music

الخميس، 18 يونيو 2015

وفاء إيزيس .. وعودة هاميس ( الجزء التاسع )



لازالت أصداء المفاجأة تزلزل كل كيانى ، بأفكار كثيرة مشوشة تخاطبنى وتلح فى ذهنى ، وتهزنى بعنف ، جعلتنى فى حالة من الذهول لاتختلف كثيرا عن حالة الجنون ، إننى لم استوعب بعد فقدانها إلى الأبد .. لم استوعب ضياع الحب بعد أن احكمت عليه بقبضتى ، كيف يتسرب الأن كالماء من بين أصابع يدى .. كيف يفنى كل مااكتسبناه بنار الوجد ويضيع هباء فى لحظة .. كيف يذهب كل ماخططنا له بعد سهد الليالى والدموع ، والجلوس طويلا على شاطئ الحرمان ، شهدت فيه علينا جوارحنا المتوارية بين الضلوع ، إننى أحس الأن بالضياع كأوراق فى مهب الريح ، مهما أبقاها الزمن ستختفى وتتطاير لبعيد .
ترددت فى فتح الرسالة ولكن تمالكت نفسى وفتحتها ، فإذا بكلماتها تطل من بين السطور على الحقيقة المؤلمة :
  " حبيبى عندما تكون كلماتى بين يديك ، أكون قد غادرت دنياك إلى العالم الأخر بلاعودة . وقفت كثيرا أمام قصة حبنا ، وسألت نفسى سؤالا ، لم يخطر لى ببال من ذى قبل ، كيف صدقت يوما فتنة عمرى بأنك لى ؟!  ورحت استرجع كيف بدأت معك مستحيلا ،  وافترضت زمنا جميلا ، وشارفت فيك عمرى ، وعشت معك أحلامى .. أجمل أيام حياتى ، تمنيت أن تطول ، وتوهمت فى مدارك الوصول .. إلى المنتهى ، كانت نشوتى تحفزنى أن أطيل ، فإذا بومض كالسراب نحوى يميل ،  يطمرنى شعاعه .. وفى المساء يسيل ، يكشف عن وجه شُح .. بالمشاعر بخيل  ، طوى مسافة عمر ، وخطفة فراق .. وذكرنى بزمن الغياب فيه طويل  . بوجع الكلمات أراد أن يحتوينى ، بإعصار من حولى .. جاثم على صدرى ثقيل ، يراوغنى ..  يبعدنى عنك وللعذاب يدنينى ، هذا الهادم الدخيل ، استنفذت معه كل طاقاتى ، وحاولت مرارا أن ينصاع لرغباتى ، ولاتصبح أنت كالطفل اليتيم ، يخترق سكون الظلمة ، فى ليل بهيم ، بحثا عن جلاء وحشة ، فى هشيم وهم عليل . وفى استرحام رجوته ألا يتقلص معك ظلى ، ولاأنت عنى تتوارى ، كى تبقى لى فى الدجى دليل ، فلايضيع حبنا هباء ، ولاتحبسه الأهات فى الركن ذليل ، رجوته مستعطفة ألا يتمارى، ولا يدعنا فى العراء حيارى ، لكنه كشف عن وجه قبيح ، لم يستجب لدموعى.. ولم ينصع لنداءاتى ، ولم استطع أن أقنعه بأن يتركنى لأبقى لقلبك أسير ، قلبا هو لك .. مطوقا عطوفا . وفى استنفار ارتطمت اللحظات الفصال ، لتعلن عند منتصف الطريق ، توقف العطاء عن المسير ، لأسكب حكاياتى معك ، لرمال البيد شظايا ، الحب فيه خطايا ، والمشاعر عرايا .. والعمر يجابه جدب وبقايا  ، ليبق القلب فى حسرته ملول ، بالخصب شحيح .. ضخ دقاته طبول ، إننى راحلة ومن ورائى دجى وسهود . فلا تحرمنى بأن أظل بقلبك بقايا وصال ، وأشلاء أحلام وراء باب موصود ، ولا تنسانى متى امتد بك العمر الكؤود ، ولتعلم أن مغادرة أيامك ولياليك ، كان قدرا موعود ، فهون على نفسك ، إن كان زهو الحب غادر ولايعود ، فالأمر ليس بيدى ولا املك الوفاء بالوعود ، ولكن ثق أنه سيبقى منقوشا على جدرانى مُذ رع وآتون إلى أبد الخلود . حبيبى : لم آب لمن عاب ولام ، نشرْ رسالة المحبة والسلام ، لأننى لم أفشل ، رغم كثرة الملام  ، والإرجاف فى الكلام ، بل يكفينى فخرا ، أننى حققته فى قلبك أنت، نشرته على مملكتك الصغيرة التى كنت أراها كبيرة ، عانقت فيها بترحاب سماءك ، والتحفت مشاعرك الرقيقة رداءك ، لقد عشقتك فى الخيال من قبل .. كنا أو نكون .. ومن قبل أن تصبو لك العيون .. كنت أراك فى قطرات الندى على الزهور.. فى زقزقة العصافير على الفروع ، لاهية تمرح فى أسراب تمور ، كل مشاعر الود والسرور .. كنت أراك فى رائحة الجو فى الربيع .. وعندما عشت معك شكّلتنى على صورة منك ، فصرت قريبا من نفسى ، وأصبحت أنا منك ، وصرت صوتا لصوتى ، وملمحا من ملامحى ، حتى كنت لاأرى غيرك .. وعندما أنظر لنفسى فى المرآة أرى وجهك أنت .. مثلما كنت أراك فى وجوه الناس عندما أدقق فى كل وجه يمرأمامى ، فألمح وجهك فيهم ، كأنك صرت منهم ، وصرت أنا فيهم ، وأصبحت عندى كل البشر .. كنت أراك جوارى وحولى وأمامى وخلفى، وكنت احتضنك تحت اجفانى وفوق رأسى وتحت مسامات جلدى ، حتى جريت منى مجرى الدم ، فكنت أنا .. وأنا أنت ، حتى ظننت أن رسالة حبى لك وحدك ، هى المقصد والوِفاد . فلاتحزن ياملكا على عرش الفؤاد ، منذ زمن الأمان ، لاتحزن ياظلى الضائع فى ليالى ظلماء .. لاتحزن ياعمرى المنسرب من عمر الزمان ، صورتك التى رسمتها مدامع الحرمان ، ستطل علىّ من أفق الدموع ، إن ضاع أمسى فى انتظارك ، فغدا على السحاب طيفى لك يعود .. ليبقى منى لك ، يانجمى السعيد .. فأنا منك وأنت منى، وعهدى بك سأظل عالقة فيك كقلق العطور .. تطل من نوافذ الثياب مهما طالتها المدود ، تظل من العتق مشوبة ، رائحتها تفوق الأزمان والحدود .. لاتزكمها أنوف ،  إننى سأطل عليك برائحتى كما كنت تهوى ، وسأظل هكذا على العهد رابضة ولن أنسى ، سأبقى فى قلبك حد الفناء ولا أفنى ، أرقب رغائبك بكل أناقة وصمود ، ودعنى فى أخرعهدى بك ، إن كنت تذكر لى الميثاق والعهود ، ولم تنس .. أن رقراق النيل وبدرالسماء وشمس المغيب عليك شهود ، رجاء ألاتبكى غما .. ولايحكمك هما .. ولايكبلك الحزن بقيود ، وأطلق سراح حبنا امتدادا .. من عهدك إلى أخر الدهور .. يوغل مخترقا الزمن .. طليقا لاتحده موانع ولاسدود ، لايعترى معالمه عوارض ولا دخول .. ولاعسرة داهمة يعقبها ذبول ، غضُ غرير القلب كالعذراء البتول ، ليبق للتاريخ مثار إعجاب وفضول ، فى مُولف علت فيه المقامات ، وانحنت له الهامات والعقول ، لحب احتواه كتاب فى حكاية بلا أبواب ولافصول .





