music

الخميس، 30 مايو 2013

وفاء إيزيس وعودة هاميس ( الجزء الثانى )


كانت أيام الربيع الأولى تتسلل فى نعومة ورقة وحنان ، أيام فى حياتى لاتنسى .. أقبلت وأقبل معها إحساسى بأطيب ألوان السعادة والهناء والحب ،لاأدرى كيف ذهبت بعيدا مع أحلامى ، ولكن مافوجئت به فى تلك الليلة الموعودة ، جعلنى أظن أننى أسرفت فى الخيال ، إن الإسراف آفة حياتى ، ولكن هوس الدأب على اقتفاء كل أثر لإيزيس جليلة القدر .. وفية الخلود .. والتى قهرت الموت بمشاعرها القوية تجاه ماأحبت بمنح لامتناهى مطلق الحدود .. وأعطت فكان العطاء الذى بلغ المدى دون مقابل ، جعلنى أكثر تشوقا لمعرفة المزيد عن الكائن العجيب أوزوريس رب العدالة فى الحضارة الفرعونية وربما غيره من أساطير ، إذ ما الذى حفزها على مواجهة الخطر بالحب ، والحب بالموت والموت بالتحدى ، آه من الأساطير وماتبدعه الأساطير . مر وقت من تلك الليلة وأنا جالس فى مكانى فى أوج الصحوة والنشوى واليقظة ، كأننى أخشى النوم أن يدنو منى ، وأنا فى الهزيع الأخير من الليل.





فجأة قفزت أمامى فتاة مشرقة الطلعة .. فائقة الجمال تسدل عليها ثوبا من الحرير الشفاف أبيضا ناصعا  ، ذات قوام متناسق رشيق ، وقفت أمامى بدمها وشحمها وجسدها ، ولاأبالغ إن قلت عن إحساسى فى هذه اللحظات بأنه لايوصف ، حيث تسارعت دقات قلبى وارتعدت مفاصلى وغطى العرق جسدى .. عرق بارد ، واحسست بدوار غريب ، ودار بعقلى ألاف الأفكار التى تنكر ماأراه أمامى جليا واضحا ، أحاول التركيز فى البريق المنبعث من مقلتيها الواسعتين السوداوين الكحيلتين ذات الأهداب الطويلة ، ولكننى لم أستطع الصمود فى مداومة النظر إليهما ، فنورهما مبهران وساطعان للغاية لدرجة أنه يكاد أن يخطف البصر ، فتولت يدى فرك عينى أكثر من مرة فى محاولة استعادة ماأراه من نور وتوالى المشاهد الغريبة التى تحدث الآن ، طلعتها كنورعينيها مبهر ساحر كلما لامس نسيم السحر ثوبها تطاير حولها ، وبدت بطلعتها وثوبها أشبه بالنور الهادئ الجميل ، طلعة تشرق معها الحياة بصفوها وعذوبتها ، كأنها ملاك جميل مرسوم بريشة ليوناردودافنشى على أسقف الكنائس . قاطعت سكون ورهبة اللحظة نابسة بأول كلمات : أنا هاميس ، ألم تسمع عنى ، أنا قصة فرعونية فيها موسيقى معبدية وشعر وطقوس ، حياتى من الزمن السحيق .. عالم من الأطلال الذى يكتنفه الغموض الأسطورى ، كم تمنيت هذه اللحظة . ثم خرجت من فمها آهة خفيفة وهى تنظر صوبى : أخيرا أصبح الحلم حقيقة .. لقد أمسكت أحلامى بيدى .. ملكتها بالحقيقة ، لقد عشت مع توالى الأيام وانقضاء الليالى أتنسم الماضى الذى أنا جزء منه .. أملأ به قلبى وعقلى بمعانى الخلود ذاك الذى عشته ، ومع كل بسمة فجر جديد أطلق خيالى أتخيل هذه اللحظة ، من سأقابل وكيف سأرى وماذا سيواجهنى به القدر ؟!! الأن اكتملت الصورة أمامى ورأيتك ، أحدثك وتحدثنى . حاولت أن أتجاوز بسرعة لحظات الشرود الأولى التى تكلمت فيها ولم أسمعها بسؤال محدد: من أنت ؟ قالت وهى ترنو إلى بنظرات حانية : بعد كل ماقلته لك ألم تعرفنى بعد ؟! ، لقد قلت لك اسمى منذ لحظة واحدة ، قلت لها :آسف لم أسمعك . ردت فى غبطة وبنظرات كسيرة : أنا هاميس ، قلت لها بدهشة : هاميس من ؟! قلبت شفتيها بامتعاض وكأن لسان حالها يقول من هذا المجهول الذى لايعرف جميلة الجميلات . تصورت أن التاريخ أنصفها وكل الأجيال تعرفها مثل إيزيس ، أومأت برأسها متعجبة وقالت : ألم تسمع بعد عن عروس النيل التى أتُخذت قربانا للنيل كى يصفو ويهدأ ، ويكون أكثر وداعة ورقة ، فلا يفيض فيضانا مدمرا يجتاح به القرى والمدن فى ثورة عارمة ، هل تذكرتنى ، إناهاميس .. أنا آخر عروس للنيل يابن مصر الحديثة . بدت وكأنما قرأت ماتولد فى خاطرى بأننى لاأصدق ماتراه عينى وأننى لازلت على حالى  مضرجا بالتوتر الشديد .. تهيلنى الأفكار وجو الأساطير .



