الناس .. دنيا لايوجد فيها غيرنا ، كانت عندما تجلس بجوارى تجعلنى متكئا برأسى على كتفها ممددا ساقى على الأريكة ، ثم تجعل رأسى مسنودا على صدرها ، حتى تزحزحها بنفسها إلى حجرها ، وأحس بأصابعها تعبث فى شعرى برفق وبأنفها تمس رأسى وبشفتيها تهمسان : أحب رائحة شعرك . ثم تسكت عن الهمس حتى إذا ران علينا صمت عميق تتحدث بلغة العيون التى كانت تجيدها تماما ، ثم أحس بأناملها تعاود العبث فى شعرى من جديد . عاودتنى عواطف صافية ، فرمقتها بحنان وحب وقلت لها فى عذوبة وهدوء إن أجمل شيئ فى حياتى أننا نتقابل لكى نحلم .. فلا أقل من أننا نظل نحلم بالذى نحبه ونريده ، حتى ولو لم يصادف هوى الحقيقة . وتبادلنا حبا عميقا بلا كلمة تعبر عنه إلا من لحظات مناوشة عابرة تبدو فيها صباح مراوغة ، كانت تتلاشى فيها الكلام عن الحب وتهرب منه رغم أن كل مانفعله يدل عليه ، كانت تنهض من جلستها الرخوة إذا ماأحست أننى سأورطها فى البوح عن عواطفها صراحة ، فتروح وحدها إلى أقصى السطح دون أن تدعونى للمرور معها ، ثم تعود مرة أخرى مشرقة الوجه لاكلام ولاحديث ، ولكن لاإراديا كنا نترك لجوارحنا أن تفعل ماتشاء دون استئذان ، فكنت أنحنى لها طائعا ملثما يدها ، أما هى فتركتها لى وتمتلكها النشوى . واصلنا الحب المتبادل الصامت كنت خلاله أحنق عليها وأمارس معها اللعب على المشاعر حتى حاصرتها وانتزعت من صميم قلبها الاعتراف به ، يومها اقتضبت وقت اللقاء وتركتنى ، مضت من أمامى وثبا .. خجلا وحياء ، وفى هذه الليلة لم أنم وأخذت أتذكر بزهو عنادى فى مطاردتها وكيف انتزعت منها اعترافها المثير بالحب وإقرارها به ، وكيف أمدنى هذا اللقاء بحماس جديد ليستمر الحب بيننا فى زيادة كلما توالت اللقاءات وتعددت ، وعلى مر الأيام يكبر .. حب حقيقى كأعنف مايكون الحب . وإن كان يبدو غير متكافئ الكفتين ، فالمثير للدهشة والعجب ألا يُسقِط امرأة فى براثن الحب بحجم حيوية جمال صباح وحضورها الطاغى المهيب الذى أعجز كل من تمنوها من كل الشباب حولها وأسقط رجال كثيرين مروا بحياتها وأرادوا الارتباط بها أن ينالوا منها ولو حتى مجرد رضاها بلفتة جِيد أو بسمة ثغر سوى شخص مثلى متواضع جدا ، شديد الخجل والحياء ، عاطل من كل قدرة وخبرة ، ولكن أعتقد أن هذا الشيئ يجب ألا يبعث على الدهشة ، فلست أرى هناك مقاييس معينة يمكن أن يخضع لها الحب ، بل تبدو المسألة على النقيض أن أكثر من يتتوقن للحب من النساء وأكثرهن معرفة بمسالكه ودروبه يميلن بشدة للرجل البسيط الخجول الجاد فى حبه ، الذى يعرف للمرأة قيمتها وقدرها ، ولاعجب فى هذا فللمرأة حاسة سادسة تشتم بها مايعتمل فى قلب الرجل وتعرف بها من يحبها حبا حقيقيا ومن يدبر لها فى نفسه أمرا . 