وختاما .. لك منى ألف سلام .. وكف دمعك عن الكلام ، وإن كنت عنك سأغيب ، فإننى سأشرق من جديد ، فى ضحكة العطاء ،  نابعة من قلب وليد ، سأعود حين يطل الربيع بإطلالة وجهه البهيج ،  سترانى فى السماء كلما تألق القمر نورا ، وبدا بهاؤه المضيئ ، وستشعر بوجودى عندما تتفتح البراعيم والزهور ، وتزدهر أغصانها المترنحة بدعبات النسيم ، سأظل على العهد مهما طالت بك الأيام والسنين ، حتى ولو هدأ الحب فى قلبك ، وصرتُ أطلالا فى الأفق البعيد ، وانتهى الأمر وأسدل الستار ، سأترك لك ذكرى على الجدار ، وسأذكرك وحدى وأتوهم ، أنك تحلق فى المدار ، الوداع حيث أنت ياحبيب العمر ، يامكنون توْق حوار ، يامن كنت لى أخر قرار ،  ورفيق حب آخر مشوار ، ياراكب صهوى على متْن نّوار، تحملنا فيه ملء عين ، وتسكبه فى أرض عطشى ، سينبت فيها حبنا ..  بسق نخيل ، رغم كثرة الشقوق وشسع البوار .




