music

الخميس، 26 أكتوبر 2023

موعد مع الحقيقة

كنت على موعد مؤجل أكثر من مرة .. المكان شارع رمسيس والموعد الساعة العاشرة  مساء بعد انتهاء حفل الموسيقى العربية ، المكان كله يلفه الليل  تحمل نسماته بعضا من الهواء الخفيف الذى لايفقدك الإحساس برطوبة الجو الخانق الذى لازال مسيطرا على أجواء القاهرة كلها فنحن فى شهر يونيو . جئت قبل الموعد بكثير وانتظرت متخيلا كل سيناريوهات اللقاء ، وطريقة استقبال كل منا للأخر ، وماذا سنقول، وفى أى موضوعات سنتحدث ، زخم من تخيلات كثيرة صورها عقلى جعلتنى مضطرب الخاطر ، فهذه أول مرة أقابلها فيها ، ولاأعرف عنها إلا القليل . وكلما مر الوقت كنت أزداد اضطرابا فحاولت أن أشغل نفسى بمتابعة المارة بأشكالهم وأنماطهم وخاصة النازحين من مكان الحفلة حيث كانت وقفتى بجانب السيارة خلف السور المواجهة لبوابة المعهد .هاتفتنى لتحديد مكان انتظارى، فوصفت لها المكان الذى أقف فيه واطمأننت على احترامها للميعاد وإثبات جديتها للحضور . انصرف الناس ومن بعدهم جوقة الموسيقيين والفنانين ولم ألمحها بينهم ، وكان من المفترض خروجها معهم . مضى بعض من الوقت وأنا على حالى  منتظرا حتى طالت مدة الانتظار ولكنها لم تأت . فنظرت إلى الساعة فى يدى فإذا بالوقت قد سرقنى وتجاوز الميعاد المحدد للمقابلة بكثير ولولا مهاتفتها ماكنت انتظر كل هذا الوقت ولمضيت لحالى ، عدت وجلست فى السيارة ساهما واجما وحاولت مهاتفتها عدة مرات من الرقم التى هاتفتنى منه ولكنها لم ترد ورحت ألوم نفسى وأحدثها فى ضييق .. لابد وأنها جاءت وانصرفت مغيظة حانقة ، فلقد مضى على الموعد مايقرب من نصف الساعة ، تركت السيارة مرة أخرى وترجلت بين المارة أجوس بينهم وقد تفصد وجهى بالعرق الكثير فالجو ازداد اختناقا  وضيقا، اتلفت هنا وهناك ، حتى خف المكان من الحركة وبدا يخلو من المارة ، وحاولت أن أعلل لنفسى بأنها لم تأت بعد ، فقد يكون ثمة عائق أخرها عن الموعد وقد تأتى بين آونة وأخرى ، عدت إلى السيارة حائرا أتابع كل الطرق من حولى التى من المحتمل أن تأتى من إحداها ولكن دون جدوى ، وبدأ اليأس يتسرب إلى نفسى يملؤنى الاحساس بالندم والخجل والضيق والحزن ، إننى لم أكن أبصرها قط قبل ذلك ، وهذه كانت الفرصة الحقيقة للتعرف عليها عن قرب ، وبدأت أشعر بالملل فقد خلا المكان وأقفر إلا من بعض الوجوة الآوبة لبيوتها وشعرت بالضيق من الناس والرغبة فى العودة خائب الأمل . 

