فجأة قفزت أمامى فتاة مشرقة الطلعة .. فائقة الجمال تسدل عليها ثوبا من الحرير الشفاف أبيضا ناصعا ، ذات قوام متناسق رشيق ، وقفت أمامى بدمها وشحمها وجسدها ، ولاأبالغ إن قلت عن إحساسى فى هذه اللحظات بأنه لايوصف ، حيث تسارعت دقات قلبى وارتعدت مفاصلى وغطى العرق جسدى .. عرق بارد ، واحسست بدوار غريب ، ودار بعقلى ألاف الأفكار التى تنكر ماأراه أمامى جليا واضحا ، أحاول التركيز فى البريق المنبعث من مقلتيها الواسعتين السوداوين الكحيلتين ذات الأهداب الطويلة ، ولكننى لم أستطع الصمود فى مداومة النظر إليهما ، فنورهما مبهران وساطعان للغاية لدرجة أنه يكاد أن يخطف البصر ، فتولت يدى فرك عينى أكثر من مرة فى محاولة استعادة ماأراه من نور وتوالى المشاهد الغريبة التى تحدث الآن ، طلعتها كنورعينيها مبهر ساحر كلما لامس نسيم السحر ثوبها تطاير حولها ، وبدت بطلعتها وثوبها أشبه بالنور الهادئ الجميل ، طلعة تشرق معها الحياة بصفوها وعذوبتها ، كأنها ملاك جميل مرسوم بريشة ليوناردودافنشى على أسقف الكنائس . قاطعت سكون ورهبة اللحظة نابسة بأول كلمات : أنا هاميس ، ألم تسمع عنى ، أنا قصة فرعونية فيها موسيقى معبدية وشعر وطقوس ، حياتى من الزمن السحيق .. عالم من الأطلال الذى يكتنفه الغموض الأسطورى ، كم تمنيت هذه اللحظة . ثم خرجت من فمها آهة خفيفة وهى تنظر صوبى : أخيرا أصبح الحلم حقيقة .. لقد أمسكت أحلامى بيدى .. ملكتها بالحقيقة ، لقد عشت مع توالى الأيام وانقضاء الليالى أتنسم الماضى الذى أنا جزء منه .. أملأ به قلبى وعقلى بمعانى الخلود ذاك الذى عشته ، ومع كل بسمة فجر جديد أطلق خيالى أتخيل هذه اللحظة ، من سأقابل وكيف سأرى وماذا سيواجهنى به القدر ؟!! الأن اكتملت الصورة أمامى ورأيتك ، أحدثك وتحدثنى . حاولت أن أتجاوز بسرعة لحظات الشرود الأولى التى تكلمت فيها ولم أسمعها بسؤال محدد: من أنت ؟ قالت وهى ترنو إلى بنظرات حانية : بعد كل ماقلته لك ألم تعرفنى بعد ؟! ، لقد قلت لك اسمى منذ لحظة واحدة ، قلت لها :آسف لم أسمعك . ردت فى غبطة وبنظرات كسيرة : أنا هاميس ، قلت لها بدهشة : هاميس من ؟! قلبت شفتيها بامتعاض وكأن لسان حالها يقول من هذا المجهول الذى لايعرف جميلة الجميلات . تصورت أن التاريخ أنصفها وكل الأجيال تعرفها مثل إيزيس ، أومأت برأسها متعجبة وقالت : ألم تسمع بعد عن عروس النيل التى أتُخذت قربانا للنيل كى يصفو ويهدأ ، ويكون أكثر وداعة ورقة ، فلا يفيض فيضانا مدمرا يجتاح به القرى والمدن فى ثورة عارمة ، هل تذكرتنى ، إناهاميس .. أنا آخر عروس للنيل يابن مصر الحديثة . بدت وكأنما قرأت ماتولد فى خاطرى بأننى لاأصدق ماتراه عينى وأننى لازلت على حالى مضرجا بالتوتر الشديد .. تهيلنى الأفكار وجو الأساطير .
فى هذه الأثناء تذكرت فجأة قصص وحكايات نداهة الحقول أو سيدة الترع والمستنقعات وما كان ينسجه عنها خيال أقاربنا فى الريف كلما حللت أنا ووالدتى ضيوفا عليهم عندما كنت صغيرا، كنت استمع بإنصات لرواياتهم التى لاحصر لها ورسخت فى العقلين الظاهر والباطن خلال الطفولة لم نتبين بعد وإلى الأن مدى صدقها أوصحتها ، فقد كان يروى عنها أنها امرأة تتمتع بجمال ساحر يخطف القلوب ويخلب الألباب .. غريبة كالسراب قريبة بعيدة ، تمشى على الأرض والماء ، تتسع عيناها وتنفرج شفتاها بلا إرادة ، صوتها له رجع صدى وضحكاتها تسمع له دوى بسحر الليل يأخذك ويرهبك فى آن واحد ، بإمكانها أن تظهر بالشكل الذى تريده وفى السن التى تختارها ، كما يمكنها أيضا تغيير حجمها . لها قوة خارقة باستطاعتها أن تخترق الحوائط بسرعة البرق مستخدمة حيل الأنثى وفتنتها الذكية التى كانت تفلح جيدا فى استخدامها فى إغواء الرجال ، وكان ديدنها الظهور في الليالى المظلمة لاعتراض سبيلهم ، لاتنادى ولايسُمع لها صوت إلا فى الأماكن الواسعة الخالية من المارة وخاصة على ضفتى الترع والحقول ، نداؤها غالبا يكون للشخص التى تريده فينجذب لها مندفعا متتبعا النداء دون إرادة منه تحت طائلة جمالها الطاغى وتأثير سحر نداءاتها إلى أن يصل إليها ، ثم اختلفت الروايات فى شأن مصيره قيل أنه تحدث