حبيبى اسمح لى أن يكون أخر عهدى بك أن أنشد لك بصوت حليم الذى كنا نستمتع معا بسماع صوته الجميل فى كل لحظات سعادتنا ، لكن اعذرنى هذه المرة سأغنى لك من أغانيه غنوة كنت تبتأس منها وتقول لى كلما ترامت إلى اسماعنا ، دعك من هذه الغنوة ، اسمح لى أن اغنيها لك وأنا استشرف وداعك ، يملؤنى الحزن والأسف والدموع ، فالحزن عنوانها ، وأنا أصبحت عنوانا للحزن : " كنت أتمنى يطول العمر .. واعيش حواليك ولاأشوف عمرى دمعة حزينة تملأ عينيك ، كنت اتمنى ، بس العمر شوية عليك ، لو كان بأيدى كنت أفضل جنبك .. وأجيب لعمرى ألف عمر وأحبك ، يا فرحة كانت ماليه عينيه ، واستكترتها الدنيا عليه ، يا حبيبى راح اللى راح .. وفرقتنا الليالى ، ومهما أدارى الجراح حتعرف اللى جرالى ، فى يوم فى شهر فى سنة.. تهدى الجراح وتنام وعمر جرحى أنا أطول من الأيام " . حبيبى ستهدأ جراحى ، لو تذكرت ولم تنس بأننى كنت يوما حبيبتك ، الوداع ،،،، حبيبتك إلى الأبد هاميس".

 هنا ايقنت أن كل شيئ ذهب وضاع ، وأنها ذهبت ولم تعد . تسمرت قدماى ولم تغادرنى علامات الذهول بعد ، ماذا افعل ؟ هل سأبحث عنها ؟ وهل سيكون ذلك مجديا ؟ لاأعرف ، ولكن الذى أعرفه أننى سأبحث عنها ، وسأواصل رحلة البحث حتى ولو قدر لى أن أعيش على البقايا .

تحولت حياتى فى كل شيئ إلى بقايا .. إلى أشياء بلا معنى ، غير أن خيالاتى ظلت عالقة بها طوال الأيام التاليات تؤرقنى .. تملأ قلبى بالحنين والشجن ، صورتها لاتغادر ذهنى .. لاتفارقنى .. نظراتها تلاحقنى مهما ابتعدت ، تنظر لى مليا أينما اتجهت ، تأتى صورة وجهها فأناجيها وأفضى لها اشجانى ووحدتى ، أطبق عينى على أحلام تغتال أحلام ، أجتر معها كل لحظات السعادة التى تحولت لآلام وأحزان ، وكلما حاولت الهروب من نفسى .. تلتصق بى ، حتى نومى لم أعد أرتاح فيه ، ولو ألح علىّ النوم .. أستجديه ولايأتى ، لاأتذكر منذ متى كانت أخر مرة نمت فيها مستغرقا .. أصبحت لاأعرف طعما للنوم ، ولاكيف كنت أنام .. وبما كنت أحلم .. وحتى لو نمت ، لاأنام إلا قليلا أتذوق فيها معنى مرارة السفر للداخل ، وأرى عتمة الألوان التى تحترق وتمتزج فى لون واحد قاتم يلقى بظلاله فى صحوى، إننى لم أعد مرتاحا فى أى شيئ ، سوى المكوث أمام نافذة مكتبى المفتوحة أتخيل طيفها فأرى السماء وكأنها تعطفت لحالى فيتبدل حالها من سماء صافية إلى سماء تتحرك عليها قوافل السحب الذاهبة إلى البعيد الذى لاأعرفه ، كنت أتابعها بنظراتى اليائسة حتى تختفى فى الفضاء السحيق أمامى ، ثم أراها تعود لتستقر على رءوس الأشجار فى حديقة المبنى المواجه .

