music

الجمعة، 20 أبريل 2012

العندليب لازال يغرد بعيدا



العندليب لازال يغرد بعيدا
الجمعة : 30 مارس 2012

مقدمة الطبعة الرابعة
" وعمر جرحى أنا أطول من الأيام "
ومازال الحديث عن حليم يتواصل ولو بعد ألف عام .. صوته الذهبى مازال يخترق الأيام والسنين ويصل لآذان الملايين كى يطيّب الهواء من حولهم وينقيه من غبار علق بالغناء المصرى الذى كان يوما ما يدهش ليس العالم العربى فحسب ، بل العالم كله ، فكلما غنى حليم تنتشى له القلوب العاشقة للجمال وتثنيه ، وتنقطع أنفاسها لهثا من مرورآلاف الأميال فى أعماق الزمن البعيد لتستعيد حكاية حب .. لصوت دافئ له طلاوة وله حكاياته مع الفن ومشواره فيه مابين سعادة وألم .. نجاح وفشل .. صحة ومرض ، إنها حكاية الطائر الباكى ورحلته الشاقة من الطفولة المعذبة لبدايات الغناء الأولى المضطربة ، لمعايشته ثورة أمة والتحدث باسمها غنائيا ، عاش أمالها وانكسر مع الهزيمة ، ومن قمة الشهرة للنهاية المبكرة لمطرب عظيم ، إنه سيظل دائما رمز الشباب الأول ، ورمزا لمطرب عاش الآلام واعتصرته المعاناة ليتوج كل هذا فرحاً وحباً لجيل كامل كان ضائعا ومنهكا ومخذولا.

ولو عدنا للتاريخ لوجدنا مثلا أن محمد عبد الوهاب اكتفى بالتلحين تاركاً له الغناء، بعد وقت قليل من بداياته ، وأيضا أم كلثوم التى كانت تجسّد تاريخ الغناء العربي كله والمقدر لها السبق والأولوية دائما ، أيضاً تأثرت مبيعات أشرطتها عن أشرطة عبد الحليم حتى فى السنوات الخمس الأخيرة بنسبة الثلث تقريبا ، وهذا يعنى إنه مازال يجذب كل يوم مستمعين جدد من بين أجيال الشباب الذين لم يعاصروه ، ولكنهم عرفوه وتعايشوا معه ، وكأنهم ــ كما يبدو ــ لم يعجبهم من التاريخ الذى سبق وجودهم إلا عبدالحليم حافظ . إنه ظاهرة غنائية جمعت مابين الموهبة والحس والقدرة على اجتذاب لب الأخرين فى ظاهرة عرفت بـ " الكريزما " كل ذلك أضفى المزيد والمزيد إلى أوج نجاحاته التى تعدت حدود الزمان والمكان واسهمت اسهامات عالية فى الهوية الثقافية الغنائية المصرية الأصيلة.

إنه الصوت الذى كان دائما يتلاعب بأوتار الأحاسيس ويداعبها يوم أن كانت تلهب الأنفاس وتنزع الآهات وخاصة يوم أن تلوذ بليلة ربيعية تتفتح له الزهور وتزهو به الأشجار ، عالم من سحر خالص ، يمتلكه وحده ، تتوقف عنده الدنيا لتلتقط أنفاسها عندما يبدأ فى الشدو ، إنه الصوت الشجى .. مفرط الإحساس الذى أزاح ماعداه من هوس القديم والجديد فى عالم الغناء العربى وتربع فوق قمته وسيظل لأن نبراته لازالت هى الاقوى حسا وعمقا وتأثيرا وصدقا ، إنه حليم الذى صار نغما تتوارثه الأجيال .. علامة فارقة فى الزمن النامى .. وجبلا شامخا فى المكان السامى ، صار بعبق رومانسية الحب والوطن ، يجنى الفرحة الحائرة بين همسة تزحف على اطراف المشاعر المهاجرة ، ولمسة مولعة بشغف الأحاسيس الهادرة لمأوى موطن ليس له عنوان .. وحنين ضاع فى زمن الامبالاة السائد من فن ردئ ، ومازالت سفينة أنغامه تبحر رغم شدة التيار وقوة جرف الرياح .. تبحر على الوسادة الخالية الفيروزية الغائرة شديدة النقاء ، فهى لازالت شديدة النقاء ولازالت الوسادة الخالية بصوته فيروزية .