له هلاوس وتطورات نفسية فيبدأ فى التحدث مع نفسه ويأخذ فى التردد على الحقول كثيرا قاصدا المكان الذى قابلته فيه أول مرة ، وقد ينتهى به الحال بالجنون أو أن يختفى لفترة أو فترات .. يصعب تعقبه فيها أو معرفة أين يختبأ وقد يجدونه ميتا، وقيل لو صادفه وأحبته يمكنها أن تتعايش معه فى نور الظل دون الشمس أو تأخذه معها إلى عالمها السفلى وتتزوج منه . إننى لازلت فى حيرة وخوف مشوبين بالحذر الشديد أربط ماأراه أمامى بكل مايدور فى ذهنى الأن من الأساطير الشعبية والفرعونية ، ربما كان اهتماماتى بحضارة مصرالقديمة هى السبب فيما أبدو عليه الأن من هوس ، حيث كنت دؤوبا فى سماع القصص والروايات وقراءة الكثير من كتب السير والحكايات والزيارات الكثيرة والمتكررة للمتاحف والمعابد عن ماخلفته الحياة المتحضرة فى مصر من آثار اجتماعية واقتصادية وسياسية بفلسفتها الصعبة المعقدة والغريبة ولكن ما أشاهده الأن أمر أغرب مما يتصوره الخيال حقا ، أن أجد نفسى أمام إنسانة لاأعرف عما إذا كانت هى النداهة أم إمرأة المستنقعات أم إمرأة قادمة من العمق .. من الزمن البعيد ومرت عليها كل هذه العقود الكثيرة ، إننى أجد نفسى مخترقا تماما وسط تلك الحواديت والحكايات ، لتتصاعد فكرة ملحة أهذا حقيقى أم خيال أم أنا فى حلم أم أواجه خطرا؟ ، رباه إننى أراها بعين رأسى . قاطعت ذهولى للمرة الثانية بعد أن تركتنى مستغرقا لفترة كى استوعب الموقف كاملا : إننى آتية من حيث انتهى تفكيرك .. أنا هاميس ، أسطورة أخرى من عالم الأساطير .. جئت من العالم الأخر .. أوفدتنى الآلهة أتون برسالة معبرة عن نشرالحب والسلام ، فقلت لها : لمن هذه الرسالة بالضبط ؟ قالت : إليكم ، قلت : إذن لماذا أنا تحديدا ، قالت : أنت من قادنى الشوق إليك ، وأنت مصرى موصول بجذورك .. ولا حياة لشجرة بلا جذور ، ونحن جذورك وأنت نبتها الطيب . أعجبنى لغة حوارها المنطقى المقنع والمذهل رغم غرابته ، وكان سببا كافيا كى يهدأ روعى وتذهب حالة الهلع التى كنت عليها وخاصة أنها لم تكن نداهة ولم تأت من الحقول ولم أسمع لها صوتا إلا عندما تكلمت معى بكل سعة صدر وهدوء . بدأت أستوعب الموقف واستعيد حواسى واتزانى وزادت صورتها التى بدت عليها والتى جاءت متوافقة مع روعة الجمال الذى فاق كل خيال بتقاطيعها الجميلة وبشرتها الصافية من التخلص نهائيا من حالة الصدمة التى خلفها التباين الشديد من عاملى الزمان والمكان ، حيث بدت عيناها واسعتان فيهما صفاء ، شعرها ذهبى طويل ، أنفها متقن دقيق ، وشفتاها متفتحتان ممتلئتان ، صوتها كله أنوثة ، طلعتها مبهرة ، قوامها مستو ، ملابسها حريرية شفافة مرصعة بالحلى الذهبية ، يعلو رأسها تاج مرصع بالأحجار الكريمة ، حتى تصورت أنها أجمل فتاة وقع عليها بصرى . هتفت متمنعة وعيناها اللامعتان تقتحمان كل شيئ فى وجهى ، فقرأت بحس الأنثى ماكنت مستغرقا فيه من فكر .. أحست بشيئ من الارتياح يجتاح قلبى وعقلى ، أغمضت عينيها ، أخذت نفسا عميقا ، هزت رأسها فى اتجاه واحد حتى لاتحول نظراتها عنى ، ووجهت لى الحديث : عصام تعرف أنا التى اخترتك من بين ألوف البشر كى ترافقنى فى مهمتى . أصابتنى الدهشة لمعرفتها اسمى ، ولكنها لم تمهلنى فرصة أن أسألها عن كيفية معرفته . فجأة همت من مكانها واتجهت حيث أجلس ودست جسدها الرقيق إلى جانبى على المقعد ، وأحاطت كتفى بذراعها ، وتوالى حديثها فى صوت عذب وهى ترمق وجهى فى شغف : أتعلم كيف أخترتك وكيف عرفت اسمك ؟ قلت لها بعد أن استدرت إليها متلهفا الإجابة : كيف ؟ قالت : الصدفة وحدها هى التى قادتنى إليك بعد أن تتبعت أصول أسرتك من جذورها مذ عرفت أننى سآتى إلى عالمكم .. فلامست طيفك .. همت على وجهى ورأيتك أكثر من مرة دون أن ترانى .. أعجبتنى إبتسامتك الجذابة ونظراتك التى تشع حبا وحنانا لكل جيرانك وأحبابك ، تماما كما كنت أراها على وجه حبيبى " ميرى " بطبيعته السمحاء ونقاء سريرته .. هل يضايقك هذا ، قلت لها فى حنان قد أنسانى رهبة اللقاء وغرابته : أبدا أنا سعيد برأيك رغم أن جرأتك اخجلتنى، ولكن من هو " ميرى " هذا ، قالت : ميرى كان خطيبى قبل اختيارى للزيجة المقدسة .