music

الخميس، 17 أبريل 2014

وفاء إيزيس وعودة هاميس ( الجزء الرابع )


المرأة عندى لها مكانة كبيرة ، كيانها الأنثوى دائما مايأخذنى لأفكار جديدة بمنطلقات عديدة ، أحاول أن اكتشف من خلالها البعيد فى كينونتها وطبيعتها التى أراها إحدى عجائب الدنيا ، فالله سبحانه وتعالى أودع فيها ملكات وأشياء وصفات بطبيعة خاصة فى حاجة إلى تأمل دائم وفكر مستحوذ ، فمنذ بزوغ التاريخ الإنسانى كانت الحضارة الفرعونية القديمة أعمق إدراكا لطبيعة المرأة الخلاقة التى ربطت قيمة التفوق الزراعى بمبدأ الأمومة ، ولما كان العطاء والخصوبة والنماء والرحمة والوفاء والعدل والبقاء من سماتها ، أصبحت المرأة المصرية مخزونا للحضارات ، وأقتُرنت بالطبيعة فجعلتها فى منازل الألهة ، مما اكسبها قدسية ومهابة ، وأصبحت فى الكون سرا من أسراره ، ثم أختلفت الأجيال التالية فى تقديره ، فتحول السر إلى لغز ، واللغز إلى وصف ، وتنوع الوصف بأنها واجهة الكون الجميلة ، وأنها تمثل مباهج الحياة ، وصيرورة الدنيا الحزينة ، وأنها هى نصف الحياة أوالجنس الأخر ، أوالجنس الضعيف ، أوالجنس فقط ، والمرأة ليست جنسا رغم أنها تملكه ، ولكنها شخصية وعقلية أنثوية شديدة الذكاء ، متفجرة بالحيوية ، حساسة بطبعها ، مرهفة فى تكوينها ، ناضجة بالفطرة ، عاطفتها تغلب على حسها وذكائها  ، معطاءة دائما عند ملتقيات الطفولة والشباب والأمومة ، وهى منبت الحب ، فالحب أمرأة .. والعذاب أمرأة .. والحياء أمرأة .. والإحساس أمرأة .. والمشاعر أمرأة ، ولاأكن مبالغا إن قلت إنها مستحوذة على نسبة تسعة وتسعين فى المائة من وجدانيات ومشاعر العالم والواحد فى المائة الباقية فى الرجل هى مخصصة لها أيضا فهى التى تحركها كيفما تشاء ووقتما تحب ، ومن عجائب المرأة أنها محيرة للرجل فى تقديره لها ، وفى الصورة التى يحب أن يراها عليها .. هل هى حواء العارية .. أم الأم .. أم المربية .. أم العاملة .. أم المنتجة .. أم المثقفة .. أم الفاتنة .. أم الجذابة .. أم الجادة . وموقف الرجل من المرأة يدل على هويته تجاهها ، فهو فى مواجهتها إما عدوها ، أو مناصر لها ، أو من عشاقها ، وهذا يدل على أن المرأة بفطرتها وتركيبتها الفريدة تجعل الرجل طفلا كبيرا أمام عنفوانها لقدرتها الشديدة على الجذب ، وهذه حقيقة أثبتتها تجارب التاريخ وسجلتها صفحاته فى العديد من المواقف التى حفلت بدور المرأة فى تغيير مسار ومجريات صنع التاريخ وماترتب عليه من أحداث من خلال علاقتها بالرجل ووجدانياته . فكل مايتعلق بجمال وروح وعقل وقلب ووجدان المرأة مثير للغاية بل ومستحوذ على كل خلجات القلب وتلابيب العقل المهتم بشئونها  وكيانها، وهذا ماجعلنى أمعن النظر وأعيش منظومة التأمل والفكر ، بأسهاب ورحابة واتساع بغية الوصول إلى ثقافة خاصة عن كل مايتعلق بماهية المرأة أومكنون الحب .