مع خالص تحياتى .. عصام
القاهرة فى مارس 2012


العندليب لازال يغرد بعيدا

السبت : 28 مـارس 2009

مقدمة الطبعة الثالثة

"ويمكن ننسى كل الناس ولاننسى حبايبنا .. أعز الناس"

الحديث عن حليم إنما هو حديث النفس عن أعز الناس .. الحديث الذى قد تجد نفسك تستعذبه وتريد أن تحدثك فيه كثيرا ، أى تجدده بداخلك فيحدث انتعاشا فكريا رومانسيا حالما ، يجدد فيك كل إحساس جميل بقوة ، ورغم هذا التدفق فى اللاشعور فإنه لايتسع لقدرة وعطاء هذا الفنان المبدع .. لأن فن حليم أكبر بكثير من إحساسنا بالحب وجمالياته ، لذلك نجد من السهل جدا أن ننساق وراءه طواعية كى يوقظ فينا كل إحساس مرهف .. كل احساس يداعب مشاعرنا ووجداننا ، لقد عاش حليم رفيقا لنا .. بداخل كل واحد منا .. وبداخل كل من عرف الحب قلبه ، فكان هو من حمل الرسالة الكامنة فى الأعماق وراح يبلغها للمحبوب نغما ينساب من الخاطر تأنس له القلوب وتأسرها ، إنه فيثارة الحب الذى عشقناه حلما جميلا .. وإنسانا صادقا ، يملك حسا رائعا وقلبا كبيرا ، استطاع أن يعتصر آلامه فى صوته و بتعبيرات وجهه امتلك كل مفاتيح السعادة وراح يبثها لنا عبر أريج أشجانه الذى فقد هو معناها حيال إقدام جسده النحيل الذى كان يحاول بجسارة أن يتحامل عليه حتى أفقدت قدرته على تحمل الألم ، فبدا هذا الجسد المهترئ كالستارة تخفى وراءها صرخة جريح وزفرة ألم ودمعة حزن ، إنه حليم .. العندليب الأسمر .. عصفور الشرق الحزين .. الفتى اليتيم .. الشاب المصرى الموهوب .. أسطورة الحنجرة الذهبية .. الجسد المعذب .. حامل الألم .. الطائر الشاكى المنكسر ، وأى شيئ يقال ، وأى شيئ يبقى على الأيام ، حيث جاءت النهاية مبكرة ، وعنده قد تستوى الأشياء الذين أحبوه والذين كرهوه ، والذين كانوا يغارون منه ، والذين ظلموه ، فقد ذهب الإبداع وصاحبه ، وماذا يبقى بعد ذلك ؟ وكان رد الزمان : بقى الحب والذين يتغنون بالحب والذين يحبون الحب والذين يعشقون الفن الراقى المحترم الجميل .. وعبد الحليم حافظ .


مع خالص تحياتى .. عصام


 القاهرة فى مارس 2009

حليم .. طائر الشوك الحزين

عزيزى الموعود بالعذاب .. ما أن لفظتك أمك للحياة حتى غادرتها ، وتركتك لوالدك الذى مالبث أن غادرها هو الآخر ليتولى تربيتك الخال وأخوتك الصغار ، وابتدى المشوار فكانت بدايتك ياحليم مع الحياة والأضواء .. وقصة كفاحك الكبيرة والمريرة مع الحب والألم والفن والسياسة والمرض والليل الطويل.


حليم

كنت إنسانا من نبت أرض مصر الطيبة ، وهبتك خصوبتها ووضعت الطبيعة فيك جمالها ورقتها .. ووهبك الله صوتا عذبا رقيقا وإحساسا مرهفا وشعورا صادقا ، توليفة من الخلاق العظيم تجلت كى تصبح أمل جيل .. وأمل أمة ونبضها الصادق ، ولتصبح نغما ينساب بين المحبين والعاشقين، جئت كما لو أنك جئت للحب .. للحب وحده تتغنى به ، فتسحر قلوب الناس بفنك .. بعطائك .. بصوتك .. بآدائك التمثيلى لشخصيتك الدرامية التى عرفت معنى الألم وأدركت الحرمان وعانت من الوحدة وأنت جالس على قمة النجاح وعرش القلوب والغناء معا .

حليم

أنت بكل المقاييس ملحمة الحب والعذاب ، فلم يشأ القدر أن تكون إنسانا عاديا ، فخرجت كعامة الشعب فقيرا ، وكان جسدك نحيلا .. ضعيفا .. رقيقا ، ولكنك كنت تملك قلبا نقيا ، وروحا حانية ، وصاحب كل هذا مرض طويل ، وجرح غائر بعمق السنين ، وطول العمر.

حليم

إنك لم تكن مجرد فنان ولا مجرد مطرب ، ولكنك كنت صرخة حزينة أطلقتها تلك السنين .. صرخة ضد الفقر والمرض والتخلف ، فقد قضيت على الفقر بإصرارك العجيب على النجاح ، وقضيت على التخلف بإيمانك وحرصك على الثقافة والمعرفة والبحث عن كل جديد فى الفن ، ولكنك لم تستطع أن تقهر مرضك لأنه كان جزءا من شخصيتك ومن صوتك ومن هدوئك وحنانك ، لذلك أبى المرض أن يغادرك أو يتخلى عن جسدك النحيل الرقيق حتى آخر العمر.

حليم
لقد كان صوتك وصورتك معا أفضل تعبير عن كل مايختلج فى صدور الناس من عواطف سامية .. عاطفة الحب والاحساس الجميل به .. فأحببتنا وأحببناك ، وغنيت لنا وغنينا معاك .. من منا بلا قصة حب ، ومن منا لم يغن أول مرة تحب ياقلبى فى لحظة حب .. أو راح فى لحظة فراق .. أو فى يوم فى شهر فى سنة فى لحظة حزن أو جرح .
   يامن كنت تحلم لنا ، ونحن الحيارى التائهين ، والسهارى العاشقين ، والحزانى الصابرين .
    يامن كنت تغنى لنا .. حبــا .. وشوقــا .. وعشــقا .. ولأحلام الســنين.