فى هذه الأثناء تذكرت فجأة قصص وحكايات نداهة الحقول أو سيدة الترع والمستنقعات وما كان ينسجه عنها خيال أقاربنا فى الريف كلما حللت أنا ووالدتى ضيوفا عليهم عندما كنت صغيرا، كنت استمع بإنصات لرواياتهم التى لاحصر لها ورسخت فى العقلين الظاهر والباطن خلال الطفولة لم نتبين بعد وإلى الأن  مدى صدقها أوصحتها ، فقد كان يروى عنها أنها امرأة تتمتع بجمال ساحر يخطف القلوب ويخلب الألباب .. غريبة كالسراب قريبة بعيدة ، تمشى على الأرض والماء ، تتسع عيناها وتنفرج شفتاها بلا إرادة ، صوتها له رجع صدى وضحكاتها تسمع له دوى بسحر الليل يأخذك ويرهبك فى آن واحد ، بإمكانها أن تظهر بالشكل الذى تريده وفى السن التى تختارها ، كما يمكنها أيضا تغيير حجمها . لها قوة خارقة باستطاعتها أن تخترق الحوائط بسرعة البرق مستخدمة حيل الأنثى وفتنتها الذكية التى كانت تفلح جيدا فى استخدامها فى إغواء الرجال ، وكان ديدنها الظهور في الليالى المظلمة لاعتراض سبيلهم ، لاتنادى ولايسُمع لها صوت إلا فى الأماكن الواسعة الخالية من المارة وخاصة على ضفتى الترع والحقول ، نداؤها غالبا يكون للشخص التى تريده فينجذب لها مندفعا متتبعا النداء دون إرادة منه تحت طائلة جمالها الطاغى وتأثير سحر نداءاتها إلى أن يصل إليها ، ثم اختلفت الروايات فى شأن مصيره قيل أنه تحدث له هلاوس وتطورات نفسية فيبدأ فى التحدث مع نفسه ويأخذ فى التردد على الحقول كثيرا قاصدا المكان الذى قابلته فيه أول مرة ، وقد ينتهى به الحال بالجنون أو أن يختفى لفترة أو فترات .. يصعب تعقبه فيها أو معرفة أين يختبأ وقد يجدونه ميتا، وقيل لو صادفه وأحبته يمكنها أن تتعايش معه فى نور الظل دون الشمس أو تأخذه معها إلى عالمها السفلى وتتزوج منه . إننى لازلت فى حيرة وخوف مشوبين بالحذر الشديد أربط ماأراه أمامى بكل مايدور فى ذهنى الأن من الأساطير الشعبية والفرعونية ، ربما كان اهتماماتى بحضارة مصرالقديمة هى السبب فيما أبدو عليه الأن من هوس ، حيث كنت دؤوبا فى سماع القصص والروايات وقراءة الكثير من كتب السير والحكايات والزيارات الكثيرة والمتكررة للمتاحف والمعابد عن ماخلفته الحياة المتحضرة فى مصر من آثار اجتماعية واقتصادية وسياسية بفلسفتها الصعبة المعقدة والغريبة  ولكن ما أشاهده الأن أمر أغرب مما يتصوره الخيال حقا ، أن أجد نفسى أمام إنسانة لاأعرف عما إذا كانت هى النداهة أم  إمرأة المستنقعات أم إمرأة قادمة من العمق .. من الزمن البعيد ومرت عليها كل هذه العقود الكثيرة ، إننى أجد نفسى مخترقا تماما وسط  تلك الحواديت والحكايات ، لتتصاعد فكرة ملحة أهذا حقيقى أم خيال أم أنا فى حلم أم أواجه خطرا؟ ، رباه إننى أراها بعين رأسى . قاطعت ذهولى للمرة الثانية بعد أن تركتنى مستغرقا لفترة كى استوعب الموقف كاملا : إننى آتية من حيث انتهى تفكيرك .. أنا هاميس ، أسطورة أخرى من عالم الأساطير .. جئت من العالم الأخر .. أوفدتنى الآلهة أتون برسالة معبرة عن نشرالحب والسلام ، فقلت لها : لمن هذه الرسالة بالضبط ؟ قالت : إليكم ، قلت : إذن لماذا أنا تحديدا ، قالت : أنت من قادنى الشوق إليك ، وأنت مصرى موصول بجذورك .. ولا حياة لشجرة بلا جذور ، ونحن جذورك وأنت نبتها الطيب . أعجبنى لغة حوارها المنطقى المقنع والمذهل رغم غرابته ، وكان سببا كافيا كى يهدأ روعى وتذهب حالة الهلع التى كنت عليها وخاصة أنها لم تكن نداهة ولم تأت من الحقول ولم أسمع لها صوتا إلا عندما تكلمت معى بكل سعة صدر وهدوء . بدأت أستوعب الموقف واستعيد حواسى واتزانى وزادت صورتها التى بدت عليها والتى جاءت متوافقة مع روعة الجمال الذى فاق كل خيال بتقاطيعها الجميلة وبشرتها الصافية من التخلص نهائيا من حالة الصدمة التى خلفها التباين الشديد من عاملى الزمان والمكان ، حيث بدت عيناها واسعتان فيهما صفاء ، شعرها ذهبى طويل ، أنفها متقن دقيق ، وشفتاها متفتحتان ممتلئتان ، صوتها كله أنوثة ، طلعتها مبهرة ، قوامها مستو ، ملابسها حريرية شفافة مرصعة بالحلى الذهبية ، يعلو رأسها تاج مرصع بالأحجار الكريمة ، حتى تصورت أنها أجمل فتاة وقع عليها بصرى . هتفت متمنعة وعيناها اللامعتان تقتحمان كل شيئ فى وجهى ، فقرأت بحس الأنثى ماكنت مستغرقا فيه من فكر .. أحست بشيئ من الارتياح يجتاح قلبى وعقلى ، أغمضت عينيها ، أخذت نفسا عميقا ، هزت رأسها فى اتجاه واحد حتى لاتحول نظراتها عنى ، ووجهت لى الحديث : عصام تعرف أنا التى اخترتك من بين ألوف البشر كى ترافقنى فى مهمتى . أصابتنى الدهشة لمعرفتها اسمى ، ولكنها لم تمهلنى فرصة أن أسألها عن كيفية معرفته . فجأة همت من مكانها واتجهت حيث أجلس ودست جسدها الرقيق إلى جانبى على المقعد ، وأحاطت كتفى بذراعها ، وتوالى حديثها فى صوت عذب وهى ترمق وجهى فى شغف : أتعلم كيف أخترتك وكيف عرفت اسمك ؟ قلت لها بعد أن استدرت إليها متلهفا الإجابة : كيف ؟ قالت : الصدفة وحدها هى التى قادتنى إليك بعد أن تتبعت أصول أسرتك من جذورها مذ عرفت أننى سآتى إلى عالمكم .. فلامست طيفك .. همت على وجهى ورأيتك أكثر من مرة دون أن ترانى .. أعجبتنى إبتسامتك الجذابة ونظراتك التى تشع حبا وحنانا لكل جيرانك وأحبابك ، تماما كما كنت أراها على وجه حبيبى " ميرى " بطبيعته السمحاء ونقاء سريرته .. هل يضايقك هذا ، قلت لها فى حنان قد أنسانى رهبة اللقاء وغرابته : أبدا أنا سعيد برأيك رغم أن جرأتك اخجلتنى، ولكن من هو " ميرى " هذا ، قالت : ميرى كان خطيبى قبل اختيارى للزيجة المقدسة .





مازلت على قدر الموقف ازداد مهابة يكتنفه الغموض كلما تطورالحديث الذى كان مزيجا من المشاعر المضطربة والرومانسية الإسطورية التى كانت تحاكى التاريخ فى زمن الحب ، فقلت لها : الزيجة المقدسة !! وميرى ، ماهذا ومن ذاك ؟!! وماعلاقتى أنا بهما ، فأنا لست حبيبك ولا أنا ميرى ، إذن كيف شعرتى بى منذ أول لحظة ؟ لاأخفى عليك إننى لازلت مستغربا لوجودك هنا الأن وافصاحك عن مشاعرك بهذه السرعة ، فقالت فى رقة : لاتستغرب ، سأحكى لك قصتى ، لكن لك أن تعرف أننى صادقة معك فى كل كلمة قلتها لك وكل كلمة سأقولها بعد ذلك .. أنت فعلا تشبه "ميرى" إلى حد كبير.. شبه لايتصوره عقل لدرجة أننى ظننتك إياه ، ولكنك لاتعرف مقدار حبى له ، إننى كنت أحبه كثيرا .. حبا شديدا كدت من جنونى إليه أن أعشق الحب والحياة من أجله ، ولكن فرقتنا الأيام مذ إختيارى عروسا للنيل ، وهى مهمة كهنوتية وشرف لايدانيه شرف لبنت مثلى أن يتم اختيارها لهذه الزيجة المقدسة التى تنشر الرخاء وتجدد العهد لملكوت أتون ، وكانوا مذ اختيارى ينادونني .. حلم النهر .. العروس .. الأميرة ،لأننى كنت أجمل فتاة على أرض مصر وقتئذ .. وأى فخر ، تصور كيف تمت إقامة ليلة عرسى ، كانت بدايتها هناك في المعبد الكبير ، حيث أقام الكهنة المراسم ، كانوايتمتمون أناشيد من صحائف البردى ويدقون الطبول، ثم يتوجونني برأس أفعى عيناها ياقوتتان رمز الرفعة والشموخ والخلود ، وكانوايضعون بيدى صولجانا بمفتاح النيل لايمنح إلا لمن يتقلدون هذا الشرف العظيم .. وليس لغيرعرائس النيل ، كنت أبدو فى أبهى زينة وأجمل ثياب تم تطريزه بالزمرد والياقوت والرقائق الذهبية ، ثم تمت بعد ذلك مراسم زفافى فى احتفالية كبيرة مدت لها الولائم على ضفتى النهر ، والنيل نفسه كان فى هذا اليوم مزهوا تفترش صفحته أزهار اللوتس وورد النيل ، كان يمر بين حشود فرعون الذين جاءوا يباركون العرس ويرسلون التمائم صوبه تبركا وكرامة له ، إننى لازلت اسمع صوت أهلى وهم يقولون لى : " إن النهر عطوف .. حنون ستشعرين بدفء أبدى يسرى فى قلبك وجسدك حالما يطبق عليك بجناحيه " هذا آخر ماسمعته من كلمات بعدها دقت الطبول دقاتها السريعة مدوية فى الآفاق معلنة عن قرب زفافى التليد ، قصة العشق الأبدى ، ثم مررت وحدى فى لحظة صمت رهيبة ، بعد أن جاوزت الحشود وعَبارات ميرى التى كنت أرمقها عن بعد وسط هذه الحشود الغفيرة .. أغرقتنى قبل أن أغرق فى مياه النيل .. كفت الطبول عن قرعها وصمت الجميع ، وحانت اللحظة عند وقوفى على حافة النهر انظر للماء وهو يحاسرنى ووقف خلفى اثنان من كهنة آتون ، ثم رحت اتمتم بكلمات حفظتها عن ظهر قلب فى المعبد الكبير :  " كم تمنيت أن أحلق فى آفاقك ، وأفرغ نفسى فى سطوحك ، سيكون دارى بألف دار فى دروبك ، سألقى بنفسى فى لجتك ، أقتلع الخوف من أهداب عيونى ، وأغرس فى قلبى عشق هواك ، فلتكن لى حبيبا ووديعا وأنيسا ، وليكن تيارك هادئا حنونا ، وفيضانك قلاعا وحصونا " . ثم دفعنى الكاهنان من خلفى وأصبحت الحلم .. الحبيبة .. العشيقة ، وأى فخر تتمناه الكثريات من بنات مصر ، فأنا كنت فى ذلك اليوم الأميرة المتوجة .




