منذ
فترة كبيرة وأنا أفكر في الكتابة عن فيلم "يوم من عمرى" لتعلقى الشديد
به ، ولكن كنت لاأعرف ماذا أكتب وفى أى اتجاه ومن أية زاوية سأبدأ ؟ ، لذلك كنت أتوقف فى كل مرة أشرع فيها للكتابة
لأننى لم أجد بعد أفكارا مقنعة تساوى إيمانى الشديد وإلحاحى المستمر فى الكتابة
عنه ، ولكن ما من فترة تمر إلا وتحلق روحى مرة أخرى فى أجواء هذا الفيلم وتجوب
أفاقه في محاولة دءوبة لتمكين
إرادة الكتابة عندى في التعبير عن أى شيئ يحتوينى تجاهه ويكون ذا قيمة ، ولكن كانت الكلمات تتوه منى مرة تلو الأخرى وأتلعثم
فى سرد مفردات أفكارى ، وكم عانيت أشد المعاناة فى استعراض أفكار شتى كنت أُمنى
نفسى بها ربما تصادف ماأريد أن أكتبه ، فهل سأكتب عنه توثيقا أم وصفا أم تأريخا أم
مقارنة بغيره من الأفلام التى تناولت نفس القصة مستعينا بأرشفة هذا الفيلم وكل الأفلام
التي على غراره عالميا ومحليا ، وبالفعل أخذت فى البحث وجمع المعلومات الكافية فى كل مايتعلق
بكواليس فيلم يوم من عمرى وتلك الأفلام حتى أتعرف أكثر عليها ربما تفيد فيما
سأكتبه اعتمادا على المفارقات بينها . وامتدت دائرة بحثى حتى وصلت إلى بداية فكرة
فيلم "يوم من عمرى" عندما التقط الكاتب سيف الدين شوكت الفكرة عام ألف
وتسعمائة وتسعة وخمسين من قصة الفيلم الأمريكى "حدث ذات ليلة" تأليف وليم وايلر ، وكتبها في سيناريو وكتب له الحوار وشاركه في ذلك يوسف جوهر ،
ووجدت أنه بالرغم من أن القصة في مجملها تم استهلاكها إلا أنها في يوم من عمرى تمت
معالجتها بشكل دقيق وبحوار مختلف وبتركيز أدق حيث كانت أحداثها تدور فى يوم وليلة
واحدة فقط ، لذلك جاء إيقاعها سريعا ومتخمة بالمواقف ومليئة بالأحداث على غير نمط
الأفلام الأخرى التي تناولت نفس القصة وعايشت نفس المحتوى ولكن خلت من عوامل الجذب
أو التشويق . من هنا عدت لتوى بعد أن وجدت أنه لاطائل ولاجدوى فيما كتبه غيرى عن
فيلم "يوم من عمرى" حيث أننى لم أجد أى جديد يذكر استاق منه مايعيننى على كتابة ما أقصده وماأريد أن أرمى إليه من دوافع أقدم من خلالها رؤيتى الخاصة لهذا العمل الذى كان يشدنى كلما رأيته ، فتوثيقه ليس هو مقصدى ، ولا الكتابة عن كواليسه وملابسات تصويره هو
مايدور فى ذهنى . وفى النهاية توقفت الفكرة بعد أن أصابنى الإحباط وأخذتنى الحيرة كالعادة
، فتركت قلمى واحتسيت قهوتى وأعرضت عن الكتابة كى أتناسى هذا الأمر . حتى جاء طيف وجثم
على قلبى وعقلى معا ورافقنى في رحلة واسعة النطاق للبحث عن هوية مكنون الكتابة ،
وظل يحثنى ويلح بهمساته في أذنى مؤكدا أن الفكرة الملحة لازالت موجودة والهدف واضح
ولكنى لم أضع يدى على ترتيب أفكارى وماتحمله أغوارى وإلا مامعنى اختناق الدموع
بعينى في كل مرة أشاهد فيه يوم من عمرى وخاصة عند بلوغ نهايته . هذا الإصرار
البالغ الذى احتواه طيفى هو الباعث الذى جعلنى اهتدى وبعد مرور سنوات إلى أن فكرة الكتابة عن فيلم يوم من
عمرى لم تأت من فراغ ولامصادفة بل لها أسبابها ودواعيها ، وعرفت لماذا وكيف يأتينى هذا
الطيف ومغزى توقيته ، وكيف كان لإلحاحى فحواه ومعناه ، وإنها كانت مقصودة لأمرين
اثنين أولاهما : روعة المعالجة الموضوعية فى قصته رغم استهلاك فكرتها تماما فى
أفلام عدة قبل أن تأتى لأحداث فيلم يوم من
عمرى ، إلا أن الرؤية اختلفت تماما عندما جاءت وصادفت وجود عبد الحليم حافظ بموهبته