هكذا صرت ممزقا بين أنصاف الأشياء اللاهثة وراء مجهول لاأعرفه ، إحساس مزدوج بين الرغبة وخيبة الأمل  ، بين لهفة التمنى والمستحيل .. بين رغبة الاشتياق ولوعة الحرمان ، إحساس فارق كالليالى القاسية التى تجر أوقاته جحافل اليأس الزاحفة وتمضى به بطيئة مكفهرة ، فتصبه كآبة وحزنا فى كل خلجة من خلجات نفسى ، هكذا تحولت حياتى إلى ضباب كثيف مالبث أن انتشر الى كل شيئ حولى ، اعتمت عينى وأوصدت سمعى وجثمت على صدرىى ، وكأن النفس تريد أن تأوى للظلام وتختفى فى دهاليز الليل .. فالليل دوما واحة للمعذبين .. وراحة لمن أضنتهم الأيام والسنين .. فكل من ذهب حبيبه وقتلته وحدته ووهى إحساسه وفترت مشاعره ، له مكان فى براثن الليل ، إنه إحساسى المتكرر كل مساء حيث تنجلى السحب على استحياء ، تاركة للقمر تسلله بضوئه الحزين الهادئ على الكون وربما يأتى بدعوة خالصة للمطر كى يغسل النفس كما يغسل كل شيئ .. أرى الشوارع كما يصورها خيالى .. هادئة ساكنة .. تلاشت عنها كل مظاهر الصخب والضجة والزحام وزخم الأضواء إلا الشاحب منها وأشخاص قليلون يسرعون الخطى إلى حيث مقصدهم ، ثم تنزوى الأضواء شيئا فشيئ حتى تشحب معه مصابيح الطرقات ، إحساس يغمرنى وينذرنى بأن الفرح يودع أيامى ، بل يودع كل حياتى ، إحساس يلقى بظلاله على وقع الحب فى نفسى .. وفى رؤيتى له .. وفلسفتى فيه وفى الناس ، حتى أصبحت نظرتى للحياة مختزلة فى لحظة .. كاللحظة الفارقة فى حياة المسافرين والعائدين .. إننى أعيش نفس إحساسهم .. دموع تتلألأ كقطع من الماس .. تتألق من عيون وابتسامات .. من قلوب وشفاه ، من وجوه تبتسم ويعتصرها الألم .. إننى سأغنى من الألم الذى احتوانى ، سأغنى لك مثلك بنداء حليم الحزين : حبيبى شايفك وأنت بعيد .. وأنا فى طريق السهد وحيد ، وكل خطوة فى بعدك ليل .. وشوق وذكرى وجرح جديد ، حبيبى شايفك.. بقلبى شايفك .. بروحى شايفك .. بحبى شايفك .. شايف سلامك .. شايف كلامك .. ضحكة شفايفك .. شايفك وليل الفراق ..ع البعد فارد جناحه ، على جريح مشتاق .. يعرف نهاية جراحه ، فى يوم فى شهر فى سنة .



 أهكذا هى الحياة .. يوم .. شهر .. سنة ، وستنتهى حتما مظاهرها ، ويتفرق شتات الناس ، وينفض الجمع من مرفأها ،  فلسفة القدر التى لاتخضع لمنطق الأشياء .. رحلة الإمتداد غامضة الأصداء .. الرياح فيها تهز الشجر بعنف ، لتسقط كل يوم وريقات من أوراقها على مهبط الطريق ، ليت قصص الأشجارعندى تنتهى إلى غير عودة لتنطفئ النار فى صدرى ويصبح رمادا ، ويتنهى معها الطريق .
 وإلى اللقاء مع الجزء العاشر                    
                                                                   مع تحيات : عصام
             القاهرة فى يونيه 2015






الاثنين، 8 يونيو 2015

وفاء إيزيس .. وعودة هاميس ( الجزء الثامن )



لكل شيئ إذا ماتم واكتمل .. نقصان ، ولكل شعور بوقت السعادة قليل .. مهما طال ، ووهج الحب لن يستغرق عمرا ،  حتى ولو امتد به زمن الوصال ، هكذا حال الدنيا ، نلتقى لنفترق .. تقربنا الأيام وتباعدنا .. نعيش من العمر لحظات جميلة ثم تجرى على مسارها أيام الشقاء والتعاسة ، ياله من زمن ، نعيش فيه ليس وفق أهوائنا وأحلامنا ولكن وفق مايأتى به القدر وتصرفات الأخرين . ومن قمة النشوى وأوج السعادة إلى النهاية الحتمية المؤلمة التى جاءت سريعة ومبكرة ومعها انطفأت الأحلام .. كل الأحلام .