مضت هاميس ولم تأت وبقيت أنا على حالى منتظرا ، تحكمنى تخيلات هاجرة بالنهار وأحلام منسربة فى المساء ، استنشق فيها عبق رائحة عطرها الأسطورى النفاذ كل ليلة وأمنى نفسى انها ستأتى فى الغد ، حتى تشعر أجفانى باسترخاء ، ثم بجسمى كله يسترخى واستسلم لنوم عميق بأحلام وردية جميلة ، وفى إحدى الليالى رأيت فى منامى حلما غريبا ولكنه كان رائعا بكل ماتحمله الكلمة من معان ، لازلت أذكر تفاصيله الدقيقة ، رأيت كما لو أنى جالس على حافة النيل وانشق النهرعن درج سيل صاعد من أسفله إلى أعلاه ، ثم حدوث فوران شديد أعقبه زبد أبيض شديد النقاء وماهى إلا لحظات حتى رأيت مشهدا مهيبا ، لم أر مثله قط ، رأيت موكبا ملكيا فخما عظيما يصّعد من جوف الماء ، ثم فوجئت بملكة النهر تتوسطه حاملة فى يدها صولجانا ، محمولة على مركب الشمس بين حملة المشاعل وقارعى الطبول لها طلعة مهيبة ، بقوام ممشوق فاضح التفاصيل ، تتحكم فيهم بإشارتها . أخذت تواصل تقدمها حتى بلغت الشاطئ الغربى من النيل حيث كانت وجهتى ، توقف الموكب وتقدمت الملكة بمفردها صاعدة على الحافة التى أقف عليها حتى وصلت على بعد خطوة واحدة منى ، ثم مدت يدها إلىّ ، لم أكن مصدقا لما أراه وكنت لا أعرف ماذا أقول لأن لسانى ألجم عن الكلام وعقلى توقف عن التفكير ، ثم دعتنى أن أمضى معها ، وبلا أدنى تفكير ولا تردد شددت قامتى ومددت لها يدى وسرت معها منقادا وسط الموكب ، ولم أشأ أن اسألها مستفسرا عن المكان الذى تقصده ولماذا ؟ ولم أدر مايدور حولى ، حتى الموسيقى المصاحبة للموكب لم تبلغ مسمعى ، أرى وجوه الناس تنظر نحوى عليها علامات الاستغراب والدهشة مستفسرين عن شخصى ، من ذا الذى نال رضا الملكة لدرجة أنها ذهبت بذات نفسها ومدت يدها إليه ؟! ، مستكثرين ماأنا فيه ، وللحق إننى فى وضع قد يتمناه أى شخص على وجه الأرض ، فأنا أصبحت نديم ملكة .. وليست أية ملكة بل ملكة فرعونية لها من المهابة قدرا ، ومن الجمال ميسما ، ومن المكانة حسنا وبهاء . بلغ الموكب الموضع الذى جاء منه وسرعان ماتغير شكل النهر مرة أخرى ، ولكن هذه المرة على شكل دوامة حلزونية كبيرة محدثة دوى هائل تأخذ أمامها كل شيئ لأسفله فى لمح من البصر ، كنت أنا وهى نتوسطه تماما ، بدأت أشعر بخوف غامض ، أخذنا الدفع بقوة هائلة لداخل النهر وبسرعة رهيبة لأسفله الذى امتلأ بالزينات المحاطة بالمشاعل ، تفوح منه نسمات من المسك ذكية الرائحة عبقة تتهادى مع الموسيقى المعبدية من كل جانب . بدأنا نغوص فى المياه والمشاعل المحترقة تغوص هى الأخرى ولكنها لم تطفأ ، غصنا فى الماء من خلال سرداب كبير يلف المكان حتى بلغنا عمقه ، خفُتت الإضاءة حتى تلاشت تماما ، وسرنا فى ظلام حالك بلا توقف أحسست بأننى ارتعد من داخلى فأزدت رعبا على رعب ، حتى لمحت شعاع ضوء آت من بُعد يضع نهاية هذا السرداب الضخم ، جعلنى فى وضع أفضل فى رؤية ماحولى ، إلا أننى فوجئت بأننى أسير وسط الموكب وحدى دون الملكة ، لقد اختفت ، أحسست بالإضطراب بعد أن فقدت لحظات الاطمئنان التى كانت تُمنح لى فى وجودها ، فهى من اللاتى تجعلن المرء يضحى بكل شيئ حتى حياته من أجل الحصول على نظرة واحدة من عينيها