music

السبت، 30 يوليو 2022

نظرة واحدة .. تكفى

ضاقت الصرخة الكتومة التي كانت يضمرها داخل صدره ، تريد أن تنفجر وهو يريد الخلاص هيأت له نفسه أنها لو انطلقت من داخله سوف يرتاح ، إنه يريد إزاحة كل ماكان يعتريه من شعور بغيض جعله يكترب إلى هذا الحد المزعج للغاية ، لذلك كان ينشد أية انفراجة حتى تهدأ نفسه المجهدة ويبرأ جسمه المنهك من أرقه وسهوده ، ليقلص بها السكون المحكم الذى أرخى بسدوله على أرجاء الحجرة وجثم على عقله وقلبه بهموم الدنيا . منذ متى وهو يحاول قتل الشعور بالوحدة ، منذ متى وهو يحاول درأ هذه المعاناة وأن يجد لحياته معنى ، منذ متى وهو يحاول أن يسلى نفسه بعمل أي شيئ يخرجه مما هو فيه ، إنه لم يعد يرتاح في شيئ ، فقد أصابه الفتور وسأم الحياة ولم يعد هناك مايغريه على تقبل أي وضع حتى ولو فيه بصيص من الأمل . فكثير ماكان يلجأُ مجبرا إلى الشرفة عندما يتملكه هذا الإحباط ، يريد متنفسا خارج حيز الجدران المطبقة على جوانحه وأحكمت ضلوعه ، كان يتخذ من الجانب البحرى مجلسا له على الأريكة التي طالما أسرى لها بشجونه كلما ضاقت به دنيا الناس ، أطلق ببصره إلى عنان السماء سارحا .. ساهما .. واجما ، البهجة لاتعرف طريقها إلى قلبه ، والإبتسامة لم تجد سبيلها إلى شفتيه فقد أخذهما الامتعاض وكان يزمهما زما ، فهذه الليلة مثل كل لياليه التي يغيب عنها القمر حيث ينتابه فيها هذا الشعور القاسى فلا شيئ يثير شجونه ويرهف عواطفه ويلهب إحساسه ، وكأن الدنيا في هذه الليلة لم تخلق له ، ووجد نفسه غريبا عنها ، حتى الموسيقى الهادئة التى كان مداوما على سماعها وتسيل في روحه الرقة و تذيب العذوبة فى قلبه كأنها لم تكن هي التى يعرفها لدرجة أنه لم ير في سماعها مايريح بها قلبه وتجعله يسرح في دنيا غير دنياه .. دنيا طالما كان ينشدها ويحب أن يرى نفسه فيها ويألفها . أمر عجيب أإلى هذا الحد ضاقت به الدنيا حتى يرهق نفسه بهذا الشكل ويقسو عليها بهذه القسوة ليضيق قلبه وتذوى معه النسمات التي كانت تداعب وجهه  فينكمش في برودة حتى أذراه الضنى .

