music

الأربعاء، 25 مارس 2020

الحب الذى قتل صاحبه



ومن الحب ماقتل .. مقولة غير مبالغ فيها ، لأنها حدثت بالفعل وعلى مدار عقود كثيرة خلت لكل من كانت مشاعرة فياضة ويمتلك إحساسا غزيرا ، أتذكر أنه عندما تكلمت عن الحب قلت أن ألوانه كثيرة وأن أشكاله متعددة ، وقلت أيضا أن دوافعه وأهدافه تختلف وفقا لحظوظ الناس منه ، وتحدثت عنه وأسهبت فيه ولكنى لم أتكلم عن الحب الذى يكون من طرف واحد رغم أن الكلام فيه كثير وحكاياته وحواديته لاتنتهى ، ولايخلو تراثنا الأدبى من مخطوطاته التى تزخر بها مكتباتنا العامرة سواء فى كتب الأدب العربى أو العالمى أو الإنسانى .. وإن كان هذا النوع شأنه كغيره من أنواع الحب فى أنه يدخل لساحة القلب بلا هوادة بدفقات من المشاعر سريعة الاجتياح التى تفرض نفسها بقوة بمجرد رؤية من اختاره قلبه على أمل أن يشعر به ويحلم بلقائه ويعيش على فكرة الإرتباط به ، إلا أن أعراضه خطيرة أنه لم ولن يعطي أبدا للإنسان فرصة أن يمهل نفسه ليقول نعم  أو لا ، ولايستأذن أبدا صاحبه بل يباغته ويستولى على مشاعره . ربما تعمدت وقتها ألا أتكلم عنه لكونه يعد أسوأ أنواع الحب ، غير أننى بعد ذلك فكرت أن أكتب عنه منفردا لأنه يبدوغريبا فى أطواره ، مشاعره تحزنك ، لأنك تجد فيه نوعا من القسوة والقهر والتجاهل ، من الصعب جدا أن تحب شخصا لا يحبك ، والأصعب أن تستمر في حبك له رغم أنه لايحمل لك أية مشاعر ، فهو الحب الذى يتمسك صاحبه به دون أمل . حبيب يشتاق ، يحلم ، يتخيل ، يتألم ، يملك  مشاعر دافئة ، تماما كالطائر الذى لايملك سوى جناحا واحدا ، إنه يظل ينظر باستمتاع إلى السماء ولكنه لا يستطيع أن يحلق فيها لأنه لايمتلك مقدرات الطيران فى الهواء . لذلك فإن قصصه كلها رغم ماتحمله من مشاعر جمة وفيوضات إلا إنها تذهب جميعها هباء كفقعات فى الهواء ولكن تشعرنا بمرارة ، والذى يزيد من جراحه أنه فى كثير من الأحيان يصل بصاحبه إلى درجة العشق الواهم حينما يستولى على كل المشاعر التى لاتبرأ منها النفس فتتعذب . لأن فيها مافيها من فقد تبادل المشاعر ومايترتب عليه من معاناة وألم ودهشة ، وفيها أيضا سوء فهم وسوء تقدير يتحمل صاحبها العنت النفسى الذى يصل به فى كثير من الأحيان إلى اليأس والإحباط  الشديدين لأنه يفضل فيها السكوت عنها حتي لا يتسبب في مشاكل للطرف الأخر الذى يحبه ،  أويخشي البوح به خوفا من المخاطر النفسية فى المواجهة إما من عدم القبول أو أن يكون الطرف الثانى على علاقة بأخر وبالتالي يصبح حبه حبيس الصدر والقلب لتتبدل اسمي معانى الاحاسيس والمشاعر إلي لعنة تحول حياة صاحبها الي جحيم ، إذن فهى مغامرة غير مأمونة للذى يدخل فى تجربتها لايسلم منها أبدا . 