الفريدتين ، عبرتُ السرداب وعم الضياء فى كل مكان فوجدت نفسى داخل بهو ملكى كبير ، شديد الفخامة ، رائع الجمال ، جدرانه كلها مزدانة بالرسوم الفرعونية بألوانها السخية الصريحة وكانت زهرة اللوتس عنوانا لكل الرسومات التى كادت من دقتها وروعتها أن تنطق ، حوائط الصرح من الجرانيت الوردى تكاد ترى نفسك فيها من شدة نقائها ، أما الأرضيات كانت من الزجاج الأبيض كأنه الماء فى صفاء لونه ، ومن تحته لجة من ماء النهر وعلى جانبى البهو وجدت رجالا كثيرين وسيدات بلاط القصر مصطفين يوجهون لى التحية ، وفى نهاية البهو وجدت الملكة تجلس على عرشها مبتسمة بدت فى أجمل زينة ، ترتدى حلة مصنوعة من الرقائق الذهبية وعلى رأسها تاج مرصع بجوهرة من الزَبرجد الأحمر على هيئة أفعى وبقية التاج مطوق من الياقوت الأخضر على هيئة زهرات من اللوتس ، وانساقت قدماى صوب مكانها بعد أن وجدت نظرات من حولى تدفعنى لذلك ، كنت اشتم رائحة البخور الملكية الساحرة تزداد كلما دنوت منها أكثر فأكثر ، أخذنى الجو الساحر وبدأت أشعر بالغبطة والأمتنان ، حتى وصلت أخيرا إلى حيث تجلس الملكة مدت لى يدها الملساء الناعمة فقبلتها ثم دعتنى للجلوس بجوارها ، فجلست عن يمينها وكانت حريصة أن تمدنى من جانبها بين الحين والأخر بابتسامة رقيقة ، ثم سادت لحظات من الصمت ، أعقبها حركة من يدها للحاجب الواقف على يسارها تعطيه أمرا ببدء مراسم الاحتفال ، ثم بدأت الراقصات فى التدافع من جنابات البهو يمينا وشمالا يتراقصن ، والقينوات الصادحات يطربن على نغمات الموسيقى المعبدية فى جو اسطورى ساحر يملأه رائحة البخور العتيقة ، شعرت بالفخر والعزة وكان ذلك كافيا بأن يدخل السرور والفرح إلى قلبى .



انتهى العرض الراقص بعد أن بلغنا الهزيع من الليل ، التفتت الملكة لى وعلى شفتيها ابتسامة عريضة وأشارت لى بيدها لتدعونى إلى عشاء فاخر ، حافل بكل مالذ وطاب من مائدة لم أر مثلها فى حياتى ، لم أشأ سماع صوتها حتى الأن ، إلا من إيماءات وإشارات وابتسامات ، لم تنبس بكلمة منذ أن رأيتها ، ربما الملوك لايتكلمون ، بل يأمرون فقط ، ولكن ليس لى أن أشغل بالى بهذا ، يكفينى أننى عشت فى ضيافة ملكة فرعونية اسطورية ليلة تساوى عمرا ، كانت تقدم لى الطعام بيدها ، وشاركتنى نخبا من الفاكهة لم أذق بمثل طعمه ولا حلاوته ، ثم سمعت صوتها لأول مرة تعطى أوامرها بتجهيز غرفة الضيافة لتكون مقر إقامتى ، وبعد تجهيز الغرفة ، استأذنت الملكة فى الانصراف على وعد باللقاء فى الصباح ، ولم تمهل الصباح أن يأتى بل أتت هى بعد أن أمرت بإطفاء المشاعل واستقر الظلام بالغرفة الذى أخذنى فى دوامة من الخوف ، ارتعدت له مفاصلى وأنا لاأرى شيئا ، بل أحسست بثمة أشياء تتحرك من بعيد كالأشباح ، وسمعت أصواتا وارتطامات ، ووقع أقدام تقترب وتشق عباب الظلام بحفيف خافت وأنا ارتجف وقلبى تزداد خفقاته وفجأة رأيتها بعد أن أبرقت شمعة قنديلية من قنينة ذهبية ووقعت عينى عليها وكأننى أراها لأول مرة ، بل شعرت بأننى لم أر إمرأة بهذا الجمال قط من قبل ، أقبلت فى زينة تخلب الألباب ، بدا وجهها عجيبا .. بخصلة الشعر المتهدلة على جبينها وأهدابها السوداء