راح وسط كل هذه الغيوم التي تكثفت فوق رأسه يبحث عن غفوة يهرب بها من الواقع ويتلمس فيها القليل من الراحة حتى يجد مايريح قلبه ، وتهدأ له نفسه ، والإنسان عندما يهرب من الواقع  فإنه يهرب منه لأنه أليم ، فلابد من الهروب إما إلى الماضى .. إلى الذكريات باعتبار أن الخيال عنده أقوى من الواقع ، وإما إلى  المستقبل .. إلى أوهام سعيدة وراءه أو أمامه  لأنها عنده  أروع من الحقيقة ، ورغم إنه  يمنى نفسه بأوهامه ، إلا أنه يفضل دائما الإرتداد للماضى الذى عاشه بحلوه ومره ويعتبره متنفسا  لاغير ه ، لذلك فإن الذكرى دائما تسعده  ،  ويجد متعة كبيرة في الإرتكان إليها واسترجاع منها مايهوى أن يتذكره ، حتى ينهل ماطاب له من هوى ، ويعيش الجمال الخفى بأشيائه المريحة : الظلال والضياء والقمر والليل والسهر والحب والألم ، نعم حتى الألم يستعذبه إذا مر عليه وتجاوزه .. إنه عالمه السحرى البديل الذى يسعده كثيرا وفيها يسرح ليجد نفسه في عوالم أخرى تأخذه في دوامتها ويذهب  في رحاها ويستعيد من الماضى أروعه . فتذكر أول ماتذكر ماكان يطريه ، وماكان محببا لقلبه ويمس إحساسه ولم ينساه .. لقاءهما الأول الذى جمعتهما فيه الصدفة حيث التقت عيناه بعينيها ، تذكر المشهد كله حيث جاء من خلال حفل تكريم وكانا في انتظار دورهما لمصافحة أحد المسئولين المهمين الذى انشغل بمصافحة أخرين وأخذه حديث طويل معهم ، في هذا التوقيت جاء هذا الموقف .. موقف المواجهة لوضع  الوجه في الوجه ، والعين في العين ، امرأة في منتصف العقد الثانى ذات جمال أخاذ وقوام ممشوق تستهويك رؤيته وتطربك طلعته ، يومها لفت نظره أن عينيها تقتحمان فيه كل شيئ ، فراح في شغف يستطلع هذه النظرات الموجهة إليه فارتاح لوجهها في إعجاب شديد حتى تسمرت عينه عليه . أكثر ماشد انتباهه فيه دقة ملامحه واستدارته وجمال قسماته ، العينان واسعتان الأنف صغير متقن الشفتان منبلجتان في دقة ، رآها تطالعه بدهشة خمن معناها ، ربما أدهشتها نظراته المعجبة التي تكالبت على وجهها حتى لكأنها تقول له بعينيها : لم تنظر لى هكذا ؟ ، غير أن احساسه طمأنه بشعور أراحه هنيهة بعد أن افترت منها ابتسامة رائقة علت ثغرها إلى مايشبه الضحكة تلألأت معها عيناها فظن أنها تبادله نظرة بنظرة وابتسامة بابتسامة ، ولكن حالة الإطمئنان  لم تستمر طويلا بعد أن لاحظ  حرصها ألاتبدى شيئا أكثر من هذه الإبتسامة فكانت تشيح بوجهها في التفتات عفوية تطوف به أرجاء المكان وتجوب أشخاصا أخرين تتفحصهم أيضا بنظراتها جعلته يعود أدراجه ويتشكك في إحساسه ويقول في نفسه ربما لاتخصنى وحدى بهذه النظرات وأنها مجرد نظرات عابرة تغدق بها على من تريد لاأكثر وخاصة أننا في حفل يكتظ بالمدعووين الكل فيه يستطلع الأخر الذى لايعرفه . أحبط نفسه  أكثر حين فكر أن مداومة نظراته إليها ربما تؤذى مشاعرها لو كانت متزوجة وأم لأطفال فشاح بوجهه عنها . وراح يسأل نفسه ، ياترى ماذا يدور في ذهنها الأن وماذا تقول عنى في نفسها وأنا أترصدها بحثا عن الغموض في نظرة عينيها ؟ ياترى هل تجاوزت حدودى بنظراتى التى توالت على وجهها فألجمتها والحيرة سيطرت عليها فجعلت للفضول منسربا بداخلها أن تعرف سبب هذه النظرات المتطفلة عليها بهذه البجاجة ؟ يا ترى هل تريد أن تقحم نفسها في عالمى الذى مازال بالنسبة لها غامضا كى تبدد هذا الصمت المزعج لكلانا ؟ ، إنه يسأل ويرد على نفسه : لاأعتقد فأنا لست أول رجل ولا آخر رجل تراه ، وقد يكون من طبيعتها أن تتفحص الناس بنظراتها. ولكنه في غمرة التمنى عاد احساسه ليتوهم ويؤكد له أن شيئا ما ولد في داخله رغم أنه لم يتبينه ولم يعرفه ، ولكنه رأى نورا يشع من وراء نظرة وابتسامة لم ير مثلهما من قبل فى حياته ولايعرف كيف انسربا إلى دواخله بهذه السرعة فأنارا قلبه ووجدانه فجأة ،إنه إحساس غريب أن نظرة أوقعته وابتسامة جذبته فأردياه صريع الهوى . فعاود النظر إليها ولكن في ثقة مفرطة وجرأة غير محسوبة ، نظر إليها و تسمرت عيناه على عينيها وحدق فيهما بحدة  فأطال النظر حتى جحظت ، ولكنها نظرت إليه بجرأة لم تعهد عادة فى النساء وكأنها تعرف جبروت عينيها وقوة سحرهما على الأخرين وأن قسوة نظراتها ماهى إلا سهام حادة الإنصال منطلقة في قوة غاشمة تصيب باللسع الموجع كل من يتعرض لها في غير رحمة ولاشفقة . فانكسرت نظرته أمام عينها الواسعة الجريئة وكان هو من حول بصره أولا ، إنه لم يستطع الصمود طويلا أمام هذا التحدى الغاشم حتى نغض برأسه إلى الأرض في خجل بالغ ، فتحولت بسمتها إلى ضحكة كتومة قضمت فيها شفتيها المقفولتين تحمل نشوة النصر . ثم راح محبطا في دوامة أخرى من زخم التساؤلات التي طرحها على نفسه ولازالت تبحث عن إجابة ولم يصل إلا لتكهنات ، أحقا تكفى نظرة بأن توقع امرأة في براثن الحب لتندفع أنهار النشوة والسعادة في كيانها الأنثوى ؟!، وهل من المعقول أن مشاعرها تحركت واحساسها أعتمل بداخلها من مجرد نظرة ؟! ربما ولم لا . يفكر ويمنى نفسه فتلاعبت به تكهناته تارة تنبأه أن هذه النظرات لم تكن عابرة بل تقول الكثير وتبوح في صمت مشاعر مترجمة ؟ ، وتارة أخرى تفسد عليه حلمه الياقظ بأنه أسقط نفسه ضحية لأوهامه . ظل على حيرته ولكنه كان يروقه أن يجد نفسه مرتاحا حتى ولو هزمته نظرات امرأة ، وأن ماكان يفكر فيه مجرد تخيلات لاتفضى إلى حقيقة . نظر إليها ثانية عن كثب فوجدها تسترق نظرات خاطفة ، ثم تعود وتعلقها في تحديق مستمر  قاصدة إياه ولم تشتت نظرها شيئ غيره ، حتى استبدت به الدهشة والحيرة وحديث النفس بين قسوة عقله الذى كان يستهون الأمر ويرى أنه لا يبعث على كل هذه الدهشة بل هي مجرد تهيؤات وتوهمات لاتمت للحقيقة بأية صلة ، وبين حيرة قلبه التى توارت وراؤها ماكان يمنى به نفسه ويسره في أغواره بأن نظراتها له ماتزال تقول له الكثير .. فلماذا لا تقول له كل مايعجبه ، من المؤكد هى كذلك أيضا تريد أن تتحسس من نظراته إليها مايشجيها وترتاح له وإلا مامعنى لكل هذه النظرات !!