الفطرية ، وذكائه الفنى الفطن ، ورومانسيته الحالمة الرقيقة ، فكُتبت له فى قالب رومانسى
إنسانى ، ركزت على مبدأ الأخلاقيات المتوافقة مع سماته الشخصية المنحازة مع فطرته
التى كانت تجنح بطبيعتها نحو المبادئ والقيم والمُثل العليا ، وهو ماكان يتحلى به
المصريون في ذاك الوقت في مطلع الستينات واتسامهم بكل الشيم والشهامة وهم يعيشون أجواء بدايات ثورة الثالث والعشرين من يوليو بمكتسباتها وايجابياتها ، فكان من الطبيعى أن
تكون قصة الفيلم مشوقة ومحكمة للغاية
، ورغم الإقتباس إلا أن تمصيرها
تمت بعناية فائقة ، لذلك كان وسيظل "يوم من عمرى" هو الأفضل على الإطلاق
بل وتزداد قيمته كلما تقادمت به السنوات التي طوت أعمار كل من عمل فيه تقريبا ، وسيطول أجيالا كثيرة متربعا بلا منازع فوق قمة عرش كلاسيكية الأفلام الرومانسية ليس فى مصر فحسب وإنما فى العالم العربى كله بآراء
النقاد والجمهور وشباك التذاكر وعبد الحليم حافظ . وثانيهما : وهو الأهم هو وجود
روابط نفسية ووجدانية تمثل عندى رؤية وحالة لها انعكاسات تنحو منحى شخصى يرتقي
بواقعية التعبير عن إحساساتى فى استشراف عوالم خاصة رغم إنها من رؤية فنية تعالج واقع اجتماعى تم تناولها في أعمال فنية كثيرة ولكن إحساسى بها فى هذا الفيلم تحديدا هو الذى اختلف ، حيث إننى ارتفعت بها من الرؤية العامة إلى عالمى
الخاص ، من مجرد مشاهدة لفيلم إلى ارتباط وجدانى ونفسى كون بداخلى هذا الإحساس الخاص النابع من هذا الارتباط ، سأرويها كما هي بداخلى ، ومن خلال
تجربة لاتبتعد أن تكون إلا تحديقا بنظرة معينة للحياة تؤمن لى ازدواجية المقصد
مابين اخفاء هذا الإحساس واظهاره . إنها نافذتى الخاصة التي أصنع منها واقعا جديدا
نابعا من بنية تخيلاتى الفكرية المركبة الناتجة من طاقة شمس متولدة من عطاءات
الربيع تبث عبيرها السارح طوال ساعات النهار حتى إذا ماانزوت مع وقت الغسق تترك
لمسائه الهادئ سحر نسمات الليل التى تهب عبر أريجه المتدفق فيحيل الكون كله إلى
كرنفال ، إنها هبة الطبيعة للنفس التواقة الحالمة . إننى هنا أريد أن أُطلع سطورى
على أسرارها بمعنى إننى أريد الغور فى المعانى الغائبة .. المضمورة بداخلى
والكامنة فى نفسى ، من أجل إظهار أثرها فى تفسيرى للمعانى الواضحة المباشرة ذهنيا ،
لكى أجعل اللامرئي مرئيا ولكن برؤية جديدة وبشكل جديد من خلال بصمتى عليها . لذلك
فإننى سوف أغامر في وصفى عن هذا الفيلم عند عرض فكرى عنه إلى أبعد حد ، فلايعرف
الثبات ولا يتحدد بشكل ما ، ودون اللجوء إلى أية كتابات نقدية أو توثيقية أو
تأريخية أو وصفية عنه ، ولا جدوى من عقد المفارقات والمقارنات بينه وبين المقتبس
منه أو البحث في مدى محاكاته مع الأفلام المصرية الأخرى التي تناولت نفس القصة
سواء في الأهداف أو المعانى الإنسانية الإجمالية التي جمعت بينها ، لأن رؤيتى قد
تكون مغايرة لرؤية الأخرين ، وذلك من أجل إظهار الأثر النفسي الجمالي الذى أشعر به
ولاأستطيع أن أصفه للغير ، أو أصفه ولايستوعبه الغير ، إذن لن أمنع نفسى من شرف
المحاولة ، فلايوجد حائل فى أننى أحاول ، فحياة أى إنسان ماهى إلا محاولة مستمرة
لأن يحقق الصورة التى فى رأسه ، وماأكثر الصور التى فى رأسى ، ورغم صعوبة ترتيبها
ونقلها إلى رءوس الأخرين ، إلا أنها متعة مابعدها متعة عندما تتشابه الصور ، أو
تتطابق التى فى رأسى بالتى استقرت فى رءوس الأخرين .