فما بالنا إذا ارتبط هذا الحب بحياة الشعراء والأدباء بالتأكيد سيكون إحساسهم بالألم أكثر إلا إن هذا الإحساس يتحول عندهم إلى إبداع ، فهم يبدعون فى صياغة أجمل الكلمات فى وصف معاناتهم ومشاعرهم الجريحة ، فملكة الشاعر أو الأديب هى التى تحركه وتوجهه فيخرج علينا بأجمل ماعنده توطيدا لأحزانه العميقة وآلامه الشديدة ، ولذلك فإن حياة معظمهم كانت تنتهى بفاجعة ، إن قصتنا التى إليه مقصدى تعانق فيها الأدب والفن حيث انصهرا فى بوتقة واحدة رغم ماتحمله من متناقضات ، فشاعرنا الذى سأتكلم عنه كان رقيق المشاعر رغم ضخامة جسمه ، وصاحب أجمل قلب رغم ملامح وجهه التى تفتقر كثيرا للوسامة ، كان قلبه أكثر جمالاً من ملامح وجهه ، وأكثر رقة من محبوبته .. طيبة قلبه فضحته ، فدائما ماكان يفصح عن ذاته من وراء كلماته التى كان ينثرها بين سطوره ، رغم أن الشعراء دائما يميلون للعيش وراء أقنعة كلماتهم حيث يوارون بها أحزانهم وتعاستهم ، جاء فضح مشاعره من ذلك التأثير المنبعث من أوتار صوت محبوبته الحالم .. النافذ إلى القلب عبر نبرات كلها رقة وعذوبة لم تمنح لغيرها من مطربى زمانها ، ولذلك وصفت بأنها أرق مطربة عرفتها مصر ، فغناؤها كان يتميز بالشجن المفرط والإحساس المرهف الراقى ، كانت كلما تشرع فى الغناء ينصت الجميع ويصغون إليها فتصفوا لها قلوبهم ، أما بالنسبة له لم يكن غناء فحسب ولكن كان كتراتيل المساء .. موسيقى على أوتار الشجون ، وكما وصفها هو بأن صوتها ناعم كنغمة المتهدج فى مناجاته ، كانت هى تغنى وكان هو ينصهر ذائبا فى كلماته التى انتشلها من تلابيب قلبه واختلطت بألحان أصدقائه من فرط مشاعره ، فكثيرا ماكان يؤثر العيش مع كلماته وصوتها ذلك الربط الغريب الذى هيأه لنفسه ، فصنع بهما حالة من الشجن المزمن الهارب به فى دروب الحياة ، ومن معاناته الدائمة وإحساسه بالفقد والألم . كان يعرف يقينا أنها لا تحبه ولا يمكن يوما أن تبادله حبا بحب ، ولكنه فضل أن يكون وفيا لحبه لآخر نفس ، فكان يهرب من أصدقائه وهو معهم ، ومن الناس وهو بينهم ، كان يهرب من كل شيئ حوله ، ولم يعبأ بأى شيئ يضايقه ، عبر عن حياته بأنه عاش عمرا بلا شباب ، وحياة بلا ربيع ، وعن أحواله النفسية المتقلبة أنشد : " دمعتى ذاب جفنها ، بسمتى مالهـا شفاه ، صحوة الموت ما أرى ، أم أرى غفوة الحياة ، أين يأسى ؟ . . لقد مضى ومضت مثله المنى ، فحياتى كما ترى : لا ظلام ولا سنا  ، كل ما كـان لم يكن وأنا لم أعد أنا  .. أنا فى الظل أصطلى لفحة النار والهجير وضميرى يشدنى لهوى ماله ضمير  ، وإلى أين ؟ . . لا تسل فأنا أجهل المصير " . أنه دأب على الهروب حتى من نفسه  فلا يدري من أين أو أين يمضي ، أصبحت حياته فى شكوك دائمة أفقدته ثقته بنفسه ، أيامه كلها أصبحت ضبابا ، يرى كل ماحوله حطاما ، مشاعره بعضها يتمزق وبعضها الأخر تهون عليه فتصعب عليه نفسه . إنه فضل العتاب ولكن بالكلمات ، عتاب الأحبة عنده كان أسلوب حياة .. لأنه أحب فأجزل العطاء ولم يلق مقابلا لهذا البذل الذى كلفه الكثير من المشاعر والكثير من المعاناة أيضا ، وماأقسى المشاعر التى تواجه معاناة ، هكذا كان حاله مع نفسه ومع أصدقائه .. سخيا فى كلماته .. ساخرا فى جلساته التى كانت تتسم دائما بالسمر والضحكات الزائفة التى كان يطلقها من وخز الألم ، لهذا أحب السهر ، وأحب أيضا لمة الأصدقاء حتى يشغل فراغ نفسه بملأ المكان فكان يتحسس دفء مشاعر واهمة لقيطة فى مشاعرهم ، فيتوه بينهم قاصدا إياه .. هاربا من همومه التى ثقلت عليه ، ولكنه عندما ينفرد بنفسه كان يقسو عليها أشد القسوة ، معاناة مابعدها معاناة ، فوجود محبوبته أمام عينيه فى معظم الجلسات التى كانت تجمعهما معا فى وجود أصدقائهما أصعب بكثير من غيباها ، ففى وجودها كانت تأسره وتكبله بأضغان مشاعرها الرافضة لحبه ، ليجد نفسه مكدودا مهموما فينفرد بها ويسجنها طواعية مستسلما فى زنزانة حياته منفردا حتى لاتراه ، إنه أراد أن يتوارى وراء جدر شاهقة الارتفاع حتى لايفقد إطلالة الأمل الباقية فى حبه لها ، فى الوقت الذى كان يشعر فيه بأن قيمة الحياة عنده تهدر كل يوم وتنهار كل ليلة ، ولحظات التمنى تخبو ، والسعادة تغلق وراءها ألف دار ، ولم يتبق له سوى حرقة النفس ومعاناة الفرار .
فلنتصور أن الحياة على اتساعها أصبحت فى شعوره مجرد زنزانة .. نفسيته الحبيسة المكتئبة الذى خيم عليها الحزن تبدو فيها كم الإحباطات والأحلام المجهضة التى واجهنا بها فى أشعاره التى تميزت بالقدرة الفائقة على التعبير عن دواخل النفس ، وجعلنا مثله غير قادرين على النظر للضوء الذى يبدو فى نهاية النفق المظلم ، وجعلنا نستشعر باحساسنا مدى حجم المخاوف والتوجسات التى كان يشعر بها كلما أمسك قلمه .. حيث كانت أنفاسه تلهث ، وعيناه تزوغان ، ويسيطر عليه القلق ، كما يسيطر على كتاباته وقراءاته وضربات قلبه محاولا أن يعتصر من ألمه هذه الكلمات المعبرة عن احساسه الداخلى مباشرة دون التجائه لاستخدام الرمز الذى يتوارى وراءه معظم شعرائنا على أمل أنه عندما يفصح عن حبه قد يفيد وتشعر به محبوبته ، ورغم مصارحته إلا أنه فى نفس الوقت كان يتعمد ألا يؤذى نفسه أمام الغير ، فكان يبدو متحفظا فى حبه تملأه عزة النفس التى كانت تؤرق قلبه كثيرا وتؤذى إحساسه غاية الإيذاء وهو معذور فى ذلك لأنه كان يراها دائما أمام عينه ، وكان يرى ميلها لغيره من بين أصدقائه الكُتاب ، لذلك كان حجم المفارقات عنده كثيرة وحجم القمع الذى كان يواجه به نفسه أكبر من أن يحتمل . فى يوم كتب لها " إنني لا أجري خلفك صدقيني ولكنني أجري خلف شقائي " ، عندما سألوه عنها قال " إنها تحتل قلبي وتتصرف فيه كيفما تشاء تنظفه وتعيد ترتيب أثاثه وتقابل فيه كل الناس إلا شخص واحد كانت تتهرب منه هو صاحب البيت ."