وفى ذات مرة أشاحت صباح بوجهها عنى وزاغت عيناها فى المكان الرحب حولنا شاردة فى عالم أخر ، وكانت شمس الأصيل تلقى على جانب وجهها وشعرها بخيوطها الذهبية ، حتى بدت كأنها لوحة حزينة . مددت يدى ولمست وجهها وأدرته ناحيتى ، فرأيت عينيها تلمعان بالدمع مما أثار شجونى وأرهف عواطفى ، وأرهق قلبى الصغير . أردت أن أبدل المكان حتى تخرج من الحالة التى فرضتها على نفسها وجعلتنى مشغولا بها ساهما ، أخذتها من يدها وذهبنا إلى سور السطح الغربى المطل على شارع الجيش وامتد بصرنا إلى رءوس العمارات الكبيرة ودورها الصامتة وامتد بصرنا إلى أخر الأفق نتأمل قلعة صلاح الدين ، ولم تتكلم ولاتريد ، رغم أن منظر القلعة كان يثير شجونها ويجعلها تسهب فى الحديث عن ذكرياتها وحبها للمكان وشخوصه ، إلا أنها فى هذا اليوم كانت متجهمة رافضة لكل شيئ ، ولم أستطع أن أخمن فيما تفكر حتى ران علينا الصمت مرة أخرى ، ثم باغتتنى بمد ذراعها إلى كتفى والأخرى اسندتها إلى سور السطح ، ثم أراحت رأسها على رأسى ، وبعد أن جلسنا أراحتها على كتفى ، وأخذت تضم يدى فى يدها وتضغط عليها ، وراحت تدلكها فى تلطف وتؤدة ، ورفعت لى وجهها وكأنها أفاقت بعد غفوة ، وتطلعت بعينين زائغتين تتحركان دائريا مسحا لحدود وجهى ، وتقتحمان فيه كل شيئ فى تلاحق وتخاطف سريعين ، ثم عادت وأغمضتهما وألصقت خدها الناعم بخدى حتى شعرت بسخونته ، وفجأة رأيتها ترفع وجهها مرة أخرى ، لتعود مداهمة بعد أن طوقت وجهى بكلتا كفيها حتى أحكمته تماما ، ثم راحت تستبيح الخدين وأخذت تقبلهما فى نهم حتى توردا ثم احمرا فالتهبا . 




بدت وكأنها تحررت من دموعها ومن كل القيود والأغلال التى كانت تكبلها تكبيلا وتنغص عليها حياتها ، دق قلبى سريعا وارتجفت يداى ، وغمرتنى أحاسيس مختلفة كنت سعيدا بها . إننى لم أنس احساسى فى هذا اليوم ، أحسست أن كل شيئ كبر فى عينى فجأة ، أشياء استروحها قلبى واستشعرها فؤادى حتى فاضت على كل جوارحى محبة وغبطة وسرورا . لقد نقلتنى صباح إلى شيئ جديد كنت لاأعرفه ، وأجهل أن له مكانا كبيرا فى القلوب والجوارح . وفى غمرة السعادة سألتها بعفوية : صباح هل تحبين زوجك ؟ ، نظرت إلى وأفتر ثغرها عن ابتسامة ماكرة حلوة وقالت مالذى يهمك فى الأمر . شعرت بتجاوزى وبعض الحرج ولكنى قلت لها إنه مجرد سؤال ، قالت وكأنها كانت تنتظره : هل يهمك أن تعرف هذا ، قلت لها : لايهم . رفعت إلىّ وجهها وقد رقت ابتسامتها أكثر وردت فى استحياء : لكن أنا يهمنى أن أقول لك كل شيئ ، شوف ياسيدى ، منذ أن تزوجت وأنا أشعر بالوحدة ، زوجى لم أره إلا منهكا عندما يعود من عمله فى المساء يأكل وهو شبه نائم ، ثم يلقى بنفسه على السرير ، وأسهر أنا وحدى طول الليل ، وربما كان نومه أفضل بكثير من صحوه فهو دائم الشجار معى بسبب تدخلات أمه المتكررة فى حياتنا ، ورغم غيرته الشديدة علىّ وإظهار حبه وعطفه لى عندما ننفرد بأنفسنا داخل غرفتنا ، إلا أنه كثير ماكان يتجاهل مشاعرى وكأنه امتلكنى امتلاكا ، وأظن كل الظن أننى لاأمثل عنده سوى جارية اشتراها له أباه ولست زوجة له ، فهو لم ينصفنى ولو لمرة