الطويلة ، وأنفها الأشم المستقيم وشفتيها الرقيقتين ، تسدل عليها ثوبا من الشفاف الفضفاض أحمر اللون يكشف عن جسد حورية ممشوقة القوام .. متألق فى تفاصيل كل شيئ ، تفيح منه روائح عطرية نفاذة ، تقدمت منى قليلا ثم وقفت وأرسلت نفسا رقيقا يتضوع كعبير الزهر ، أحسسته بشدة عندما تقدمت خطوة أخرى قربتى منها أكثر حتى أصبحت رأسى فى موضع صدرها وسمعت ضربات قلبها تنتفض ، ثم رقدت كالعصفور بجانبى على حافة السرير والتصقت بى ، ومدت أنامل يديها فى حنان ورفق وطوقت بها وجهى ثم دستها فى شعرى ، وأحسست بشيئ كأنه النسيم يهب بطفراته ويمس وجهى فى رفق ويداعب شعرى فى حنان .. أغمضت عينى من فرط إحساسى المتدفق من النشوى ثم فتحتهما فى هدوء حتى انتبهتُ ، وجدتها تنظر إلىَّ فى تأمل ، كأنما تحاول أن تكتشف مافى أعماقى ، أعتدلت فى جلستى وأثرت الصمت المتعمد حتى أكبح دفعات النشوى المتوالية الممزوجة بالخوف ، فكان لابد من رفع التكلفة بعد أن أصبحنا بمفردينا ، ولكن لم أجد فى نفسى الجرأة الكافية ، حتى أقنعت نفسى بأن الأمر لايحتاج لجرأة أو شجاعة ، فهذا الحياء سيذوب فى ثانية لو بلغ مابداخلى حنجرتى وخرجت الكلمات إلى لسانى المعقود وتكلمت ، استجمعت كل قوايا وقلت لها هامسا والعرق يتصبب منى : سيدتى هل لى أن أتكلم دون تحفظات فلدى الكثير ماأريد أن أقوله وأعبر عنه ، استدارت الملكة وابتسمت وقالت : لاتشغل بالك وتعالى معى ، قلت إلى أين ؟ قالت : هنا لاتسأل عن شيئ . قادتنى على ضوء الشمعة إلى حجرة صغيرة تتوسطها بركة مملوءة بمياه حارة وحولها مايشبه المصطبة ولكنها ساخنة وبخار كثيف كالضباب يملأ كل المكان بعبق روائح عطرية مثيرة . ودون أن تقول شيئا نزعت ملابسها ، ثم نزعت عنى ملابسى إلا مايسترنى ، بعد أن ظهرت علامات الضيق والضجر على أوداجى بحمرة .. حياء وخجلا . أومأت برأسها متعجبة من تصرفى التى رأت ألامبرر له ، ثم طلبت منى الاستلقاء على فوطة كبيرة نقلت حرارة المصطبة إلى جسدى ، وطلبت منى أن أغمض عينى ففعلت ، وبدأت تدلك ظهرى بأصابعها ، شعرت أن كل الهموم التى عرفتها فى حياتى بدأت تتلاشى من كل خلايا جسدى وتختفى فى البخار المنقشع السارب إلى الخارج ، بدأت أشعر بنعاس يطبق على جفونى ويطرق عليها بشدة حتى تغفو ، ولم أدر بنفسى ودون أن أشعر وجدت نفسى قد انتقلت إلى غرفة أخرى واسعة ، أساسها وثير، لم أبذل مجهودا لكى أعرف أننى فى مخدع الملكة ، الروائح العطرية الملكية تفوح من جنباته لتملأ المكان كله ، وعلى سريرها الكبير دعتنى أن القى عليه جسدى . تلاقت أعيننا وابتسم كلانا وكأن كل منا سمع ماكان يدور بخلد الأخر ، ولم أكن أشعر بدوار كما كنت أحس أو رغبة ملحة فى النوم كما كنت أشعرعندما بدأت تقبلنى بحرارة ، انتابتنى حالة من اللذة لم أكن أتصورأن الدنيا تختزن مثلها أو إحساس لم أكن أتخيله إلا فى الجنة فقط ، كل قبلة من شفتيها .. كل ضمة لصدرها .. كل مرة غاب وجهى فى شعرها ، أحس بعمق تدفق المشاعر التى تتحول لطوفان يهدهدنى ، وكان بيننا حديث ذو شجون ومناجاة عذبة لاتقاوم من بريق عينيها وسحر شفتيها ودفء جسدها، لم أذق مثله قط فى حياتى ، ورحنا فى دنيا غير الدنيا .