أدرت محرك السيارة  وعند التحرك لمحت وجها قد أقبل بين هذه الوجوه التى كنت أرها عابثة جعلنى أتسمر فى مكانى ، وجه كأنها هى .. اقتربت صاحبة الوجه الذى بدت ملامحه تطفو إلى سطح عقلى فهذه الملامح مازالت حاضرة الذهن أعرف تفاصيله جيدا ، فمنذ قريب انتهيت من رسمه  على اللوحة التى أحملها معى وجئت لأقابلها كى أعطيها إياها .. اقتربت رويدا رويدا وتأنت فى مشتيها ثم تريثت ريثما أخطأت التقدير فى الشخص الذى ستقابله ، حتى توقفت واستدارت ببطء ، واتجهت إلى السور الحديدى الحائل بين الرصيف والشارع الذى تقف فيه سيارتى من خلفه واتكأت عليه مولية وجهها ناحيتى ، وسألتى : الأستاذ عصام . قلت لها : نعم . اطمأنت بأننى ذاك الشخص التى جاءت لتقابله ، ثم راحت لأخر السور حتى تأتى إلى الجهة التى أقف فيها ، كنت أثناء ذلك شارد الذهن ابحث فى سرعة عن أنسب الكلمات التى أبدأ بها حديثى معها ، وأخذت أستعيد لنفسى كل الكلمات التى يمكن أن تقال فى افتتاحية مثل هذه المواقف ، ومضت الفترة الوجيزة دون الاهتداء إلى كلمات . أسرعت فى استقبالها وترجلت خطوات قبالها حتى  دنونا من بعضنا البعض فأقبلت هاشة باشة كأن بيننا قديم صحبة وأحسست أن روحينا قد التقيتا قبل ذلك مئات المرات ، ولكن  تملكنى من رؤيتها الشعور بالدهشة والاعجاب ، فقد كانت حقيقتها أكثر روعة مما تبدو عليه فى الصور ،  إنها سيدة بارعة الحسن ، رائعة الجمال أقبلت على كما يقبل الشذى المعطر متضوعا من بعيد .. وجهها المشرق جعلنى أشعر ببعض الطمأنينة لأننى توقعت أن تمر بى مر الكرام فلا شك أنها لاتعرف عنى سوى اسمى وكل منا كان لايرى الأخر إلا من خلال الصور فقط ، والصور لاتعطيك احساسا طبيعيا وصادقا كما ترى العين وتحلو لها ، إن تخيل الشخوص ورسمها فى ذهنك  لايعادلها متعة الرؤية الحسية بل تفقدك الكثير من الإحساس الطبيعى الذى تحب أن تراه فى وجوه من يروقون لك  . والحق كنت خائفا وحذرا من أن يكون هناك اتساع كبير فى الفارق بين رؤية العين والصور ، فالصورة  قد تحمل تفاصيل كثيرة لم ترها العين، وربما يكون فيها تكامل وانسجام نتيجة إضافة تحسينات وتنقية وإضافة رتوش وأشياء كثيرة لاتستطيع أن تحس بها عينيك ، ولكن أيضا الرؤية الحقيقية المجردة تتعرض هى الأخرى لمؤثرات ولكنها مختلفة أهمها أنها تتعرض للعاطفة فلو رأيت بعين عواطفك التى لاتملكها قد تتأثر بالحقيقة فترى الشخص الذى تكرهه دميما وترى الشخص الذى تحبه جميلا ، فكما أن الصورة لاتكون دقيقة فالعين أيضا لايمكن أن تكون صادقة لأنها عين غير منـزهة ولا محايدة ،  إنما هى عين أسيرة بين قلب الإنسان وعقله أى  أسيرة الأهواء  . 