نسج الفجر أول خيوطه الخافتة على النافذة بعد ليلة حزينة شهدتها هاميس وحدها، أخذت تعد فيها عدتها للترحال الطويل البعيد ، كانت صورتها تبدو فى أوج جمالها بقوامها الممشوق وعينيها الواسعتين .. ارتدت ملابسها الفرعونية التى جاءت بها أول مرة ، ملامحها كانت تتسم بالجمود والعبث ، كانت تعى كم سيؤلمنى مغادرتها المفاجئة التى ستأكل طعم الراحة فى حياتى .. كانت متوجسة .. ترقب عقارب الساعة فى صراع الدقائق والثوانى ، أصبح الوقت عندها مكبلا باللحظات الفارقة ، فالوقت لم ولن يمهلها كثيرا حتى تفكر كيفية الخلاص بل ستمضى مرغمة ، لاحيلة لها فى الاختيار ، فهى كانت تريد أن تعيش وتحب ، وهم أرادوا لها ماكانت تخشاه وتتوجس منه كثيرا حينما تركتهم وهربت إلى عالم لم تألفه بعد ، ولكنها أحبته من أجلى .. من أجل الحب وسطوته ، فقرروا لها شيئا أخر ، وأد الحب ودفنه ليس بمراسم ملكية كهنوتية فى المعبد الكبير كالجنائز الزاخرة بالمحافل المهيبة ، ولكن بنثر رفاته فى الفضاء الفسيح ، كفقاعات هلامية لاترى ولايشعر بها أحد ، كأن شيئا لم يكن .. حلم ومضى . بكت طويلا واضطربت اضطرابا شديدا حتى بلغت باب غرفتى ، مدت أناملها وفتحت الباب فى حذر ، ثم انسرقت كالنسيم متسللة للداخل ، كانت تسير على أطراف أصابعها حتى لاتحدث أية جلبة أو ضجيجا .. حتى اقتربت منى وراحت تنظر لى بلهفة وأنا مستلقى على سريرى أسبح فى نومى العميق ، وكأنها ترانى لأول مرة ، تقدمت منى خطوة وهى فى حالة ارتباك شديد ، ثم تجاوزتنى بخطوات نحو المرآة ، وقفت تنظر إلى نفسها وأرسلت نفسا مزموما كأنه زفرة الموت ، ثم التفتت وجاثت بنظراتها أرجاء المكان الذى شهد أجمل أيام حياتنا ، أخذته مسحا ، ثم عادت وحطت كالعصفورة بجانبى على حافة السرير ، وعاودت النظر لى مرة أخرى ، بنظرة الوداع ، حدقت فى وجهى الذاهب فى سباته العميق وراحت تلمس براحة يدها على شعرى ثم انحنت وعانقتنى .. قبتلنى ، قبلة حب طويلة ، ثم سخت عيونها بدموع هاطلة  طالت بها خدودى. 