، فالمرأة عندما تكون جميلة تحب أن تستشعر ذلك في وجوه الأخرين .. ومن نظراتهم تعرف قدر نفسها ، وإن كانت أفضلهن التى لاتقف عند حدود جمالها فحسب ، وإنما يروقها أيضا من يحترم فيها إنسانيتها قبل أنوثتها ، وعقلها قبل قلبها ، لذلك  فإن هذه النوعية من النساء لاترتاح إلا لصفة وحيدة هي التي تثيرها وتسعدها أن تتغنى بعقلها ، أما شكلها فهو مايراه كل الناس ويتهافتون عليه ، إن أكثرهن تطلعا للحب وتتوق له أنفسهن يرون أن الرجل البسيط المخلص الخجول المحب لذات المرأة وليس لجمالها فحسب لهو الأجدر بامتلاك قلوبهن ولايجدن أفضل من لغة العيون كوسيلة مثلى لتحقيق ذلك الأمر ، فهو سلاحهن الفتاك الذى يتستخدمهن بإتقان أيما استخدام ويتفنن فيه ليأسرن به قلوب من يختارهن من الرجال حين يجذبهن عن طريق ذلك الضوء المنبعث من نظراتهن ليصير مصيرهم كالفراشات التي تتجمع حول اللهب إما أن يستولين عليها من تباريح الشوق وتوهجه أو يلقون حتفهم في لهيب غدر الهوى . فانساق وراء أوهامه المنبعثة من تباريح الهوى التى تحملها أشواقه الهائمة فى عالمه النرجسى الخالص حتى كاد ليصدقها فخياله رسم له ماكان يسأل عنه ويتمناه . ولكن في غمرة انشغاله بتساؤلاته وفى غفلة من الزمن تصادف فيها مرور الناس بكثافة فى المساحة الفاصلة بينهما احتجبت عنه وتفاجأ بانتهاء الحفل ومغادرة الجميع المكان دون أن يشعر ودون أن يتنبه أنها أثناء ذلك صافحت الرجل وعرفته بنفسها ولم يشأ له القدر أن يسمع صوتها حتى يعرف عنها شيئا . وقف مبهوتا من صدمة انتباهه فجأة ولم يجدها ، إنها غاصت بين المغادرين واختفت عن نظره وكأن الأرض انشقت وبلعتها، ثم خرج بلهفة يبحث عنها مسحا في كل مكان ولكن لاجدوى ، مضت ولم يعرف عنها شيئا .. لم يعرف من هي وما اسمها .. لم يعرف أهى  فتاة أو زوجة ، أو أين تسكن ، فاضطر للعودة إلى بيته آسفا حيث أرهق نفسه في تساؤلات كثيرة لم تعد تهم في شيئ . عاد ولم يترك لنفسه الحزينة أن تهدأ ، بل حاول منهمكا أن يسترجع كل مادار في السويعات القليلة التي خلت منذ قليل وأراحته هنيهة ثم تركت له هموم الدنيا ، إنه لايدرى كيف مرت به تلك الليلة ولايدرى ماذا حدث فيها .. هل كان يضحك من نفسه ويسخر منها أم كان يبكى ويشفق عليها ، وإنما يذكر جيدا أنه قضاها مسهدا حتى الفجر بعد أن تملكه الأرق ، وتذكر أيضا أنه كان يضحك ويبكى في آن واحد حتى بدا وكأنه فقد صواب عقله فجأة أمام كسرة قلبه الذى شعر بها الحين ، فالليلة وجد فيها ماكان يغنيه عن التفكير في ألا شيئ ، الليلة فقط وجد ماكان يمكن أن يزحزحه عن  قهر الوحدة وسهاد النفس ، ولكن ماذا يفيد الأن ؟!! . أدار مؤشر المذياع في محاولة للاسترخاء وراح يتلمس فى الموسيقى الكلاسيك التي يحبها ماينسيه آلامه فصادفه صوت شادية تشدو إحدى أغنياتها ليجد فيها ماكان يفكر فيه ، ربما الصدفة أرادت أن تلعب دورها في محنته الطارئة وتساؤلاته العديدة التي كانت لاتفضى لشيئ ، أن مايسمعه ناغش قلبه وأخرس كل تساؤلاته فالرد جاءه  واضحا فى غنوة : " السؤال هو السؤال والجواب نفس الجواب ، أنت إيه بالنسبة ليا ، بس بص أنت في عنيه والجواب هيبان عليا .. أنت أول حب ليا .. أنت أول حب ..."  فجأة وجد نفسه مرتاحا لسماع الأغانى التى تتماشى مع هواه  فراح يبحث عنها ليلتمس فيها سلوته ، فوجد سيل عرم من أغنيات تتكلم عن الحب من نظرة عين، فراقته أغنيات كثيرة  داوم على سماعها ، منها ماتغنى به عبد الحليم حافظ  : "نظرة عين فايته القلب و فيه جرحيـن من حلاوتهم قلت ياريت كان لي قلبين كنت فين ، وسعاد محمد في غنوتها الشهيرة : " مين السبب فى الحب القلب ولا العين ، وأيضا غنوة هدى سلطان التي تبرز قدرة نظرة العين على خلق الحب وأهازيجه : " أول ماعينه جت فعيوني خدوا مني سلاحي وقتلوني . كما كانت تروقه جدا غنوة فريد الأطرش " قلبي وعيني اختاروا، وانشغلوا واحتاروا ، وإزاي كل ده يجرى ياحبيبي من نظرة ... " كما وجد مساحة كبيرة في أغانى الست أم كلثوم حتى أصبح واحدا من عشاق سماعها ، فهو لايمل ولايكل فى سماع كل ماكانت تتغنى به يوميا ، وكان قبل ذلك لايسمعها حتى عرف قدرها وعرف أيضا أنه لايقدر غناء أم كلثوم إلا لذين أحبوا الحب فأحبوا أم كلثوم وعشقوا أغانيها ، كانت تستوقفه أغانى بعينها مثل "أنت الحب": أول عنيه ماجت في عنيك عرف طريق الشوق بيننا وقلبي لما سألت عليك قال لى دي نار حبك جنه ، وأيضا أغنيتها الرائعة "أمل حياتى" وكثيرا ماكان يعيد المقطع الذى تقول فيه : " أنت خلتنى أعيش الحب وياك ألف حب .. كل نظرة إليك بحبك من جديد وأفضل أحب ..أنا حبيت في عنيك الدنيا كل الدنيا حتى عوازلي أو حسادي .. كل الناس حلوين في عنيه حلوين .. طول ماعنيه شايفه الدنيا وأنت قصادي". سمع تقريبا كل أغانى الحب من نظرة فطرب وانسجم حتى هتف شيئ ما بداخله ايقظه فتنهد وأخذت ابتسامة بلهاء طريقها إلى وجهه الحزين فأبهتته ، لقد كان قاب قوسين أو أدنى ماكان يمكن أن يريحه كل الوقت وطول العمر وقال وهو يحدث نفسه :  إذن الحب كان يمكن أن يبدأ بنظرة عين ؟! . بدت عواطفه جائشة ، وقلبه يدق علي صدره مع جمال الكلمات وروعة الألحان التى أحسها بشدة لدرجة أن الأهات كانت تشجيه وتحرك سواكن تلابيب قلبه لتنطلق من غياهبها هاتفة " الله الله " إنه يفكر في ندم النظرة التي هبت عليه كعاصفة الصحراء فاجتاحته ولم يستطع أن يقتنصها .. إنها عاصفة الحب التي تحيل البيد المكفهرة إلى جنة خضراء . ظلت صورتها تلازمه ليل نهار لاتفارق خياله ، ووجد في الحديث عنها مع نفسه متعة كبيرة من النوع الذى يضيق به الوقت مهما طال ، فتتسع مساحة حديث النفس للنفس ، إنه كان لايصدق نفسه أن وحدته يمكن أن تتحول فجأة لصحبة ، وأن حياته تفتر عن بسمة غائبه فتريحه ، فصار قلبه مفطرا وسط كم من الغيوم التي تكاثفت فوق صدره حتى كادت أن تخنقه ، فقد جاءته فرصة عمره التي طالما كان ينتظرها سنوات وسنوات ولم يغتنمها ، جاءته مع من جذبه لشيئ لايدرى ماهو ، ولاسبيل إلى مقاومته .. هل هو جمال وجهها ؟ أم جمال جسدها .. أم أنوثتها الطاغية ؟ هل قوة عينيها ؟ هل عذوبة ابتسامتها ؟ ياللحسرة لقد سكر إعجابا وانتشى بشيئ مضى لحاله ، فالونيسة والحبيبة لم ولن تتجاوز الخاطر بعد ولا سيكون لها أي وجود إلا في الأحلام الياقظة فقط أن يظل يسرح فيها ويتخيلها في كل لحظة وأخرى .. في المنام والصحو والسهاد ، يتخيلها كأنها تدخل بينه وبين النفس الذى يستنشقه ، تقف أمامه وتنظر إليه بنفس النظرات وبنفس الإبتسامة ، تقف عند الزوايا القريبة والبعيدة ، وعند المنعطفات الباردة في حياته تترقبه .. تلاحقه .. تتابعه إينما ذهب ، صدرها يرتفع ويهبط مع كل خلجة نفس تخرج من صدره ومع كل نبضة قلب تنبض في عروقه .. لتتعذب هى وهو يحترق .. لتتأوه هى وهو في سكرة العشق يغيب ويفيق ليجد مزيدا من الحب ومزيدا من الانتظار أيضا .