وفجأة دق جرس المنبة ، مددت يدى لأسكته فقد كانت رناته كافية لأن أفيق مما كنت فيه ، واستيقن أننى كنت أحلم ، فاستيقظت وقفزت من فراشى وأنا شبه مجنون وبى من الشوق واللهفة لهاميس مالم أشعر به نحوها بهذا الشكل من قبل ، فقد رأيت فى منام هذه الليلة ملكة النهر.. رأيتها وأنا نائم بوضوح ، وبتفاصيل كأنها الحقيقة ، فكيف أحُرم من هاميس وأنا فى اليقظة وتتلاشى صورتها من عيونى . إننى أزداد شجونا على شجون . ومع مرور الأيام والليالى تحولت أحلامى السعيدة إلى نوم ساهد أصحو منه كل صباح بعناء بالغ من الهواجس التى انتابت أحلامى وجسمت عليها ، أتلفت حولى مسحا لكل أركان الشقة ، لعلها أجدها وأراها ، ولكن لم تأت . عشت كل يوم على أمل يتولد مع قدوم الفجر الجديد بأنها ستظهر فى أية لحظة ، أمل يطيب خاطرى بأن حضورها المفاجئ سيكون مثل اختفاءها المفاجئ يأتى بين لحظة وبرهة ، وأنى سأجدها حتما أمامى فجأة ، ظل هذا الأمل يراودنى ويثير فى نفسى الفضول ويجعلنى متعلقا بها منتظرا ، فلاشيئ فى هذه الدنيا يهمنى سوى رؤيتها مرة أخرى حتى ولو لمرة واحدة أخيرة ،  صورتها لاتفارق خيالى ليل نهار ، وكثير ماكان يضيق صدرى عندما تحدثنى نفسى بأنها لم تأت أبدا ، وأنها مجرد حلم كالأحلام مايلبث أن ينتهى عند الصحوة ، فأصاب بخيبة الأمل ، وأعود لأدراجى بإحساس متبلد يسرى فى كيانى تحفه الكآبات ، تنامى أكثر مع استمرار تغيبها غيرالمبرر كلما تذكرت وعودها التى قطعتها على نفسها وحنثت فيها ،  وكنت أحيانا أوجد لها مبررات كافية وأقول لنفسى ربما فارق الزمن بين حياتى وحياتها هو السبب ، قد تكون الدقيقة بساعة ، والساعة بيوم ، واليوم بأسبوع ، والأسبوع بشهر ، وعندما يتملكنى اليأس أقول لنفسى لعلها نستنى ، ياترى ماالذى منعها عن المجيئ ؟ لماذا لم تحضر ؟ ياترى هل هذا كان حلما وذهب كغيره من الأحلام أم ماذا ؟ إننى لم أعد أميز مابين الحقيقة والحلم .. الوجود والوهم ، ثم يعود الأمل ويشع فى نفسى من جديد كلما تذكرت بأنها كانت تمضى دون استئذان وتأتى بلامقدمات ، وأتذكر كم كانت تساوى اللحظات التى أمضيتها معها ؟! كانت تساوى عمرا آخر .. ودنيا غير الدنيا ، غريب أمر هذا الحب الذى يجذبك إلى شيئ لاتعرفه ولاتستطيع مجاراته أو مقاومته ، هل هو جمال وجهها أم روعة جسدها الممشوق على غصن بان أم أنوثتها الطاغية أم جمال عينيها الواسعتين ومايتسمان بهما من قوة وحنان ، أم عذوبة ابتسامتها ورقة ضحكاتها ، أم خفقان قلبى لدموعها وروعة ورقة حديثها الممتع أم حدوتتها العجيبة ؟ كنت أراها غير كل النساء اللاتى عرفتهن فى حياتى ، فهى أرقهن قولا ، وأحرصهن مشاعرا ، وأجملهن روحا ، وأشدهن فى الوصول إلى قلبى ، وأتعجب من حالى فقد عشت فترات طويلة لم أكن أعرف هذا الشعور الغريب ، فكل ماكنت أشعربه نحو من عرفتهن قبلها لايعدو المودة فقط وكل علاقاتى التى نشأت بينى وبينهن تنتهى بصداقة حقيقية ، ولكنى لم أعرف الحب بعد ، كنت دائما أسخر ممن يزعم أنه وقع فى هوى الحب وكنت اعتبره نوعا من أنواع الضعف وعدم القدرة على التماسك أمام حيلة المشاعر التى لابد أن يحكمها الإنسان ويسير دفتها كما يريد ، والأن أجد نفسى ضحية له فريسة لاتملك حولا ولاقوة ولاأعرف كيفية التصرف ، لقد علمتنى تجربة غيابها قيمة الحب ، حتى فى عذابه ، وعلمتنى أن جمال البعد غالبا مايتناسب تناسبا عكسيا مع جمال القرب ، وأن الله يوزع المزايا على الناس بقدر ، وهاقد حدث وجاء الحب وسكرنى وانتشيت به وسهدنى ، وهذا هو قدرى. أتذكر هذا فأعود وأنتظر من جديد .