كانت قبلتها هى الأخيرة .. قبلة الوداع ، وقالت فى صوت مسموع : أجل سأشتاق إليك كثيرا كلهفتى على وضع رأسى على وسادتك الأن ، اتدفأ على أنفاسك ، وأبكى على صدرك مصيرى المحتوم ، إننى أريد أن أبكى حتى بزوغ الشمس لتملأ مدامعى حدائق قلبك كى ترتوى وتعيش وأترك لك فيها ذكرى .. زهور الحزن ، ولكن حتى هذا لاأملكه لك الأن ياحبيب العمر .. أصبحت لاأملك شيئا ، أزف الوقت ونفد رصيد العمر ، وسأتركك وحيدا ، إننى مرغمة ومكرهة وأعلم كم ستعانى من بعدى ؟ ، أعلم إنك ستجمع الجراح على الجراح ، وستسدل ستارة الأحزان حكايتنا ، ليتك تعلم أن الأمر ليس بيدى ، وإلا ماكنت تركتك طرفة عين أبدا . ياترى هل ستظل صورة حبيبتك هاميس فى قلبك مثلما كانت أمس واليوم ، هل ستلاحق طيفى أم صورتى ستفارق خيالك وتنسانى ويغادر حبنا قلبك وعقلك ، إننى أريد أن ألقى نفسى فى حضنك الأن وأنت نائم أمامى وديعا .. جميلا ، ثم أغمض عينى عليك وأذوب فيك شيئا فشيئ ، حتى أتلاشى فيك.. أسكن خلاياك.. أكمن فى شرايينك .. أجرى فى دمك لتظل تعيش بأنفاسى وفى قلبك نبضاتى ولاترى عيونك من نساء الدنيا إلا جمالى .  واصلت هاميس فى تتابع نظراتها الساهمة بصمت ترقب أنفاسى هبوطا وصعودا ، مشغولة البال تستعرض كل مشاهد حبنا الكبير الذى بدأ يتسرب من أمامها ، كمن يرقب خفوت شمس عائدة بلا حيلة .. غاطسة في الماء بلا مقاومة .. تتمزق على لجته فيغسلها حد التلاشى . فغدا سيحل جدار الأسى حائلا لبقايا قلوب عاشت وأحبت وأخلصت ولم تترك لها الذكرى سوى بقايا بقع لاتُرى إلا فى الأشياء القديمة التى انمحى آثارها من تقلب الزمان ، وتعرية المكان ، ثم واصلت جهشها فى بكاء مرير .




اهتزت هاميس وبدت متيقنة بإحساس قرب النهاية ، إحساس بمرارة غبار ماضى تليد وحاضر مشحون ومستقبل يلفظ أنفاسه الأخيرة أمامها ، إحساس قطع كل وشائج الفكر وهى تدلف إلى حجرة مكتبى لتضع رسالتها الأخيرة بخط يدها وعليها دبلة الخطوبة التى لم تلبث فى يديها سوى سويعات قليلة . لقد شاء القدر أن تواجهه وحدها ، بعد أن حاولت محاولات عديدة أن تبقى وتعيش للحب ، حيث استنفدت كل طاقتها المغلفة بشريحة القلق الأنثوى فائق الحساسية فى استعطاف الموفود من قبل كبير الكهنة ، الذى تفاجأت به يقف أمامها بكامل هيئته الفرعونية على إثر مباغته لها وسط أهازيج الفرحة ونشوة الحب التى بدأت بشائره تتدفق ، واجهته بحالة من الهلع والخوف الشديدين يكتنفاها ويخنقان أحاسيسها بعنف ، نظرت إليه ممتدة الذراعين جاهدة ترجوه فى إشفاق بالغ وأسف مرير بتمتمة مزمومة استنهاضه بأن يدعها تعيش مع من تحب، لكن لاجدوى ، ومع ذلك لم تستسلم لعلامات اليأس التى بدت عليها مذعنة لما سيئول إليه واقعها بعد كل محاولاتها المتكررة والتى باءت كلها بالفشل ، ورغم تأكدها من ضعف فرص البقاء من واقع إصراره البالغ فى نظرة عينيه القاسيتين اللتين تشبهان عين الصقر . إلا أنها احتفظت برباطة جأشها بكل كياسة ، ولم تفقد الأمل حتى أخر لحظة أن تعيد المحاولة بكل بسالة مرة تلو الأخرى فى استمالته ماأعطيت من قوة كى تثنيه وترجوه : بحق رحمتك دعنى ، فأنا أحب . إلا أن فظاظة قلبه وغلظته سادت فى إسداء توجيهاته الصارمة : عودى ياهاميس ، ثم راحت فى دعة وخضوع ترجوه باستماتة : سيدى امنحنى فرصة أخيرة ، فأنا أحب . رد عليها بحدة : عودى عند شروق الشمس ، قالت له فى المرة الأخيرة والدموع تتساقط من عينيها فى بكاء منهمر : أنا أحب .. أحب .. أحب ، قال لها وقد احتدت نبرته واشتدت لهجته واحمرت أوداجه فى غضب بالغ : ليس لك أنت تحبى .. عودى ياهاميس .. عودى إلى أهلك .. إلى ماضيك ، فالحاضر ليس ملكا لك ، ولن يكون لك أمل فيه ، إن موعدنا شروق الشمس .. شروق الشمس .. شروق الشمس . ثم تلاشى من أمامها ، وهطلت دموعها بمزيد من الدموع .