مضى مجبرا على الانتظار والتمنى إنه لم يكن يتمنى شيئا في حياته ويتحقق .. فحياته كلها مجرد أحلام مفضية لأحلام . إنه لازال على حالته التي غفا عليها منغض الرأس منكفئ على نفسه يلقي على داخله نظرة ليدرك ما حدث والذى يتمنى أن يحدث ، هذا التناقض عذبه ، فهو لم يهتد إلى شيئ ، ولم يجد أمامه من سبيل بعد أن اختفت عن عينه واستقرت في أعماقه . أفاق من شروده ونظر حوله فوجد الشمس في الأفق البعيد تسقط معلنة عن المغيب . فتهب عليه نسمات باردة تطوقه وتجعله يشعر بقشعريرة تسرى في جسده . مرت أيام تاليات حاول الهروب منها ولكنها أثقلته  فوجد نفسه يهرب فيها حتى أعياه التعب وكاد يشعر أنه في غربة وهو في موطنه ، وقاسى من الوحدة وانزوى وهو وسط أهله ومحبيه ، قضى كل وقته يتذكر الإنسانة التي تحولت بداخله فجأة إلى مشاعر وبات يتخيلها بإحساسه كل يوم وليلة ، كانت أقسى معاناته أن تتوق نفسه لابتسامتها الصافية التي واتته ولم يهنأ بها .. أقصى أحلامه أنه يراها مرة ثانية حتى هيأت له فيوضات أشواقه  التي كانت تتوالى عليه وتغمره  من شدة الحنين أن تأخذه أطيافه الوجدانية لهالات من نور تسرح به في دنياه الحالمة ليتخيلها وهى تجالسه وتبادله فرحة الاشتياق من نظرة عينيها ، عندئذ يأخذ نفسا عميقا يتسع معه صدره من الضيق الذى كان يطبق عليه وتنفرج شفتاه عن ابتسامة عريضة ، لينظر إلى السماء في غبطة فيجدها غير السماء .. يجدها ساطعة صافية من الغيوم انكسرت فيها حدة البرد ، إنه لم يعد يشعر بعد ببرودة الجو ، وحينما جاورته عن قرب شعر بنفس القشعريرة ولكنها مختلفة ومفاجئة ، إنها ضربت جسده كله عندما لامسته مصادفة وهو يجلس إلى جوارها، لاحظت مااعتراه تشجعت وراحت في صمت تمد يديها في جرأة واحتضنت بهما يُسراه ، فشعر بدفء مفاجئ يتسرب إلى أوصاله اقترب منها أكثر ودون إرادة منه طبع على خدها قُبلة وهو لايدرى كيف أخذته جرأته أن يفعل ذلك ، وعندما أفاق هنيهة نظر إليها عن كثب فلاحظ اضطراب وجهها وقد امتقع من شدة حمرته وازرد . اعتدل في جلسته وشعر بالعرق يتصبب من جبينه وخجل أكثر عندما رآها تنظر له بنظرات تكاد تحرقه فأزبد وجهه ولم يمهل لنفسه أن يعرف رد فعلها الذى تخوف منه أشد الخوف بأنها ستصده وتبتعد عنه دون أن تشعر بإحساسه الصادق حبيس القلب المتوارى وراء ضلوع صدره ، فتعجل وسحب يده من بين يديها في هدوء ، فرآها وقد تملكها الذهول وهالها مافعله . لقد ظنت أن أبواب السماء تفتحت لها وتحقق لها ماكانت تصبو إليه وأن الدنيا لاتسع أمانيها وأحلامها وهى ترى بعين رأسها ماكانت تتمنى أن تحظى به من هنأة وسرور وماكانت لتظن قبل ذلك أنها ستسعد مثلما سعدت بنعيم هذه اللحظة ، وكادت فرحتها أن تحوذ لها لولا أن ما فعله صدها عندما سحب يده من بين يديها وأعرض ، فكان وقع المفاجأة عليها كصاعقة السماء أربكتها فتبدل إحساسها للتو حيث اختلط فى كيانها جرعات من ألم كتوم فغدت ضربات قلبها مضطربة حيث استبد بها القلق وتصاعد لهاثها المحموم وبدت على وجهها علامات الغضب من إحساسه المتبلد لعدم اكتراثه بها وأنه لم يأبه لمشاعرها التى ظنت أنه ايقظ حواسها حين لثمها وأثار فى نفسها حالة من النشوة ، فإذا به يخرجها منها عنوة وباتت تخجل من جموحها الذى اعتمل فى نفسها . سادت فترة صمت نظرت خلالها إلى وجهه المرتبك فامتعضت وشاحت بوجهها عنه وقد اختنق صوتها بالبكاء . ثم أفاق من غفوته وصعب عليه حاله إنه لم يترك لنفسه أن تنعم بلحظة حلوة حتى وإن جاءت له في أحلامه  ثم حدث نفسه نادما: حتى في الأحلام يالها من خيبة أمل .