والحق كان كلامها جميلا رائعا حينما تكلمت بكل فخر عن عشقها المنحدر للموت والحب الذى ارتقى للخلود لآخر عروس للنيل ، لأنها أحبت حبا صادقا ، وضحت به من أجل حب أسمى .. حب أعظم ، حبها لبلدها ، وحبها لمن أحبتهم ، أو هكذا كانت المعتقدات والطقوس والتقاليد التى كان يتم بها إرضاء النيل العظيم رمز الخصوبة والنماء وفاء لعطائه المهيب وإرضاء لغضبته ، فجعلت جسدها فداء .. وقلبها نورا .. وروحها أملا فى فيض الخير وإثراء هذا النماء ، ورجع الروع وآلالام عن ربوع مصر من أدناها لأقصاها ، فتحولت من مجرد أنثى جميلة .. إلى رمز يعلوه الرفعة والشموخ ، عاش عبر عصور تليدة ، يسجل صفحاته ، تاريخ أمة محفورا على نقش الحجر ولايزال يقام كل عام احتفالية يوم وفاء النيل التى تنتهى بإلقاء تمثال من الحجر رمزا وفداء لبنت مصر الغالية لتظل حكايتها ملئ الاسماع ، ويعرف العالم كله وفاء المرأة المصرية القديمة ، وحرصها الشديد على أسرتها الصغيرة ، وأسرتها الكبيرة أيضا .. مصر ، إنها جاءت مادام التاريخ ممتدا ، وسيمتد صفحاته ، لتعمق معنى الوفاء فى نفوس البشر ، جاءت من العالم الأخر لتغير حياتنا التى غاب عنها الحب ، وغاب عنها لحظة صدق وهان على أنفسنا وقع الضمير. كانت تستغرقنى بنظراتها وأنا فى انشغالى عنها بتصورى اللامحدود لكلامها الجميل الراقى ولواقعية وجودها الذى مازلت استغربه الأن وعن سبب مجيئها وسر اختيارها لى أنا بالذات . مدت يدها تمسح على شعرى فى حنان ، وأراحت رأسها على كتفى ثم تسللت بيدها من تحت القميص وأخذت تمسح بخفة على صدرى أحسست معه بضغطة أناملها ، ورفعت لى وجهها ، ونظرت لى بعينين تكاد تطبق أهدابهما وتغمضهما .. مشعين بعاطفة جموحة ، ثم الصقت خدها المتورد الناعم بخدى .. وفجأة قبلتنى بأنفاس سريعة شاهقة ودقات قلب متلاحقة نافرة  .. قبلة عارمة لم تنج شفتاى من آثارها حيث فتحت فمها والتهمتهما فى جوع وظمأ غريبين ، أحسسته بشوق وعمر كل هذه السنين الطوال .. فبادلتها القبلة بقبلات ، ارتجفت لها يداى .. وانتفض لها قلبى بدقات سريعة لاهثة ، أحسست وكأنما نار تسرى فى جسدى كله .. أضرمت كل حواسى ، وانصهرت به مشاعرى وأتقد منه فؤادى .. فغمرتنى أحاسيس متباينة .. حارة متدفقة كدقات وخفقان قلبها .. باردة مرتعشة كأهدابها التى أخذت تطبق جفونهما فى حنان دافء ، أما شفتاى حيث موضع القبلة لم أشعر سوى تنميل غريب أفقدنى بعد ذلك الإحساس بهما ، تماما كحقنة التخدير التى يعطيها طبيب الأسنان عند خلع جذور ضرس .. أحسست أنها خلعت قلبى من جذوره .




ماأغرب وأحلى قبلة تذوقتها فى حياتى جعلتنى أشعر بدوار لذيذ طار بى إلى متع لم أكن أتصور أن العالم يختزن مثلها لدرجة أننى كدت أفقد وعيى ، وجعلتنى أحس بأننى لم أُقبل قط بمثل هذه القبلة ، فى عذوبتها وقوتها وحرارتها . وماكدت أتنبه حتى قلت لها هامسا وقلبى ينتفض من صدرى : لم فعلت هذا ياهاميس ؟ قالت : لأنى أحببتك .. ألا تصدق أننى أحببتك ، قلت : بعد هذه القبلة أصدق كل شيئ ، لكن ألا تخافين أن الحب قد يُذهب العقل وحتما سيؤثر على السبب الذى جئتين من أجله ، قالت :إذن أنت لم تصدق ماقلته لك أننا نفعل كل شيئ بالحب ، وسبب مجيئى هو الحب ، والرسالة التى احملها مضمونها من كلمتين الحب والسلام ، إذن الحب من صميم مهمتى ، ولكن حبى لك جاء مختلفا ، ولم أتصوره ، إننى منذ أن وقع نظرى عليك أحببتك ، لقد تذكرت بك خطيبى ، وعاودت أنت كل حنين الماضى وأشعلته فى قلبى وفى صدرى من جديد .. نارا اضرمت كل حواسى ومشاعرى ، لقد سلبتنى رباطة جأشى .. سلبتنى كبريائى .. سلبتنى وقارى المخلد باعتبارى زوجة النيل ، ألا تعلم أن أهلى يعلمون مدى عاطفتى وهو سبب اختيارى لهذه المهمة ، ولكن حذرونى من الوقوع فيه ، وقالوا ليس لك أن تحبى ، إنك موفودة لمهمة رسمية فقط ، ولكنى أحببت ووقعت فى الحب من أول لحظة .. من أول نظرة .. حبا رومانتيكيا .. رومانسيا خالصا ، قل عنه ماتشاء بلغتكم ، ولكنه قدر .. إنه قدرى و قدرك ، فقلت لها متعجبا : كيف ؟ قالت : كنت على موعد بإنجاز مهمتى منذ أكثر من خمسمائة عام ، ولكننى وجدت من الصعوبة أن أتفاهم مع أحد بعد أن قضوا على لغتنا التى لم تعد مألوفة لديكم ، فقررت أن أتعلم لغتكم مما استغرق وقتا طويلا ، فكان النصيب أننى جئت فى زمنك ، كأننا على موعد مع القدر . ثم أكملت دون أن تنتظر إجابة منى : عصام ألا تصدق أننى جدتك ، ألا تتصور أن عمرى الأن أكثر من خمسة ألاف عام ، عشته أعانى الحرمان .. حرمان الحب ، كنت من أسرة صغيرة .. فقيرة ، لكننا كنا نحيا بالحب ، لانعرف غيره ، نحب مصر ونهبها أرواحنا ، كنا نعرف قيمة الحياة على أرضها ، ونعرف مهابة النيل العظيم وقدرته على سريان الحياة ونمائه فى شرايين الوادى ، ولهذا كان عصرى .. قمة ازدهار الحضارة ، ولقد سجلت ملامحها فى مقبرتى بعد أن أصبحت الأميرة الحالمة .. الضائعة فى هوى النيل ، فكم كانت الأضواء ترتعش بين أهدابى فى صورتى على صفحة مياهه ، وكم احتضننى طيفه بابتساماته الوردية وأحلامه العذرية ووشوشته لنسماته الربيعية ، كله ستجده مسجلا على جدران مقبرتى ، وطبعا أنا ادعوك لزيارتى فيها .