  
مرت اللحظات المتتاليات عصيبة أخذت تجتر فيها شريط الذكريات القابعة فى اعماقها نالت منها مانالت ودار فى خلدها مادار عن كل ماعاشته من أيام وليالى تاقت فيه للحب ، ثم تبدى أسفها وحسرتها من غدرالزمان وقسوة القدر ، لحظات تساوى عمرا أيقظت فيها ـــ رغم دقة الوقت وتسارعه ـــ كل مابداخلها من نور كان قد خبا لسنوات طويلة ، فإذا به يدب فى خلاياها الباردة ذلك الدفء الذى لم تعرفه قط قبل ذلك ، ولكن ماذا يفيد وهو يلفظ الأن زفراته الأخيرة وسينقلب حاله من إحساس بومضات النور ولحظات الحب والسعادة إلى لحظات تعتصرها الحيرة والضياع والألم . اضجعت بجانبى فى محاولة منها أن تنفلت ببعض الوقت وتنام بجوارى كى تقنع نفسها بأنه كان كابوسا مزعجا وذهب لحاله ، لكنها لم تنم ولا تستطيع ، بل كانت عيناها زائغتين تلم المكان كله فى لحظة ثم تستقران على وجهى ، وراحت تنظر إليه متابعة أنفاسى المنتظمة مرة أخرى وأنا اغض فى نومى العميق ، مدت أناملها فى حنان ورفق ومست جبينى ثم دستها فى شعرى وهى تبكى بحرقة شديدة من قوة صدمة لم يتحمل قلبها الرقيق شدتها ، ففزعت بها لكى تشرب كوبا من الماء البارد يُهدأ من روعها دون أن تقلقنى ، إنها رشفات الألم والحسرة المختلطة فى كيانها ، فما يزيدها إلا اضطرابا تتسارع معه ضربات قلبها بشدة ، نغص عليها ماتبقى لها من وقت ، حاولت جاهدة أن تفلت من قبضة هذا الشعورالذى يضيق صدرها ضيقا ، بأن تلقى نفسها فى صدرى ، بيد أن كل جزء من روحها ينطق ويتنهد ويفضح خلجاتها ، تتأوه بعذاب يعقبه دموع ثم انهمار. وكلما اقترب الوقت المتبقى للزمن المحدد فى الانحصار ، تزداد اضطرابا يوشك أن يصم أذنيها ، وخُيل لها أن الأشياء حولها  مسلطة عليها من كل جانب ترقب حركتها وتحصى سكناتها ولم تجرؤ أن تتلفت يمنة أو يسرة من شدة الخوف ، وأن شبحا مرعبا يطاردها ويكبلها ويحملها ليلقى بها إلى مصير هى تجهله ، كانت تريد أن تأوى إلىّ ، ولكنها لاتستطيع ، فالموعد اصبح وشيكا . تاهت أفكارها وتشتت ذهنها فى أحلام ضبابية تكتنفها الهواجس والكوابيس والفزع .



 كان فزعها لمشهد الفراق ولوعته مهوما فى غياهب الحزن ، يبعث حرائق من قلبها وعينها خشية رهبته وهوله ، حقا إنها صدمة عنيفة ، فبعد قليل سوف يضيع كل شيئ ويتلاشى ، شرايينها أصبحت مستنفرة واحاسيسها تائهة كأغصان شجرة مجنونة تتراقص بعنف فوق الجدران وقد تناثرت وريقاتها الندية بعد أن سقتها يد القدر طعم الحب وحلاوته ، فإذا بقوة الغيب الغريبة تدفعها إلى ضرب الأعماق لتصبح يابسة وتمتص بقية نفحات السعادة من جذورها اليائسة.