هكذا كانت غفواته الكثيرة وأحلامه  التى تنسل من أحلام ، مرة تدعوه  لغمرات من الفرحة ، وأخرى تفزعه أشد الفزع ، لكن وجدانه كثيرا مايرسم له سياجا من فرحة واهمة تسعده قليلا بلحظات  براقة ثم ترده إلى أشد الحزن . ولكن أكثر ماأسراه وأسعد قلبه هو حديث الخاطر الذى دار بينهما في حلم  من أحلامه التي تسربت فيها فيوضات نفسه من كل ماكان يختزنه عقله الباطن الذى حوى الكثير منها وحافظ عليها. حين غفل بعد فترة سرح فيها بخياله الخصب كثيرا فيما كان يطريه ويلذ له أن يستمر فيه ، ثم راح في سبات عميق في إحدى لياليه المسهدة على غيرعادته . إنه رأى نفسه وهو يستقبلها وكأنه كان على موعد معها وصدقت وجاءته ، ثم دعاها للجلوس فجلسا وبدأ  يجاذبها أطراف الحديث حتى انتعشت روحه بعد أن أزيلت عنه الرهبة والكلفة التي كانتا تتملكانه عندما رآها أول مرة في ذات المقابلة .. ولكنه الأن فعل هذا بلا جهد ، لم يتكلف سوى أن ترك نفسه على سجيتها ، وليس أسهل على أي نفس من الإنطلاق على سجيتها عندما تكون بجوار شخص تحبه ، لقد كان على مر السنين وعلى ماتعود عليه من تربية مغلقة أن تفرض عليه التؤدة والحياء وعدم الكلام ، ولايستطيع أن ينتزع نفسه منها بسهولة ، فقد عاش طفولته وصباه في هذا الإحكام .. يسمع كثيرا ولايتكلم ، فكيف له أن يتخلص من كل هذا الأن بسهولة في لحظة انسجام مع من يحب ؟ وكيف له أن يجازف ويملص من كل أوهام الماضى وينطلق مع هذه الحلوة المرهفة الجالسة بجواره معبرا عن مشاعره لها وأن يمرح ويضحك خارجا عن كل قيود الكلفة والتزمت التي كانت تحتويها نفسه الرقيقة الذائبة . ران عليه وقت أخذ فيه يحدق في عينيها ويحملق فيهما فقد شعر من نظراتها هذه المرة أن وراءها كلام كثير اطمأنت له نفسه وأبهجته حتى صور له خياله صورة مجلوة وإطار مزخرف من ورود الفل والياسمين المنسقة ، أخذته نوبة شجاعة وراح في فضول يسألها عن حياتها ، إنه لايريد أن تحدثه عن حياتها ومع من تعيش وكيف تقضى يومها ، ولكنه يريد أن يتحسس من كلامها عن مشاعرها التي يُمنى بها نفسه ، يريد أن يتلمس من كلامها مايصادف إحساسه . أما هي فقد وجدتها فرصة سانحة أن يسمعها أحد وتزيح شيئا من جبل الهموم الجاثم فوق صدرها، راحت تحكي بصوت مخنوق يلفه الألم : حياتى كلها يتملكها الروتين اليومى حوارات مع العملاء وزملاء العمل الذى أقضى معهم معظم ساعات اليوم مابين اجتماعات وملفات ، ومقابلات لاتنتهى ، وكثيرا ماأضطر إلى سفريات ، افتقد دائما لمعنى التواصل بأحد .. أحد يهمنى وأهمه ، والذى يحدث فى العمل يحدث  مثله في البيت أيضا .. لاجديد فى حياتى .. إننى افتقر الإحساس بالآخر، لم أشعر يوما بالأمان النفسى ، ولابالاحتواء ولاأعرف إلى أى مدى سيمتد ذلك الفتور القاتل الذي يضرب حياتى . إنها حدثته عن حياتها باستفاضه وكيف عانت وهى تبحث عن شيئ يوقظ في حياتها الإحساس بالسعادة وتتلمس فيها الهدوء والسكينة . بينما هى كذلك سرح مع كلامها وفاضت نفسه وهو يرى أشعة الشمس تتسرب بأشعتها الفياضة على جزء من وجهها فزاده حمرة وعكس جمالا فوق جمالها الساجى ، نظر إليها بعين مولهة بعد أن رأها راضية مطمئنة للحديث معه ، وشعر بسعادة كبيرة أنها فتحت له قلبها وحكت باستفاضة ماكان ينغص حياتها  . ولكنها فجأة سكتت وقطعت حديثها لتسأله في استحياء بعد تردد عن سؤاله عن حياتها وعن معنى مداومة النظر لها . صدمه سؤالها من فعل المفاجأة وراح في صمت يبحث عن إجابة ، ولايعنيه شيئا غير أنه يقول لها قولا مقنعا رغم أن نفسه كانت تحدثه بأنه ليس وحده هو الذى كان ينظر بل هي أيضا كانت تبادله النظرة بنظرة  وإن كانت هي التي بدأت بنظرات فيها جرأة . ولكنه تلعثم حتى حانت له فكرة الهروب من الإجابة عن سؤالها بأن يفاجئها بشيئ يشغل به فكرها فى اتجاه أخر فقال لها : عجيبة هذه الأحلام ! ، ردت عليه باستغراب ،