لم أعلق فأكملت : بعد وفاتى عرفت أن بعضا من أهلى نزحوا البحر وعبروه ، وعرفوا اليونانيين ، واندمجوا معهم ، وتناسلوا وانتشرت حضارتنا فى الغرب ، ولكن بقى أن تعرف الفرق الشاسع والكبير بين أجدادك القدماء المصريين الفراعنة واليونانيين حيث كانت تروعهم الحقوق التي كانت تتمتع بها المرأة المصرية فى ظل حماية الرجل الذى كان يعرف قدرها ويعلم أهمية هذا المنح . وربما كان الروع وعدم الفهم يعودان للتباين الشديد بين الحضارات ، وهو نفسه ماكان يثير حفيظة اليونانيين والرومان ويجعلهم يشيعون عن المرأة المصرية أنها متحررة جنسيا أو خليعة أو مشاكسة ، وإنما الواقع يؤكد تخلفهم ورجعيتهم ، ولك أن تفخر بأننا كنا أول من عرف مذ عهد أخناتون المدينة الدينية ، أو المدينة الفاضلة كما سماها اليونانيون ونسبوها لأنفسهم ، هليوبوليس أقدم وأهم عاصمة دينية فى التاريخ والتى ظلت منارة للمعرفة حتى الفتح الاسلامى ، وهليوبوليس هذه تعلم فيها أفلاطون صاحب المدينة الفاضلة وهيرودوت صاحب أشهر مقولة قيلت عن مصر عبر تاريخها الطويل " مصر هبة النيل " ، كما تعلم فيها المئات من الفرس والروم ، هى أيضا نفس المدينة التى اسميتموها بعد ذلك بعين شمس . ثم أردفت متساءلة : لكن لماذا تخليتم عن ماوصلنا إليه من ريادة ؟ لماذا تاهت خطواتكم وتعثرت أقدامكم فى التاريخ ؟ إننا أكثر منكم غيرة لأننا كنا نعرف الحب .. ونعرف معنى الوفاء ، كانت حياتنا قائمة على التعاون والود ، والحضارة علمتنا معنى العيش فى سلام وأمان . والحق لم أجد  كلمات تسعفنى فى الرد .. فأكملت : صحيح أن التاريخ لا يعيد نفسه ، وأن الحياة دائما عبارة عن طفرات تصنع أجيالا ، ورغم غياب روح الحضارة عنكم إلا أنها كامنة فيكم ، تحتاج فقط لعزم وفهم ووضوح و جلد وقوة والأهم من كل هذا .. تحتاج للحب .. للحب .. للحب ، من أجل ذلك جئت ـ كما قلت لك ـ برسالة من كبيرنا أخيتاتون يحذركم فيه الضياع والوهن الذى أصبح يهدد حياتكم .. ضياع موروثنا لكم الذى بنيناه بالعرق والجهد فى سنين طوال واكتفيتم فقط بتعليق اخطائكم على مقولة " لعنة الفراعنة " على خلاف الحقيقية بعد أن نبشتم فى قبورنا وأضعتم الكثير من كنوزها وتهريبها خارج البلاد ، ومثلتم بجثثنا بدلا من الحفاظ عليها ، هل عرفت الأن سبب تواجدى ، أم لازال الأمر غامضا عليك ؟ ، بقى أن تعرف حقيقة واحدة أننى أحببتك .. حبا حقيقيا ، حبا خالصا لك وليس لـ" ميرى " ، ولاتسألنى بعد ذلك متى وكيف تم ذلك ، فالحب هو الحب .. نسبى .. ليس له معايير .. وليس له أرض أو وطن أو عنوان ، ولاتعرف حدوده زمانا ولا مكانا ، ولايعترف بالأعمار وحساب السنين ، فالحب لحظة .. قد تأتى أو لاتأتى ، فإن جاءت كانت بسنين العمر كله ، وميرى كان الماضى الذى انطوى وذهب منى وأنت الحاضر الذى أصبحت أهواه وأرنو إليه ، فكم انتظرتك عبر سنين طويلة ذقت فيها طعم الحرمان وبات قلبى فى حاجة كبيرة أن ينشب حبك مخالبه الحاذقة فى المساحات الكبيرة الفارغة فيه لتزرع فيها ورود الأمل وأعواد الحياة الخضرة من جديد . اختفت هاميس من أمامى كما لو أنها تبخرت بغتة فى الهواء .. بل تلاشت ، لم أعد أراها ، ياترى أهذا كان حلما وأفقت منه ، أم كان وهما تخيلته من نسج خيالى الذى يتلاعب بى أحيانا ، كيف تكون هذه الإنسانة جدتى وأقبلها هذه القبلة العارمة ، التى أحسستنى بأننى لم أقبل شفتين فحسب ، بل أدخلتنى عالما من الدفء محلى بالسكر ومكسوا بقطرات الندى ومحاطا برحيق الأزهار .. أحسستنى بروعة الحب .




إنه الحب ، ذلك الزائر الذى طالما كنت انتظره ، الأن قادنى قلبى لهزته ، فكم من سنين طوال تمنيت أن يفتح لى أبوابه ، الأن جاءنى وبأغرب طريقة لم أكن أتصورها ، جاءنى كما كنت أهوى أن يأتى به بسخاء العطايا .. وبفيض المشاعر وبلوغ قمة الأحاسيس .. بأن أحب فأعطى قلبى لمن يهواه ، وأن تكون هى بنفس قدر العطاء تحبنى فتهبنى قلبها ، ليغمر القلبين حبا بلا وهم ولا خوف ولامبالغة فيتحابا ، حبا حانيا ملونا بجميع ألوان الطيف .. فيه الخيال والحقيقة .. فيه الروح والجسد ، حبا يشبه قوس القزح وقد تحول إلى تاج من نور يستقر على قلبينا ويستشعراه  فى كل شيئ خلقه الله لنا من آلاء ونعم وملكات حيث يكمل بعضها بعضا ، وكأنما خلقت عند كل منا لينعم به الأخر ، كنت استعذب صوتها الناعم الجميل وكأن الله خلقه لأذنى ، كانت تحب طول قامتى حيث كانت تراه فى فتى أحلامها ، كنت أحب قراءة الشعر وأتمعنن فى ألفاظه وحواشيه فوجدتها شاعرة تجيد انتقاء الألفاظ واختيار العبارات بمنتهى الدقة والحرفية ، فكنت استعذبه وأحبه وأجد نفسى فيه . كانت لفطنتها الكبيرة وشفافيتها العالية أن تقرأنى من كتاباتى ورسوماتى التى كنت أجيد استخدام الرمزيات والحيل الفنية فيها ، فكانت تتسلل وراء كل إخفاء ، وتصل إلى كل مكنونات أفكارى سواء فى مداد الكلمات على صفحات الأوراق أو ماوراء ريشة الألوان فلاأحد يصل إليها إلا هى ، كانت تمتلك فراسة عالية بجانب ثقافتها فى الأدب وحبها للفنون ، فكانت تلتقطنى من كلماتى ، وبين السطور تصل للذى أحبه والذى أريده  ، كما كانت تعرف كيف تفصل فى فك رتوش الألوان رغم شدة مزجها وجمال تناسقها . كل شيئ جاءنى كما كنت أتمنى أن أجده وأتصوره وأرنو إليه فى شخصية المحبوبة ، نعم لقد أحببتها وأحبتنى ، تعانقنا .. تهامسنا .. تلامسنا ، يالها من لحظات جميلة جعلتنى أعيد السؤال على فكرى مرة أخرى ، هل حبى لها حبا حقيقيا بالفعل ؟ وهل يمكن التعبير عنه بهذه السرعة وفى هذه اللحظات القصيرة فحسب ؟ وهل يستطيع أن يصمد أمام الظروف الصعبة الذى ولد فيه وهل سيتجاوز عاملى الزمان والمكان ؟ إننى لازلت أشعر أثار قبلتها مطبوعا على شفتى ، ولازلت أحس هذا التنميل ، ولازال خيالى يستعيد صورة فمها ذى الشفتين المكتظتين المملؤتين باستدارته الغريبة وهو يلتقم شفتاى كأنما يريد أن يلتهمهما من جديد . عدت من إحساسى ، برغبة قوية لنوم عميق .. تمددت على فراشى ، جذبت غطائى ، وأخذت أستعيد ماحدث حتى غلبنى النوم .. وكان أخر ماشعرت به قبل أن استغرق فيه ، أحساسى بسعادة رائعة من شفتين ناعمتين كأوراق الورد أطبقا على شفتاى فأحالنى نومى إلى سعادة خالصة .







                               وإلى ملتقى آخر فى الجزء الثالث
    

القاهرة فى يونيه 2013                                 مع تحيــــــــــــات ، عصـــــــــام


 

الثلاثاء، 21 مايو 2013

وفاء إيزيس وعودة هاميس ( الجزء الأول )

" وفاء إيزيس وعودة هاميس "


الوفاء والحب هما وجهان لعملة واحدة ، فكلاهما من مكون واحد لو تحقق الحب وكان صادقا وعميقا تحول للإحساس الأكثر صدقا والأعمق فهما وتقديرا لقيمته الكبيرة ومردوده لدى الأخر ، وعند تحقيق الوفاء فى الحب يصبح الحب مقدسا ورائعا وضروريا من أجل استمرار الحياة مضيئة ومشرقة ، ووقئذ لامجال لوجود الأنانية والحقد والكراهية . لاأعرف كيف قفزت إلى ذهنى فكرة الكتابة تحت هذا العنوان ، والكلام فيه ، ولكن هو ارتباط بما يدورفى  ذهنى عن قيمة الوفاء فى حياتنا ، والحق لم أجد تجسيدا لمعنى الوفاء بقدر ماوجدته عند القدماء المصريين ، وتحديدا الحياة الفرعونية المصرية القديمة .. ربما لقداسة الحب وتقدير الرجل للمرأة ، وهذا ماأكدته النقوش والرسومات على جدران المعابد الفرعونية والبرديات ، حيث كانت رمزا للخصب والعطاء ، فالمتتبع للحضارة الفرعونية  القديمة ، يجد أنها لم تعط الرجل كل الحق وكل سلطان بقدر ماأعطته للمرأة لسمو ورفعة مكانتها ، فكانت تحظى برعاية خاصة حيث تمتعت بحرية حركة الآلهة ، وكان العقد الاجتماعى المقدس مستمدا من فكرة العدل والمساواة والمشاركة والوفاء والإخلاص والتفانى والحب ، كانت للمرأة النصيب الأكبر فيه ، لذا كانت الحضارة الفرعونية الأولى بين حضارات العالم القديم التى احترمت المرأة  وأعطتها  حقها كاملا ، فكانت تختار زوجها بنفسها وكانت ملكة متوجة في بيتها , تتولى إدارة شئونه  فى غياب الزوج وكانت تشاركه العمل وكان هو بدوره يجزل العطاء لها , ويجعلها تستمتع بكل مايملك ، ففاقت حقوقها عن تلك التى حظيت بها اقرانها في الحضارات القديمة ، فكانت روعة هذه الحضارة بفنونها وآدابها وأديانها حيث كانت أعمق إدراكا للطبيعة وللمرأة أيضا، فإذا فهمت طبيعة الحياة الفرعونية فهمت أيضا طبيعة المرأة المصرية ، فقد ربطتهما معا ، الحياة تعنى أرض معطاءة ، ونيل يجرى فى الوادى الكبير يبدر الخير والمحبة والنماء ، والمرأة تكاثر .. عطاء .. سخاء ومنح ،  كأن عناصر الطبيعة  أودعت سرها فى المرأة هبة ورفعة ، فكانت الأنوثة .. الولادة .. الراعية .. الحنونة من جانب ، والمتقلبة ومتعددة الاشكال والألوان والحالات من جانب آخر ، ولما كانت المرأة يفرد لها المساحات الشاسعة وتمثل كائنا متعدد الأبعاد، لذا كان يتعين الوقوف عندها بعين فاحصة من زاوية هذه الرؤية ، هل نتناولها من الجانب الإنسانى أم من الجانب النفسى أم من الجانب الاجتماعى أم من كل هذا ؟ والحق لم أجد أفضل ولا أمتع من العودة  إلى الرؤية الفنية ، فهى الوحيدة التى تسمح لنا برؤية رومانسية شاملة من  حيث الشكل  والموضوع وتعطى الخلفية لكل الجوانب الحياتية والنفسية للمرأة الفرعونية ،  فضلا عن أنها تعلى من قيمة المشاعر والوجدان ، ليبدو لنا الوجه الأخر من الحب .. وجه العطاء والجود والتضحية وانكار الذات إنه " الوفاء " الذى يكمن فى المرأة بصفة عامة ، والمرأة المصرية بصفة خاصة باعتبارها الامتداد الطبيعى للمرأة الفرعونية التى طالما أعطت ومنحت ووهبت وتفوقت على نفسها فى الكثير من المواقف وأيضا لأننى لم أعرف غيرها .



ولازالت قصة الآلهة إيزيس .. هى النموذج الفريد للحب والوفاء وأفضل من عمق معانى العطاء والجود والتضحية .. تماما كما ذهبت تلك الأسطورة التى تحكى أن إله الأرض وإله السماء كانا زوجين انجبا ولدين : أوزوريس وست ، وبنتين : إيزيس ونفتيس ، حيث تزوج أوزوريس من أخته إيزيس ، وتزوج ست من أخته نفتيس ، وعندما تولى أوزوريس حكم البلاد، كان حكمه عادلا ، فأحبه الناس ، وقد سجلت النقوش أنه منذ أن تسلط أوزوريس على أرض البسيطة من مصر .. رفع عنها الفاقة والحياة الهمجية .. بإرشاده إلى روح الاجتماع وسر الحياة .. فهذب العالم كله .. وأدخل إليه المدنية والتقدم بغير سلاح ، بل بأشرف فنونه وأحلاها .. الأدب .. الموسيقى .. الشعر ، وهكذا تحولت مصر إلى أرض غنية بخيراتها ، الشوارع مستقيمة ، الأنهار تنبع من السماء ، وحيوانات البر تزحف إلى الماء ثم تعود وتصعد إلى الشاطئ ، دون أن تؤذى أحدا .. بل هى نفسها تحظى بقداسة عظيمة ، ليست هناك خلافات بين الناس على شيئ ، فكان أقل مايقال أن أوزوريس أحدث إصلاحات اجتماعية وسياسية كانت أكثر مما كان يحلم الناس وأقل من قدرتهم على تقبلها ، إلا أن الوضع يختلف كثيرا لدى أخيه ، فقد كان ست قبيح الخلقة .. مشروم الشفة تظهر أنيابه منها ، وكان أيضا شريرا .. قاسى القلب .. ميالا أكثر للبغض والكراهية ، ولكنه كان شديد ذكاء العقل ، ومع ذلك كان لايحسن إدارة هذا الذكاء ، وقد عرف الناس عنه هذه الصفات الذميمة ، فكرهوا الميل له ، وعزفوا عنه عزوفا شديدا متجنبين شروره وأحقاده ، وكان يحسون غيرته وكراهيته الشديدة لأخيه ، حيث نال أوزوريس النصيب الأكبر من هذه الكراهية وتلك الأحقاد  وازدات أكثر بإعتلائه حكم البلاد ونشر الحب والسلام بين الناس ، فأخذ ست يدبر له من المكائد ماكان يكره فى كل التعاملات الإنسانية ، فكانت المؤامرات والدسائس للتخلص من أخيه وإزاحته من على عرش مصر ، وواصل دأبا فى صنع الحيل ، حتى هداه ذهنه إلى فكرة إعداد تابوت مرصع بالأحجار الكريمة ، ودعا رهطا من مقربيه لحفل خاص وبالطبع كان أخاه من بينهم دون أن يدرى مايخبأه له القدر . وفى أثناء الحفل الذى دارت فيه الكؤوس وتاهت فيه الرؤوس قام ست بإعلان مفاجأته على جمع الحضور ، معلنا أن هذا التابوت سيكون من نصيب من يوافق مقاس جسده ، ولشدة جمال وروعة التابوت توالى الجمع من الرجال على الدلوف بداخله لعل وعسى يكون من نصيبه ، حتى أدرك الدور اوزوريس ، وماأن مد جسده بداخله ، حتى أسرع ست وأعوانه فى إحكام إغلاقه ، وألقاه فى مياه النيل ، فحمله تيار الغدر والخيانة إلى البحر المتوسط ، وتولته الأمواج ودفعت به إلى سواحل فينيقيا . انتابت إيزيس حالة من القهر والجنون والحزن الدفين جعلتها لاتكف عن الصراخ الموجوع الداخلى  حول كل مافى قلبها من حب إلى نار اشتعلت فى قلوب كل من أحب أوزوريس ، تلك النار التى طالما اكتوت بها وجدا .. وارتمت فى احضانها عشقا ، اليوم يجتاح قلبها هلعا وروعا وألما ، كما اجتاحت المعمورة من أرض مصر حزنا وأسفا ولوعة ، فتولدت لديها العزيمة .. عزيمة القلب الذى لايعرف اليأس ، وتحجرت الدموع فى مقلتيها بعد أن تحولت لبحيرة فى مخدعها ، وخرجت مدفوعة بجرأة وقوة الحب تبحث عن حبيب العمر وشريك الحياة الذى راح ضحية الغدر والخيانة ، قلبها هو دليلها .. حبها هو عينيها التى تبصره ولاترى غيره ، شجاعتها المنبعثة من كوامنها هى التى جعلتها لا تعرف معنى اليأس البته ، كل هذا كان كافيا لأن تهتدى لجسد حبيبها وشريك عمرها الذى فاضت روحه وأصبح جسدا مسجى أمامها . حملته إلى مصر وخبأته عن أعين الناس ، وأخذت تصلى وتبتهل إلى الله أن يرد لها زوجها ويهب له الحياة مرة أخرى ، وظلت على هذا الحال تدعو وتبكى وتبتهل، حتى استجاب الله لنداءاتها ، وعادت الحياة إلى أوزوريس من جديد . ولكن لم يسعفه الوقت كثيرا فماكاد يبرح مكانه بعد حتى علم ست بعودته مرة أخرى للحياة  فلم ينم له جفن ولاارتاح له بال ولاحال مذ عرف بعودة أخيه ، ولم يهدأ حتى تمكن منه ثانية .. وانتصرت الكراهية ولكن لم يهزم الحب ، يالعجب الدنيا ، لم كل هذه الشرور ولم تقتل الوداعة فى مهدها .. وداعة الحب وجمال الإنسانية  ويدنس الثوب الإنسانى ؟ ويموت الحب وتتحجر القلوب ، إن للحياة شئون ، ولها أيضا منغصات ، وهذا هو سبيلها دائما ، الخير والشر .. متناقضان دائمى التعارك ، موزعان على كل المعانى التى تحكم النفس وتأسرها ، وموزعان أيضا على جموع الخلق من اتجاهات وتصرفات ، بنسب لايعرفها إلا خالقها ، ولانعرف لها سببا ولا نعرف لماذا اقتضت الحياة هذا النحو من الإختلال الإنسانى منذ بزوغ الحياة على أرض البسيطة .. نشر الحب وقتل النفس .. أى حب وغيرة وخير وشر .. عدل وجبروت .. سلام وحرب ، لم يقتل الحب على أرض السلام؟ لم لايدخل الحب قلوب الناس كافة؟ لم الكراهية وقسوة القلب التى حولت ست إلى شيطان فى صورة إنسان ، فسولت له نفسه هذه المرة ذبح أخيه ، وتمزيق جسده إلى قطع صغيرة ألقى بأجزائها فى كل أقاليم مصر ، لتعود اللوعة من جديد لقلب إيزيس ، وينكسر الحب أمام جحافل الطغيان فى القلوب القاسية المتحجرة التى لاتنبض إلا جحودا وكرها ، ويمضى قلب إيزيس الخالد يواجه كل هذا بنبضاته الحزينة وبزفرات الألم التى تمكنت منه ، هو ما دفعها دفعا لرحلة بحث طويلة والخروج مرة أخرى بدأب على تحرى كل شبر من أرض مصر متتبعة نهر النيل بكل فروعه العديدة وجابت الصعيد والدلتا وسيناء ، ولم تهدأ حتى عثرت عليه فى أحراش الدلتا فجمعت أشلائه وعظامه وكل القطع المتناثرة باستثناء قطعة واحدة التهمتها سمكة ، ثم ثبتت تلك القطع برباط من الكتان والشاش ، مبتكرة أول مومياء عرفت فى التاريخ ، وعاودت تراتيلها السحرية مرة أخرى ، ولكن هذه المرة لم تفلح دعواتها ولاتوسلاتها فى إعادة الحياة له من جديد ، ولم يعد أوزوريس .. إنه أبى ألا يعود ، عزف عن العودة وآثر الموت وأصبح يعرف بآلهة الموت بعد أن رفض الحياة والعودة إلى عالم مليئ بالشرور والأحقاد ، ولكنها حملت منه الأمل الطفل حورس عن طريق السحر الذى كانت تمارسه وتتسيده ، وأخفت وليدها عن الأعين حتى قامت على تربيته وأصبح وريثا لعرش والده ، فانتقم له وقتل عمه ست وانهى على براثن الشر وبؤرته الفاسدة وأصبح ملكا على أرباب العالم الأخر فقام ملكه على أساس من العدل وسيادة القانون وانتشر الخير والحق على أرض البسيطة من مصر مرة أخرى ، وانتهت أسطورة الأساطير ، ولكن لم تنته معانيها ، وظلت إيزيس بسحرها على مدى التاريخ عنوانا للوفاء والحب والتضحية والتفانى والعطاء والفداء ، ظلت نموذجا فريدا على مدى الأيام تحمى أسرتها وتحمى الحب أيضا .