ومن مفارقات اهتمامه بها أنه كان يهتم بأدق تفاصيل حياتها ، ومنها حرصه الشديد على أن يقيم لها حفلا فى احتفائه بعيد ميلادها الذى كان ينتظره على وهج من العام للعام ، كان يستعد له استعدادا خاصا قبل مجيئه بزمان ، وفى الإحتفالية التى كانت فارقة فى علاقته بها حيث اضطربت بعد ذلك وتعقدت غاية التعقيد ، حدث مالم يكن فى حسبانه ، ففى هذا اليوم ظل فى بيتها بحى الزمالك يقوم بكل الترتيبات اللازمة للحفل وكعادته لايألو جهدا فى أن يقوم بنفسه بشراء كل مستلزماته من هدايا وحلوى وتجهيز المكان بتعليق الزينات الملونة والبالونات ، كما كان يهمك نفسه انهماكا فى تحضير الأطباق وتجهيز الطعام ، ظل على هذا الحال من الصباح إلى مابعد العصر ، لدرجة أن قدميه كانتا تتحسسان الأرض وهو يتنقل من مكان لمكان كى لا يثير إزعاجها . حتى انتهي من إعداد كل شيئ بنفسه ، ثم عاد إلى بيته ليرتدى هِندامه ويعود برفقة الأصدقاء . وفي المساء جاء الكل فى الموعد انتظارا لبدأ مراسم الحفل ، التى بدأت بمعزوفات موسيقية رقيقة انسابت من كل اتجاه احتواه المكان عبر أريج من السعادة التى غمرت الجميع ، بيد أن إحساسه كان مختلفا .. إحساسه كان هو الأعمق بكثير من احساسهم ، فمنذ الوهلة الأولى التى وقعت فيها عيناه عليها خطفته من نفسه ، رأها تقبل عليه كما تقبل الدنيا ، بهرته وهى تمشى بينهم آتية إليه ، القوام كالسيف ممشوق ورقيق .. ثوبها للسهرة يخبل العقل لم ير أحكم منه فى إبراز رشاقة جسدها وكأنه انطبع عليه وراح فى تألق يكشف عن تفاصيل كنوزه فأثارت فيه جاذبية ضارية . مدت يدها له وهى تحييه ، خُيل إليه بأنها تحييه بشوق زائد ، وتصافحه فى حرارة فأحس بضغطة أناملها ، أخذ يتحسسها بأنامله وكأنه يتحسس قلبه الذى بين جنبيه ، وتمادى خياله بأنها زادت فبالغت فى الكرم وهى تعابث يده بأصابعها الرقيقة ، وأن ثغرها افتر عن ابتسامة انبلجت لها الدنيا .. ثم دلفت به إلى الداخل فرحة لمقدِمه ، وقد فسر ذلك وحسه من فرحة أصابعها  الجميلة الضاغطة على ذراعه وهى تمر به عبر الطرقة الطويلة المؤدية إلى الشرفة التى يفضل دائما الجلوس فيها . وما أن بلغا أقرب مكان للشرفة حتى أجلسته على مقعد وثير ثم تركته مستأذنة كى ترحب ببقية الأصدقاء . 
أخذه التفكير الذى يغلب عليه الظن مرة أخرى فى نعومة أنوثتها الصاخبة التى أحيت فيه إحساسا رائقا تلألأت معه عيناه من بريق ثوبها الأحمر النارى المرصع ببعض مجوهراتها التى تفاعل لمعانها بأضواء المكان فانبهر من انعكاس أنوارها  فى عينيه وجذبتهما فى رضوخ حتى أغمضهما من شدتها ، ثم أخذ  يشهق بنفس عميق هواء نقيا ملأ به صدره وكيانه كله .. وفتحهما ثانية فإذا به يرى أمامه مروجا قد اخضرت وقد غدت بساطا متراميا يسيران فيه معا ، والهواء المحمل بقطرات الندى يلفحهما فى غبطة فيرتشفان من رقراقه الصافى ، والشجيرات تمايلت وراحت تظلهما ، كل ذلك فكر فيه وتخيله وراح مبتهجا يشعر بأن الفرحة تغمره وتفيض عليه وتسر عليهما أيما سرور  . إنه كان يرى نفسه وكأنما يذوب بها هائما فى كل إغفاء واستفاقة .. وكلما سرح به خياله .. وفى كل لحظة تمر فيه من أمامه وهى فى قمة نضارتها وأناقتها وتألقها كشمس تتهيأ للإشراق فارتدت أنفاسه وعاودته ابتساماته تملأ الكون وراح قلبه من شدة الفرح أن ينخلع من بين ضلوعه ينشد تجاوبا منها أو رنوة طرف تبث فيه روح الجمال وتؤكده ، لذلك كان يرى فى بريق عيون الرفاق لسع اشتياقه ، وراح يتخيل مع نظراته الزائغة فى أبعاد القاعة أنها اتسعت به وتضخمت وأنوارها ترامت وتلألأت ، ورآها كأنها تسبح معه فى فضاء بنفسجى الرائحة خلف كل المدعوين بعد أن أتاها متسللا من ورائهم ثم حضنها وأغمض عينه وأخذ يلثمها بعنف وتمنى فى هذه اللحظة البكاء على صدرها ، إنه معها ينسى الدنيا ومافيها فلاشيئ عنده بعد ذلك يهم ، ولكنه عندما تنبه برهة وجد نفسه يحتضن قلبه بقسوة وهمس فى نفسه وكأنه يخاطبها ويرجوها : ألا تفرحى معى هذه الليلة .. الليلة فقط  ، كان يُمنى نفسه لمجرد لحظة فرح واحدة صادقة يعيشها معها فى هنأة  بال وغبطة من سرور ، ولكنه لم ينلها ، لدرجة أنه تمنى حتى أن يموت بين يديها ولكن بعد أن يعيش معها هذه اللحظة الفارقة .. هذه اللحظة وكفى . تلك اللحظة كانت تساوى عنده عمرا ، فكان يستحسن معاودة خياله فيها ويعيش فى شذاها ، حتى كان يفند مااحتواه من رقة الجمال ويحيلها إلى درجة كبيرة من النشوى ، بيد أن كل هذا سرعان ماتلاشى فجأة فور إطفاء الشموع عندما رأى مالم يخطر بباله ، وتفاجأ بما كان لايتمناه ، فبعد مرور لحظات الخفوت التى علت فيها أصواتهم مرددين فرحين بأغانى عيد الميلاد ، عادت الأنوار تحمل له المفاجأة الكبرى التى صدمته صدمة كبيرة إثر وقوع نظراته عليها فإذا بها تختار صديقهما الكاتب الوسيم المعروف عنه حب النساء والتلاعب بمشاعرهن ليقطع التورتة معها ممسكا بيدها فى وضع الأحبة . فشعر فجأة بشيئ كأنه الضيق يضغط على أنفاسه حتى ليكاد يخنقه فاحتقن وجهه واكفهر مما اعتمل بداخله من ثورة نفسية عارمة اجتاحت كل مشاعره وأثرت فيه تأثيرا كبيرا مما يراه من حقيقة بدت أمامه بكل تفاصيلاتها ، ورغم ذلك يريد ألا يصدقها ولايود ذلك ، ولكن أسفه أن عيناه رأت هذا الوضع المخجل المهين لمشاعره التى جعلها يوما ثرى تمشى عليه ، والأيام التى تسخر من وجهه المتغضن ، والقدر الذى لايريد أن يبلغ مناه أو على الأقل يشفق عليه وعلى حاله ، وقال فى نفسه : " ماذا سأفعل مع قلبى الذى غادرنى منذ تاريخ لاأحسبه .. كيف استعيده منها ، إنه مازال يهفو إليها كما يهفو الوليد لصدر أمه " . 