- ماذا تعنى

– لقد حلمت بك  البارحة

 تملكتها الدهشة وحب الاستطلاع

- كيف كان الحلم

- كان حلما رومانسيا جميلا

راحت في لهفة وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة رقيقة وقالت في حياء : أرجوك أحكيه لى وأنا كلى أذان صاغية لك .

ولم يكن هناك شيئ يحكيه ووجد نفسه في مأزق أخر حيث احمر وجهه وارتبك ولم يسعفه الموقف أن يرد عليها إلا من ابتسامة ، لاحظت هي ذلك فابتسمت ابتسامة مصحوبة بلمعان من عينيها وغمزة خاطفة حيث توقعت مكنون حلمه ، أما هو ففهم من رد فعلها السريع أنها توسمت في حلمه ماترنو إليه من عواطف جائشة وغرام محكم . وتأكد أن الذى تحبه والذى تريده هو أن تسمع مايطريها سماعه .. وللمرأة حاسة سادسة تشتم بها مايعتمل في قلب الرجل ، إنها لاتريد للورود الزاهرة سوى أن يهب عليها النسيم العليل رخاء فيرنح ساقها يمنا ويسارا وتنطلق ورقياتها حيث يشاء لها الهوى . تولدت بداخلها شرارة الفرحة فضج وجهها متهللا .. وكادت فرحتها أن تغمر قلبها وتفيض على فؤادها الهنأة والمحبة والسرور  حتى فاجأته وقالت له على الفور  : الأن كل شيئ حولنا تحول لصالحنا الصمت والليل والنسيم ويدعوك كى تحكى لى ماحلمت به البارحة ، فلكم أنا مشوقة إلى سماعه ؟! . قال وقد راعته طلعتها اللامعة المتألقة فباغتها بصوت يشبه الهمس بعد أن ران عليهما لحظة شرود لايعرف أيهما مايفكر فيه الأخر : أنا أعرف بأن صوتي يصلك حتى وإن لم أكن أتكلم ، وأعرف أيضا بأن شعوري نحوك ينساب إليك رغما عنك وأعرف أخيرا بأن هناك شيئا ما بداخلك يحبني . صمتت برهة وفى لحظة ارتباك اختنق فيها صوتها واختلط بالبكاء .. البكاء الذى يأتي من فرحة مفاجئة ، إنها لم تكن لتظن أن هذا كله سيحدث من يوم واحد ويترك هذا الأثر العميق ، فهى لاتدرى بأن نظرة واحدة منها ألقتها جزافا كانت كافية بأن تذيب بها صمامات الماضى وتجعل الحاضر في مشهد هو أكثر من روعة الخيال وأحلى من كل مآثر الحقيقة ، ثم نظرت إليه  بغبطة ، وقالت له : تعرف أنا منذ أن كنت طفلة وأنا أعي معنى كلمة حب في القصص الأسطورية التي كنا نسمع عنها بشغف مثل أنطونيو وكليوباترا وروميو وجوليت وعنتر وعبلة وغيرها .. آمنت حينها أن الحب ما هو إلا قدر يجمع بين قلبين وحياة فيها سعادة مقيمة لاتنتهى ، لكن حين كبرت ونضج القلب وأصبح له مشاعر وأحاسيس وأصبح العقل أكثر نضجا ووعيا بأمور الدنيا تعلمت من تجارب الحياة الكثير وأدركت أن هناك على أرض الواقع ماهو أعمق بكثير من قصص الأميرة العاشقة والفارس المغوار . وقرأت عن عشاق لاأعرفهم وعشت قصص حقيقية من خلال صديقاتى واستمعت لحكاويهم من روايتها لها اختلطت فيها مشاعر شتى ، فيها مافيها من سعادة وشقاء .. حب وألم وعذاب ، منها حكايات مازالت في ربيعها، وحكايات أخرى لأشخاص مضى بهم العمر لكن مازالت قلوبهم تنبض من خلال احاسيس عاشوها وأصبحت ذكريات في قلوبهم وخواطرهم تفاصيل لازالت كامنة فى ذاكرتهم رواء للنفس والروح والخاطر رغما عن العمر الذي مضى . شاهدت تقريبا كل الأفلام الرومانسية العالمية والعربية وقرأت تقريبا كل قصص وروايات العشق والغرام . عشق الحياة والحب. ومع كل حكاية وأخرى أدركت الكثير، وصدّقت أن هناك حبا يولد من أول نظرة ، عينان تلتقيان فإذا تجاذبا خفق القلبان . صدّقت أن الإحساس بالأمان فى وجود هذا الشخص الذى يأتى به القدر من أي مكان وفى أي زمان ، والذى من الممكن وبكل سهولة نجد أننا نرتبط به ونقع  في حبه ، ويكون هذا الحب هو الحب الصادق الذى نعيش كل الوقت وطول العمر نبحث عنه ، لأن الأهم من أن تحب هو أن تشعر مع من تحب بصدق مشاعره وتطمئن له وتتمنى أن تستكن إليه وتسكن فيه . وقتها فقط أدركت أن الحب ماهو إلا سكن ووطن . وطن يسكننا ونسكنه .. وطن يمنحنا الحياة بقدر مانحياها حتى نجد أنفسنا ونكون . بدا عليه أثر حكيها وأحس في ذلك الوقت أنه ليس من أهل الأرض إذ يحمله خياله الشاعرى الرقيق ويطوف به محلقا في سماء المتعة والنعيم أن يسمع منها هذا الكلام الذى يحمل في طياته الصدق وينطق بالشفافية . ثم أومأ إليها لتكمل فاسترسلت: تعرف أنت بالنسبة لى مثل ماذا ؟! ، يسألها برفق: مثل ماذا ؟!! أومأت برأسها وراحت تنظر في اتجاه أخر ثم قالت له : أنت مثل البحر الذى إذا مانظرت إليه وسرحت فى أفاقه تتوق له نفسك ، وكلما اقتربت منه أكثر يسحب عليك ، وإن غصت فيه ستجد كنوزا وأشياء كثيرة حلوة تجعلك تتمنى أن تغرق فيه أكثر وأكثر ، لكن يالها من خسارة ؟ نظر إليه متعجبا ، وقال لها : ولم الخسارة إذن ؟! . لم ترد عليه بل ظلت على حالها شائحة الوجه مسترسلة في الكلام الذى انساب منها ولم تعد تستطيع أن توقفه : تعرف هناك أشياء نقف عندها كثيرا ومهما فكرت فيها لم تهتد إلى تفسير مقنع ولاتستطيع ، فهل تؤمن بتآلف الأرواح ؟! . تفاجأ بالسؤال ولم يجد مايرد به عليها ، بينما استرسلت هي وكأنها تحدث نفسها ولاتنتظر منه إجابة : هل سمعت عن تجاذب الأرواح وأن هناك قدرة على استغراق أعماق الأخر وإدراك خباياه ، قال لها : نعم تقريبا سمعت عنه . قالت له : إذن من المؤكد أنك تعرف مدى أثره العميق في حياتنا ، فهناك مواقف كثيرة وغريبة لايمكن تفسيرها ولكنها حدثت .. وكثيرا ماكنا نتساءل بيننا وبين أنفسنا عنها ولانصل لنتيجة منطقية .. ألم يحدث مثلا أنك شاهدت وجها فألفته ؟! أوسمعت صوتا فانجذبت إليه حتى ولم تحدثه بعد ، ألم تجلس مع شخص لدقائق معدودة بطريق الصدفة ثم تخرج من لقائك به وكأنك تعرفه منذ سنين؟! ألم تجد راحتك مع إنسان لا يمت لك بأية صلة ومهما باعدك عنه الزمان والمكان يظل بداخلك وتجد الراحة كلما هفا على فكرك وتشعر معه إذا رأيته أنك كنت معه منذ قليل ؟! ألم يصادفك شخص حدثك بلغة العيون فوجدت فيها راحتك وشعرت بإحساس غريب يتألق بداخلك وتجده هو كذلك بنفس القدر وبذات الأسلوب ، حتى يبدو لك وكأنه يقرأ أفكارك ويجيب عن تساؤلاتك قبل أن تسألها من مجرد نظرة عين ، وأن ظنك فيه لن يخيب لو أفشيت إليه بمكنون قلبك عن طيب خاطر من أول لقاء ..! كل هذه المواقف ليس لها إلا تفسير واحد وهو تلاقي الأرواح وتآلفها مهما اختلفت ظروفها ومهما باعدت بينها المسافات ، فهى تبدو وكأنها تعارفت فى حياة سابقة ، وأن الأرواح تتقابل قبل الوجوه ، فإذا كان لك حظ وتقابلت مع أحد قلبك حسه وعقلك استوعبه تشعر كما لو أن هناك خيطا مطاطيا لايرى يشد بينكما إذا ابتعد عنك ارتد إليك بعنف لتتجاذبا من جديد فيعتمل بداخل قلوبكما كتلة أحاسيس غير معروفة المصدر . تصمت لبرهة بعد أن شعرت بالوجوم يسيطر على وجهه ثم سكتت وانكفأ وجهها إلى الأرض خجلا ، مد يده ليرفعه بهدوء إلى أعلى ، يدعوها لمواصلة حديثها بعد أن أكد لها أن حديثها شيق وممتع ، تنظر في عينيه تلمح مدى تأثير هذا الاهتمام الذى بدا على وجهه ، أكملت حديثها  وهي في حالة رضا ممتنة : هذا بالضبط ماحدث معنا ، إذن الذى جمعنا كان هو القدر ، إذ أنه كان ولابد أننا سنتقابل يوما ما ، ولكن الخسارة أنه ضاع من عمرنا الكثير وكل منا يبحث عن الأخر ، وعندما تقابلنا وجدنا أن حياتنا وظروفنا اختلفت فتحسرت على بختنا .. أن الإحساس الصادق جاء من الموعد الخطأ ، فأصبحنا مثل الشجرة المثمرة التي وأدها الظمأ فجأة ، ومثل العود الأجدب الذى لن يورق أبدا ، ومثل الزهرة اليانعة التي لن تعبق مهما كان جمال منظرها ، حتى أضحى همنا كله أننا نجاهد لنخفي شعورا ونعيش غيره ، فلا أتقنا التخفي ولا عشنا حياتنا كما نريد . ثم ران عليهما وقتا كان الصمت هو سمة المكان ، حتى أخذ الأفق في اقتضام الشمس وأخذ في ابتلاعها على حافته رويدا رويدا وامتدت يد الظلمة لتمسح بقايا لون الشفق ، ودون أن يشعران وجدا الظلام بدأ يزحف على المكان حولهما والليل بدا مخيما والسكون سائدا والقمر مطلا حزينا . تطلع إليها بعينين تشع منهما نظرات رجل محب حزين معذب وسألها برفق: أإلى هذا الحد هو شعورك وهذه هي رؤيتك لحالنا ؟! ثم نظر حوله فلم يجدها واشتدت الظلمة من حوله حتى أصبحت حالكة ولم يعد يرى حتى نفسه فأحس بالخوف يطوقه ، ثم أفاق من غفوته الثقيلة ولسان حالة يقول : ليتنى مارأيتها ولم أعش عمرى كله باحثا عن حب لاوجود له ، وأنه يكفينى فقط أن أرواحنا تقابلت وسأظل أحلم بها في أحلامى الياقظة ربما يأتى اليوم الذى تتقابل فيه الوجوه . صحا مهموما مكدودا ، إنه مازال يحس في صدره بحبها  .. حب هادئ متزن لم يكن كاسحا كمياه الفيضان بل أصبح هادئا كماء الغدير ، لكنه لم يهتد لسبيل وعهد على نفسه أن ينساها حتى يستطيع أن يعيش حياته فى هدوء ، فليس كل من أحب عاش فى نعيمه ، وأن فى الحب من عانى وتمرغ فى عذاباته .