أما الموسيقى التصويرية لفيلم يوم من عمرى فهى الأخرى قمة فى المتعة والإثارة
والمهارة حيث جعلت الخلفية الموسيقية تفشى لنا بأسرارها وتكشف عن مكنونات هذا
العمل الفني الرائع الجميل ، فهى التى تكمل لنا الصورة الرومانسية الحالمة الرقيقة بتحويل
المشاعر المكتظة بالفيلم إلى مايشبه السحر المتناغم الذى يلعب على أوتار القلوب ويستحوذ
عليها قبل أن تستوعبها العقول ، فوصلت مع
على إسماعيل لمرحلة من النضوج الفني والرسوخ العبقرى الذى يفصح عن الذات ، فقد استطاع في هذا الفيلم أن
يتفوق على نفسه مثل حليم تماما ، فهو البطل الخفى أو بطل الظل الذى لاتراه ولكن تحس
بوجوده سارحا فى وجداننا من خلال موسيقاه التصويرية ، التى قدم لنا فيها تراكيب وجمل موسيقية رافقتنا على
مدار الفيلم وتنوعت مع المشاهد والمقاطع والحوارات ، فاستشعرنا فيها بحركاته ومشاغباته ومداعباته لكل الأحاسيس والمشاعر التي احتواها الفيلم عند استخدامه للأوركسترا
في ألاعيب آلاته ، وفي تمكنه من توزيعات موسيقاه وتنويعات ألحانه حتى أصبحت لها هويتها من واقع
مفرداتها وقوالبها ، فقد استخدم الكلارينت والساكس والفلوت مع الترومبيت مع
الكمنجات والتشيلوهات كثيرا في جمل حفظناها له عن ظهر قلب ، فكان بمجرد أن ترقى إلى
أسماعنا وتستقبلها آذاننا نعرف مباشرة وعلى الفور إنه على إسماعيل وليس أحدا أخر . فيمكننا وبمنتهى البساطة أن
نتعرف على شخصيته من خلال موسيقاه في التوزيع الأوركسترالى وتآلفات الآلات الكثيرة
المستخدمة وخاصة الآلات النحاسية وآلات النفخ الخشبية بجانب الآلات الإيقاعية
والوترية التي كانت تلعب أوركسترا كاملة أوجدت هذا التناغم الهارمونى العالى في فيلم
يوم من عمرى حيث صال على إسماعيل فيه وجال بمنتهى الحرية في المساحات الواسعة للمشاهد
وبين نقلات المواقف فأبدع وتفوق باستخدامه لهذه الآلات بإرياحية تامة ، واستطاع أن
يفصح لنا عن هويته الحقيقية في استخدامها من خلال تأليفه لجمل موسيقية متأثرا بالفترة التى عمل فيها مع فرقة رضا ، فخلق لنا خلفية للتوزيع من خلال تمكنه من دراسة هذه
الآلات واستغلال امكانياتها الراقصة وعرف كيف يتحكم في الصوت هبوطا وصعودا من
خلالها ، وربما ظهر هذا في مواقف عدة منها مثلا موقف الهروب بما فيه من توتر وحذر وخوف
وترقب فنجد إنه استخدم فيها نفس الآلات التي أعطتنا إحساسا بالسعادة والفرحة ولكن
استخدامه للكروماتيك في هذا الموقف بالصعود أعطى هذا الإحساس فأحسسنا بنفس إحساس
البطلة بالتوتر والترقب من خلال الصراع النفسى واللحظى الذى انتابها من جراء موقف الأب الصادم الذى سبق عملية الهروب مباشرة وهو يقدم لها خطيبها الذى لاتعرف عنه شيئا .