    يامن كنت تتألم من أجلنا ، وتبكى لبكانا .. وتصرخ لأنيننا .. وتزرف دمع الحالمين.

حليم

مازالت ليالى القاهرة الساحرة تذكرك ، فأنت لازلت واقفا هناك فوق خشبة المسرح ومن خلفك فرقتك الموسيقية تعزف اللحن الأخير، الذى لايزال لم يكتمل بعد ، والذى طالما تمنيناه أن تشدو به عبر سنين طوال ، تماما كما كنت تفعل فى حياتك عندما تغنى تبكى ألما وتنزف دما وتموت كل يوم مائة مرة ، كأنك تبلغنا بمعاناتك وآلامك التى لم تهدأ ولم تبرحك لحظة.

حليم
ألست القائل : فى يوم .. فى شهر .. فى سنة .. تهدى الجراح وتنام وعمر جرحى أنا أطول من الأيام ؟
ألست القائل : آه من الأيام آه لم تعط من يهوى مناه ، مالى أحس أننى روح غريب فى الحياة؟
ألست القائل : رحماك من هذا العذاب قلبى من الاشواق داب ، ليلى ضنى .. صبحى أسى .. عيشى على الدنيا سراب؟
ألست القائل : لكن سماءك ممطرة وطريقك مسدود .. مسدود .. مسدود؟
ألست القائل : فى سكة زمان راجعين ، فى نفس المكان ضايعين ، لا جراحنا بتهدى ياقلبى ولاننسى اللى كان ياقلبى؟
ألست القائل : نجومى فى ليلى ضى حزين ، ورودى شايفهم دبلانين ، وضاعت كل أحلام السنين؟
ألست أنت القائل : لو أنى أعرف خاتمتى ما كنت بدأت؟

فأنت كل هذا ياحليم .. أنت الحزن الذى يحتويك .. وأنت ألالم الذى يملؤك .. وأنت رحلة عمر قصيرة ساقتها الأقدار.
حليم

الكلام عنك يطول ويطول ولن نوفيك حقك ، تعرف ياحليم أنت مثل من ؟ تماما كطائر الشوك الشاجن الحزين - كما تقول الأسطورة - الذى دفع حياته ثمنا لأروع أغانيه .. ماأفدحه ثمن .. فقد قيل أن طائر الشوك هذا كان يملأ المكان الذى يتواجد فيه شدوا وشجوا وللطبيعة عذوبة وسحرا ، حتى يجد قوة خفية تدفعه إلى أن يهجر عشه هائما .. ولايزال يتنقل من شجرة إلى شجرة ومن غابة إلى غابة .. باحثا عن شيئ لايعرفه .. ولكنه مدفوع إلى حيث لايدرى .. فما أن أدرك شجرة الشوك ، حتى يظل يتنقل بين أغصانها مغردا كما لو أنه لم يغن فى حياته .. واحساسه هذه المرة وهو يغرد كأنه يسمع نفسه لأول وآخر مرة ، ويشعر بأن هذا يقربه من الموت .. كأنه أحس أنه بلغ درجة الكمال .. تماما كالثمرة التى تسقط إذا نضجت .. وأخيرا تأتى النهاية عندما يجد أطول شوكة فيلقى بنفسه عليها ـ أى يغمس الشوكة فى قلبه ـ وينزف دما وهو يردد أحلى وأجمل وأروع وأرق أغانيه الحزينة ، ومع نزيف كل قطرة دم تنفلت الحياة منه ، ويخبو صوته رويدا رويدا ، حتى يتحول الصوت إلى صدى ، والجسم الرقيق إلى رفات .. ولكن لازال الكون كله يصغى إليه ، يصغى لرجع الصوت الجميل الحزين الذى ذهب صاحبه .. ليبقى عنوانا للعطاء والجمال والتضحية ، نعم نحن نعلم يا طائر الشوك الحزين ..أو طائر الفن الجميل .. أنك ضحيت بحياتك من أجل فنك واحترامك للناس ، واحترام الناس لك ، ونعلم أيضا أنك مثله تماما لاتسقط أبدا ، فالشوكة التى قتلتك لاتزال عالية شامخة ترفعك علما للجمال وللجلال معا .
وبعد ..
لقد هدأت جراحك ياحليم وارتاح جسدك الرقيق ، ووضع الموت حدا لعذابك ، أدخلك الله فسيح جناته ، ذهبت ليبقى فنك علما مرفوعا شامخا يـتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل ، ويظل صدى صوتك أبد الدهر يملأ الدنيا شجوا وعطرا ، لتبقى حتما ياحليم ما بقيت الأيام والسنين .
       مع خالص تحياتى .. عصام
القاهرة فى مارس 2006