تمر الأيام ثقيلة عليه ، كل الأشياء فيها أصبحت عنده  تتساوى ، ولكنه أراد أن يبر بوعده الذى قطعه على نفسه ويخرج للحياة من جديد ويعود لأصدقائه ومحبيه وأن يشغل نفسه بأى شيئ يساعده على ذلك ، حتى جاء يوم نهض فيه من نومه مبكرا على غير عادته ..هو نفس  اليوم  الذى اتفق فيه مع صديقه على زيارته في مكتبه ، حيث أكد عليه ضرورة حضوره هذه المرة حتى يقابله بإحدى قريباته لينظر فيما يستطيع أن يقدمه لها من فرصة عمل مناسبة بحكم أنه موظف في مكان سيادى مرموق ، إنه كثير ماكان يطلب منه أن يزوره في مكتبه وكان لايذهب ، ولايعرف سببا لذلك ، ولكن هذه المرة يعرف السبب إنه وجد نفسه مدفوعا للذهاب إليه تنفيذا لماعزم عليه واتخذ فيه قراره بأن يشغل نفسه بمساعدة غيره حيث وجد فى ذلك راحة كبيرة له ، لهذا عرف كيف يقنع نفسه أن يصحو في هذا اليوم من نومه ويرتدى هندامه لتأخذه خطواته إلى مكتب صديقه .. فهذه هي المرة الأولى التى سيذهب فيها إليه  . تفاجأ صديقه بأنه أتم وعده له هذه المرة  وأوفى به حيث كان متوجسا من مسألة حضوره ، وما أن رآه حتى حفل به واستقبله أحسن استقبال وأخبره أن قريبته هاتفته منذ قليل وهى الأن في الطريق وعلى وشك الحضور ، ثم أخذهما حديث في أمور شتى احتسيا خلاله فنجانين من القهوة حتى جاءت وطرقت الباب مستأذنة في الدخول ، إنه سمع وقع أقدامها الوئيدة وتصور هيئتها قبل أن يراها وهى تهم بالدخول إلي المكتب على مهل.. رآها بعين قلبه كأنها النسيم المتهادى في ليلة ربيعية ساجية ، فإذا به فجأة ينظر إليها مذهولا مبهور الأنفاس عندما هلت عليهما وظهرت ، رفع يديه إلى عينيه ففركهما غير مصدق مايرى حتى تأكد أنه مازال فى اليقظة ولم تكن غفلة من غفلاته ، فقد رأى أمامه ماأسهدت فؤاده .. رأى أمامه ماأوجعته طيلة الأيام الماضية بلياليها الطوال .. رأى وجهها الذى هدهد قلبه .. رأى كل هذا فجأة وعلى غير انتظار ، رفرف قلبه وهمَّ أن يصرخ ويهتف من فرحته ، أحست هى بقلبه وكأنه سينخلع من صدره ويسبقه لاستقبالها ، خجلت وكادت أن تتعثر في خطواتها ، أما هو فقد نسى كل شيئ أمامه وحوله ولم يستوعب وجودها أمامه . أما صديقه فقد رآه وقد بدت عليه علامات الاستغراب من تصرفاته ومحاولاته في إخفاء ارتباك مفاجئ لامبرر لوجوده . أما هو فقد اضطرب أكثر من علامات الاستغراب التى أبداها صديقه ونظر إليه حتى كاد أن ينطق ليقول له أن هذه الإنسانة التي أدعى أنها قريبته تسببت في معاناته وأتعبته وأجهدت رأسه بل وكيانه كله في الأيام التي خلت عانى فيها ماعانى ولم يخرج منها إلا بكل تعاسة بعد أن ململته فيها أوهامه الكاذبة وأمانيه الخلابة الخادعة متقلبا في فراشه كل ليلة يمنة ويسرة مستجلبا سلطان الكرى الذى كان لاينعم به إلا من ندرة ، ولكنه عاد ليلتمس له العذر فهو لم يعرف بعد بقصة اللقاء الأول رغم أنه كان موجودا فى نفس الحفل . أما هي صمتت برهة وهى تفحصه بعينيها وتظاهرت فى البداية وكأنها لم تر هذه الخلقة من قبل حتى وقفت أمامه تماما وهى تحاول أن تخفى ماكان يفضحه رنو نظراتها التى كانت تبثها بسخاء رغما عنها .. نظرات ملؤها اللهفة .. نظرات تجوس في الخاطر مستوعبة كم كانت غائبة والبحث عنها كان مضنيا . استمرت لحظات ساد فيه الوجوم هنيهة ولم يشتته إلا عندما قام الصديق بواجب التعريف بينهما ، فقدمها له على أنها قريبته ، وقدمه لها باعتباره أعز أصدقائه . نهض بدوره ومد يده مصافحا ، مرت لحظات بجمال الدنيا كلها حينما أقبلت عليه وحيته في حرارة  وصافحته في شوق فقد سمعت عنه مايكفى أن تتظاهر أمامه بالإهتمام البالغ فهو الذى سيساعدها في إيجاد وظيفة لها . ثم دعاهما صديقه للجلوس فجلسا متقابلين على الطرف الأخر من المكتب . بدأ الحديث يدور بينهما فى ظل متابعة هذا الصديق الذى يريد أن يقدم لها خدمة كبيرة في حجم وظيفة حكومية . فبينما كانت هى تتكلم  عما جاءت من أجله ، كان هو يستوعب كل كلمة  ليعرف ماذا تريد ، وكان يلاحظ كل خلجة  ويرقب كل رمشة عين ، بدت أمامه كقطة برية ضعيفة ، إنه لم ينس أنها سببت له التعاسة وأسهدت أيامه ولياليه ، أخذ يحاصرها ويتفحصها بنظرات حادة متعمدة ومجردة من العاطفة. حتى بدت نواجز وجهه متجهمة ولكن في ذات الوقت لم يتخل عن اهتمامه البالغ لكلامها ، طول التحديق أفقدها رباطة جأشها وجعل الكلمات ترتبك من على شفتيها ، هذه المرة هى التى أنزلت عينيها من عليه فأحس بثقة نفسه تعود إليه في كبرياء وزهو . فالدنيا أخيرا دانت له ولم تسعه من الفرحة ، فلكم سرته هذه الصدفة الغريبة ، أنه كان يمنى نفسى ويراها ، وكم من الأمنيات التى كان يتمناها ولم تتحقق  . وأن سر فرحته الطاغية أن هذه المرة  تمنى شيئا وتحقق ، بل وتحقق له أكثر ماكان يطمح فيه أنه كان يتمنى أن يراها وكفى ، فإذا به يسلم عليها وتقع يدها في يده ، وأنه لأول مرة يسمع صوتها يجلجل في أذنه ونظراتها لاتغيب بل فيها إشراقة خجلى . تنبه فخاف أن تفضحه نظراته إليها فى مواجهة صديقه الجالس أمامهما والذى يلاحظ كل إيماءة وكل حركة وسكنة تصدر من كليهما للدرجة التى بدأ معها يشك فى أن كلاهما يعرف الأخر وخاصة أنه زغف في حديثه حين قدمها له على أنه قريبته فهو يعرف تقريبا كل عائلته إلا إنه لم يسمع عنها ولم يرها من قبل ، ولكنه فى ذات الوقت لم يستبعد أن تكون قريبته بالفعل بأن تكون درجة القرابة من الفرع البعيد . حاول جاهدا أن يخفى إحساسه بأن يتجمل فى تصرفاته ولكن باعتدال إنه يريد أن يحتفظ  بمشاعره لنفسه .. وحده فقط ،  وألا يعرف أحد عنه شيئا حتى صديقه نفسه ولكنه في نفس الوقت يريد أن يشكره فكم هو ممتن له أنه كان سببا مباشرا في تحقيق ماكان يتمناه وعز عليه  حيث منحه فرصة اللقاء الأخر  الذى كان مستحيلا أن يتم  . 