واحدة أمام أمه ، حيث كان يقف دائما فى جانبها ضدى عند وقوع أى مشكلة بينى وبينها ، ويفتعل المشكلات من أسباب واهية ويظل يسب ويلعن حتى تهدأ نفسه وترتاح ثم يغض فى نومه العميق ، ويتركنى نهبا للغيظ والقهر ، تصور أنه يرتاح هو وينام لأبقى أنا بينى وبين نفسى التى يجافيها النوم أسيرة الإحساس بالإهانة وجرح الكرامة ، ذلك ماكان يلهب صدرى ويزمه من الضيق ويستشيط حقدا عليهما ، وتتملكنى رغبة عارمة  بأن اقتص منهما مايريح نفسى حتى ولو بنظرة كراهة أواحتقار ، أما بالنهار لاأجد فيه أمامى غير حماتى وابنتها بدرية ، ضقت بحديثهما ذرعا ، فهما لايسأمان من إعادة مايتكلمان فيه البارحة ، أن يتكلمان فيه كل يوم حتى تبرمت وتضجرت منهما ، كنت أهرب بالنظر من وراء النافذة بعد أن انهى أعمالى المنزلية حتى أتجنب حديثهما الممل ، أراقب الشارع وكل مايدور فيه ، حتى لمحتك وسط أصدقائك وأقاربك ، شدنى انتباهى إليك ، وأخذت فى مراقبتك عن كثب ، لفت نظرى فيك وسامتك وطول قامتك وبياض بشرتك المكتسبة لحمرة ، وهى الصفات التى طالما كنت أحلم بها فى صورة فارس أحلامى ، ولكن ماشدنى إليك أكثر رقتك وأدبك وخجلك وحياءك ، ولاحظت أنك قليل الكلام ، وأنا أميل للرجل الغامض الذى يحتار فيه الناس ، وعرفت أن اسمك الحقيقى محمد وهو أحب الأسماء لقلبى ، ولكننى تعجبت من أن أصدقاءك ينادونك عصام باسم والدك ، والأعجب أن والديك كانا يدلعانك بميمى ، وهذا الإسم كثيرا ماكان يتردد على مسامعى من كثرة النداء به من تحت الشرفات بأصوات كل من عندكم عندما ينادون لأى سبب ، حتى صار له رنين وصدى أيقظ ذهنى ونبهنى لك أكثر وكان سببا كافيا للإلتفاف إليك. 


 
ثم أردفت وقالت : لاتتعجب من أننى عرفت كل ذلك ، حيث وجدت نفسى شغوفة بمعرفة كل شيئ هنا .. تواقة للوصول إليك ، فاستدرجت بدرية كى تحكى لى حتى أفاضت وعلمت منها الكثير ، وتقريبا قالت كل شيئ عنكم بأدق التفاصيل ، وهى بالمناسبة تحبكم جدا وتفضلكم على الكثير من الجيران وتقول عنكم أنكم أطيب وأبسط من فى البيت كله ، وعرفت منها أن شقتكم تضم ثلاث أسر ، أسرتك .. أسرة عم عصام والدك .. رجل طيب ودائما فى حاله ، لايفضل كثيرا أن يتكلم مع أحد وربما أخذت عنه هذه الصفة بالفطرة ، أما والدتك فكانت من خيرة سيدات المنزل حيث عُرف عنها فطنتها وقوة شخصيتها وفى ذات الوقت كانت تملك قلبا رقيقا صافيا ، لديها قدرة كبيرة على القيادة وقوة التحمل والصبر ، وأيضا حل مشكلات ماحولها ، وكانت الوحيدة لديكم من تتصدى لمواجهة المشكلات التى كانت تنشب مع حماتى ، وجاء ذلك باعتراف حماتى ذاتها ، وهى التى لم تثن على أحد قط ، ولكنها كانت تقول عن والدتك بإنها سيدة شجاعة ومؤدبة وطيبة القلب ، أعرف أنك أكبر أخواتك وهم مازالوا صغارا ، كما أعرف أيضا أسرة خالتك نجاة وزوجها عم إسماعيل ، وأسرة جدك محمود وجدتك فاطمة وأخوالك أحمد ومحمد وسعد وجمال . أما عن شباب المنزل وأصدقائك ، سأحكى لك أولا عن أسامة جاركم فى الشقة المقابلة كان هو وسعد  أصدقاء ، لم يقفا معكم ، ولكن كنت أعانى منهما كثيرا حيث كانا يراقبانى من الشرفة التى فوقنا ، وكثيرا ماكنت أتجنب نظراتهما لى وخاصة أسامة ، فقد كانا فى وضع يكشفانى فيه ، وكثيرا ماكنت أتضايق من ملاحقتهما المستمرة بنظراتهما الناهمة ، لدرجة أن أخته فايزة نفسها لاحظت ذلك ، فكنت أراها وهى تنهر أخاها ، ثم تجعلهما يكفان عن اختلاس النظر إلىّ ، ومع ذلك كانا يغفلاها ويواصلان مضايقتى ، ربما كان هذا سببا من أسباب عدم راحتى في هذا البيت ، أن أجلس فيه يوما كما يحلو لى ، وألبس مايروقنى من ملابس تتناسب مع وضعى كعروسة . ولم أشأ يوما أن أقول ذلك لحماتى حتى لاتحدث مشكلة كبيرة بسببى ، واعتبرته مجرد طيش شباب وسيذهب يوما إلى حاله ، فما أحب على قلبها أن تجد لنفسها مشكلة وخاصة مع جيرانها ، حتى تُظهر سطوتها وتستعرض قوة عضلاتها ، وتفتح سيلا عارما من الشتائم والبذاءات .. فهى لاتكل ولاتمل من مشاغبة الناس .. ولا أحد يسلم منها ولامن شرور لسانها حتى ابنتها دائمة الشجار معها على أتفه الأسباب . فقلت لها : وأنت هل تفعل معك ذلك ؟ لم تمهلنى أن أستكمل كلامى وقاطعتنى وقالت فى حزم : إلا أنا ، رغم أن زوجى ينصرها علىّ كثيرا بحكم إنها أمه ورغم أنها تكيد لى كثيرا ، إلا إنها لاتستطيع أن تفعل معى أى شيئ لأنها تعرف جيدا مركز وقوة عائلتى فى منطقة القلعة كلها . ثم واصلت حديثها فى دأب : دعك من حديث للخوض فيه كراهة ولنجعله لما نحب أن نسهب فيه ونفيض ، نأتى لأصدقائك الذين تقف معهم فأنا أعرفهم أيضا جيدا .. هم أولاد الجيران فى الشقة المقابلة لشقتنا ، عائلة السيدة " فينا " كانت سيدة مسيحية وأسلمت عندما تزوجت من الأستاذ محمد وهو رجل محترم وموظف كبير فى هيئة البريد ، لها منه أربعة أولاد عادل وعفيفى هما الأكبر ، وعلى وعاصم هما من كانا فى مثل سنك ، كان أوسمهم عفيفى وأكثرهم وداعة ورقة ، عرفت أنه يدرس فى كلية الطب ، لكن عادل كان على النقيض متعاليا وصارما فى تصرفاته لايعرف للمجاملة طريقا ، وعرفت فيما بعد سر تجهمه الدائم وأسلوبه الفظ وطريقته فى الكلام أنه كان يعتز بنفسه فخورا بأنه طالب فى كلية الشرطة ، كانا لايظهران إلا قليلا ،  أما عاصم وعلى وحسن هم من كانوا أصدقاءك ، حيث كنت أراكم تداومون على الوقوف معا عند بوابة المنزل ، تراقبون البنات وتدأبون على لفت أنظارهن ومعاكستهن ولاتكفون عن ذلك سبيلا وكأن حياتكم كانت موقوفة فقط على التبارى فى حب البنات ، وكنت ألاحظ حينما كنت أتصادف بوجودهم على السلم ويشعرون بى أن لنظرات عيونهم مآخذ ، وأفواههم تريد أن تنطلق لمغازلتى وتنطق ، أما أنت كنت مختلفا كثيرا عنهم بأدبك وخجلك وأخلاقك ، كنت أراقبك فى إعجاب . ولكن الشيئ الوحيد الذى كان يحيرنى فيك أن طريقتك فى الحياة لاتتناسب معهم شكلا وموضوعا ، وأظن أنك كنت لاتعرف كيف تجاريهم فى حكاياهم ، فالكل يتكلم وأنت الوحيد الذى يقف ساهما لايريد أن يتكلم ، كان حسن أكثركم جرأة وإقداما فى خلق الحكايات ومعاكسة البنات ، ولم أدرك أنه ليس أخا لعاصم وعلى إلا بعد أن لاحظت أنه يتركهما كل ليلة ويمضى ، وغير ذلك فهو معهما معظم الأوقات فى المنزل والشارع ، أما جمال لم يداوم على الوقوف معكم ويختلف عن أخيه سعد كثيرا. 