أراد أن ينتفض من هذا الشقاء الذى لايُحتمل وينسحب مغادرا هذا المكان وتلك اللمة بعد أن استولى عليه الإحباط وتملكه الحزن ، غير مصدق أنها جرحته بهذا الجرح الغائر وكأن السكين الذى قطعت بها التورتة انغرز فى قلبه وقطعه قطعا صغيرة . لقد أثر فيه هذا الموقف تأثيرا عميقا حتى خارت قواه وللحظة لايدرى فيها أين هو دارت به الدنيا ولم يتمالك نفسه وكاد أن يقع على الأرض ، ولولا أن بعضا من الأصدقاء الذين كانوا يقفون بجواره اسندوه وأجلسوه على المقعد القريب منه لسقط على الأرض ، إنه شعر بدوار شديد ، ثم ذهب فى دوامة تمنى أنها تأخذه بسرعة إلى أسفل ولايبقى أسير هذه اللحظة التى رأى فيها الحقيقة الصادمة وهذا الوهم القاسى ، ويريد أن يكسر هذا الطوق الحديدى الذى طوقه من كل جانب وأصبح يحاصر عنقه ولم يعد يحتمله . بعد أن تنبه واسترد شيئا من وعيه أخرج علبة سجائره وأشعل واحدة منها ثم أخذ يتعمق بعينيه دخانها المتصاعد رويدا فى التواء ، وراح يحدث نفسه ويتذكر فى قسوة بالغة منذ متى التقى بها وكيف تعرف عليها ومتى تحمس لها ولموهبتها التى ساندها فيها كثيرا ، وكيف أحبها كل هذا الحب وأحبت هى غيره ، ثم راح يهمس فى نفسه متمتما وكأنه يحدثها : " إنه لم يساورنى يوما حتى ولو بعض الشك فى أنها تميل لغيرى ، أحقا هى تحب غيرى ، وهل هناك من يحبها أكثر منى ؟ إننى كنت أريد لها الحياة ، كنت أريد أن أرتمى بها عبر نافذة عريضة الى عالم جديد .. عالم ساحر جميل هى وحدها تستحقه ، كان لابد لهذا الحب أن ينتصر " . ثم أخذ يردد بعدها فى نفسه " إنها كالدنيا تتجدد بالناس ولا تكتفي أبداً  ." وعندما استرد كامل وعيه من الصدمة رأها لازالت واقفة مع صديقه الغريم تنظر إليه بإشفاق ، أدرك أنها تتسلل خارجة من حلمه ، وكلما كان يراه واقفا معها أمامه مستغربا وهو فى قمة الرونق والبهاء يتلاشى إحساسه تجاهها كما يتلاشى الضوء الشارد عبر ممرات الأمل فيغمره شعور عميق بالأسى على ضياع أجمل ماكان يحتويه ، كان يرى ضياع ذلك النور المنبعث من خاطره وأضاء المساحات الوهمية فى قلبه ووجدانه يتبدد من أمامه وينقشع حتى تلاشت معه اليقظة . ثم فاجأته بصفعة أخرى عندما استدارت إليه وقالت له ببرود : " آسفة إن كنت أنا السبب ، شكرا على تعبك معايا ".