ولم
تنج توزيع ألحان الأغانى من إبداعاته حيث
صهر فكر ملحنيها بوضعها في بوتقته التوزيعية ، وجعلها في نسيج واحد لأرضية موسيقاه
التصويرية ، فضلا عن أنه كان يأخذ منها بعض المقاطع والتيمات الموسيقية ويفرد لها
مساحات خاصة في منتجه الموسيقى ولكن بتوزيع أخر يتناسب
مع الخلفية الموسيقية للمواقف ، مثل أغنية ضحك ولعب وجد وحب التى تعتبر من أقوى
الأغنيات فى الفيلم نظرا لثرائها الشديد بموسيقاها فقد استخدم فيها أوركسترا كاملا حيث أضاف الآلات النحاسية إلى جانب الآلات الكلاسيكية مستعينا بالمزمار الشرقى بعبقرية غير مسبوقة ،
فضلا عن ذلك أنها كانت خارج سياق الدراما ، بموسيقاها المعبرة عن الحركة مما أعطته
القدرة على تنوع توزيعها فى أكثر من موضع فى الفيلم . وربما يرجع هذا التفرد غير
المسبوق في هذا الفيلم أن الأغانى كانت محدودة ونابعة من الموقف ولم تشغل حيزا
كبيرا من مساحة الفيلم ، فكان هناك متسع بأن يخرج لنا بكل مافى جعبته ، وقد نجح
إلى حد كبير في أن يحول اتجاه الموسيقى التصويرية في هذا الوقت من الموسيقى
المقتبسة من أفلام أجنبية وموسيقات عالمية إلى موسيقى مصرية خالصة تجابه هذا
المقتبس وتتفوق عليه ، فقد استطاع أن ينوع فيها مابين شرقية وكلاسيك وموسيقى دراما
وموسيقى سريعة وفنتازيا ، ثم وظفها بشكل جيد ، أخرجت لنا هذه الخلفية الموسيقية
الإبداعية لاأروع ولاأجمل منها ، فقد استخدم كثيرا النغمات السريعة والقصيرة
والمتلاحقة والنصف تون التى تريح الأذن ، كما أنه طوع استخداماته للآلات وفقا
للمواقف ، فاستخدم الكمنجات والتشيلو كأرضية للكلام والحوارات بحيث يملأ بها
الخلفية دون الألتفات إليها وكأنها غير موجودة على الإطلاق ولكنها فى ذات الوقت
مؤثرة غاية فى التأثير ، وجعل الصولو هو الأساس ، والكلارينت والفلوت ويليهما
الهارب في بعض مواقف الدراما والحب ، وخاصة آلة الهارب التي عبر بها أكثر فى كل
الحوارات والمشاهد والمواقف الرومانسية التى كانت تجمع البطل بالبطلة ، كما نجده
يلعب بالكلارينت وبشكل متوازن مع الفلوت حيث استخدمها بشكل راقص وسريع بمنتهى
البراعة في المشاهد التي كانت تعبر عن السعادة والفرح والجرى والسرعة والتنطيط .
أما في المواقف الكوميدية الضاحكة كان يلعب فى صياغة الكروماتيك بالهابط لأنها تضفى
على مثل هذه المواقف نوعا من البهجة والسرور ، أما الكمنجات والتشيلوهات كان يميل
للعب بها في الدراما ، ونجده كثيرا ماكان يستخدم الأوركسترا الكامل بإيقاعاته
ونحاسياته فكانت كلها تلعب في وقت واحد في ملو الأوركسترا ، أما النقلات بين فواصل
المشاهد ومع بداية كل مشهد جديد كان يستخدم الكمنجات الكروماتيك الصاعد السريع من أجل أن
يسلمك للمشهد التالى بكل نعومة وسلاسة فيعطى الإحساس بأن شيئا جديدا سوف يحدث ،
قمة فى المتعة والإثارة الموسيقية . لذلك فاق على إسماعيل كل أقرانه من صناع
الموسيقى التصويرية الأخرين فى العالم العربى كله وأُعتبر مدرسة مستقلة بذاتها لأن موسيقاته
التصويرية تميزت بشكل واضح ، وأحدثت طفرة غير مسبوقة فى عالم الموسيقى التصويرية
لما تمتعت به من معزوفات يعرفها من يحكمه الذوق الراقى في السمع ، والأذن الواعية
الحساسة في التلقى .