  
إلى هذا الحد أخذنى التفكير فيها ، ولم أقطعه بعد، رغم تغيبها الذى طال مداه ، ولم أعد أحصاه ، أسبوع .. شهر .. شهرين ، ربما أكثر، فمع كل دقيقة تمر اشتد وجدا ولهفة وشوقا ، ولم أستطع نسيانها أو انتشالها من فكرى لحظة واحدة . فكرت فى مغادرة المنزل حتى أهدأ ، همت على وجهى ، سرت فى الطرقات بغير هدى . لازلت أمنى نفسى بأنها ستحضر فى أى لحظة وحين ، مر أسبوع وأنا على هذا الحال أتنقل من طريق لطريق ومن مكان لأخر ، أحس بوحدتى القاسية وسط الزحام البشرى الذى تموج به الطرقات والأرصفة والحوانيت .. تملأنى أحزان كثيرة ، ورحت أحدث نفسى طويلا وماأقسى أن تحدث نفسك التى لن ترضيك : " هاميس هل تصدقينى لو قلت لك إننى أعرفك قبل أن أراك .. وهل تعلمى عندما رأيتك وقبل أن نتكلم أحسست أن سهما انطلق من مكان مجهول .. وأصابنى فى القلب .. فى مقتل ، لمجرد أن وقع نظرى عليك ، وهل تصدقينى أن شفتانا عندما التقتتا أحسست بأننى كنت أعانى من الحرمان دون أن أدرى .. هاميس لم كل هذه القسوة ؟ إننى لم أعد أفكر فى شيئ إلا أنت .. أصبحت فكرى الملح الثابت الذى يطاردنى فى الليل والنهار ، فى المنزل والشارع والعمل .. لقد ضقت وضاقت بى الدنيا وأنا وحدى ومع زملائى وبين أصدقائى ، ماأقسى الشعور بالحرمان والوحدة بعد أن كنت على قيد خطوات من النعيم .. هاميس أهكذا يكون العبث بقلبى ؟ وهل استحق منك كل هذا الذى تفعلينه معى ؟ كيف أبحث عنك الأن ؟ وأين أعثر عليك وأنت بلا أرض ولامكان ولازمان ؟ ، هاميس ماأقساك ماأقساك .


لم استيقظ يوما دون أن تكون هى أول أفكارى ، ولم أنم ليلة دون أن تكون صورتها آخر صورة أطبق عليها جفونى ، ولكم تألمت وتعذبت ، وطويت صدرى على حبى اليائس فى صمت أيام وليالى كثيرة مرت وتعبت من عدها ، وأنا أجوب الطرقات أتطلع إلى آلاف النساء أملا فى أن تكون من بينهن ، وكم صور لى خيالى عند رؤية أكثر من إمرأة من بعيد فأظنها هى ، وأعدو خلفها ، ثم أدرك أننى كنت أعدو وراء سراب ، رباه أين ذهب كل هذا الحب ؟ وأين اختفى كل هذا الحنان الكبير الذى لمسته فى لمسة يديها وفى نظرة عينيها ؟ ماأقسى وأشق أن تبحث عن إمرأة أحببتها غابت عنك ولاتعرف لها مكانا . لم يبق أمامى سوى طريق العرافين وضاربى الودع وقارئى الفنجان حتى أصل إليها وأعرف أين تختبئ الإنسانة التى أحببتها ولاأعرف لها أرضا أو وطنا أو عنوانا ، لأول مرة أحس بكلمات نزار قبانى وشجون العندليب عندما عبر عن آلامى بمزيد من الغناء والصدح " ماأصعب أن تهوى إمرأة ياولدى ليس لها عنوان .. ليس لها عنوان .. ليس لها عنوان .