خرج حزينا مُنفطر القلب إلى مسكن صديقه مصطفى أمين الذى هرع إليه قاصدا إياه حيث لم يجد مكانا أخر أقرب منه لمسكنها ليذهب إليه ، فقد كان مسكنها مجاورا لمسكنه فى ذات الحى . وما أن وصل حتى أخذ يكتب كلمات قصيدته التي تقطر ألما .. وراح ينشد فى نفسه كلاما لها " لا تكذبي إني رأيتكما معاً .... " . كتب مصطفى أمين عن هذه الواقعة وتلك اللحظات القاسية فى كتابه الشهير " شخصيات لا تنسى " حيث قال : " عشت مع كامل الشناوي حُبه الكبير، وهو الحُب الذي أبكاه وأضناه .. وحطّمه وقتله في آخر الأمر، أعطى كامل لھذه المرأة كل شيئ ؛ المجد والشهرة والشّعر، ولم تعطه شيئًا .. أحبها فخدعته .. أخلص لها فخانته .. جعلها ملكة فجعلته أضحُوكة ، . ثم استطرد قائلا : " كتب كامل قصيدة لا تكذبى فى غرفة المكتب بشقتى في الزمالك.. وهى قصيدة ليس بها مبالغة أو خيال . وكان ينظمها وهو يبكي .. كانت دموعه تختلط بالكلمات فتطمسها ، وكان يتأوه كرجل ينزف منه الروم العزيز وهو ينظم .. وبعد أن انتهى من نظمها قال : إنه يريد أن يقرأ القصيدة عليها بالتليفون . كان تليفوني بسماعتين ، أمسك هو بواحدة وأمسكت أنا وأحمد رجب بالأخرى ولكن من غرفة ثانية ، كامل بالفعل اتصل بها وبدأ يلقى عليها القصيدة بصوت منتحب خافت تتخلله الزفرات والعبرات والتنهدات والآهات مما كان يقطع القلوب : " لاتكذبى إنى رأيتكما معا ، ودعى البكاء فقد كرهت الأدمعا .. ما أهون الدمع الجسور إذا جرى من عين كاذبة فأنكر وادَّعى .. إني رأيتكما ..إني سمعتكما ..عيناك في عينيه .. في شفتيه .. في كفيه في قدميهِ .. ويداك ضارعتان .. ترتعشان من لهف عليه ..." إلى آخر القصيدة ، وتصورنا أنها عندما تسمعها سوف تتأثر وتنتحب وتشعر بالندم . إلا أننا فوجئنا بأنها ظلت صامتة منصتة وهى تسمع القصيدة لاتعلق ولا تقاطع ولا تعترض ولم تقل شيئا البتة ، وبعد أن فرغ كامل من إلقاء قصيدته قالت له : " كويسه قوى ، تنفع أغنية..لازم أغنيها ". وانتهت المحادثة ، ورأينا كامل الشناوي أمامنا كأنه جثة بلا حِراك ، أنها قست على قلب من أخلص لها وأحبها وقدم لها الكثير . بعدها حاول أن يعود إليها بأى طريقة ؛ يمدحها ويشتمها، يركع أمامها ويدوسها بقدميه ، يعبدها ويلعنها .. وكانت تجد متعة كبيرة فى أن تعبث به ، يومـا تبتسم له ويومـا تعبس به ، ساعة تقبل عليه وساعة تهرب منه .. تطلبه فى التليفون فى الصباح ، ثم تُنكر نفسها منه في المساء "  ثم أردف : " أشك أن البعض يقول : الأمر ليس مؤلمـا فمن حق المرأة ألاتحب ذلك الشخص .. فهذا حقها ، لأنه كان أكبر منها بثلاثة عقود! ولكن لم يكن هناك داع لكل هذا التمسك منه بها وهى ترفضه ". إلا أنه عاد وقال : " إن صد المطربة لحب الشناوي كان يمثل أمرا صعبا عليه ، ولم يرغب في تصديقه ، للدرجة التى دفعته أن يقول عنها : إننى لا أفهمها، فهي امرأة غامضة لا أعرف هل هي تحبني أم تكرهني؟ هل تريد أن تحييني أم تقتلني؟ ". هكذا كتب مصطفى أمين عن حب كامل الشناوى لنجاة ومأساة هذا اليوم الفاصل فى حياته ، وهذه الوقعة التى ألمت به .