ولأنى دائما أضع قلبى فوق عقلى ، فيجعله غير قادر على الرؤية والرأى
، ولأن طبيعة الحياة نفسها تغيرت وإيقاعاتها تبدلت ، فمن الطبيعى أن القلب يستشعر
الغربة لأنه ارتبط بأشياء أصبحت غير موجودة
واختفت من عينى ولكنها انتقلت إلى أعماقى وبين الحين والحين استوحيها أو
أنقلها إلى قلمى لأذرفها كالدمع على
أوراقى أو على وقع نفسى ، فأجدنى أغمض عينى عن الواقع الذى غابت عنه بعض المؤثرات
المسببة للدلالات التي تأثرت بشدة بغياب عبد الحليم والتغير الحتمى في عموم الجو
الفني نفسه في مصر بطبيعة تغير الزمن وتبدله ، فكان من الطبيعى جدا أن أحلم
بالقديم حتى أملأ الفراغ الفكرى بالإنشغال الخيالى .. فأنا لاأحب هذا الواقع ولكنى
أحب واقع خيالى أو واقع نفسى .. واقعى أنا ، والناس يصدقون الشعراء رغم إن أشعارهم
ماهى إلا ترجمة لهروبهم من واقعهم حيث تحلق خيالاتهم في رحاب الصورة الجميلة التي
يحبونها أو يحبون أن يروا أنفسهم عليها ويستغرقون فيها ، وإن كان هذا انشغالا
بالذات ، إلا إن الواقع يستحق أيضا أن نهرب منه ، من هنا تأتى أهمية الذكريات وحب
الإرتداد للماضى والوقوف عنده طويلا ، وخاصة عند مأثورات الحياة الفنية التي كانت
لها الريادة والإبداع ، إنها لازالت متوافقة مع هوى النفس ، وإن كانت إحدى مؤثراته
قد غابت إلا أن دلالته تبقى موجودة كتراث فكرى يستوحيه الخيال ويشكل منه معادلا
موضوعيا بعالم جديد . وصناعة السينما مهمتها أن تصور الواقع بصورة مؤقتة تثبت بعض
الوقت ثم تتلاشى في واقع مفترض جديد ، فيه إيجابية وفيه انشراح وخاصة فى الأفلام الرومانسية
التى تُسعد المتفرج وتستعيد له الجمال الذى يحتويه وليس له مردود في واقعه الحقيقى
فتقتل عنده إحساسه بالملل ولو إلى حين ، وهذا كان شأن صناعة السينما في مطلع
الستينات التي حققت طفرة من خلال أفلام
اُنتجت في هذه الحقبة عبرت بشكل واضح عن هذا الإتجاه ، وتعتبر أحداث فيلم يوم من
عمرى في مقدمة هذه الأفلام التى واكبت هذا الإتجاه الجديد جعلت له الريادة الفنية
، ومثَّل ربيع عصر السينما الذهبى ، لأنه يصور قصة من واقع الحياة ولكن برؤية
مختلفة ومعالجة مثيرة ، لدرجة أننى كنت أشعر في كل مرة أشاهده فيه يبدو وكأنه يقدم
الجديد الذى يعالج الفراغ النفسى الذى يملأ حياة الناس من واقع الملل الذى يمتص
أجمل مافى حياتهم ، ومهمة الفنان أن يشرح أو يقدم للناس مايعينهم على رتابة الحياة
وعلى أنفسهم بعد أن يسلط الأضواء على الذى يتغلب على متاعبهم ، أى يصور للناس
نموذجا صارخا لما يجب أن تكون عليه حياتهم كبديل موضوعى لتحقيق أمانيهم وتطلعاتهم
، وهناك فرق بين الصورة التي عليها الناس ، والصورة التي يتمنى الناس أن يروا بها
أنفسهم . وقصة الفيلم مزجت بين التراجيديا والكوميديا في بوتقة رومانسية جميلة
مشوقة ، مازالت روعته متصدرة المشهد وقد يرجع ذلك إلى وجوده كدلالة ، وإن كان
المؤثر المرتبط بالربيع قد ذهب وطالت غيبته إلا أن دلالته مازالت موجودة في الخاطر
تستوحيها النفس من خلال الخيال المرتبط أيضا بالربيع ، فأصبح يوم من عمرى مستحوذا
فكريا كلما أوشك الربيع على المجيئ وتستوحيه الذاكرة كلما حانت الأيام المبشرات
بقدومه ، ذلك الشعور الذى يستحوذ على الوجدان والإقبال على الحياة والحب ، فإذا
ماعاد عادت معه الحياة ويقفز مباشرة إلى الخاطر هذا الفيلم ، ولايزال يذكر عبد
الحليم حافظ مستوعبا عدم وجوده والفراغ الكبير الذى تركه وراءه ، والذى لم ولن
يملأه أحد غيره ، فبموته توقف الإبداع تماما وانتهت حفلات ليلة شم النسيم ولم تعد
لأعياد الربيع البهجة التى كنت أشعر بها ، ولا أحس لقدومه أية معنى ، فيتملكنى
الإحباط والملل ، ولم أجد أمامى من سبيل سوى الإرتداد بكل الحنين إلى الماضى لعدم
وجود مؤثر دلالات هذا الفيلم الذى لم تبق منه سوى ذكرياته ولا أملك فقط سوى مشاهدته
، والحضور الربيعى المنتظم كل عام طبقا لنواميس الطبيعة ، فمازلت أحاول جاهدا
أن أطرد بهما الملل من حياتى ، ومازلت أطرب لمشاهدته وتستغرقنى مواقفه وحواراته بشغف في كل
مرة أراه فيها وكأنها المرة الأولى فيغالبنى البكاء في نهايته.