وهكذا كنت أرى وجوه الناس  بعين إحساسى . رفعت بصرى تجاه وجهها فإذا به أراه وقد علت عليه ابتسامة ساحرة فى ليلة عجيبة ، تخيلت وكأنها ليلة من ليالى الجنة ، اسقطها الله على أهل الدنيا ، فانسربت فى لياليهم .. ليلة ليست فى شيئ من الليالى التى يغيب عنها القمر .. إنها ليلة أشبه بليالى ألف ليلة وليلة من جم سحرها وحسن بهائها .. ليلة لاينام فيها إلا الحمقى الذين لايقدرون جمال الليل وسحر نسماته ، فى هذه الليلة احسست وقد غمرنى النعيم وامتلأ قلبى بالنشوى . وأيقنت أنه لا أروع ولاأجمل من التعارف الحقيقى و الطبيعى مهما كان جمال الخيال وقيمته ومهما كان حلاوة الصور ودقتها ، وخاصة لو أن رؤيتهم صادفت بداخلك ارتياحا وبعث فى نفسك الطمأنية . إنه الاحساس .. الرؤية الحقيقية التى تجد فيها الشعور بالاحترام والعمق ، ليؤكد أن الاحساس نعمة . مدت لى يدها وشدت على يدى فى رفق وحنان بالغين وصافحتنى بحرارة وسارت بجانبى حتى وصلنا للسيارة التى كانت تبعد عنا بضع خطوات ، و سرعان مادلفنا بداخلها وجلسنا فيها وراحت تلتفت لى باسمة وقالت وهى تنظر إلى وجهى وتتأمله ، فكل منا كان يتأمل الأخر ، بدت  وكأنها تتفحص ملامحه وتقارنه بالذى كانت تراه فى الصور .. تحسسته بعينيها اللتان تضيقان ثم تتسعان حتى نطقت بالتحية : أزيك ياأستاذ عصام ، أنا آسفة على التأخير كانت هناك  بعض الأمور بالفرقة ابقتنى بعض الوقت داخل المسرح لم تكن فى الحسبان ، واستطردت : ولكم كنت أتمنى أن أجلس معك أكثر من هذا ولولا أن الوقت أصبح متأخرا لما تركتك ، ولكن وعد منى إن شاء الله سنتقابل عن قريب ونشرب  معا القهوة التى عزمتك عليها . ولكنها لم تهم بالنـزول من السيارة ، ودار بيننا حديث بعد أن استبقت نفسها جالسة فى مكانها تطلعنى على بعض أسرارها ، رأيت فاهها ينطلق فى الحديث ويروى كل ماوعته ذاكرتها وكانت أحيانا أثناء حديثها تصمت برهة تسرح فيما تسرح ثم تعود لتستكمل حديثها وعلى طرف لسانها سؤال لايمكن أن يعرف إجابته إلا هى ، ربما كانت تريد استطلاع رأيى فيما تروى ، فكانت تسكت لتفاجئنى به ثم تجيب عليه وكأنها تريد أن تسمع الأخر الذى يؤكد لها أنها كانت على حق . سؤالها البسيط إجابته توجع القلب ، عن مجمل حياتها والتحولات الفجة والغريبة التى طرأت عليها والظروف التى واتتها على غير ماكانت تتمنى ، وصدماتها فى الناس بل أقرب الناس إليها ، هذا الشتات النفسى والعقلى جعلها فى حالة اضطراب دائم ، انعكس على صحتها النفسية والبدنية التى أصبحت مخترقة تماما ، جسدها لم يعد فى استطاعته الصمود فى مواجهة كل هذه النوائب حيث أخذ نصيبه الوافر من أمراض كثيرة نتيجة للحالة النفسية السيئة التى أصبحت متلازمة وملاصقة لحياتها . نظرت لى وصمتت ولكن فى هذه المرة طالت فى صمتها جالت فى عينيها بعض الدموع ثم قالت : إننى لا أعرف سر عذابى بعد ، لم أعرف لماذا قضيت عمرى كله شاردة العقل موجوعة القلب ، أبدو أحيانا كأنى مجنونة ، وأحيانا أبدو كأنى عاقلة وكنت أسأل نفسى دائما فى فترات جنونى : لماذا أنا جننت وأسأل نفسى فى فترات تعقلى لماذا أنا عاقلة فلا أدرى سببا لجنونى ولاتعقلى وعندما تخطيت سن الثلاثين تزوجت وعشت حياة بدايتها هادئة ولكن سرعان مادب الخلاف بيننا وإن كان الخلاف كأى خلاف تعيشه البيوت وتستطيع السيطرة عليه إلا أن تدخل الأهل وخاصة أمه وأخوته فى أدق تفاصيل حياتنا جعلنا ننفصل ، فانفصلت عنه وعشت أواجه الحياة وحدى مع ابنتى الوحيدة التى رزقت بها وسط هذه الأجواء المتلاطمة وكانت وقتها مازالت طفلة صغيرة .. وحاولت أن أواجه حياتى بكل مافيها من عواصف وأنواء ومنغصات كانت كثيرة ، حاولت وأنا لاأملك  إلا القليل من الصبر، مرت أيام كثيرة عصيبة وفترات أخرى هادئة ، وأخيرا فى فترة هدوئى أكتشفت سر عذابى ، أتدرى ماهو السر ؟ ! . سألت ثم أجابت وأنا لازلت أنظر إليها مبهوتا حتى أشفقت عليها من وجهها الذى اكفهر وازدرد، أرقب حديثها الذى بدت عليه العصبية والانفعال الشديد، كنت أريد أن تكف عن الحديث الذى يؤلمها وخاصة أنها واصلت حديثها بصوت محتد تملكه الشجن : السر أنى طول حياتى لم أملك شيئا حتى الصبر، وكان يخيل لى إنى أملك كل شيئ عندما كان والدى موجودا على قيد الحياة يحنو علينا ويملأ دنيتنا الصغيرة وحياتنا الرغدة بالسعادة والحب ، ولكن عندما فقدناه أصبحت أرى الحقيقة عارية وعرفت أننى لم أعد أملك شيئا .. لاأملك أبى الذى مات وذهب وتركنا ، لا أملك أمى فهى ملك مزاجها وميولها ومعتقداتها وتصرفاتها .. لاتريد أن تسمع إلا صوتها ولاتريد أن تستشير أحدا غير عقلها وكفى .. فهى ملك نفسها وإخوتها الذين تنكروا منها عندما مرضت وهى التى كانت تغدق عليهم بكل غال ونفيث ، ولا أملك زوجى فهو ملك أمه وإخوته . البيوت التى عشت فيها ليس من بينها بيت أملكه ، عشت طوال حياتى حياة غريبة فى هذه البيوت .. كنت دائما أجد نفسى مجرد ضيفة ، والانسان لايتحمل الشعور بالضيافة طول عمره ، لذلك كنت أهرب من هذا الشعور القاسى بالإنزواء والبعد ، وكلما عدت إلى نفسى أبكي .. كنت كثيرة البكاء .. أبكى الإنسانة التى صنعت جزءا كبيرا منها بنفسى ، وعشت أسيرة ظروفى وكانت الأيام تتوالى وتنقضى ..أيام طويلة وأنا وحدى أفكر ولا أصل لشيئ ،  وعشت على ذاكرة خيالى الذى كانت تصنع لى ماكنت أحبه وأتمناه .. لذلك كنت دائمة الهروب .. الهروب حتى من مواجهة نفسى ، كنت أهرب باحثة عن شيئ أملكه ، وهنا يكمن سر عذابى ، ربما استرحت عندما اكتشفت سرى .. على الأقل عرفت طريقى فى الحياة ، عرفت أن لى ابنة تحتاج منى أن أوفر لها كل ماحرمت منه وستكون هى الدنيا التى أملكها . 