فى صباح اليوم التالى فتح عينه المرهقتين وقد رأى البارحة أشياء كثيرة لاتُرى ولاتُحكى شعر بصداع رهيب فى مقدمة رأسه ، وحين لمس جبينه شعر وكأنما صفعته حرارة شمس طاغية صبت بكل حممها فى رأسه  ، وجعلت منها حفرة عميقة ظنها بجحم الأرض ، إنه لن يستطيع أن يمد يده لوقف النزف أو على الأقل ليقدر شكل الجراح ، لقد شعر بإنها أفسدت رأسه وكسرته بعد أن أتت على روحه وطعنتها فى جرح لايندمل ، فخسر كلا من الجسد والروح ، لقد حاول أن ينسى جراحه وآلامه ويذهب بعيدا ولكن كيف سيفر من قدره ، حاول أن يبتعد عن المكان الذى كان يعده البارحة لإقامة الإحتفالات من أجلها ، فإذا بها تطعنه طعنة غدر شلت بها حركته .. إنها أرادت أن يكون هذا المكان قبره ، حاول أن يهرب منه ولكنه لم يستطع حتى أن يزحف ، محاولاته خلال ليلة كاملة باءت بالفشل إلا مسافة صغيرة أوصلته بشق الأنفس إلى مسكن صديقه مصطفى أمين ولم يعرف بعد كيف جاوزها ولا كيف وصل إليه ، خُيل إليه إنها بألف يوم . بقى عنده إلى مابعد الفجر ثم غادره عائدا إلى منزله بعد أن اطمأن صديقاه أنه أخذ قسطا من الراحة استرد بها شيئا من الإتزان وانضباط النفس رغم أنه مازال يعانى من اضطراب شديد فى سرعة ضربات القلب وارتفاع كبير فى ضغط الدم وآلام لاتنقطع فى جنبيه ، لذلك اصطحبه أحمد رجب الذى أصر أن يوصله بنفسه إلى منزله ، وعندما عاد لم ينم ، ورغم وهنه وضعفه إلا أنه أمسك بقلمه ، ولأنه لا يملك غير الكلام فكتب لها :" لا وعينيك يا حبيبة روحي لم أعد فيك هائما فاستريحي .. سكنت ثورتي فصار سواء أن تليني أو تجنحي للجموح واهتدت حيرتي فسيان عندي أن تبوحي بالحب أو لا تبوحي ، وخيالي الذي سما بك يوماً يا له اليوم من خيال كسيح ، والفؤاد الذي سكنت الحنايا منه أودعته مهب الريح ، لا وعينيك ما سلوتك عمري ، فاستريحي وحاذري أن تريحي" . ثم كتب لغريمه قصيدة " حبيبها لست وحدك حبيبها .. حبيبها أنا قبلك ! ، وربما جئت بعدك ، وربما كنت مثلك !" إذعانا منه بوجود شريك له فى حبها ، لقد رضى بأن يشاركه أخر فى حبها .. رضى حتى بالقليل ، ومع ذلك فإن رضوخه لم يشفع له ، فكتب برؤية ساخرة هذه القصيدة التى تؤرخ  معاناة النفس مع النفس فى عاطفة سامية سكنت الفؤاد فى نوبة من نوبات العشق من طرف واحد ، فللوهلة الأولى نشعر بأنه رفض هذا العبث ثم أقره نزولا عن حبه الذى لاحيلة له فيه " ويحفر الحب قلبى .. بالنار ، بالسكين .. وهاتف يهتف بى : حذارى يامسكين ! " ثم وصف معاناته مع نفسه وضياعها : " وسرت وحدى شريدًا ، محطم الخطوات ، تهزنى أنفاسى ، تخيفنى لفتاتى ! كهارب ليس يدرى ، من أين ، أو أين يمضى ؟ ، شك ! ضباب ! حطام ! ، بعضى يمزق بعضى ! " وهذه القصيدة لحنها الموجى وغناها عبد الحليم حافظ .


