music

الاثنين، 13 نوفمبر 2017

شخابيط على جدران الجموح ( وكانت لصباح حكاية 3 )

إننى لم أنم فى هذه الليلة ، ولم يغمض لى فيها جفن ، حتى جاء اليوم التالى وانتصف نهاره وصعدت للسطح منتظرا على أحر من الجمر متمنيا أن تبر صباح بوعدها الدائم للحضور وتأتى وتكون هذه اللحظات أشبه بالبارحة . أوشكت الشمس على الانكسار آخذة طريقها للرواح ، وأنا مازلت على حالى واقفا وحدى قلقا أن الوقت يمضى ولاتأتى ، فلايعانق وجهها الجميل هذا الشفق وتُحرم النفس بمنظره الخلاب وهو يلوح فى الأفق البعيد تاركا أثاره المنسدلة عليه من بقايا شعاع الشمس الغاربة وتضيع علىّ ليلة من ليالى العمر ويتبدل الحال وتصبح الشجرة التى كانت بالأمس مورقة منتشية بأزهارها المختالة على سور أملس من الحرير ليس على النسيم العليل إلا أن يهب عليها رخاء فترنح بأغصانها حتى ينطلق أريج عبقها حيث يشاء لها الهوى ، أن يتبدل حالها اليوم وتواتيها فجأة ريح بما لاتشتهى السَفن ، فيصيبها الظمأ ويوأد انتشاءها ويتبدل حالها من رخاء إلى جفاف وجدب فلا لأوراقها أن تورق ، ولا لأزهارها أن تعبق . كنت أحاول أن أنشغل بالتفكير بها وأستعيد كلامها عن نفسها الذى يناسب جمالها وفطنتها وأحسد نفسى أنها منحتنى كل هذه الحفنات من الثقة بعطائها الوفير ، وخاصة أن صباح تختلف عن يسرية بقلبها المغلق الذى عرفت كيف تحكم إغلاقه فلا يتسرب إليه أى أحد مهما كانت سطوته وقوة جاذبيته لدرجة أنها أوصدته حتى فى وجه زوجها فلم تشأ أن تجعل له مكانا فيه ، مثلما كانت مثار حديث كل شباب القلعة قبل زواجها بسبب هذه الأنفة لدرايتها بقيمة جمالها ، فهى تعلم جيدا أنه لاتوجد واحدة فى مثل سحره طرا ، وأرفعهن به شأنا ، وأوفرهن به على دفع هؤلاء الشباب أن يُتيموا فى هواها عشقا ويتمنوا منها مجرد نظرة ، كل ذلك علمها التعالى والزهو وجعلها ألا تخفض لهم جناحا ، وإن كان هذا لايكلفها إلا لفتة من جِيد أو بسمة من ثغر أو رنوة من طرف تؤكد به غرورها المستحق ، فما زادها ذلك إلا منعة وتدلل . كنت غارقا فى تخيلات تفضى لتخيلات وأحدث نفسى بذلك فخورا بزهو حبها لى . ثم أعود وأمنى نفسى بألا يعوقها عائق وتأتى لتشعر بما تملكنى نحوها من إحساس صادق ، وأن تعلم بحالتى الجديدة التى أصبحت عليها منذ أمس ، حالة إنسان محب جاد فى حبه ، ومخلص لمن يحب ، فشعورى نحو صباح فى هذا اليوم أنها قريبة منى جدا ، وتمنيت أن ألمس يدها ، كانت هناك قوة خفية تحفزنى على ذلك .