انهت كلامها وصمتت ، نظرت إليها بعين الحب وبعين الرحمة وجال بخاطرى  سؤال كيف وثقت بى لهذه الدرجة و ارتاحت لى فجأة  ؟! وكيف حكت لى ماحكته عن نفسها بهذه البساطة وهى ترانى لأول مرة ، وكأن بيننا معرفة قديمة، ولكن عدت لأتذكر كيف كان حكمى على الناس من أول نظرة ، وكيف كان انطباعى فيما مضى  والنظر باستخفاف على أساس إنه غالبا مايكون متعجلا ، وأن الغوص فى أعماق الآخرين ومعرفتهم أمر فى غاية الصعوبة ، ولكن لم أفطن بعد إلا فى سن متقدمة أن الله جعل فى قلوبنا شيئا قد لاندركه ، إنها الرؤية الشفافة التى ترى الآخر فتقبله أوترفضه ، تحبه أو تكرهه ، ترتاح إليه أو لاترتاح ، إنها ممارسة طبيعية تدرك بالغريزة صحتها حتى ولو كان هذا الآخر "شخصية باطنية" تتوارى وراء أقنعة ، فدائما تجد مظهره الخارجى فى النهاية يدل عليه ، مظهرك هو أنت ظاهريا وباطنيا ، محصلة لمعالم شخصيتك ، ثيابك .. صوتك .. نظرتك .. لغتك .. مشيتك .. دموعك .. ابتساماتك ، كل هذا يتجمع فى شيئ واحد يراه الآخر ويتخذ منك موقفه سواء بالقبول أو بالرفض ، وموقفه هذا محصلة نفسية اجتماعية بيئية فهو يراك بعيون أحلامه وخيالاته وعقده وأهوائه ، فهذا الإنطباع قلما يكون مخطئا ، من هنا عرفت وايقنت مع نفسى أن المرء يستطيع أن يكتشف وبكل بساطة نقاء القلوب الطيبة ويرى الهالات التى تدور بها وحولها حتى ولو حجبت وراء الأستار لأن الطبيعة الشفافة والقلوب النقية لايمكن أن تضلل وتكذب أبدا ولايعلق بها  شوائب الدنيا وحقارة النفس ، إذن ليس من الصعب أن تكتشف وبكل سهولة أن وراء هذا الارتياح روحا طيبة وقلبانقيا ووجها جميلا يحمل ملامحه بشاشة وحب . 