لم ينس كامل الشناوى تلك الليلة ، ظل بقية عمره بتعذب بها ويعاتب نفسه عليها كثيرا حيث قال : "هل تذكرين تلك الليلة..؟ أنا أذكرها؛ فاسمعي لي، ولا تحزني ! لقد حاولت أن أنساها، ولكنّي لم أستطع.. ففي حياة الناس أشياء يعجزون عن نسيانها لأنها تثير خجلهم ، وكم شعرت بالخجل وعانيته طيلة هذه السنين، وأعتقد أن خجلي سيعيش معي إلى أن ألفظ آخر أنفاسي ؛ فإن ذاكرتي تأبى أن تنسى هذه الليلة.. "
روى الناقد الكبير رجاء النقاش أن الشناوى كان صاحب فلسفة خاصة فى حبه، فكان يرى أن الحب والعذاب فيهما شيئ واحد ، لافتا إلى أن الشناوي لم يكن يميل إلى الحب السهل الخالى من الآلام ، لذلك لم يتزوج ولم يعرف فى حياته إلا قصة حبه للفنانة نجاة الصغيرة، وكانت هذه التجربة العاطفية بالنسبة للشناوى مليئة بالعذاب ، لقد ساعدها كثيرا .. ساهم بشكل كبير في ظهورها وقدم لها الكثير من القصائد والحب ، ثم أعطاها المجد والشهرة ، فكان جزاؤه تجرُّع الحُزن كؤوسا لا تنتهي .. فنجاة كانت تصغره بثلاثين عامًا، وكانت تحبه كحب الأبنة لأبيها، بينما كان يعشقها هو كعشق الحبيب لمحبوبته ، لكن نجاة تزوجت من كمال منسى وتركت عاشقها غارقًا في دموعه ، التي ولدت بداخله إنتاجا شعريا متفردا  .

وفي إحدى المرات شاهد أحد محبيها يتودد إليها ، فكتب ساخرا: " إنها كالدنيا لا تبقى ولا تتجدد إلا إذا خرج من حياتها أناس .. ما أكثر الذين شاهدتهم وهم يغادرونها وما أكثر المواليد الذين رأيتهم على بابها ".
وظل يردد كثيرا ماكان يعكف على كتابته كل المساء إذ أن الكتابة كانت متنفسه الوحيد : " أتُسمَّى محبوبة ؟ أتوصف بكل البراءة التي تظهر على وجهها ؟ يقولون أنّ قساة القلوب لا يحبون ، والحقيقة أنّ القساة بلا قلوب " ، وقال : " افهميني على حقيقتى .. إنني لا أجري وراءك بل أجري وراء دموعي " .
"  إن الحُبَّ ليس له عقل . وإنه قادر على أن يسحق أكبر العقول . ولست مغرورا حتى أتصوَّر أن لي عقلا كبيرا .. ولكنني شجاع إلى حد الاعتراف بأن الحُب انتزع عقلي من رأسي، وألقى به في عرض الطريق  ". ثم قال : " دمرتنى لأ نـنى كنت يوما أحبها وإلى الآن لم يـزل نابـضًا فيك حبها ! ؟ لست قلبى أنا إذن ! ! إنمـا أنت قلبها ."



أصبح الشناوى يشعر بغربة الأيام وقسوتها مع لعنة الهجر الذى أتى على كل طموحاته ودمرته ثم قتلته ، وكان يجلس يوميا يكتب عن عذاباته وعن تجربته الفاشلة مع الحب والحياة منتظر الموت الذى أصبح يحاصره من كل اتجاه ، ولم يبق سوى الموعد الذى ستشييع فيها جنازته ، فوجئ به مصطفى أمين يتردد على المقابر، ، وكانت هذه عادته الجديدة، فسأله ماذا حدث، فابتسم "الشناوى بابتسامة يملأها الحزن " وقال : " أريد أن أتعود على الجو الذى سأبقى فيه إلى الأبد ".
ورغم كبرياء " الشناوي" إلا أنه تأثر كثيرا عندما علم ماقالته لصديقاتها وأصدقائها عن عذابه فى حبها : " مسكين كامل ، لقد دمرته الغيرة ". فكتب إليها يقول : " صدقيني إذا قلت لك ، إنني لست مسكينا، ربما كنت كذلك لو أنني استسلمت للوهم الذي علقني بك ، ولكنني قاومته ورفضته وجعلت من كبريائي حصنا يحميني منك، ومن قلبي ، ولاشىء يقوى أن يدمرني لأننى أحيا، ومادمت أحيا فإن العواصف التي تهب من حولي لا تزيدني إلا قوة ، تبدده حفنة من الهواء ، ولكني جبل لا أبالي العاصفة، بل أحتفي بها، وبدلا من أن أتذمجر في الفضاء أجعلها تغني من خلال صخوري، وليس صحيحا أنى أغار من أى إنسان تعرفينه، فالغيرة لا تكون إلا ممن تحبينهم، وعرفت بالتجربة أنك لا تحبى إلا ذاتًا واحدة، لا أستطيع أن أغار منها لأنها مختبئة في ثيابك، إنك تحبين نفسك، وتغارين ممن يشاركونك حبها، بل إنك تناصبينهم العداء، ومن أجل ذلك عاملتني كما لو كنت عدوك الطبيعي، أحببتك فكرهتني، قدمت إليك قلبا فطعنتيه بخنجر مسموم  ".