وتمرالسنون  والأيام لتؤكد كيف كان حب المرأة المصرية القديمة وانتفاضتها وتفانيها من أجل الحفاظ عليه وعلى قلبها الذى تهبه لمن تحب ، كما كانت تعرف جيدا حقوقه وكيف تسعد به أسرتها ، ومن إيزيس لكليوباترا التى منحت أنطونيو الحب والرعاية والحماية ، وكذلك فعلت أيضا شجرة الدر مع الملك الصالح ، وهكذا نرى المرأة المصرية ترعى الحياة وتلملم الأشلاء وتحمي بذورالحب والرحمة والحق والعدل بوفائها العظيم . وإن كانت الشواهد الأثرية والمخطوطات الفرعونية على البرديات والنقوش على جدران المعابد والمقابر هى الأقوى فى وصف ماهية المرأة الفرعونية ، حيث اجمعت على أنها كانت أول ملكة حكمت من فوق عرش جمالها الذى تميز بجمال استواء الجسم ورشاقة قوامه .. البشرة النضرة الصافية .. العيون الواسعة الجميلة الساحرة ، والشعر النظيف المصفف ، ولها الفضل الأول فى جعل نساء الأرض يتجهون لإظهار جمالهن ليكون سلاحهن الأساسى فى مواجهة تهذيب سيطرة الرجل ومساواتها به دون مبالغة ، كانت تعلم أن النظافة نصف الجمال فكان ذكاؤها أن تحافظ عليه وأن تحرص على الاحتفاظ برائحتها جميلة طوال الوقت، أما النصف الأخر كانت تتفنن فى كيفية صونه وإبرازه ، فقد كانت بحق تجمع بين الأناقة والنظافة والجمال .. كانت لاتشبع من معدتها وإنما من شفتيها والصورة الفرعونية واضحة وتعرف بسهولة من هى المرأة ؟! هى الحبيبة والزوجة والأم والملكة الحاكمة .. هى المحبة للحياة والمتطلعة لمشاركة الرجل .. هى العاشقة التى تترك صدرها عاريا معلنة عن عشقها للحب واستمرار نبضاته متدفقة من قلبها شلالا من العشق والهوى مادامت الحياة لأنه هبة السماء ، حتى وهى ذاهبة للعالم الأخر .. كانت تراها رحلة للخلود .. تستشرف الموت بالحب .. والحب بالموت .. وترى فى الموت عالم أخر.. حياة أبدية تنطلق منها لحياة أرحب رغم مخاوفها من هذا العالم الذى لاتعرف عنه سوى أنه يعج بالأهوال وتحيطه المخاطر .



من هنا جاءت وجهة النظر فى الربط بين أول أسطورة عرفت فى التاريخ " إيزيس وأوزوريس " وأخر أسطورة فى عهود الفراعنة "عروس النيل " المرأة التى ضحت بشبابها الغض من أجل هدف اسمى .. ضحت بقلبها الصغير من أجل حبها الكبير .. لبلدها .. لمصر،  وأى تضحية  تستحقها مصر أكثر من الموت، فمن هى التى ضحت ومن هى التى أعطت ولم تأخذ شيئا ، ومن هى التى ماتت ثم عادت للحياة لتنشر رسالة المحبة والسلام وفاء لقلبها الذى عرف الحب .. الحب فقط ؟ من هى ولماذا وكيف ؟ إنها هاميس .. أخرعروس للنيل .. هامـــــــــــــــــيـس !! من هى هاميس ؟! من!!!!!!!!!!!!!
وإلى ملتقى أخر عند الجزء الثانى
مع تحياتى
عصــــــــــام


 
القاهرة فى مايو 2013



  
 
  
Arous.Al-Neel. فيلم عروس النيل    

الخميس، 16 مايو 2013

مقدمة ( الحب فى زمن الوفاء )