انتهت اللحظات سريعة ، وحان الموعد مع إشراقة الشمس الآتية من الأفق البعيد  ، وقفت هاميس تستشرف النافذة استعدادا لمغادرة المكان ، إلى رحلة اللاعودة ، لتسدل خيوط إبداعها التى كانت تغمرنى به غمرا ، وتسقط  بعدها حصونى المنيعة . تشابكت أفكارها وتشتت ، ثم استجمعت كل قواها قبل أن تُخار منها ، واندفعت إلى حيث لاتدرى ، إنها راحلة ، ذهبت بالحب ، ولكن الحب إلى أين سيذهب .. إلى أين سيأوى .. إلى أين سيلجأ . كانت تلك الصرخة التى استقبلتُ بها نهارى عندما صحوت ، وأنا أنادى على هاميس ظنا منى أنها تعد لى طعام الإفطار فى وقت مبكر كما اعتادت ، فقد عودتنى دائما أن أصحو على أنفاسها القريبة من وجهى ، تداعبنى بأناملها ، تطبع قبلتها الصباحية الصامتة ، حتى أفتح عينى فى هدوء ثم اعتدل فى جلستى لنتناول معا طعام الإفطار .  كانت حريصة كل الحرص أن تسبقنى لتستقبل بنظراتها الحانية مدى تجاوبى لها من أول نظرة ترسلها عينى لوجهها الصبوح عندما أصحو ، فترى أثر ذلك وأنا أغمض عينى من جديد راسما ابتسامة كبيرة على شفتى ، كأن داخلها يحس بانعكاس فرحتى بوجودها فى حياتى ، فتطلق ابتسامتها الحلوة التى تتلقفها عيناى من جديد عندما أفيق واستوعب وجودها جانبى ، فأنا الذى أفتح فمى وهى التى تبتسم .. وأنا الذى أشتاق إليها وهى التى تخبرنى به دون أن أتكلم ، وكنت أعرفه منها دون أن تقول لى أنها تشعر به . انسابت الخواطر بيننا وتواردت كل أحاسيسنا وأصبحت كلها مباحة ، الصمت فيه هو الأبلغ تعبيرا فى فضح كل شيئ  ، كانت ترد لى كل مايراقص خلجاتها من معانى العطاء وترسلها بإغداق لكل كوامن الحياة الحلوة ومبعثها .



 توالت نداءاتى فى ملمح لتأكيد وجودها ، ولكنها لم ترد وقلت لنفسى : مؤكد أنها تأخرت اليوم فى نومها ، بسبب إدمانها للسهر ، فهى تحب ألا تنام ، بل كانت تكره النوم وتقول عنه أنه يسرق الوقت منها ، كما تحب ألا تضيع وقتا لاترانى فيه حتى ولو كان على حساب نومها وراحتها . قمت وبحثت عنها فى كل مكان أتوقع أن أراها فيه ، لكن لاجدوى إنها تبدو غير موجودة بالمكان ، كنت أمنى نفسى بأن تكون فى أى مكان آخر فى المنزل وألا تكون غادرته ، ولكن لم أجدها ، حتى دخلت حجرة المكتب ، وفجأة لمحت دبلتها وتحتها الرسالة ، انقبض قلبى وزممت شفتاى فى اضطراب بالغ، وخشيت من احساس تملكنى بالهول والرهبة على مصير وقدر هاميس ، لست أدرى كيف نفذ إلىّ هذا الإحساس، وهذا الهاجس الذى تملكنى وقارب إلى اليقين بأنه الترحال الطويل الذى بلا عودة ، وبالفعل صادف ظنى الواقع المؤلم والحقيقة المرة التى ستأخذ معها كل شيئ ، تأخذ أغلى شيئ فى حياتى .. حلم العمر .. الأمل الذى انتظرته طويلا وتغيرت معه هندسة حياتى كلها ؟! إنه الأن يتبدل .. مثلما يتبدل وجه القمر الذى أقبل مبهرا بضيائه ، فإذا بالغمام يكتنفه ويغرقه فى لجة من السواد .. مثلما تتغيرالوردة اليانعة الباسمة الرقيقة التى كانت تطل بكل عنفوانها لقطرات الندى وطلعة الفجر وإشراقة نورالصباح ، فإذا بها تجف وتصفر وبدت معتمة ، تبعث الوحشة وترسل الظلام ، إنه الضياع ، وأى ضياع تقبله النفس وترضى به أكثر من هذا .
  وإلى اللقاء مع الجزء التاسع
مع تحيات : عصام

             القاهرة فى يوليو 2015