انتهى هذا اللقاء ، ولكن لم تنته علاقتهما ، فقد تبادلا أرقام الهواتف ، وبدأ يتكلم معها باعتباره الباحث لها عن الوظيفة ، أهتم بالأمر أيما اهتمام وكان ينتظر بلهفة أية فرصة عمل ملائمة ومناسبة لها تتوفر أمامه حتى يجد مبررا للإتصال بها ويهاتفها ، ثم يتسرب من خلال المهاتفة بالسؤال عنها وعن أحوالها ، بدأ يتقرب منها أكثر حتى عرف عن حياتها الكثير ، ثم بعد ذلك كان يهاتفها على فترات ، ثم على أيام ، حتى بات يتحدث معها كل يوم ليجد في كل مرة يتكلم فيها معها أنه اكتشف شيئا جديدا ، أجل لقد كشفت له الأيام عن مخلوقة عجيبة .. مخلوقة  تحمل في طياتها طيبة قلب ونقاء سريرة ، ووجها بشوشا مامن أحد يعرفها إلا ويحبها ، لديها من الذكاء والفطنة الكثير ، طبيعتها العطوفة العذبة حوذت لها مشاعر راقية وحسا مرهفا جعل باطنها يطغى على جمال ظاهرها . كلها مظاهر لقدرات فياضة عززت بها شخصيتها الجذابة فكانت كفيلة بأن تحرك الساكن داخل أي إنسان تصادفه حياته أن يعرفها . فتحركت بداخله مشاعر اعتملت في نفسه لم يشعر به من قبل وهو الإحساس بالإرتياح ليأخذه إلى شوق جارف أن يراها أو يتحدث معها ، وكلما مرت الأيام يحس أن هذا الإحساس يتحول لقيد يشد وثاقه إليها وأنها باتت ضرورة من ضرورات حياته ،  ومع مرور الأيام تكونت بينهما علاقة بلا اسم ، علاقة إن شئنا أن نسميها أن نقول عنها إنها علاقة إنسانية أكثر منها عاطفية ، فيها كل المتقلبات التي تعطى شعورا بالمتناقضات فهى من خلال تصرفاتها لايستطيع أن يقيمها ، فهى لاتمنح ولاتمنع ولاتعرض ولاتقبل ، كانت تبعث على الأمل في النفوس ثم تحرقها باليأس ، كانت في كل أحوالها غير مفهومة ، كانت ترق بلا سبب وتتجهم أيضا بلا سبب ، تدنيه مرة وتتحدث معه بإفاضة ثم تقصيه مرات وكأنه لايمثل لها شيئا ، كانت لها غيبات طويلة تختفى فيها عن بصره ، ويفتقدها هنا وهناك فلا يلقاها ولايسمع صوتها وحتى عندما يهاتفها فلاترد ، ثم تظهر له فجأة فيقبل عليها متلهفا ويسألها عن سبب غيبتها فتخبره بأية أسباب يحاول أن يقنع نفسه بها ، ولكن إذا جلست إليه يكتشف في نفسها رقة وعذوبة تجعله ينسى كل ماكان يضايقه منها ، وكلما التقت نظراتهما كانت تطفئ بالابتسامة ماكانت تضرمه نيران نظراتها المحرقة . مرات لقائهما قليلة وعلى فترات بعيدة ، معظم أحاديثهما فيها شيئ من الغرابة هو يحدثها بلسانه وهى تجيبه بعينيها ، فكانت غامضة كل الغموض .. مبهمة كل الابهام ، هل هي تحبه أو لاتحبه ؟ هذا هو السؤال الذى استعصى عليه أمره وأعيته إجابته ، ثم بدأ يتخبط في ظلمة الشك والحيرة ويحس بالضيق يطبق عليه معظم أوقاته التي كان يحرم منها ولايعرف عنها شيئا ، وكثيرا ماكان يلجأ لوحدته حتى يفرغ من هم نفسه ويستعيض عنه بسعادة من صنع خياله ، لأنه يعى تماما أنها تسكنه وأن كل منهما يحمل الأخر في روحه طول الوقت عن طواعية وبلا ضغوط ، ولايستطيع أحد أن يلغى شيئا من روحه فى أى وقت ولا لأى سبب . حتى رضى واكتفى منها بتلك النظرة التي دبت الحياة في عروقه يوما ، أما الباقى فكان يلذ في أحلامه وأمانيه التي كان ينساق إليها مجبرا ليهتف في نفسه ويقول : أليست نظرة وحدة تكفى . نعم إنه كان يرى إنها تكفى ليبنى عليها ماحرم منه ويعطيها بنفس القدر مامنع عنه . كان يجد متعته بمواصلة الخيال فيمنح نفسه ماشاء له الهوى حتى يبصرها بعين الوهم كما لو أنها أقبلت عليه وقد شع من وجهها ذلك السحر الهادئ الذى يثمله وينتشيه ويرى نفسه فرحا وهو يقبل عليها في لهفة وشوق ، إنه يتخيل فقط ولكن في دنيا الحقيقة لم يعد يعى شيئا ، وأن كل الذى يعرفه فقط إنه سيظل متعلقا بخيطه البالى المتدلى من هواه المهترئ ، يشعر بها ولايراها فهى أصبحت تمثل عنده إنسانة المشاعر ، ولكن في النهاية يبقى وحيدا ومن طريق لطريق ، الخريف يغمر أيامه . هكذا أصبحت حياته ، لارفيق ولاأنيس إلا أفكاره وطيفها ، فإن طيفها دائما يلازمه في كل أوقاته ، فإن زلت قدماه يوما وهوت به فى بئر الحياة العميق وتعقدت به الأسباب يجدها تقفز فجأة إلى خاطره حتى يلتمس منها مايمكن أن يهتدى به إلى سبيل ، فهذا قدره أن تتحول بداخله لأطياف من نور تنير له  الطريق  .. نبراثا يقتفى به أثره في فيافى حياته ، وكأنها الإنسانة الوحيدة التى تستطيع أن تدله على الطريق إن تاهت خطاويه حتى يرضى عن طموحاته المستحيلة . ليبق قلبه دائما يدق على عقله مادامت الأيام ليذكره إنه لم يكن أبدا وحيدا ، بل معه طيفها وكفى ، واليوم يشعر بشيئ من العزاء ، لقد أحبته مثلما أحبها وفى هذا كثير من العزاء .

مع خالص تحياتى : عصام               

القاهرة فى 26 يوليو 2022 .