 وبينما أنا كذلك جاءت صباح فهممت أن أصرخ وأهتف من فرحتى التى غمرتنى تماما ، ولكنها كانت فى هذا اليوم مربدة السحنة ، بدت وقد امتشقت قرارا باترا لمحت له دون أن أفهمه ، أحسست بالدم يندفع من عروقها ، وحنقت عليها . كانت مرتدية نفس الروب الستان اللامع الذى تأتينى به ، والذى يشهد دائما تألق جسدها بطلعته فيه ، فما كان للثوب حيلة إلا أن يطيعه بانسيابيته عليه ، ولكن كان يعبث بتقاطيعه فى رعونة كلما سنح له الهواء هبوبه عليه من أمامه ، ثم يعود ويتدفق نورا من صدره المفتوح ، كنت أقول فى نفسى : يالها من مفاتن وقسمات جمال هذه الخلقة . مكثنا فى مكاننا المعتاد ودار بيننا حديث طويل وقصت علىّ مادار بينها وبين زوجها ، أكدت فيه على عصبية مزاجه التى لاتحتمل ، فكلما كان يدور بينهما أى حوار فى أمر من الأمور ينتهى نقاشه بمشكلة ، كأنه يختلق سببا للشجار ، ويثور عليها بلا سبب ، وتتوتر أعصابه بلاداعى ، ويظل يكيل لها السباب والشتائم . وبينما هى تحكى عزت عليها نفسها وهانت عليها حياتها ، فدمعت عيناها .. ثم تساقط سيل من الدموع على الخدين الشاحبين . لقد رأيت تعاستها واضحة على وجهها الممتقع ، والأسى الدفين فى أعماق العينين الشاردتين ، وعندما رأيت دموعها تقطر أمامى ثم مالبثت أن تساقطت بغزارة أحسست بيد غليظة تقبض على قلبى .. لماذا صباح تبكى والدنيا قد دانت لها بهبة الجمال وحُسن الخِلقة وتدعوها من حولها أن تحب الحياة وتضحك ، أى عذاب هذا الذى تعانيه .. ومن أجل من ؟!  وأى محنة هذه التى تجتازها ، يالها من امرأة تعيسة سيئة الحظ ، لايناسب كل هذا جمالها الهادر . 




إن قصتها حزينة بكل تفصيلاتها إذ لايشعرن بها غير نفسها المكتربة وأنا . بدت صباح مضطربة الخاطر تجلس أمامى فى الوضع الذى اختاره لها جمالها وأرغمتها عليه فتنتها ، وأحيانا تعدل من جلستها فجأة فتهب واقفة تريد أن نستند على السور ، إنها لم تعد مستقرة على رأى أو حال ، اختارت أن تقف من الناحية المطلة على شارع الشيخ القويسنى تجاه شارع الظاهر ذلك ماكانت تفضله ، إنها أحبت الوقوف فى هذه الوجهة متعمدة ومنتظرة أن تلمحنا يسرية كى ترانا كأن قرارها أن تنتقم من زوجها فى أى شيئ لايصادف هواها ، ورغم أن يسرية لاتعلم شيئا عن ماكانت تعانيه صباح وتشعر به تجاهها ، إلا أن صباح جعلت منها خصما ، وفى نفسها من ناحيتها شيئا ، فمتى تلمحنا يسرية حتى يتحقق لصباح مأربها ، فكانت تستلفت لها ضاحكة تخلص بأناملها خصلات الشعر التى رفت على جبينها فى دلال وزهو ، ثم تتحرك فى تلو وغنج كأنها تريد أن تظهر لها كل مفاتنها ، لتؤكد لها افتتانى بها ، حتى تقتص منها وتكيد لها ، وترد لها الصاع صاعين .. وتصدر لها القلق والحيرة وتجعل نيران الغيرة تكتوى فى قلبها وجوانحها ، كى تذوق ماأذاقته منها ، فلطالما حزت فى نفسها تلك النظرات المشرئبة والابتسامات التى كانت ترسلها لى بتدفق ، ذلك ماكان يسهدها ويختلط فى كيانها بأمل يحدوها وتقول فى نفسها ربما ألفت نظره يوما ويرانى ، فأنا أجمل شكلا وأحلى جسما منها بكثير ، فتغدو ضربات قلبها مضطربة ، وتحاول جاهدة أن تفلت من قبضة الشعور بالغيرة التى كانت تزم صدرها وتستعرض كيانها كله ، وتحاول أن تدفن نفسها بين جدران حجرتها الكائبة فى هذا البيت الغريب عنها بجوار زوجها الذى كان يغض فى نومه العميق لايبالى ولايأبه ماكانت تحس به وتعيشه ، وإن كانت تفضل نومه عن إفاقته حتى تتلاشى مايفتعله معها من مناوشات ومشكلات ، بيد أن كل جزء من روحها ينطق ويتنهد ويفضح خلجاتها ، تتأوه بعذاب لايشعر به أحد غير روحها الساهدة وعيونها الساهرة  ، تنتظر الصباح لتنهمك فى ممارسة طقوس أعمالها المنزلية ، حتى تفرغ فيها كل طاقتها السلبية ، وتذيب أرق وسهد الليالى الموجعة وماأكثر الأيام والليالى التى كانت تعيشها وتجرع فيها من الألم أشكالا وألوانا ، إلا من ملاذها الوحيد وتسليتها المعتادة ، الجلوس خلف النافذة إذا مافرغت من أعمالها ، حيث كانت تواربه ثم تنظر من ورائه وتراقبنى من جديد ، أو الصعود إلى السطح للقائى ، تلك هى كانت أجمل وأروع لحظات حياتها .





أحسست ماعانته من أجلى وكنت أطاوعها على النحو الذى تحبه ، ونقف فى المكان الذى كانت تفضله وتريده ، نمد نظرنا معا إلى الأفق البعيد وهو يقضم الشمس ويسحبها على حافته ويأخذ فى ابتلاعها ليجلى لنسمات الليل الأولى أن تسود ، وقتها نبدأ فى مغادرة المكان على وعد بتجدد اللقاء . وفى يوم نسينا أنفسنا حتى امتدت يد الظلمة لتمسح بقايا الشفق فمحته ، أخذنا الكلام ودون أن نشعر وجدنا الظلام يحوطنا فيما أحاط ، وانتبهنا فجأة على صوت حماتها أم بدرية ففزعت واضطربت اضطربا شديدا وقامت من مكانها فجأة بعد أن سمعت صوتها المدوى الذى كان يشبه الرعد وهى تنادى عليها فى حدة : ياصباح أنت بتعملى إيه عندك كل دى . لم تشأ صباح أن ترد عليها بل همت للنزول فى عجالة شديدة واستئذانى دون أن تنتظر منى إجابة . ومضت مسرعة حتى اختفت من أمامى ، لتعود الألوان باهتة إلى أرضية السطح ومعها اختفى كل شيئ .. سعادتى ولحظات النشوى التى كنت أعيشها وتبدلت إلى مايشبه الخوف ، ولم أعرف سر هذا الخوف من هذه السيدة حتى الأن للدرجة التى تجعلنى أهابها بهذا الشكل لدرجة أن مفاصلى كانت ترتعد كلما أراها وأعمل لها ألف مليون حساب . تسمرت قدماى فى مكانها حتى يذهب ذلك الروع الذى تمكن منى وأخذت أهدأ نفسى من نوازعها . وانتظرت حتى عم الأفق بضوء القمر المتسلل فى نعومة إلى أرجاء المكان . ومع ذلك لازلت خطواتى متعثرة مترددة لاتريد النزول من السطح من شدة الخوف والرعب الذى مازال مسيطرا ، فكنت أتوارى وراء الملابس المنشورة وهى ترنح بفعل الهواء الذى تصادف هبوبه ليساعدنى على إقفال باب وراء باب من التخيلات والظنون ، حيث جاءت أفكار كثيرة بذهنى وتزاحمت ، ماذا لو أن أم بدرية لم تناد عليها وصعدت كى تستطلع بنفسها سر تردد صباح على السطح بمناسبة وبغير مناسبة ، وتفاجأت بى أمامها ، أو أنها شكت فى أمر زوجة ابنها وارتابت فى مسألة الصعود اليومى بحجة نشر الغسيل وظنت كل الظن أنه ولابد أنها تعرفت على شاب وأنها على علاقة به ، وأنها فى سبيل ذلك كانت تغافلها وتصعد لمقابلته حتى تفيأت له . يالها من أفكار جعلتنى أشعر فجأة بشيئ كأنه الضيق يضغط على أنفاسى ثم رويدا رويدا يزداد حتى كاد أن يخنقنى وقلت فى نفسى : لو أن التفكير وصل بأم بدرية إلى هذا الحد فمن المؤكد أن صباح هى السبب فى ذلك بتصرفاتها حيالها وسرحانها المستمر حتى جعلت نظرها ينبلج إليها بالشك فى قلبها والريبة فى تصرفاتها ، وجعلها تضمر لها فى نفسها شيئا يبعث على الكراهية داخلها وتكيد لها كيدا ، فلطالما حكت لى صباح عن معاناتها معها فى كل خلاف يدب بينهما ولم نجد لهذا سببا كافيا يقنعنا ، أليست حالة الترقب والتلصص على كل حركاتها وسكناتها سببا مقنعا يؤكد لها شكوك حماتها فيها كى تثبت لنفسها ولابنها أنها كانت على حق فى كل خلاف كان ينشب بينهما ، وأنها أبدا لم تكن هى الزوجة الصالحة له ، فأرادت أن تثبت له ظنونها فيها بأنها كانت تستغل ثقته وثقة كل ماحولها بخداعها لهم كل هذه الفترات التى كانت تصعد فيها للسطح لكى تقابل فيه حبيبها . أليست كل هذه الأسباب المقنعة تدعو أم بدرية إلى التفكير والتبصير والروية فى حياة زوجة ابنها الجميلة الممتلئة أنوثة وشبابا ، وراحت تدبر لها مايُكره أن تباغتها به من أفكار مسمومة وهدامة حتى تكتشف سر هذا الصعود وتتفاجأ بوجود عشيق لها ، وأكون أنا هذا العشيق . أه لو حدث ذلك ، كيف سيكون رد فعلها ؟ ، من المؤكد أنها ستتمكن منها وتظل ترميها بأبشع تهمة فى حق أى امرأة حرة .. الخيانة الزوجية ، وتكون نهاية وجودها فى هذا البيت بطلاقها من ابنها  ، وبالتالى سأُحرم من رؤيتى لها وستكون هذه المرة إلى الأبد ، وستصدر بعد ذلك المشكلات لأسرتى أشكالا وألوانا لايعلم مدى عواقبها سوى الله !! . 




وتقاذفتنى الأفكار ودفعتنى نسمات الهواء من جديد وهى تحت أغطية كثيفة من اليأس أن أعاود التفكير مرة أخرى فى كل شيئ بعقلى وليس بقلبى ، فكرت فى حياة صباح المضطربة ، وأن وجودى فيها هو ماسيزيدها اضطرابا ، ومن المؤكد أنه سوف يحاصرها الندم بعد ذلك إذا استمرت بالسير فى طريق أنا فيه ، وستلفظك حتما من حياتها عند ظهور أول مشكلة تعصف بحياتها . ثم رحت أقسو على نفسى أكثر وأنا أحدثها : إذا هربت من الناس ، فكيف تهرب من نفسك إذا حدث لها لاقدر الله أى مكروه وتسببت فى خراب بيتها . قل الأن ماتريده لنفسك وصارحها بشفافية ، فليس هناك أفضل من حديث النفس إلا للنفس .. حديث المصارحة التى تأبى اللحظات الجميلة التى تعيشها معها الأن أن تفكر فيها ،  فسوف تتراكم بداخلك شحنات من وخز الضمير يصعب بعد ذلك إفراغها ، فمن الأفضل أن تفرغها الأن قبل فوات الأوان حتى تستفيق ولا تبقى نادما طول العمر إذا ماعرف الناس قصتها معك وظلموها ، ويتحول الحب الجميل إلى مرار ينغص عليها حياتها ، ولا أظن أنه ستجدى مع زوجها أية مبررات لو علم بحكايتها معك وهو بهذه الحالة المريرة معها ، ولن يشفع لك صغر سنك تجاوز محنة هذا الأمر ، فأقل ما قد تصل إليه الأمور هو طلاقها ووقتها ستكون أنت السبب ، ولن تستطيع أن تتزوجها لوجود عوارض كثيرة تجعل هذا الأمر مستحيلا وأنت تعلمها جيدا ، فحينئذ سوف تهدم حياتها كلها وتسبب لها آلاما ، ولنفسك ولأسرتك المشاكل ، وخاصة أن طيبة أبيك لن تفلح أبدا إذا حدث تصادم محتمل مع الحاج صالح والد زوجها الجزار المعروف بالتجهم وعصبية المزاج للعِيان فى المذبح ، ناهيك عن شكيمته وحزمه اللذان لايظهران إلا فى وقت الأزمات والشدة ، ولاأعتقد أنه ستوجد أزمة أقوى من هذه الأزمة لقدر الله إن حدثت . أما أم بدرية ياحفيظ يارب ، لم نعرف اسمها الحقيقى ولكن نعرفها بأنها  سيدة ذات مواصفات خاصة .. شديدة .. سليطة اللسان تتعامل مع جيرانها بكل غلظة وغباء ومع كل الناس بجبروت وتعال ، كان جيرانها يخافونها من مجرد رنة صوتها ، ولا أحد مهما قويت شخصيته أن يقف أمامها إذا مابدأت فى التبويخ واستحضار شتائمها البذيئة ، فكان الجميع يهابونها ويعملون لها ألف حساب فى تحركاتها  أثناء نزولها وصعودها .. كانت إذا مرت على السلم تهزه هزا كأنه زلزال ، أما بدرية رغم أنها كانت بنت بلد لطيفة ، وتملك قلبا طيبا حنونا ، وتتعامل مع أسرتى بكل ود وحب واحترام ، إلا أنها إزاء هذا الموقف ستتخلى عن كل ذلك ، ولن تستطيع أن تفعل شيئا إلا الوقوف بجانب أخيها وستنقلب ضدنا . أخذت نفسا عميقا حاولت به أن أطرد كل الأفكار التى حاول العقل أن يضعها أمامى كعقبات وعراقيل بأنها هى الحقيقة المرة ، والتى طالما كانت تبعث كل مكامن قلقى وخوفى .




ثم تصيبنى نوبة شجاعة فأعود وأسأل نفسى أيضا إلى متى ستظل خائفا بهذا الشكل ، وإلى متى ستظل جبانا لاتستطيع أن تتخلص من أوهامك وقلقك وحيرتك الذى صورها لك عقلك وهو يحاول أن يدق على قلبك ويضغط عليه بمنتهى القسوة والعنف ويصور أن ماتعيشه عبارة عن مأساة يجب وأدها والتخلص منها ، وهو ليس صحيحا أن هناك مأساة ولاوجود لمخاوف حقيقية ، ولكن حياءك وجبنك هما مايحدثانك كثيرا وينغصان عليك فكرك وحياتك ، فليس هناك مايمنع أن تقول كل مافى قلبك بلا تردد ، وتستطيع أن تحكم على الناس بلا انفعال ، وتقول رأيك دون أن تهاب أحدا ، وأنك تستطيع أن تحب وأنت المسئول عن كل ماتفعل . وافترت شفتاى على ابتسامة مريرة لئن كان القدر قد بعث بصباح فقد بعث أيضا بإنسانة ظروفها صعبة للغاية تعيش فى دنيا الناس وظروفها لاتسمح أبدا لإنسان أن يراها أو يحادثها ، أو أنها تعيش فى سماء أخرى لاتهبط أبدا إلى دنيانا . لم يكن لصباح أن