وتعجبت عن كم المعلومات التى تحصلت عليها فى هذه الفترة الوجيزة ، وإن لديها مهارات أخرى لم أكن أعرفها لولا أنها تكلمت . إنه من الصعب أن تعرف إنسانا دون أن تتكلم معه . قطعت شردتى بمفاجأة أخرى أسهدتنى : تعرف أنا كمان عارفة عنك كل شيئ ، ومثلما عرفت أنك دلوعة والديك ، وكثيرا مايخافان عليك من الشارع وشروره وخاصة الإختلاط بالبنات ، أعرف أيضا أنك دونجوان من طبيعة شكلك الغارقة فى الرومانسية وتصرفات الأخريات ، ولكنك كذبت علىّ عندما قلت لى أنك لا تصعد إلى السطح إلا من أجلى ، والحقيقة أنك كنت تصعد من أجلها هى . وأحسست أنها تريد أن تُلمح لشيئ ، وحاولت مقاطعتها حتى لاتسهب أكثر من ذلك ، وخاصة أنها لايخفى عليها أى شاردة أو واردة ، وقلت لها فى بلاهة : هى من ؟! إننى لاأعرف أحدا غيرك . رسمت على شفتيها ابتسامة باردة بعد أن اعتدلت ، ثم لفت جسدها بروبها الستان اللامع الذى دائما مايشهد تألق جسدها ، وقطعت أشواطا حائرة فى السطح حتى استقرت فى المكان الذى كنت أقف فيه لأرى يسرية وقالت فى تهكم : أظنك لاتنكر أنك كنت تقف هنا وتتبادل النظرات معها ، صحيح أنا لم أرك ولكن كنت أراها هى كلما كانت تنظر لأعلى بابتسامة رقيقة ، دفعنى فضولى أن أعرف لمن هى تبتسم ، وعزمت على الصعود إلى السطح خِلسة ، وكانت أول مرة أفكر فيها أن أصعده ، فوجدتك واقفا وحدك فيه ، وأخيرا عرفت ورأيت بنفسى لمن تنظر لأعلى وتبتسم ، ونزلت بسرعة دون أن تشعر بى أو تلمحنى . ذهلت وتجهمت لما أسمعه منها ، كلامها ألجمنى تماما . وراحت تواصل حديثها دون اكتراث ودون أن تنظر إلىّ بعد أن أشاحت بوجهها عنى وقالت وقد رق قلبها ولان جانبها : لم أعرف لماذا شغلنى هذا الأمر ووجدت أن المسألة أصبحت جادة بالنسبة لى ، فحينما أفكر بك كل الوقت ، وأشتاق أن أراك فى أى وقت ، تكون المسألة جادة لاريب ، ولم يعد الأمر يحتمل تبريرا ، ورحت أصارح نفسى بكل شجاعة ، منذ أن رأيتك والدنيا فى عينى تغيرت وفى فمى أصبحت شيئا أخر .. قاومت هذا الفكر لاستحالته فأنا الأن سيدة متزوجة ولم أعد فتاة مثل كل الفتيات اللاتى يحلمن بفارس أحلامهن ، فضلا على حداثة سنك بالنسبة لى ، حاولت عدم الاستسلام ، بيد أنك ودون أن تعرف شيئا عن كل ذلك ظللت تتسرب إلىّ من كل شيئ .. ومن كل اتجاه ، أطردك ، لاأخفى عليك حاولت ذلك .. حاولت أن انتزعك من كل محاولات تغلغلك .. ولكن كنت أجدك تتسلل إلىّ من كل مواطن نفسى وتتدفق داخلى بعنف ، فتكسرت راياتى أمام صورتك التى أدمنتها واهتزت خلاياى كلما كنت تصعد خلفى إلى السطح . سألت نفسى من أين جاءت كل هذه السطوة ؟ وأنا التى كنت أعتز بفتنة جمالى فى عيون الأخرين لدرجة الإحساس بالغرور والتعالى ، وكثيرا ماكانت تفرض قيودها علىّ وعلى حياتى بأنى فتاة تستقوى بجمالها حتى أكتشف منذ أن جئت هنا ، وفى لحظات الإنفراد بنفسى أننى مجرد قطة أليفة تذوب شوقا ، وتتوق إلى ضعف لذيذ ، وأجمل صورة أرى نفسى فيها وأتوق إليها هى صورتى المتخيلة وأنا أحضنك وتنام رأسى على كتفك بخضوع تام ، أو عندما ينام رأسك على صدرى وأجعل أناملى تداعب فروة رأسك وتغوص فيها لاهية . لاأخفى عليك عندما عرفت بمدى تعلقك بيسرية تحركت غيرتى بغباء ورفضت صداقتها بسببك ، فنافذة حجرتى فى قبالة شرفتها وكثيرا ماكانت تنظر لى وتحاول أن تتقرب منى وتتحدث ، ولكنى كرهتها ولم أعطها هذه الفرصة ، فلطالما أسدت لى طعناتها كل يوم وكل ليلة ، وشكلت عندى نقطة ضعف كبيرة ، لأنها حولت حياتى إلى جدب الروح وعمقت سهود النفس التى كنت أعانى منها كل ليلة . 



سكتت ساهمة فى محاولة استعادة تنظيم أنفاسها المتهدجة حتى هادت فواصلت حديثها : لم أكن أبدا أتصور أن حياتى ستتوقف هنا وأنا المحصنة بجمالى الذى دوّب الأرض من كثرة خطاوى الخُطاب ، ناهيك عن وله المعجبين وولع المتيمين به من كل شباب القلعة ، ولم أعر كل ذلك أدنى اهتمام ، حتى تزوجت من فتحى بمباركة أبى ورضا أمى إرضاء لهما ، لأنهما لم يأخذا رأيى فى اعتبارهما عند زواجى منه وهو أبسط حقوقى ، فأنا لم أره قبل ذلك ولاأعرفه ولم أحس تجاهه بأية عاطفة ، صحيح أننى شعرت بطيبة قلبه أثناء خِطبتنا ، وأنه حاول الكثير فى سبيل إسعادى فى بداية زواجنا ، ولكنه سرعان ماتبدل به الحال وأصبح غيورا جدا لدرجة الأذى ، سماعا لأمه لدرجة الغباء ، يخلق المشكلات من أتفه الأسباب ومن مبررات واهية ، إننى كنت ولازلت لاأشعر تجاهه بأية عاطفة ، فتأتى ابتسامتك المهذبة لتسقط حصونى .. كل حصونى ، وسألت نفسى لماذا أنت بالذات ؟! وكانت أجابته عندى لاأعرف ، إننى عجزت عن الفهم ، ولكنى آمنت بسطوة الحب وسحره .. آمنت بأنه لاتوجد أسباب منطقية لوجوده ، فهو دائما يأتى مباغتا ولايستأذن أحدا ، وكنت قبل ذلك لاأعرفه ولكننى كثيرا ماتمنيته . وتمر الأيام ولم أستطع تفسير رغبتى الشديدة لرؤياك ، ثم عرفت بعد ذلك أن هذا هو الحب ، كنت خائفة حيث جاءنى مباغتا ومقتحما ، ولكنه لم يمهلنى التفكير حتى صرت له طائعة ، رغم أننى حاولت قدر المستطاع أن أسد الطريق على قلبى وامنعه من أن يستدرج لسانى حتى لايبوح لك بأسراره ، فعزمت ألا أبدى لك أية مشاعر حتى لاتتفاقم الأمور قبل أن أدبر أمرى وأنظم حياتى على أساس حالتى الجديدة بوجودك فيها ، ومع ذلك وجدتنى استمتع بالتفكير بك طول الوقت ، وسماع أغانى أم كلثوم بشغف وعبد الحليم بحب وأنا أتابعتك ، وكأن أغانيهما تحاكى ماأشعر به نحوك ، وأجد نفسى فيها وأتغنى بها فى كل وقت واستمتع بمعانيها التى كنت أستغرقها لدرجة إحساسى بأنها كُتبت من أجلى أنا حتى أغنيها لك وحدك ، فكنت أقف بين الحين والحين أمام مرآتى وأنا أمشط شعرى وأردد بعض أغانى الست أم كلثوم : " أنت الأمل اللى احيا بنوره عمره مايبعد يوم عن عينى ، وأنت الشوق اللى اسمع صوته لما تغيب عنى ينادينى ، وأنت الحب اللى ما فيش غيره لو يسعدنى أو يشقينى وعمرى مااشكى من حبك مهما غرامك لوعنى ، لكن أغير م اللى يحبك ويصون هواك أكتر منى " ، وكان يشجينى ويعجبنى أيضا  :  " يا أحلى غنوه سمعها قلبى ولا تتنسيش ، خد عمرى كله بس النهارده خلينى أعيش ، خلينى جنبك فى حضن قلبك ، وسيبنى أحلم ياريت زمانى ما يصحينيش ، أملى .. حياتى ..عينيه يا أغلى منّى عليّه ، يا حبيب امبارح وحبيب دلوقتِ ، ياحبيبى لبكره ولآخر وقتى ، أحكى لى قوللى ، إيه من الأمانى ناقصنى تانى وأنا بين ايديك ، عمرى ما دُقت حنان فى حياتى زى حنانك ، ولاحبيت ياحبيبى حياتى إلا عشانك " . أما أنت كنت أجد صوتك فى حنجرة عبد الحليم فأتوق لسماعك من خلاله ، فكانت حروفك وكلماتك المغناة تخرج من قلبك إلى سمعى بصوت حليم وكأنى أسمعك أنت تحدثنى دون أن تكلمنى ، فيصلنى كل مايحمله قلبك من معانى وأحاسيس ومشاعر : " بحبك حب ماحدش قبلنا عرفه ولا صدفه .. بحبك حب ومش قادر على وصفه وأنا شايفه ، بنظـرة شوق بتنهيدة ، بـدنيا كلها جـديدة ، ونجمة مسكتها بإيدى وكانت فى الفضا بعـيدة ، وشيئ فى الليل متوهنى .. وشيئ فى عنيك بيندهنى ، حرام نسكت على قلوبنا ، حرام الشوق يدوبنا ، بلاش نهرب .. بلاش نتعب .. تعالى نحب ونسلم بأمر الحب " ، نعم عشت وصفه من نظرة عنيك ، وشفته فى اشتياقك لرؤيتى كلما غبت عنك وعدت إليك ، وحسيت بمعنى دنيا أنت فيها ، فعرفت معنى الحب وآمنت بسطوته والإمتثال لأوامره والخضوع لجبروته ، فكانت نفسى تطيب وتنجرف نحوك طوعا وتظل ليل نهار تكلمنى عنك ، حتى سكن الحب قلبى ، وسكن روحى الإنشراح بوجودك ، كل كلماتك التى قلتها لى كنت أعيدها على مسامعى بينى وبين نفسى حتى حفظتها عن ظهر قلب ، حبيبى سمحت لنفسى أن أعيش فى أحلامك حتى أدرأ عنى أحزانى وخيبة الأمل وشعورى بالوحدة ، فكنت أنت طبيب جروحى ، وكنت لى الدواء ، فأنت ملاكى الجميل الذى أصبحت أعيش من أجله فى هذه الدنيا ، فلاأحد لى فيها سواك .
                                 وإلى ملتقى أخر مع الجزء الثالث



مع خالص تحياتى : عصام   
القاهرة فى أكتوبر 2017