ومن قمة الرومانسية والشاعرية فى فيلم يوم من عمرى مع بداية الستينات
إلى أفلام المقاولات والجنس واللحم الرخيص والعنف والأكشن التى بدأت موجتها فى
السيطرة على صناعة السينما فى منتصف السبعينات تقريبا ، وإلى الأن مازالت تعانى من
تدهور وانحسار ، فقد تبدل الحال وأصبحت هى الموجة المسيطرة على قلوب الناس وعقولهم
وظهور أجيال لاتعرف جماليات الفن الراقى بما تحمله من رومانسية تغلُب فيها المشاعر
الرقيقة والأحاسيس الراقية ، إننى أتذكر جيدا أن الأفلام الرومانسية كانت لها
مكانة كبيرة فى نفوس الناس ، حيث كانوا يقبلون على دور العرض ويتزاحمون عليها
ليحجزوا مكانا لهم ، فإذا ماحجزوا استراحوا وإذا مااستراحوا انتظروا ، إنهم
ينتظرون اللحظات التي ستريحهم وتجعلهم ينعمون بلحظات رومانسية حالمة تأخذهم للبعيد
الذى سيخرجهم خارج نطاق همومهم الدنيوية والنفسية ، إنهم يشترون لحظات من الحب
بالمال .. ويشترون لحظات السعادة بالوقوف أمام شباك التذاكر ، كنت أفعل كل ذلك حتى
ارتاح ، وكنت ارتاح كثيرا وأنا أشاهد فيلم يوم من عمرى الذى له
هوى فى نفسى وتأثرت به وبكيت ، وشاهدت بطله وتعاطفت معه ، واستغرقتنى شخصيته بدرجة
كبيرة جعلتنى أشعر وكأننى تقمصت روحه لدرجة التلازم والتوحد ، ثم تفاجأت بعد الخروج من
السينما بجو أخر خارج الفيلم ، جو جعلنى أشعر بالحزن وضيق الصدر وخيبة الأمل ،
لأننى سأعود لِتوْى إلى حياتى العادية أبحث عن الشيئ المثير الذى عشت فيه منذ
لحظات واستغرقنى في زمن الفيلم .. الشيئ الذى أنقذنى أو انتشلنى من همى أو خطفنى من نفسى
.. خطفنى من الذى كنت عليه من ملل ، ومن رتابة الحياة ، ومن بلادة النفس التى
طالت مداها كقسوة أيام الشتاء وكآبة لياليه فإذا به يحطم الفراغ الذى يملأ حياتى ،
لذلك أنا أحبه وأريد أن أوجده في نفسى كل الوقت وطول العمر حتى أشعر بأنى أفضل حالا وأننى
في حالة من الارتياح والرضا ، ولكم تمنيت أنه يأخذنى هذا الموقف الرومانسى المثير الذى عايشته
فى شوارع الفيلم ، ويلقينى به فى شوارع
الحياة ولو بالقوة .