يراها أحد فهى مختلفة عن يسرية التى كانت فى مراحل التعليم وتحكمها ثقافة وروابط اجتماعية معينة منحتها مساحة معقولة للتعامل مع الناس بكافة انماطهم ومختلف اتجاهاتهم ، ولم تكن أبدا لتعيش وسط هذه القيود المكبلة التى أحاطت بحياة وفكر صباح ، ربما كان ذلك بحكم أنها لازالت عذراء وغير متزوجة ، أما صباح غير ذلك فهى سيدة متزوجة ، ووافدة من بيت أبيها فى حياة منغلقة تماما إلى بيت زوجها وعائلته الأكثر انغلاقا وصلفة ، وأن عائلتها وعائلة زوجها متأصلان فى حرفة الجزارة أبا عن جد ، وهى نوعية من البشر لها طبيعتها الخاصة وصفاتها المحددة ، لم تكن لها أبدا أى توافق اجتماعى بينها وبين العائلات الأرستقراطية التى تعرف كيفية الأناقة فى التصرفات ، والترف فى التعاملات ، أو حتى العائلات الدونية .. طبقة عوام الناس مثل التى انتسب إليها وأعيش فيها ، والمعروف عنها طبية القلب والتسامح والمعايشة السلمية بلا مشاكل . وكنت أتعجب أكثر أن صباح تنبت وسط هذا الوسط الذى تحكمه العصبية والعنترية والعجرفة والتخلف الفكرى بكل أشكاله وأنواعه وهى التى وهبها الله كل نوازع الأنوثة .. جمال الخلقة بلا حدود .. ورقة مابعدها رقة ، وليس ذلك فقط  بل منحها الله من الصفات الإنسانية حسن الخلق والحياء والخجل وقد شعرت به منذ أول وهلة عانقت عينى فيها عينها حيث وجدت فى ثوان معدودات وجهها  يتصاعد إليه الدم ويميل لحمرة الخجل ويفتر ثغرها عن بسمة جميلة وتلألأت عيناها بفرحة ممزوجة بدهشة ، فكانت من النساء اللاتى يتصفن بأرقهن قولا ، وأحرهن مشاعرا ، وأجملهن روحا ، وأشدهن صلة بأميرات القصور ، وحياة البرنسيسات ، فلاهى من اللاتى تنتمين بأى شكل من الأشكال لهذا الوسط الذى عاشت فيه ولازالت . ورغم الشجاعة الطارئة التى كانت تنتابنى أحيانا إلا سرعان ماأعود وأفكر فى الابتعاد عنها تجنبا للمشاكل ، فكثيرا ماكنت أفكر أن أحرر نفسى منها ومن حبها ومن قيود ظروفها العائلية ، ولكنى فى كل مرة أفكر فى هذا أفشل ولاأستطيع وخاصة بعد أن أجد ذلك الإحساس المناقض والمغاير يجذبنى إليها ويغرينى بها ويهيئ لى فيها أى نوع من أنواع المغامرة فتعاودنى الشجاعة المفاجئة مرة أخرى . إننى أيقنت وانتهيت أنه لامناص ولامفر ، وخاصة أن حبها تمكن من قلبى تماما وأذاب كل فكر أمام مشيتها وهيئتها التى كانتا تغريانى وإلى حد كبير ، ليعود الحنين وغريزة الشباب وحب الاستطلاع لرغبة فى المغامرة بقوة فيوقظ حسى من جديد ويرهف أعصابى . أن هذه الأحاسيس المتباينة كانت ترهق فكرى وتجعلنى لاأستقر على أمر أو اتجاه أو تفكير مرتب أو هدف واضح ، فكانت العفوية هى من تحكمنى معها ، والانسياب الذى بدا منى غالبا غير مقصود ، ماذا أفعل وأنا أعيش متناقضات مابعدها تناقضات .. لاأعرف ؟.
                          وإلى الجزء الرابع والأخير







مع خالص تحيات : عصام   

القاهرة فى نوفمبر2017