كانت هذه هى دنياه التى عاشها ، تصورته يوما وكأنه يعيش فى
صحراء رمالها انتحلت من دأبه عليها ذهابا وإيابا بحثا عن لقمة العيش بالمصابرة والكفاح والجد فى العمل كى
يستلقط الحياة استلقاطا وسط شظف هذا البيد
وإقفهراره ، استطاع أن يبنى نفسه فيها بنفسه ، كان يعتصر الرمال عصرا ليستقطر فيها
هذه الحياة ، حتى اكتستها الإخضرار وسرت فى عروقها قطرات من روح لاتعرف المستحيل ولاتحس
بوحشتها وجفافها ، فاستطاع أن ينبت فيها وتزدهر أعماله ويتزوج ويأتى بجيل جديد من شباب
غض ، ورغم المعيشة فى الغربة إلا أنه استطاع بحنكته أن يربط أولاده بالوطن الأم ربطا
لاتحس فيه خللا ولامفارقة بين بيئتين مختلفتين .
لقد كبرت الأعوام ورغم ذلك هو لم يكبر ، مرت سنون الغربة آنسته فيها زوجته
المتفهمة الواعية لحدود أفكاره وتطلعاته ، حتى صار أولاده الصغار شبابا غضا واعيا ،
وازدحم من حوله الأصدقاء من عالم شتى ولكنه لم يتغير .. لم يتغير شكله .. لم تتغير
نظرته إلى الحياة لأنه لايزال يبدو كما كان شابا صغيرا ، بنفس الرأس التى
تحمل عقلا كبيرا ، وبوجهه الأسمر النحيل بنفس تقسيماته المريحة ، إنه من هذا النوع
الذى يتسم بالهدوء الذى ترتاح إليه ، ضحكته الرنانة عندما تنطلق ، تنطلق من دواخله بنفس عفويتها وسجيتها ، لم يسع هو إليها ، ومع ذلك تحس أنها
تتسلل بنعومة إلى قلوب كل من يعرفه بسرعة البرق ، مظهره العام يوحى إليك بالثقة والاطمئنان
، هذا النوع من الناس الذى تقبل على استصحابه وتفضى إليه بأسرارك وتروى له هناءاتك
ومنغصاتك دون وضع حدود ولا قيود لذلك .
لقد نال احترام الجميع واطمئنانهم إليه إذ أنه من القليلين الذين يسبق عقلهم
عمرهم ، فلم يكن مايبدو عليه من شيوع المرح والبهجة إلا ائتناسا من مواجهة الحياة والغربة
، ومن الهدوء والاتزان إلا تحليا بما لايود أن يبديه لأحد ، ومن إنشغاله بكثرة التفكير
مع نفسه إلا سبيلا لإسعاد كل من حوله من الأهل والأصدقاء ، فكر لايتناسب قط مع
عمره الذى بلغه ، ولكن يرجع إلى قلبه الطيب الذى يحمله بين جوانحه وإدراكه لطبيعة لكل
من يعرفه ، حتى يغمر كل من حوله بمشاعر الود والمحبة الخالصة .
هذا هو إبراهيم عبد الستار عنوان الإنسانية البحتة بكل مقوماتها
وقيمها ، كل عام وأنت مثل كل عام قابض على قيمك وأخلاقياتك التى يعرفها عنك القاصى
والدانى .
القاهرة فى سبتمبر2017