مقدمة

مازلت مؤمنا بان الحب والوفاء وجهان لعملة واحدة ، فالحب يجمع نقيضين قد يتنافران أو يكملان بعضهما البعض ويوحدهما معا ، كيمياء نفسية معقدة وصعبة ، فلو توحدا واكتملا وصارا شيئا واحدا ينجم عنه تولد مشاعر ثم يوهجها فى النفس ، وإثارة احاسيس تنتفض لها الجوارح ثم يثبتها فى القلب ، ويبقى الوفاء موقوفا على مدى صدق هذه المشاعر وتلك الاحاسيس ، والقلوب يختلف بعضها عن بعض كما تختلف وجوه الناس ، وكذلك الحب أيضا يأخذ أشكالا مختلفة وفقا لإرادة الحب لاإرادة الناس . فالحب أمر نسبى له سماته وأحواله ويختلف من شخص لأخر ، وكما يراه البعض جميلا والنفس تهواه وتتمناه وتعشقه ، يراه أخرون فى الخوف والشك والكراهية والحقد والغيرة ، إذن لاسعادة دائمة فى الحب ، ولاتوجد سعادة مطلقة فى الدنيا ، فحتى القليل من السعادة ، لاتستمر كل الوقت ولا طول العمر ، وصفه شكسبير بأنه أعمى وأن المحبين لا يدركون مدى الحماقة التى يقترفونها ، فالحب قد يأتى فى الوقت المناسب أو فى الوقت الضائع أو قد لايأتى ، وإن جاء قد يأتى للشخص المناسب أو للشخص غير المناسب ، والإنسان المحظوظ فى الدنيا هو من يصادفه حبا حقيقيا وصادقا ، فيختار قلبا واحدا من بين قلوب ونفوس الناس وإن تعددت ، فتتوحد مشاعره مع من أحب ويصبحا قلباً واحساساً واحداً .. وبما أن الحب حالة تهبط  فجأة ودون ميعاد على صاحب الحظ  قد يضحى من أجله بأى شيئ أو بكل شيئ من أجل شيئ قد لا يعرف مصيره ولايفكر فى عواقبه ، فهو يعيشه لحظة بلحظة ، أحيانا يحدث له خفقانا بالقلب يجعله يعلو ويهبط .. يضطرب ويهدأ ، أحيانا يأتى بشعور الانتشاء ، وأحيانا أخرى يغلب عليه التوتر الشديد ، قد يخرج منها بسلام أو لايخرج ، فهل نسأل عنه من جربه أو من يبحث عنه أو من يجهله أو يتجاهله . التجارب مختلفة والنتيجة واحدة ، أن الحب يجمع السعادة والتعاسة والألم فى آن واحد . غريب وعجيب أمر هذا الحب !! فهوالعذاب الجميل ، والمعاناة التى تأنس له النفس وتتوق إليه ، ولأن القلب يستمد دقاته من قلوب الأخرين غالبا لا يدرك مافى قلوبهم .



دائما ومع دخول الربيع أتذكر كل النقط الجميلة والمؤثرة فى حياتى ، لأن الربيع عندى يعنى بدء دورة حياتية جديدة فى كل شيئ ، ففيها تبدأ الإنطلاقة النفسية الرحبة التى تستجدى السعادة وهنأة البال ، وفيها أيضا تستجلب الكتابة عندى نوازعها فى محاولة استعادة نشاطها السحرى من جديد ، تأتى فتأتى معها أسراب من الأفكار الحافلة بالفوضى المنظمة ، العازمة على هجرة خضراء عشوائية الخطى لاستعادة نسماته من جديد فى مخيلتى ، حالة من الإتزان الشعورى كانت تثير عندى إحساسا من التفاؤل والشجن والحب والنقاء ، وأطيافا كثيفة من رغائب وأحاسيس كانت تتولد مع قطرات الندى ، وزقزقة العصافير ، وزهوة بهجتها على الأشجار ، أعانق بها شمس الأمل بصفاء وزرقة سمائها ، وأمرح فيها على كسوة البساط الأرضى .. شديد الإخضرار ، لازلت أتذكر كيف كنت أتحول سريعا إلى هذه الحالة بعد الوقوف الطويل أمام قوافل الشتاء التى كانت تدفعنا دفعا وتجذبنا انجذابا ، بين ليل وجنون ، أمطار وغيوم ، ورياحات عاتية ونسائم كائبة ، كامنة فى منعطفات الشتاء الكثيرة فى حياتى ، فإذا بى أبددها لتتلاشى ويسكنها الأمل ويتجدد فيها الحياة بعين باسمة، وقلب واع، ووجدان يتحدى الخطر ، فهى كالعود الجاف الذى تنبثق عصارة الحياة منه ، وحلكة الظلام التى تتسلل خيوط النور الرقيق فيها ، فلادوام لحزن أو قلق أو خوف ، إن الأمل إرادة حياة ، فى الربيع تلتصق فى كيانها وتسرى فى جسدها وعقلها ونفسها وروحها ووجدانها لتجعل منها طبيعة خلاقة فيها مافيها من جمال فطرى تؤثر النفس التواقة ائتناسا وبهجة وسعادة . أتذكر أننى يومها بدأت كتابة هذه السلسة التى تولدت من رحم هذه النفسية المعالجة بنسمات الربيع الرقيقة التى تلفح الوجوه الضاحكة .. والنفوس المبتسمة ، فأنتجت من الحب وفاءه ، ووقفت عند اقترانهما معا .. الوفاء والحب ، تابعنى فيها من تابعنى ، وشجعنى فيها ماشجعنى ، حتى عشناها تجربة بحلوها ومرها ، نعود لبعضنا البعض فى قيمة أحداثها ومواقفها ، على أن بدايتها لم تكن سوى فكرة شريدة كتبتها وأنا أعزف على أوتار ماأحب أن أتخيله وأتمناه ثم أنزفه على باب الذكريات . حتى لاقت استحسانا من متابعيها ، فتشجعت فى جرأة متناهية على خلق مساحات أكبر وأحداث أكثر ، فتوالت التشريدات من واقع نفسى أتخيل وأكتب عن نفسيتين جمعت فيهما كل كوامنى ، وكنت أنشر كل جزء مع بداية كل شهر حتى أدركت الفصل الأخير وكتبته ولم أنشره ، ثم تفرق الجمع وباعدت بنا المسافات ، وتوقفت عند وضع اللمسات النهائية لرومانسية الحبكة الدرامية التى ادخلت نفسى فيها حشرا ، البعض كان يريدها نهاية سعيدة لقصة حب ناجحة على طريقة الأفلام المصرية ، والبعض الأخر لم يتحمل فكرة البعاد أو الفراق ، وآثر ألاأنشره ، أرادوا ألا تنتهى القصة الجميلة بألم وفراق وأن أتركها لخيال كل من يقرأها حسب تقدير خياله للنهاية . أتذكر جيدا على هذه الخلفية كيف كانت علاقاتى بالكثير من هواة الأدب والفن ممن كانت لهم رؤية وفكر .. يكتبون ويحللون ، فكثيرا ماكانت تدور حلقة النقاش معهم عند نشر كل جزء ، ولَكَم استفدت منهم ومن نقدهم ورؤاهم الكثير ، ولكن بقيت محصورة فى حدودهم ، ولم يقرأها غيرهم ، ولطالما تمنيت أن يقرأها كل أصدقائى حتى يعرفوننى من كلماتى ، حيث كنت أغوص فى أعماق نفسى غوصا عبر خيالى الرحب واستحضر مايختبئ فيها وألقيه على شاطئ الأوراق ومداد الكلمات بكل تفاصيلها ، لدرجة أننى لم أجد متعة حقيقية فى كتاباتى المتنوعة بقدر ماوجدتها عند كتابتى لهذه السلسة الجميلة فى تقدير معنى الوفاء ، وكيف كنت أراه أنه من أرقى أنواع الحب الكثيرة والمتنوعة ، وبالطبع ليس هناك أفضل من أن تعشق أنثى ، وليس هناك أجمل من أن يكون عشقك لها حياة ، ربما الصورة الذهنية للحبيبة التى تتمناها النفس غير محققة فى الواقع ، ولكن الخيال الخصب يستطيع أن يجسدها بكل سهولة ويسر ، من هنا جاءت أنثى الكلمات واثقة الخطى ، بإطلالتها المبهجة وتصرفاتها الذكية فى سمعى صوتا دافئا حانيا مع انبعاث ضوء خافت بسحر الليل .. إمرأة قادمة من الماضى من زمن الوفاء إلى حاضرة التشوق بعطش الروح .. تواقة للحب برغبة عارمة للسعادة . أضاءت بصوتها المساحات الكبيرة من ملامح حلمى القديم الذى كنت استشرفه بتأملاتى الدائمة وأحلام اليقظة ، وفجأة ودون ميعاد حقق خيالى المعادلة الصعبة ورأى كيانا حيا من صنع الكلمات يحقق لى عودة الحلم بصورة أخرى بديلة ، صورت فيها لنفسى عند البدء أنها مجرد هواجس داعبتنى أردت من خلالها تفريغ الملل من حولى وقطع المسافات الطويلة اللاهثة وراء سراب والقبض على الحزن وطمس أعماقه وسكب مكانه الفرح ، فاذا بتدفق هذه الطلعة المبهرة يأتى كانحدار جدول الماء فوق أرض عطشى ، ليؤكد أنه هو ذلك الصوت الذى طالما كنت أحياه فى أحلامى ، وهى نفس الضحكة التى بقيت تزهو فى خيالى ببوح وجدانى عميق طالما رجوت أن ألقاه فى حياتى . إنها انثى الصوت والضحكة التى عاشت فى كوامنى كحلم العمر بنفس ظمأى عانت سهر الوحدة وسهد لياليه الطويلة تراوحت سنواته مابين هدم الحواجز الزجاجية التى كنت أرى حياتى من ورائها باهتة لامعنى لها ، وبين ارتفاعها الشاهق فى واقعى فى انتظار أن يبقى الحلم يوما حقيقة .


استخدمت المواقف الحوارية استخداما جوهريا فى بعض المواقف بينى وبين بطلة الحدث فى البناء الدرامى للموضوع غير المخطط له ، فكانت عبسية الأحداث عنوانا لأفكار تتسم بالعفوية فى الكشف عن دواخل شخصيتين كنت أنا أحدهما ، فكان طبيعيا أن أفصح عما فى نفسى بمنتهى الطلاقة والسهولة ، أما الطرف الأخر استوحيته من نسج الخيال واخترت شخصية فرعونية بفرض التوقع  النسبى لدى البعض على رصد الأحداث على أنها حقيقية كُتبت عن إنسانة موجودة بعينها أردت بذلك درء الشبهة نهائيا عن هذا الفكر وخاصة أننا كنا نتعامل من وراء جهاز لانرى فيه أنفسنا فكانت هناك اتفاقات واختلافات فكرية تتسع وتضيق حسب المكون الفكرى والوجدانى لكل الشخوص الموجودة ، وللأسف كان يحدث الكثير من الاختلالات فى الرؤى فى نوعية علاقات التواصل الفكرى والاجتماعى والأدبى بمنطق أننا نكتب فى مدونة متاحة للجميع ومفتوحة فى تحديد شكل العلاقة وفقا للاهواء، لذلك ذهبت لأبعد نقطة فى اختيار زمن ومكان الحدث ، لم أجد أمامى أفضل من العصر الفرعونى السحيق لإعجابى به أولا ولبعده عن زمن السرد ثانيا ، والحضارة المصرية القديمة بكل مكوناتها كشفت بسهولة وبإدراك ووعى أنها كانت أعمق إدراكا للطبيعة ، فجعلت المرأة مقرونة بها بل هى الطبيعة نفسها فهى القادرة على استمرارالحياة والنماء والبشرية ،  فالمرأة الفرعونية كانت تمثل الطبيعة فى صورة إنسان  وكما قدس المصرى القديم بعض مظاهر الطبيعة – رغبة ورهبة – كالشمس والقمر والخصوبة ، قدس أيضاً المرأة ورفعها أحياناً إلى مراتب الآلهة مثل أسطورة الإلهة إيزيس ، من هنا جاءت فكرة الكتابة عن الوفاء والحب ، إيزيس كانت رمزا لهما ، وهاميس الشخصية المختارة بعناية لتكون بطلة الأحداث مستوحاة من أحداث الفيلم السينمائى " عروس النيل " كانت تمثل نقاء الحب وعفويته حيث لقت حتفها بين أحضان النيل حبا وفداء وتضحية من أجل الأخرين ، ثم جاءت لتعلمنا كيف يكون الحب وماقيمة الوفاء فى زمن قل فيه الوفاء وتميز بالجدب وقلة العطاء وضياع المبادئ وأخيرا الحب ، حيث تظهر لى من خلال رؤية حقيقية ، جاءت برسالة فتلاعبت بها الأقدار ، أحبت وعشقت فعانت وصدمت وخافت وارتابت ، إنها فتاة فى مقتبل العمر، تؤمن بالعواطف ، وفى نفس الوقت تهابه ، تحس أنها لا تستطيع أن تعيش من غيره ، ولكن بعد أن جاءها حيرها .. عاشت مرتابة خائفة من شيئ ما أذاب فى فؤادها كل لحظة هناء عاشتها أو تريد أن تعيشها مع من أحبته بإرادتها لا بإرادة أهلها وعشيرتها كما سبق وأن فعلوا بها . خوفها أصابها بنوع من القلق المدمر، تريد أن تطمئن قلبها كى تهدأ وتستريح ، ولكن لاتعرف سبيل الوصول إليه ، ولا من أى طريق تذهب ، فيأست من مجيئه ، كانت لاترتاح هنيهة إلا ويزحف عليها علامات الحيرة والشك مرة أخرى أن سعادتها ستدوم ، فيتولاها القلق المر ولايتركها ، وكثيرا ما ظنت أن العيب فيها ، فعانت وساءت نفسها كثيرا ، ربما كان ذكاؤها الشديد وأنها دائمة التفكير والتأمل سببا لهذا الشقاء ، أتراها لو كانت أقل ذكاء وأقل إمعانا فى التفكير والتأمل، هل ستكون أسعد حالا، وأسرع تصديقا لمخالفة مخاوفها ، وأقرب إلى الاستقرار والسعادة التى طالما كانت تنشدها . كانت أحيانا أخرى تتهم نفسها بالتقصير ، وكانت ترى نفسها أنها لم تستطع التوفيق بين حبها وحياتها ، وبين حياتها وحياة حبيبها لأنها من زمن وهو من زمن أخر ، ولذلك ارتابت كثيرا فى كيفية تأقلمها مع حياة لم تعشها بعد ولم تعتد عليها ، واحتارت كثيرا فهل كان من السهل عليها نسيان ماضيها وحياتها ، هل أهلها سيتركونها تعيش وتحب كما أراد قلبها ، وهل لو حدث ذلك وباشرت حياتها الجديدة هل ستستطيع التأقلم مع الناس وهذه الحياة ، لذلك كله عاشت فى ريبة وتوجس وخوف أن تغرق فى بحر لا تجيد السباحة فيه كما غرفت من قبل فى النيل وتياراته . ظلت الهواجس تملكها وتنغص عليها حياتها ، وبقيت أسيرة ميراث أهلها ، وسؤالها الدائم الذى كان يؤرقها ماالذى اقترفته فى حياتها حتى تصل إلى ماوصلت إليه من تعاسة وسوء حظ ، وما ذنبها حتى ترث مالا ذنب لها فيه ؟ ، وأخذ الخوف يتولاها من جديد ، خوف مرير انسحب على كل شيىء فيها بل امتد فى حياتها كله ، مالبث أن تحول إلى صراع نفسى عميق اعتادت أن تحدث بها نفسها عن مخاوفها وهواجسها دون أن تُشعر حبيبها بشيئ منها ، كانت تبدى له مابداخلها من لمحات السعادة فقط إذا ماأحست بها ، ولكنها كانت تضمر فى نفسها لمحات الشقاء إذا قاست منه وما أكثرها . هكذا كتبت وأفضت كما أردت أن أكتب دون أية قيود فكان منطقيا ومع خلق هذه المساحات الوهمية أن أتحكم أكثر فى التنقل بين هذه الأزمنة المختلفة البعيدة والمتباينة عبر آلية التذكر عند البطلة ووصف حالتها النفسية بمنتهى الدقة من ناحية وعبر الحوارات النفسية مع نفسى والتى كنت أجيدها إجادة تامة وأكتبها ببساطة فى حوار درامى من غير افتعال من ناحية أخرى ، فعبر هاتين الآليتين يتم استعادة حوارات قديمة فى زمن السرد الراهن . لكن يكفينى أننى  كنت صادقا  وواضحا فيما أكتب ، وأن ماأكتبه هو تصوير لحالة نفسية بحتة وليست مذكرات لأحداث حقيقية، لم يكن القصد منها النشر بقدر أن تكون تنفيسا عن حالة رومانسية خالصة هى حالتى .


والأن سوف أترككم مع عشرة أجزاء ، هى رحلة رومانسية سريعة عن تصورى للحب كما أراه ، وللوفاء كما ينبغى ، أتمنى ألا أكون ضيفا ثقيلا على حضراتكم ، مع خالص شكرى وتقديرى لكم جميعا .
مع تحيات : عصــــــــــــــام 

                                                             القاهرة فى مايو سنة 2013









الحلم ( خلى بالك من زوزو )