ورغم اختفائها من حياتى إلا أننى لازلت شغوفا بها .. أراها كل لحظة وكأنها أمامى .. لم يبرد بعد إعجابى بها ولاحبى لها ولالهفتى عليها ، لم تخب نار عاطفتى نحوها .. ظلت متأججة فى صدرى الذى ضاق بحمله الثقيل وراح عقلى يفكر فى إزاحته عنه ، فجاء بذهنى فكرة أن أحكى بعضا من حكايتى لأصدقائى فى الحدود التى تسمح بتصديقها . وفى ذات ليلة وأنا جالس مع بعض المقربين منهم قصصت عليهم قصة هاميس على أنى قابلت إنسانة جمعتنى بها الصدفة وبلا سابق إنذار اختارها قلبى وارتبطت بها وأحببتها وشغفت بها ، وكانت بيننا لقاءات دعمت هذا الحب واشعلته فى صدرى ، ثم حدثت تداعيات ومشكلات اختفت على أثرها ولم أعد أراها ، وأصبحت صورتها لاتفارق خيالى البته ، فكثفت بحثى الدائم عليها فى كل مكان وكل شارع من شوارع القاهرة كان لها مقصد فيه ، حتى كورنيش النيل المكان المفضل لها والمحتمل وجودها فيه أخته مسحا من أقصاه لأدناه ، بالله عليكم أجيبونى ، ماذا أفعل ؟!! ،  لكن لم أجد ماكنت أرجوه منهم بل وجدت من بعضهم عدم اكتراث ، والبعض الأخر قدم لى سيلا من النصائح غلب عليها طابع الشماتة و السخرية ، وتصوروا أننى قصدت الاستباق فى الإعتراف لهم ، حتى أتجنب شماتتهم وفرحتهم فىَّ لأنهم عانوا الأمرين من كثرة مزحى لهم عندما كانوا يحكون مشكلاتهم فى الحب ولم يستطعوا مواجهة استهانتى لمشاعرهم ، وكان البعض الأخر يرى أننى كنت مستهترا مستهينا بمشاعر الناس . فقد كنت أنا الوحيد من بينهم الرافض لمسألة الحب ، لم أحب أحدا ولم يمتلكنى أحد رغم علاقتى الكثيرة والمتعددة ، والأن جاءتهم فرصة الخلاص كى يأخذوا بثأرهم منى ويردون علىَّ ماكنت أفعله معهم ، فاتخذوا من قصتى ملهاة لهم ، ومسلاة يتندرون بها وجعلوا ماقصصته عليهم مجالا للمزح والترف ووسيلة للإضحاك ، وتساءلوا فى عجب واستغراب : ما الذى غير وجهتك بهذا الشكل ومن هذه الإنسانة التى لخبطت حياتك وفعلت بك مافعلت ثم هربت ؟ لابد أن هناك أمرا لانعرفه ، وهل بعد كل هذا لازلت مصرا على رأيك فى متعة التغيير والتبديل والانطلاق وقتما تحب وحيثما تشاء ، أم عرفت قيمة الحب ؟! وأنت الذى عشت حياتك لاتعرف أى قيمة له وكنت ترفض وجوده فى حياتك مطلقا . أبديت صمتا وكأن الحديث لايعنينى ، ثم قالت إحداهن : لماذا لاتجيب ؟! ليتك تحدثنا عن الحب ، نريد أن نسمع رأيك فيه الأن بعد أن تخليت عن مبدأك من أجل إمرأة تركتك ، ثم شهقت مقهقهة بضحكات عالية لها رنين أحسست معها بشئ من الشرود وخيبة الأمل ، حولت نظرى إليها وأنا فى قمة الغضب والحزن ، يملؤنى شيئ من الدهشة ثم وجهت كلامى للجميع وأجبت فى لهجة مقتضبة وبصوت مخنوق : ظننت أنى سأجد مايريحنى هنا ، ليتنى مافعلت !! وهممت بالإنصراف مفضلا مغادرة المكان ، وأنا فى قمة أسفى ولسان حالى يقول : ياعشرة هونى على اللى راحوا وفاتونى ولاودعونى ، وياريت تهونى على صُحاب لاسبونى ولاحتى ريحونى .