وفيلم يوم من عمرى نُوْه عنه عام ألف وتسعمائة وتسعة وخمسين باسم
"أهواك" ، إلا أن هذا الإسم تم تغييره عند بدء التصوير الفعلى بعد عام
من إنتاجه . استغرق تنفيذه حوالى ثلاثة
أشهر من شهر ديسمبر من عام ألف وتسعمائة وستين إلى نهاية شهر فبراير من العام التالى
، وتم عرضه فى السابع عشر من مارس عام ألف وتستعمائة وواحد وستين أى بعد شهر من
إعداده للعرض ، صُوْرت مشاهد الفيلم فى بلاتوهات ستوديو الأهرام ، أما الأغانى
سجلت باستوديو مصر ، إلا أن الكاميرا لعبت دورا كبيرا فى إضفاء الواقعية حيث تنقلت
بين شوارع القاهرة العاصمة الجميلة المهولة بزحامها وبريقها ووهجها المسائى،
ومبانيها التاريخية الفاخرة ، فقد تم تصوير مشاهد رئيس التحرير من مكتب الكاتب
والصحفى الكبير مصطفى أمين بدار أخبار اليوم بالمبنى القديم بشارع الصحافة ، ثم
جابت شوارع مصر الجديدة وميدان رمسيس والنافورة وطريق المطار ومطار الماظة، وتم
تصوير مشاهد فى منطقة الأهرامات وشارع الهرم وفندق مينا هاوس ، وميدان الأوبرا
ووسط البلد ومتنزه القناطر الخيرية وغيرها من المشاهد العديدة للأماكن التى لها فى
نفوس العاشقين مكانة . وليس انتقال الكاميرا إلى الشارع إلا دليلا على جعل المفترض
الجميل أقرب للواقعية حيث توفرت كل الإمكانات والعناصر المهيئة لجعل الفيلم يتطابق
لما هو فى ذهن الناس ، فقدم واقعا افتراضيا للذى يتمنون أن يعيشوا فيه من رومانسية
حالمة ليجابهوا به الوقع النفسى الذى في أعماقهم ، أى أن السينما تصور للناس مافى
الناس ، فجو الفيلم يملؤنا بالحماس ويحقق الإرتباط بالإندماج في المشاهدة ، هذا
الإرتباط يجعلنا نريد أن نعيش في هذا الجو ذاته دون غيره ، ثم نكتشف الحقيقة أنه
كان مجرد وقت للتسلية والمتعة لإنعاش الذاكرة المهيأة لأى شيئ مثير ، فبدلا من
أننا نشعر بالغبطة والسرور أثناء عرض الفيلم شعرنا بالضيق منه بعد انتهاء العرض
مباشرة ، لأنه أوهمنا بأننا سنعيش مايساوى الإثارة التى أحدثها الفيلم ، أومايساوى
حماستنا التى استجمعناها بفرط الحنين ، فليست الشوارع كما تظهر في الفيلم هي
الشوارع الموجودة في واقع حياتهم ولابيوت الناس هي نفوسهم بل هى لحظات قصيرة تتسلط على كل ماهو جميل في واقعهم
، لاتستغرق كل الوقت وإنما تستهلك بعض الوقت .. لحظات مثيرة والحياة لاتحتمل أن
تكون كلها مثيرة ، فالسينما وحدها هي التي تستطيع أن تحقق هذه المعادلة الصعبة ، لأن وظيفتها في الأساس هى أن تخلق لك صنعة هدفها هو بعث ارتباط وجدانى يستغرقك فى زمن عرض الفيلم ، يجعل شعورك
بعد انتهاء عرض أى فيلم أنت تحبه وترى نفسك فيه الإشمئزاز وخيبة الأمل ،
لأن هذا الفيلم استغرقك وجعلك تعيش في جوه المثير الرائع .. هذا الجو الذى استولى
عليك وكاد أن يسلب إرادتك بالإنتباه والتركيز والإغراق أثناء مشاهدة مقاطعه وحواراته ، ماهو إلا جو مدروس ومحبوك من قصة مكتوبة تم اختيارها وإعدادها بعناية ،
تحولت لحبكة وسيناريو مكتوب به حوارات متداخلة ومتشابكة بانفعالات معينة وأهداف
محددة تخدم فكرة العمل أو الهدف الذى يرمى إليه كاتب القصة ومخرج الفيلم ، ثم يتحول
هذا السيناريو إلى حركة داخل بلاتوهات الاستوديو لإعداد ديكورات الفيلم وتوجيه
الكاميرات وتصوير داخلى وخارجى وتمثيل وإخراج وطبع وتحميض وموسيقى تصويرية ممتعة
تحرك المشاعر وتفند القصة وتفشى الأسرار ، هذه الصنعة التى استنفذت كل رغباتك
وحماسك محسوبة ومدروسة ومنفذة بمنتهى الدقة والعناية ، حتى تعيش فى هذا الجو الذى يخطف
الأبصار ويخلب الألباب وتهفو حوله القلوب والأفئدة ، لأن الحبكة إذا ماوافقت هواك وأوجدت نفسك فيها ، تثير حواسك فتنشط ، وتشعل حماسك فتستريح ، ولكن عندما تخرج من جو الفيلم وتذهب للواقع لم تجده مثل الجو الذى استنفدته فيه ، وتجد جوا آخر عفويا بلا نظام ولاترتيب لاتجد لديك فيه القدرة على جلب أي نشاط أخر
لتواجهه به ، فيكون شعورك هو خيبة الأمل ، وأحساسك بأنك كنت تخدع نفسك أو ضحكت
على روحك وتقول فى سرك ليتنى لم أر شيئا ، وتبدو كأنك أخذت مسكنا أو مهضما سرعان مايذوب فى الحلق
، وسرعان مايسرى فى جسدك ، وأن مفعوله سيذوب وينتهى بعد أن حقق لك شيئا من
الراحة ، وكذلك رؤيتك للفيلم فإنه يستدرجك إلى موقف يجعلك تشعر فيه بالسعادة ،
وبمجرد انتهائه تشعر بأنك كنت مخدوعا ، وأنه انضحك عليك . لكن الحقيقة أن كل هذا لم يتم إلا بمزاجك أنت وعلى هواك أنت ، لأنه فضح رغباتك وانتقم من الذى احتواك
. ودائما في حياتنا نتحسر على لحظات السعادة القليلة ، لأنها سرعان ماتمضى وتترك
فينا إحساسا بالفقد ، فلا شيئ فى الدنيا يبقى على حاله ، ولاسعادة تدوم ، ولكن
يبقى للعمل الفني الأصيل رونقه وجماله ، ويظل كلما شاهدناه يثير فينا الحنين لذكريات تعود لتاريخ العمل الفني نفسه
وملابساته وأماكن تصويره ، ونتمنى أن نرتد إليه لنقتنص أو نستعيد بعض لحظات
السعادة المفقودة ، إننا نتمنى المستحيل ، ولكنها متعة مابعدها متعة أن تحاكى ماتتمناه
نفسيا ولو كان مستحيلا ، والسينما ماهى إلى وسيلة ناقلة للإمتاع
وإيقاظ المشاعر فقط من خلال توجه أنت الذى تبحث عنه وتسعى إليه ، فهى تنقلك إلى
الشاشة .. تنقل أحلامك وأمالك وأمانيك وإحساسك ومشاعرك من داخل أعماقك إلى الشاشة
، فأنت جزء من هذه الصنعة ، ولولا وجود المتفرج ماكان هناك ممثل ولا كانت له
نجومية ولاشهرة ، فالسينما لاتفرق بين الممثلين والمتفرجين ، بل تعلى من قدر
المتفرج لأنها صُنعت له ومن أجله ، كى تطرح من حياته الملل بالضحك واللعب والجد
والحب ، وتحاول أن توجهه لمنافذ السعادة بأمر الحب ، وتبين له طريقها ، وتدعوه
لفتح كل النوافذ والأبواب ، حتى يدخل هواء جديد ودم جديد ومتعة جديدة يجدد بها
حياته ويجعل لها طعما ومعنى وهدفا ، وتتفتح له كتفتح الأزھار بأفوافها فوق الغصون والأشجار وتسیطر على كل الأجواء من حوله فتضفي ألوانها الزاھیة على كل معانيها الجميلة
، وتنتشر المساحات الخضراء على بساط فكره
، واللون الأخضر له زهوه فى طبيعة كل ماهو رومانسى حيث يؤثر بإیجابیة عليه ويعطيه
شعورا بالاسترخاء ويبعث في نفسه الهدوء والراحة ، ويفتح له بابا واسعا للأمل والحب ، إنها قمة انشراح النفس بالفن ، والفن الجيد يظل متعلقا بروح الناس مهما بعُد الزمان أو المكان ، فاتحا ذراعيه لقلوبهم وعقولهم لحب الحياة ، لأن الفن ماهو إلا وسيلة ممتعة لغاية
مفيدة ونافعة ، وليبق يوم من عمرى على مدار التاريخ الفنى والسينمائى والإنسانى
علامة بارزة ، ولم لا وهو اليوم اللى اتهنيت فيه واللى بكيت منه وعليه وافضل وحدى لأخر عمرى مستنيه.
مع خالص تحياتى : عصام
القاهرة فى 30 من مارس 2019