كنت أتابعها باهتمام  ورأيت فيما رأيت أن أسرارها كثيرة لم أكن أتصور أبدا أنها فى حوزتها ، نقلتنى فجأة إلى عوالم أخرى ورحت من خلال الكلام الضبابى الذى غشى عينى أتطلع إلى وجهها الذى أضنته الدنيا ونال منه الكثير رغم أنه لازال يحمل جمالا ساحرا ، ولازالت أنوثتها دافئة ، تعاطفت معها ومع مشاكلها حتى أظلمت الدنيا فى عينى وهرب سريعا ذلك الإنسان الذى بداخلى لايرى إلا الأمل ويشق ضباب الليالى ببصيص من النور ، وبقيت وحدى حائرا أسأل نفسى أسئلة كثيرة فلا أظفر بجواب واحد ، وضايقنى هذا جدا حتى شعرت هى بذلك فباغتتنى : فيم تفكر ، فقلت لها أفكر فيما أنت عليه ، كيف لنفس أن تشقى من الحقيقة وتحاول كرا وفرا أن تهرب منها و الناس لايشعرون بذلك ولايهمهم أن يعرفوا هذه الحقيقة ولايرون فيك غير الفنانةفقط .. المغنية التى تسعدهم وتنعش خيالهم وتصوروا أنك تعيشين فيه وتتمرغين فى لفائفه ، ولم يروا أن حياتك لم تكن على غير ماتبدو لهم ، فلا أحد يدرى أن حياتك التى تعيشنها  مأساوية إلى هذا الحد حتى أقرب الأقربين لك ، ورغم ذلك تتحاملين على نفسك لترسمى البسمة على وجوههم بينما قلبك يعتصر من الألم والأحزان ، انهم لايسمعون شيئا عن حياتك ولايرون الدموع التى تملأ عينيك ولايسمعون الآهات التى تئز صدرك . ثم نظرت لى بكل غبطة وحنان وقد اغرورقت عينيها بالدموع ، ظلت جاهدة أن تجففها وتخفيها ثم قالت لى فى محاولة لتغيير دفة الحديث : مش هتورينى صورتى بقى ولا إيه . ولم تمهلنى فرصة أن أحضرها لها ، مدت يدها للكرسى الخلفى وانتزعت الصورة من غلافها ، فإذا بنور يشع من عينيها من جديد بدد دموعها وهى ترى وجهها المرسوم يتألق بهاء وصفاء والذى انسدلت عليه غلائل الشعر الفاحم فكادت تغرقه فى بحر من الظلام الدامس لولا الشعاع المنبثق من نور العينين الذى اقتحم الظلام وكشف عن إشراقة ابتسامة رقيقة . نظرت لصورتها مشدوهة وهى ترى نفسها مرسومة ، ولما تأملتها طويلا ووقفت على خطوطها ومعالمها نظرت إلى ممتنة وشكرتنى بعد أن أولتنى ابتسامة رقيقة وأغدقت على ماتملك من حنان وعطف ، ثم تركتنى بعد أن ودعتنى وضغطت على يدى ،  كنت حريصا أن أنظر فى عينيها فبدت منهما نظرة غريبة فيها استسلام وانتظار  ، ورأيت أجفانها تنطبقان ببطء وكأنها ذاهبة إلى حلم أو غيبوبة  ،  ثم همت بالنـزول من السيارة حتى غابت وسط الناس بعدها اكتسى الظلام المكان ، وافترقنا بعد حديث ذى شجون ، ولكن الفرقة كانت إلى موعد أخر ولقاء سيحدد فيما بعد  .  أدرت مفتاح سيارتى وتحركت بها فى اتجاه العودة ودار فى ذهنى مادار وأخذتنى الأفكار وغادرت المكان ورحت أحلق بروحى التى سمت إلى عنان السماء أجوبها على جناحى طائر جريح يطير بلا اتجاه ، لقد أحسست والدم قد غاض من وجهى وتدهورت أنفاسى  كلما تذكرت حديثها المنكسر الحزين  . 