فى تلك الليلة عدت إلى منزلى يكتنفنى الحزن الشديد ، وأحكمت على نفسى غلق باب حجرتى ، وواجهتها بمنتهى القسوة ، ماذا جرى لى ؟ وماهذا السلوك الذى سلكته حتى تنتهى بى الأمور على هذا النحو الغريب الذى لايقبله عاقل ولاحتى مجنون ؟ وأى أوهام هذه التى تعلقت بها وجعلتنى أعدو بطفولية وراء إمرأة استهانت بى وبمشاعرى إلى هذه الدرجة من الاستهتار، وهناك الكثيرات اللآئى يتمنين ولو نظرة واحدة منى ، ولماذا كل هذا التعلق غير المبرر لها ولاأعرف عنها شيئا ولن أعرف ؟ إنه يتعين على أن استرد صوابى وأنقذ نفسى من الدوامة التى أدور بها وفيها ومعها فى حلقة مفرغة لاتصل بى إلى شيئ . ولم أدر كيف مرت على تلك الليلة الصعبة ، إنما أذكر جيدا أنى قضيتها فى سهدى وحيد حتى طلع الصباح متخذا لقرار لارجعة فيه هو لابد من نسيان تلك المرأة ، وطرد من ذهنى كل مايفكرنى بها ، وأن أنغمس فى عملى ، ولاأترك أصدقائى أبدا وأقضى كل وقتى معهم حتى لاأترك نفسى لحظة واحدة بمفردى فيقودنى التفكير إليها ثانية .

ولكن مع نفسى أصبحت أحيا مرهق الأعصاب، تؤرقنى كل كبيرة وصغيرة ، بإحساس متأجج ، كما لوأن الحياة تقتحم وجدانى عمدا ، وتمشى بلا استحياء على قلبى ، زاحفة إلى خلجات النفس والمشاعر الملتهبة داخلى وتطرحها فى الكون الفسيح أمامى ، حتى الحلم غادر أجفانى ولم تستفق حواسى من توهج تلك العاطفة الجائشة ، ولكن كانت محاولاتى كلها فى استجلاء حيوية صورتها من عيونى كوسيلة للإفاقة عبارة عن مضيعة للوقت ، ولم أجد أمامى سوى اللجوء إلى محاكاتها حين تهيج بى شجون الذكريات وتزدحم صور لقاءاتنا بشدّة الحنين وعذوبة اللحظات الساحرة من الحب ، فما يزيد ذلك إلا إصرارا على منطلقات أشجانى الحائرة سهدا وأرقا وكأنها متنفس لأحلامى الضائعة التى فقدتها وأثرت كثيراً فى استقرارى النفسي وجعلتنى في غربة روحية ، وكنت أحيانا أخرى أثور على نفسى فى إعادة ترتيب هذه التفاصيل الحميمة داخلى ثم أحاول أن أتناسى وجهها فى محاولة جادة كى أجد بدائل أخرى للمساء الذى تطول لياليه وأظل أفتش ربما أجد غيرها تصادفنى وأحل بها مكانها فى قلبى فأنسى . عبثا فقد كنت مثل من يعتقد أنه سيقطف ورد الربيع ، فإذا به يجد نفسه ضحية الأشواك .



ولكن مع تواتر الأيام والرغبة فى النسيان والإصرارعلى البعاد ، شعرت بالفعل هدوءا نسبيا ، وبدأت صورتها تبهت فى عيونى ، وتندمل من قلبى وكدت أطوى صفحتها فى عالم النسيان ، لولا حدوث المفاجأة .

                       وإلى لقاء أخر مع الجزء الخامس



مع تحيات : عصــــــــــــــــام

                               القـــــاهرة فى إبريل 2014