يقول مصطفى أمين : إن تلك المطربة الكبيرة مضت تثير الشناوي بأنها تعشق الطبيب الفلانى ، أوالمحامي المشهور العلانى ، أو أنها خرجت مع المهندس المعروف كذا ، فلم يصمت "الشناوي" وكتب يقول: " ليتك تعلمين ، أنك لا تهزينني بتصرفاتك الحمقاء، فلم يعد يربطني بك إلا ماض لا تستطيع قوة أن تعيده إلينا أو تعيدنا إليه، كنت أتعذب في حبك بكبرياء، وقد ذهب الحب، وبقى لي كبريائي ، كنت قاسية في فتنتك، ونضارتك وجاذبيتك ، فأصبحت قاسية فقط  ".


ظل يدخن بشراهة ويشرب بإفراط ويدمن السهر ويستمتع بالكتابة ويحب نجاة ،  كان يكره النوم لأنه عندما كان يذهب لمخدعه تتلقفه الهواجس ، ويتملكه الأرق ويتسلمه السهد ويستبد به الفكر العميق الذى لاينتهى إلى شيئ ، وكلما كان  يأوى إلى فراشه ويضطجع فى سريره يتصبب العرق منه وقلبه يدق بكل عنف ، حتى إذا غفا قليلا يشعر وكأن الدنيا كلها تجثم على قلبه ثم تأخذه إلى أعلى وتهوى به فجأة فى واد سحيق لايوجد فيه غيره ، ثم يصحو مضطربا مكروبا لايستطيع بعدها أن يتحرك أو يتنفس أو يتأوه وكأن الموت يناديه ، ولم يكن يدرى هل هذا كابوسا أو حلما مزعجا ، أو حقيقة أو وهما ، أم أن قدر حياته أنه يرى مماته كل ليلة . حتى قال عن نفسه أنا وهم أنا سراب ، وقال عن نفسه فى أخر عيد ميلاد له : " ولكن أيامي اليوم قليلة ، إننى صحوت على صوت رقيق يهنئني بعيد ميلادي .. إن كلمات التهنئة والعيد والفرح أصبحت غريبة على أذني؛ فأنا في عذاب دائم من أوهامي وظنوني. تمرُّ بي الأيام فلا أدري أأبكي عليها أم أبكي منها . إن عبء الكهولة يرهقني وشبح الشيخوخة يخيفني ، ومع ذلك فأنا أريد أن أحيا، وأريد حياتي أن تكون إلى أمام وليس أمامنا إلا الموت ". ورغم كل ذلك لم ييأس ، ولكن عندما يئس استسلم للموت ، مات كامل الشناوى محبطا بسبب فشله فى الحب ، وهكذا انطوت قصة أرق شاعر عرفته مصر ، ذهبت روحه لخالقها فى الثلاثين من شهر نوفمبر عام ألف وتسمائة وخمسة وستين ، مات بعد أن تدهورت حالته الصحية وساءت بسبب مضاعفات حادة فى الكلى أثرت على القلب ،  القلب الذى عانا كثيرا من منغصات الحياة والحب ، مات كامل بعد أن شعر بأنه لاقيمة لحياة بلا حب ، وحب بلا شريك ، وشريك بلا قلب ، وقلب غض طرفه عن رد الجميل .. قلب أعطاه كل شيئ من كيانه .. من دمه ودموعه وآلامه ولم يبق لنفسه شيئا حتى أصبحت غريبة عليه ، وأصبحت الحياة غريبة على روحه فلفظ الحياة .. وكما لفظ الحياة ، الحياة لفظته أيضا ، إنه لم يعد يعرفها .. ولم تعد لديه القدرة أن يعرفها ، وقتها تساوت عنده الحياة بالممات ففضل الممات ولهذا أنشد : " لم تعد الحياه كما كانت ولم أعد أنا أنا . "


وبعد وفاة كامل الشناوي التقى مصطفى أمين بتلك المطربة ، وأخبرها أنه كرهها طول حياته منذ قصيدة : " لا تكذبي "، فقالت : إنني لم أحبه ، وإنما هو الذي كان يحبني ، إنني كنت أحبه كصديق فقط ، وعندما طلب مني الزواج رفضت لأننا مختلفون في كل شىء .. فأنا رقيقة وهو ضخم .. وأنا صغيرة وهو عجوز ، وأنا أجد متعة في أن أجلس مع الناس، وهو متعته أن يجلس معي وحدى ، أنا لا أريد أن يعرف الناس من أحب ، وهو يريد أن تعرف الدنيا كلها أنه يحبني . فرد عليها مصطفى أمين : إن أصدقاءه يعتقدون أنك قتلتيه ، فقالت : " لا .. إنه هو الذي انتحر ". الفنانه نجاة لم تكن قاسية ، ولا هو يستحق هذه المعاناة ، ولكنها لعنة الحب من طرف واحد! ربما نجد التاريخ زاخرا عن حكاوى هذا النوع من القصص ، لكن أكثرنا لم يعش مثلها ولا يُدرك مدى تألم شخص علق قلبه بإمرأة ارتمت بأحضان أخر أو العكس على حد سواء .


مع خالص تحياتى : عصام        
القاهرة فى مارس سنة 2020