وعلى هذا قضيت ليلة طويلة مسهدة لم اتنبه إلى طولها ، ولاأعرف كيف قضيتها حيث رحت فى دوامة من الفكر ، كيف لهذه النفسية المعذبة المقهورة أن تجلى عن نفسها كل هذه الأحزان حينما تنقل مشاعرها للأخرين .. عندما تغنى .. وكيف للغناء أن يذهب عنها الروع والإحساس بالألم وهى تشدو  مرتسمة الابتسامات التى لم تكن حقيقية ، إنه قدر الفنان الصادق الذى يستمد فنه من معاناته ويتغلب عليه به . ولأن الفن الحقيقى هو فى تلك  القدرة عند نقل  المشاعر  إلى الأخرين ، فإن الفنان الحقيقى أيضا هو من يستطيع تجاوز أحزانه ويفصل احساسه عنها كلما واجه الجمهور .. إنها القدرة على الفصل و القدرة على المواجهة ، وهذا يؤكد أن ملكات الفنان لاتتوقف على موهبته فقط ، بل هناك ملكات أخرى حسية ومعنوية تحركها تلك الموهبة الصادقة والتى يتغلب بها على معاناته ، لذلك وجدت فى نظرة  عينيها وهى تودعنى .. نظرة حنونة مضيئة بضياء غريب رأيته وكأنما يشع من حولها نورا فيه غموض رغم وضوح رؤيته ، حتى بدا فى عينى كهالات  تومض ثم تتلاشى ، أدهشى وجعلنى أسرح بعيدا وبداخلى شعور أن احتويها بروحى .. أمنا وسلامة و حماية ، فما حكته كان كفيلا بأن يدمر حياة أى إنسان ، مواقفها الصعبة فى كل الأحداث  التى مرت بحياتها رغم قسوتها وجسارتها إلا أنهالم تعصف بها ، فأحسست بأننى أمام نوع من البشر فائق القدرة على التصدى ولديه قوة فى المواجهة ، مهما كانت عواكس الدهر الكثيرة التى ناءت بها وفرضت نفسها على حياتها بقوة منذ الصغر ، جعلت طبيعة شخصيتها فولاذية المعدن أنها لو اصطدمت بالصخر كل يوم لن يؤثر فيها ، كل ذلك أعطتها القدرة على أن تمسح جراحها بنفسها لتضمن البقاء والاستمرار  ليس من أجل ذاتها بل لفنها وللذين كتب الله لهم أن يكونوا فى حياتها ، فأنت أمام نموذج فريد لفنان يعانى .. معاناة ليست إبداعية فقط للإنشغال بطرح مفردات الإرتقاء بالفن الجيد والتحفيز على نزع الآهات التى تحمله نبرات صوتها الشاجى ، ولكن لمعاناتها من الحياة ومن الناس أيضا ، لذلك عرفت معنى الخوف .. الخوف من الليل ، ومن الناس ، ثم من أقرب الناس .. الخوف من الزمن .. ومن المرض .. وأخيرا من الوسوسة .

من خالص تحياتى : عصام                 

القاهرة في : أكتوبر عام 2023

 






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق